تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

'دكان شحاته': جيل السبعينيات يعيد انتاج المفاهيم الثورية

القاهرة ـ 'القدس العربي

'وجدتني خارجا من فيلم 'دكان شحاته' وانا اصدر تنهيدة عفوية، اكدت لي ان الفن الحقيقي هو الذي تخرج منه بغير ما دخلت اليه، وربما كان هذا هو الامتاع، او حنكة عرض الصورة، تماسك وصدقية البناء الدرامي، جوهر الحكاية الانسانية، أداء الممثلين، او كل هذا مجتمعا .

لذلك فإن اعتقادي الاول ان الفيلم لم يستهدف الا الصدق الفني، والعمل على العناصر الاساسية التي تشكل مفهوم عامة الناس وخاصتهم عن الفن.

ورغم عمل الفيلم في اطار ما هو مستقر من مرجعيات فنية تمتاز بالكثير من الاجتهاد والجدية، لم أر من قبل مثل هذا الاستقطاب الحاد الذي بدا في العدد الهائل من المقالات التي تواكبت مع العروض الاولى للفيلم وحتى هذه اللحظة، لكن الحقيقة تقتضي القول ان معظم هذه المقالات، وهي كثيرة، تأتي ضد الفيلم بشكل واضح، والجزء اليسير منها هو الذي يتعامل مع الفيلم باعتباره عملا فنيا.

لكن اللافت للنظر في معظم التعليقات المتواترة ضد الفيلم، انها لم تكن تمتلك الوعي الكافي للتعامل مع هذا العمل الفني الرفيع، بما تفرضه الأدوات الاولى للنقد الفني بقواعده المتعارف عليها، لذلك كان معظمها شقشقات نقاد مبتدئين في احسن الاحوال، وفي الغالب يمثل معظمها تعليقات صحافيين من انصاف الجهلة الذين امتلكوا أعمدة صحافية ومع إقراري الكامل بحق عامة الناس وخاصتهم في اتخاذ الموقف الذي يناسبهم من الفيلم بالرفض أو بالقبول، الا اننا ـ لكي نكون منصفين ـ لا بد ان نملك مبررات لمواقفنا، لاسيما اذا كان صاحب الموقف ممن يمتلكون زاوية صحافية او ركنا في فضائية، لأن هؤلاء ممن يشكلون الرأي العام، او هكذا ينبغي لهم، واظن ان الذين تابعوا معظم هذه التعليقات لم يجدوا فيها شيئا ذا بال، كما لم يعثروا فيها على مرجعية يمكن الاستناد اليها رفضا او قبولا، وهذا راجع الى جملة من الاسباب:

أولا: حالة الاستقطاب الحادة التي تنتاب المجتمع المصري، بسبب غياب الشفافية وتفشي الفساد، وسيطرة جماعات المصالح في كافة الحقول سواء كان ذلك في السياسة او في الفن .

لذلك سنجد ان اختلاق وصناعة الظواهر الفنية والمجتمعية أمر شائع، وكذلك محاولات القتل الرمزي لكل ما هو ايجابي من ظواهر مجتمعية، وتحت هذه الوطأة تشكل الانحيازات، التي لا تقوم على أدنى موضوعية، الذوق العام فثمة فريق يرى في عمل ما عبقرية غير مسبوقة، والفريق الاخر يرى فيه ـ وبنفس القوة ـ عملا رديئا ومسيئا.

ثانيا: يعني هذا الاستقطاب ـ أول ما يعني ـ تراجع المعيار الحقيقي لقراءة اية ظاهرة لصالح عوامل اخرى . فلا تتم قراءة العمل الفني طبقا لما تواتر من قواعد ومرجعيات نقدية مستقرة او شبه مستقرة عبر تاريخ هذا'النوع من الفن، بل تتم قراءة العمل الفني عبر مخرجات جماعات المصالح حينا، والعداءات الشخصية حينا، والاختلاف السياسي حينا آخر، وتراجعت بالتالي القيمة الحقيقية للفن لصالح سيطرة من يديرون لعبة المصالح .

ثالثا: ساهم غياب النقد الجاد والعارف في تعميق الالتباسات لدى العامة واحيانا لدى الخاصة، لاسيما حول مفهوم التعدد في اطار الفن الواحد، او النوع الفني، وليس غريبا في هذا السياق ان تجد الغالبية الغالبة من الصحافيين يشايعون الابتذال الفني باعتباره باباً لإسعاد العامة وإدخال البهجة الى نفوسهم في مواجهة ظرف مجتمعي قاس، وكأن هذا الظرف نفسه منفصل عن ازمة أكبر لابد ان يتداولها الفن ليكشف حقيقتها ويفضحها، وطبقا لوجهات نظر هؤلاء فإن الفن يتحول من اداة من ادوات تغيير الواقع الى اداة من ادوات التكيف معه والقبول بكل وضاعته .

رابعا: وهذه نقطة ترتبط بما قبلها، لأنها تتعلق بكون هذا النظر المجاني وغير العارف الى الفن لم يمتلك في لحظة سندا لحجته، وظل الفن الجاد غريبا في نظر هؤلاء، واذا وضعنا فيلم 'دكان شحاتة' نموذجا، تحت هذا المجهر، لبدا فيلما مأساويا لا يستهدف الا إسكات صوت الضحكات البلهاء التي تنطلق في دور العرض مع قفشات المهرجين، واتصور ان قناعة خالد يوسف بمفهوم الفن المركب الذي لا يمكن قراءته او مشاهدته لمرة واحدة هي نضال من نوع اخر ضد الكثير من السطحية في حياتنا، بل هي فوق ذلك مغامرة غير مضمونة النجاح .. رغم ما حققه الفيلم من ايرادات تجاوزت افق عروض المهرجين الجدد .

خامسا: وهي ربما النقطة الاخيرة في هذا الرصد وتتعلق بتفسيري لحملة الهجوم على خالد يوسف، والتي اظن ان مرجعها الاخير يعود الى سهولة الهدم بصفة عامة، فالانتقادات الشائعة في الحقل السينمائي وغيره متاحة وشديدة اليسر لأنها لا تحتاج الى بحث وصوغ اسباب ومبررات، لكن الكتابة الجادة التي تستهدف الكشف عن جماليات العمل الفني من جميع مناحيه هي التي تحتاج الى معرفة مدققة، ووعي معمق، وضمير يخلو من الشوائب وهي امتيازات باتت عصية ونادرة، ولا يملكها الا أقل القليل.

ورغم انني لست من المختصين بالنقد السينمائي ولا بغيره من النقد، الا ان علاقتي كقارئ ومشاهد لا تنقطع بالفن، واذا جاز لي ان ابدي رأيا في عمل من هذا النوع، فهو ليس الا نوعا من المجازفة لكنه سيبقى في مأمن من النقد اللوذعي الذي واجهه خالد يوسف ودكانه، لأنني لم أتقصد الا رصد الملامح العامة للمجتمع التي صعد فيها الفيلم ونظيره من الاعمال الفنية بعيدا عن سطوة المصطلح النقدي وتخصصه .

و أظن ان خالد لم يكن مسرفا على نفسه عندما ربط بذكاء الاحترافيين بين .. القصة الانسانية شديدة الواقعية التي يجنح الفيلم الى معالجتها، وبين المدلول السياسي الذي يقف خلفها.

فخالد'يوسف ينتمي الى جيل السبعينيات، وتشرب طريقة استاذه المخرج الكبير يوسف شاهين، صاحب الخطابات الفنية المركبة، وان استخدمها بطريقته الخاصة التي تبدو أكثر انهماكا في الواقع، بشكل ابعدها عن الغموض والذاتية .

و تظل رؤية خالد المركبة للفن معنى فريدا في السينما المصرية الراهنة، لأن التركيب هنا يعني اعادة نظر دائمة في 'ضرورة الفن' وفي صيرورته، وتحولاته، واهدافه التي لا تشهد استقرارا، اعني ان البحث في وظيفة الفن يبدو هدفا اساسيا لسينما خالد يوسف ولكل فن ينتهج الرؤية المركبة القابلة دائما للتأويل، والتي تنشد ـ بأشكال مختلفة ـ تغيير الواقع .

و أظن ان الانتماء السبعيني ليوسف منح هذا المعنى عمقا اضافيا، فجيل السبعينيات في السياسة والفن بعامة لا يؤمن فحسب انه ابن لمفهوم التثوير والتغيير على كل المستويات، لأنه نفسه صانع الثورة، وان الفنان قائد لقافلة من أحلام البشر الذين أودعوه جوهرة تتأمل المستقبل وتستدرك أزماته العميقة، يتبدى ذلك في معالجات خالد يوسف للقضايا السياسية الشائكة والملتبسة وكذلك القضية الاجتماعية الضاغطة.

وعلى مستوى اخر لم يهرب الفن امام الايديولوجيا وامام الموقفين الفكري والعقائدي في فيلم 'دكان شحاتة' بل احتفظت الدراما الروائية بالكثير من طزاجتها وتلقائيتها، عبر حوار يمتاز بالشفافية والاقتصاد وعدم الاسراف في الغنائية وصناعة المنولوجات الداخلية وتقديسها وتحويلها الى وصايا وعظات.

وقد كان التوفيق الذي حالف المؤلف ناصر عبد الرحمن والمخرج خالد يوسف في تقديم ابطال الفيلم عبر تمايزات عميقة ومشارب مختلفة سببا في اثراء المشهد السينمائي، ساعد على ذلك التجويد رفيع المستوى الذي صاحب اداء فنانين كبار مثل محمود حميدة 'حجاج' وعبد العزيز مخيون 'د. مؤنس' بالاضافة الى الاداء الفذ للموهبة الطالعة عمرو سعد الذي يحمل من خصوصية المكان وتراثه وعفويته وتسامحه الكثير من السمات، وهو يؤكد المعنى الانساني النبيل الذي كرسه أحمد زكي 'البطل الشعبي' في كسر مألوفية النجم التقليدي، حيث تتجسد وتتشكل أحلام البسطاء والعامة على موائد الفقراء والمعوزين، وليس امام طاولات شمعية مصنوعة خصيصا لصناعة استعراضية فجة تجافي منطق الاشياء وتسخر من فقر الفقراء ومن حاجة المأزومين بأحلامهم المجهضة.

لذلك كان 'شحاتة' البطل السلبي في معظم الاحوال نموذجا يؤكد الخلل المجتمعي الذي تجسد في الاخر 'الاخوة' وكذلك يعول على القيمة الانسانية للنبل والتفاني والعطاء لدى البطل، الذي لا يقابله الاشقاء بمثالية، بل يواجهونه على طريقة عنف عصرهم، ويكون النبل في هذه الحالة ثمنه الموت.

كذلك بدا دور الفنان الموهوب 'عمرو عبد الجليل' 'كرم' الذي قدم مفهوما مختلفا للكوميديا الشعبية التي يصنعها الموقف وتصنعها طبيعة الشخصية.

والامر لا يقتصر بالطبع على هؤلاء فثمة اجادة محققة قدمها صبري فواز 'شقيق البطل'، وغادة عبد الرازق 'شقيقته'، وهيفاء وهبي 'حبيبته' التي لعبت دور 'بيسة'.

وقد ساعد هؤلاء الابطال على تعميق تاريخ كل شخصيات الفيلم في نسيج الرواية، فليس ثمة مفاجآت في ظهور ابطال اسطوريين بشكل مفاجئ يلعبون دور المخلص، بل يبدو نمو الشخوص من واقع اللحم الحي للقصة شديدة الواقعية والايلام، فالبطل ضحية حقيقية لقيمتين متناقضتين أولاهما قيمة فظة وغليظة تتمثل في الثراء المفاجئ الذي يهبط على الاخوة من تبرع صدر من الاقطاعي القديم ورجل السياسة الاشتراكي ضحية الانظمة القمعية 'د. مؤنس'، وهو ما يدفع الاخوة للتآمر على البطل الذي كان الاب يؤثره عليهم، وذلك بالدفع به الى السجن، وقتله بعد خروجه، القيمة الثانية هي قيمة التسامح التي يتحلى بها شحاتة في مواجهة هذا العنف ويذهب في النهاية ضحيتها عندما يهوى صريعا برصاص واحد من اشقائه، كل ذلك يتم عبر تلك التشوفات والحدوس الناعمة التي اثرت الفيلم وعمقت قضيته المجتمعية، تلك الحدوس التي تتبعت خطى الاب 'محمود حميدة' الذي قدم من الصعيد مع الخطوات الاولى للثورة بينما لم يكن يملك شيئا ليعمل بستانيا في قصر 'الدكتور مؤنس' وتنتهي صورة تلك الحدوس والتشوفات بما يتوقعه خالد يوسف للسنوات القادمة حيث سيتصارع العامة والدهماء على حبة القمح، ويتوقع من خلال ذلك فوضى عارمة ليست ببعيدة عن واقع الحال، وهي فوضى تعيد الى الاذهان 'الشدة المستنصرية' التي وقفت فيها سيدة العام قصر الخليفة المستنصر بعد ان تخاطف السابلة جوال دقيقها الذي باعت لشرائه عقدا بألف دينار، ولم يتبق لها الا مقدار قرصة صغيرة، أمسكت بها ووقفت على ربوة امام القصر لتقول: ايها الناس ادعوا لمولانا المستنصر، فقد تقومت عليّ هذه الفرصة في زمنه بألف دينار.

هذه هي اشارة التحذير التي يرفعها خالد يوسف، ويؤشر الى ذلك التهرؤ المجتمعي الذي جسدته دراما 'دكان شحاتة' في دقة وبساطة ورهافة تمثل مؤكدة في تجربة خالد يوسف السينمائية، بل في السينما المصرية كلها.

القدس العربي في

07/07/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)