تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

«الفرح» فيلم عن عبقرية الفقراء في عالم الحرمان

القاهرة – فريال كامل

لم يكن مصادفة أن يحدد المخرج سامح عبدالعزيز موقع أحداث فيلمه «الفرح» جغرافياً وخلال لقطة بانورامية لمدينة القاهرة القديمة، التي من أحد أحيائها يطلق المؤلف أحمد عبد الله سؤالاً ممهوراً بعلامة التعجب، كيف يمكن لهؤلاء البسطاء أن يدبروا معيشتهم، من دون عمل حرفي ثابت أو دعم من هيئة رسمية؟! لقد عايش المؤلف سكان تلك الأحياء واقترب منهم. وهو في فيلم «الفرح» لا يقدمهم كمادة للفرجة، إنما يقدمهم من وجهة نظر الإعجاب بتماسكهم وقدرتهم على البقاء. يرى المؤلف أن هؤلاء البسطاء اكتشفوا نظرية متكاملة في الحياة تقوم في جوهرها على فكرة التحايل وتستمد قوتها من الأعراف والتقاليد والثقافة الشعبية.

يلتقط المؤلف من الحارة شخصيات عدة يتعقب أساليبها المتباينة في التحايل، ويكثفها للمشاهدين، في موقف واحد، هو الفرح الذي يدول خلال ليلة واحدة، ما يمثل تحدياً للمخرج، ويجعله يبدي عناية بتصميم حركة الشخصيات (زينهم صاحب الفرح والفنانون والمدعوون، والقائمون على خدمتهم). وكل هذا داخل شادر الفرح. كما يلجأ المخرج إلى اللقطات القصيرة التي تبدو عفوية، إضافة الى شريط الصوت بالغ الصخب، ذلك كله تجمع لدى المونتير عمرو عاصم ليصوغه في نسق بالغ الحيوية محاولاً تقديم شرح واف لنظرية التحايل.

الحارة الآن

يلفت النظر من المشهد الأول مدى التباين الذي طرأ على الحارة الكلاسيكية في فيلم «العزيمة» 1939، ذلك التباين الذي رصده مهندس الديكور إسلام يوسف من الناحيتين العمرانية والديموغرافية (طبيعة السكان)، حيث بانت الحارة أكثر فقراً حين سكنها من لا مهنة لهم. بيوتها متصدعة تتخللها الخرائب وجدرانها مقشورة وأرضها غير ممهدة. بدت الحارة في الفيلم كياناً خارج حماية الدولة، ليصبح للتقاليد اليد العليا في تنظيم العلاقات بين الأهالي. بات الشرطي عملة نادرة. يسجل الفيلم غيابه في الاشتباكات العنيفة بين نساء الحارة وحين سرق نقوط الفرح، وحين قتل المعلم حسن الحشاش (باسم سمرة).

خلال الأحداث يعرض المؤلف كيف يعيش الأهالي: حياة غاية في البساطة، تحركهم دوافع بسيطة، مجرد حاجتهم الى لقمة العيش وحاجاتهم الجنسية في إطارها الشرعي. ومن يتخطى تلك الحدود، يصيبه ما أصاب حسن الحشاش، حين تجرأ على البنت سميرة، بائعة البيرة (دنيا سمير غانم في دور يفجر مواهبها) وعزف بخبرة المعلمين على عواطفها البكر، وقادها إلى خرابة الشادر فطعنته بمطواة في مقتل.

خلال الفرح يبرز المؤلف روح التضامن بين الأهالي مادياً ومعنوياً، كقيمة تعينهم على عثرتهم في الأفراح والأحزان.

رقصة

كاد زينهم (القدير خالد الصاوي) أن يحقق حلمه بشراء ميكروباص لإعاشة أسرته، إذ أن نقوط الفرح يتدفق كما الشلال بينما العسيلي (ماجد كدواني) يقدم الحفلة بأسلوبه الدعائي الفج حيث عمد إلى تفخيم المدعوين من «الخديوي» إلى «بطل عين جالوت» إلى «الباشا»، كما عمل على استفزازهم للمزايدة على النقطة. يجلجل صوت المطرب الشعبي عبدالباسط حمودة وينشط الصبية لخدمة المدعوين، مطلقاً عليهم ألقاب تمتد حين يفاجأ زينهم بوفاة والدته فينهار باكياً مشروعه ويقترح على الرجال تكتم الخبر إلى أن ينتهي الفرح ويتم لمّ النقطة وفي محاولة من المونولوجست صلاح وردة لتشجيعه بخبرة بما يدعو الجمهور للابتسام، فلقد دأبت الحكومات على التكتم على وفاة الزعماء لحين إعداد العدة للجنازة.

وتعترض روجينا بشدة على استمرار الفرح وتتمادى إلى أن تطالب زينهم بالطلاق فمن ليس له خير في أمه ليس له خير في أم أولاده. يبكي زينهم مصيبته المركبة، ولكنه يميل إلى رأي العقلاء. وما أن يهبط إلى الشادر حتى يدعوه المعلم حسن الحشاش للرقص أمامه بل يشرط تقديم النقطة برقصة زينهم فيقدم خالد الصاوي مشهداً من أقوى المشاهد درامياً حيث يدور دورات عدة حول نفسه ملوحاً بالسلاح بينما يكسو التجهم ملامحه لينشر المعلم حسن حوله الأوراق النقدية.

سلطة التقاليد

دار الهمس بين نساء الحارة على أن الفرح مزيف، وأن العروس مستأجرة، ومع ذلك يطلقن الزغاريد ويستقبلن العروس بالمباخر (من دواعي الواجب والأصول)، وتفيض الدراما عن المفارقة حين يدفعهن للعريس بمبخرة ليبخر العروس بينما يحادث الطبيب على المحمول لتأكيد موعد الليلة لرتق غشاء بكارتها.

حقيقة الأمر أن زينهم استأجر عروسين لاستكمال شكل الفرح تحايلاً منه ليجمع النقطة التي سبق أن دفعها للمدعوين، وهنا يلتقي احتياج زينهم مع احتياج عروسين في أشد الحاجة للنقود لرتق عذرية العروس التي تأخر زفافها الى عريسها سبع سنوات كاملة لتعنت الأب إلى أن يستكمل العريس الكادح مستلزمات العرس وحين تلوك الألسنة سيرة العروس يصر الأب على إعلان بكارة ابنته بالدخلة البلدي قطعاً للألسنة، فهل ينجح العروسان في التحايل على رعب العرف الذي يحتم فض عذرية العروس ليلة زفافها؟

يثري الفيلم كوكبة من الشخصيات التي تكتشف أساليب للتحايل من أجل لقمة العيش. تتخفى البنت سميرة بائعة البيرة – والتي تعول أسرتها – في زي صبي يطمس جمالها حتى لا تصير مطمعاً للشبان إلى أن يقدر المعلم حسن على اللعب بعواطفها فتطعنه في مقتل.

أما صلاح وردة، المونولوجست القديم، والذي لم يعد مطلوباً فقد دأب على التحايل ليحفظ كرامته بين أفراد أسرته فيحسن هندامه ويدعي أنه مطلوب في إحدى الحفلات. وتكتشف سوسن بدر (في دور بالغ البؤس شديد التأثير) حين تقدم بها العمر ولم تعد مطلوبة في سوق المتعة، أسلوباً آخر للتحايل على لقمة العيش فتمارس الرقص في أفراح الفقراء.

وبين باقة النجوم يبرز الفنان خفيف الظل علاء مرسي مصور الفيديو الذي يلزمه زينهم ألا يحول الكاميرا عن العسيلي مقدم الحفل ليرصد النقوط. ومن الطريف أن يلازم العسيلي حتى حين يذهب ليتبول في أحد الأركان ما يفجر الضحكات في صالة العرض. ويأتي التحول عن لا وعي المصور حين يدس أحدهم في فمه حبة مخدرة ومثلها في فم حارس حقيبة النقوط. ومن الطريف أن تنقلب الصورة رأساً على عقب في عين الكاميرا لنكتشف في النهاية سرقة شنطة النقوط.

فيلم «الفرح» لسامح عبدالعزيز وأحمد عبدالله عمل سينمائي بالغ الإنسانية يفيض بالروح المصرية حين يشيع البسمة من بين جوانب الموقف المأسوي. الفيلم ينتقي شخصيات من البسطاء ولكنهم نبلاء يسعون للحياة. يكتشفون وسائل للتحايل من أجل لقمة العيش وتبقى على العمة القديرة كريمة مختار حيث تقدم شخصية كاملة في مشهد. تبقى رافضة للتحايل إلى أن توافيها المنية. وفي مشهد من أروع المشاهد تعظ سوسن بدر الراقصة التي تجاوزت العمر الافتراضي للإغراء وتدعوها للالتزام بالفضيلة بل تمنحها مبلغاً من النقود تعويضاً لها عن أجرها في الحفل فلا يكون من زينهم إزاء امتناعها عن الرقص ما يهدد مشروعه بالفشل، إلا أن يشبعها ضرباً فتؤدي على المسرح رقصة بائسة بينما تلاحقها الفرقة الموسيقية ويقدمها مذيع الحفل كونها رائدة الفتنة في الإذاعة والسينما.

تنتهي الأحداث ولا يزال في جعبة المخرج المزيد إذ يفاجئ الجمهور بالعودة إلى مفترق الطرق إلى حيث لحظة الاختيار الفاصلة في حياة زينهم ليختلط الحاضر بالماضي في مشهد عبثي، يطرح المؤلف خلاله سؤالاً عن ماذا لو لم يستجب زينهم لكلام مدعي التعقل وأطاع مشاعره ليعلن وفاة أمه في حينه؟ هل كان بذلك قد أوقف سيل المصائب التي أنهالت على رأسه من هجر زوجته لبيت الزوجية إلى سرقة شنطة النقوط ومقتل حسن الحشاش؟ تضاء أنوار الصالة ويبقى السؤال معلقاً عن أفضلية ترجيح العقل أم الرضوخ للعاطفة.

الحياة اللندنية في

03/07/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)