تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

كورنيليو  بورومبيو متحدثاً الى "النهار" عمّا بعد الفيلم البوليسي

الشرطي نقيض السينمائي أم حليفه؟

فرنسا ـــ من هوفيك حبشيان

بعد "12:08 شرق بوخارست" مفاجأة ثانية تدعى "شرطي، وصف" من توقيع كورنيليو بورومبيو، تؤكد أن الآمال المعقودة على هذا المخرج الروماني الشاب (1975) كانت في محلها الصحيح. باقتفائه خطى شرطي محقّق اسمه كريستي (دراغوس بوكور)، يوقظ الفيلم اسئلة راكدة في وجدان المجتمع الروماني الحديث، والذي، غداة دخوله الاتحاد الاوروبي، صار احوج ما يكون الى تفكيك المفاهيم السائدة بعد عقود من الشيوعية والانغلاق. يقوم الفيلم على شخصية اختزالية تعيد النظر في المهمة الموكولة اليها (القبض على مراهق في الجرم المشهود وهو يعطي صديقيه بعضاً من الماريغوانا)، حينما تكتشف ان الكلمات ومعانيها المطاطة قد ترضعها من أن تقاصص قاصراً لا يعرف بعد مسؤولياته. الكلمة حماية، لكن القانون يعمل ضمن آلية أخرى بعيداً من هذا المنطق. عبثية، طرافة، رموز وايحاءات، هذا هو فيلم بورومبيو الذي يحملنا، عبر لقطات طويلة وثابتة، الى مناطق مجهولة في اللغة والحوار، يتلذذ بها من يملك نعمة الانتظار. في كانّ، حيث عُرض الفيلم في قسم "نظرة ما" ضمن الاختيار الرسمي، كان لنا هذا اللقاء مع أحد رموز الموجة الرومانية الجديدة التي خرجت الى العالمية من تحت عباءة كريستيان مونجيو، قبل عامين.    

فكرة "شرطي، وصف" في منتهى البساطة، لكن مع تطور الحوادث، يصبح العمل مثقلاً بالمعاني؛ تشتد الوتيرة تدريجاً ويغدو النص أكثر حوارياً

ــــ الفكرة تبلورت مع الزمن. كان لي صديق شرطي، مما جعلني على تواصل مع عالم الجريمة والجناية. ذات مرة أخبرني هذا الصديق عن قضية كان يعمل عليها ولم يكن يريد حلاً لها لأنه لم يرد ان يحمّل ضميره كونه لم يكن مقتنعاً بالحلّ. في المرحلة نفسها تقريباً اطلعت على ريبورتاج عن أخ يخون أخاه في قضية تجارة مخدرات. لفتتني هذه القضية على رغم انني لم أكن مهتماً بتداعياتها. لكنها حثتني على تقصي بعض الحقائق عن كيفية خوض شرطي مجال التحقيق. اذاً، لم يكن مصدر الوحي واحداً، بل خلاصة لقاءات متعددة. عادةً، أعثر على افكار أفلامي في الواقع المعيش.

ثمة همّ وثائقي في وصفك عالم الشرطة. هل اجريت توثيقاً قبل التصوير؟

ــــ بالتأكيد. ما كان يهمني في المقام الأول في مهنة رجال الشرطة هؤلاء هو ارتباطها العميق بالسينما، اذ ان عملهم يقتصر على المراقبة ومن ثم تدوين ما راقبوه في ما يُعرف بالتقارير. يستهويني الوثائقي، واعتقد ان السينما يمكنها ان تكون شاهدة على الزمن الحاضر. ما صوّرته (ان نرى ثم نكتب ما رأيناه على نحو مفصل جداً ودقيق)، يتماشى وعقليتي السينمائية ونظرتي الى كيفية صناعة فيلم. أردت أن أعاين بطريقة مخبرية اجراءات شرطيّ ومجال تحركه. اقتفيت خطاه كما يتعقب هو خطى مشتبه فيه. وكان هدفي الاظهار أن السينما شاهدة على عالم لا معنى له (...). الفيلم يتابع عمله بأسلوب واقعي من دون ان يمنح اشارات. ومع ان فكرة "الفيلم البوليسي" لم تفارقني قط طوال عملية التصوير، فأنا اليوم حيال عمل استطيع أن اطلق عليه تسمية "ما بعد الفيلم البوليسي".

ما يهمني في كل فيلم هو التفاصيل: لمرتين نرى على الشاشة تقرير الشرطة عن تحركات المراهق المشتبه فيه. وحين تصور التقرير لا تضع الموسيقى في الخلفية ولا ضجيج السياق. انما صمت مطبق. اللافت أن مهنة هؤلاء تقتضي أن يكتبوا التقارير من دون أي وجهة نظر ازاء ما يسردونه، وهذا عكس ما هو مطلوب من السينمائي الذي ينبغي ان تكون له رؤية للعالم. انطلاقاً من هذا أسألك: هل السينمائي نقيض الشرطي؟

ــــ الى حدّ ما، نعم. هذا الفيلم هو تأمل في الوسيط السينمائي، احتمالاته وامكاناته الواسعة. أحب أن أبقى مراقباً من بعيد بلا دخول في الدهاليز. أحببت أن اراقب هذا الشرطي في عالمه الذي لا يعتبره ذا معنى. وفي النهاية يقع ضحية الفساد على يد رئيسه وبعد مراجعة قاموس لغوي. ولا يمكن أن يُقرأ الفيلم بمعزل عن كونه تأملاًً على الجانر البوليسي.  

منذ البدء تتيح للمشاهد المجال أن يختار معسكره، إما أن يكون مع الشرطي وإما مع الآخرين. لكن القلب يبدأ بالميل الى الشرطي، من نصف الفيلم وصعوداً، ولا سيما حين نراه مع زوجته في المنزل. هل كنت مدركاًَ هذا الواقع؟

ـــ لا اعرف لماذا حصل ذلك، لأنني حين أنجزت الفيلم لم أكن أريد ان تكون الشخصية "سمباتيك". ما استطيع أن أؤكده لك أنني لم أفكر قط بالمُشاهد وبموقفه. ثم قيل لي ان البعض بدأ يُعجب به بدءاً من منتصف الفيلم. هذا شيء جيد. أما عن تصويري له في المنزل، فكنت اريد أن اراه في واقع مختلف، وكنت في حاجة الى هذا الجزء. في الأخير، هذا رجل صادق في ما يفعل. ثم، لا أريد أن أفرض على المشاهد طريقة نظرة معينة الى الشخصية. ولكن ما يفاجأ في كريستي انه ينمّ عن مهنية عالية، على رغم انه كان يشك في رسالته. انه جد محترف في ما يقوم به، مهما تكن المهمة الموكلة له، وهنا يكمن الفرق بينه وبين شخصية أخرى.

مشكلته الاساسية ربما انه يسأل كثيراً...

ـــ  أعتقد ان القضايا الصغيرة مثل تلك القضية التي يعمل عليها في امكانها ان تغيّر أحدهم. كريستي لا يزال في مرحلة التساؤل ويريد أن يعرف لماذا قد يفعل شيئاً لا يرضي اخلاقيته المهنية. لكن لا نعرف ماذا يحل به في المستقبل، وقد ينتهي به الامر الى التخلي عن اسئلته والكفّ عن التفكير. قد تسحقه المنظومة البوليسية والاجتماعية وصولاً الى ان يصبح كالآخرين. أيا يكن، فأنا لا أزال مهتماً بصغار القوم، ومن سابع المستحيلات ان أنجز فيلماً عن بطل! ما أحب في الشخصيات عموماً هو انسانيتها ونقاط ضعفها، لأن لا أحد منا يرتقي الى الكمال.

هذه نظرة جدّ متشائمة

ـــ نعم، الى حدّ ما.

هل يمكن القول عن شخصية كريستي انها تختزل الحال التي هي عليه رومانيا؟  

ـــ لا بد أن تكون كذلك. أخشى المصطلحات الكبيرة والكلمات الفضفاضة، لكن نعم، شئت أو أبيت، الفيلم يقدّم بورتريهاً لرومانيا، أو اقله لجزء منها. كل الشخصيات التي نراها في الفيلم هي في مرحلة انتقال بين مجتمع روماني قديم وآخر جديد، علماً ان بلادنا دخلت حديثاً أوروبا ولكنها لا تزال في مرحلة انتقالية.

هذا ايضاً فيلم عن كيفية تفكيك المفاهيم (مشهد القاموس في مقرّ الشرطة).

ــــ هذا ما حاولته في فيلمي الاول. هنا ابحر الى مكان أبعد. كانت اللغة في هذا العمل همّي الأكبر. فيلمي عن اللغة. عن معنى اللغة أو بالاحرى عن انعدام معناها. من خلاله اردت أن اعرف معاني كلمات مثل "اخلاق"، "قانون" و"ضمير". كريستي شرطي، شأنه تطبيق قانون اساسه الكلمات. فجأة، تراه معارضاً هذه الكلمات خوفاً من أن يفضي اهتمامه بقضية قاصر الى القضاء على مستقبل هذا القاصر. لكن ما ان يدخل الى مكتب رئيسه، حتى تأخذ الكلمات معنى آخر تحت سلطة القاموس. قديماً، كان الله خلف الكلمات، أما اليوم فالقاموس هو خلفه.

هناك برودة ولامبالاة استيتيكية في تصويرك مدينة فاسليو. نراها مكاناً داكناً وغير جذاب، وأحياناً قبيحاً.

ــــ أنا من هذه المدينة. هذه مدينتي. ما لا أحبه في الأفلام هو الأخضر. لا أحب أن ارى الزهور والحقول والمساحات الخضراء. ذوقي هكذا. في المقابل، اتعامل مع مدينتي بطريقة غريزية؛ فلا حاجة عندي الى أن أفكر كثيراً قبل أن أقرر أين اريد أن اضع الكاميرا. من المهم جداً بالنسبة اليَّ أن أموضع حوادث فيلمي في هذا المكان، كونه المكان الذي اعرفه تمام المعرفة.   

لديك طريقة جافة وصارمة في التصوير والتقطيع، وكثيراً ما تركّز على اللقطات الطويلة الثابتة. هل نستطيع القول إنك وجدت ضالتك في هذا الاسلوب التعميري؟

ـــ لا، لا اعتقد ذلك. كل فيلم هو نظرة الى الحياة. في المستقبل قد اتحول الى شيء آخر. لا احد يعرف. أحياناً القصة تفرض عليك أن تعالجها بطريقة ما. هناك شيئان يجب أن يتناغما: الحكاية وطريقة السرد.

لكن هذا الاسلوب الجاف يعني ما يعنيه. لدينا ايضاً انطباع ان معركة الشرطي خاسرة سلفاً في بلد محصن أمام التغييرات الجذرية. وهذا ما يحولّ الشرطي بطلاً لرواية تراجيدية. ما رأيك؟

ــــ (بعد تفكير). أولاً، اظهار ثبات المجتمع الروماني لا يندرج ضمن اولوياتي السينمائية. ما يهمني أكثر من ذلك هو شخصية الشرطي كريستي في رومانيا المعاصرة. الرجل يجري تحقيقاً على صلة مباشرة بالشؤون البيروقراطية. هذا يتطلب منه جهوداً جبارة، لأن عمله هو معرفة الحقيقة مهما تكن. هذا عمل ممل ومنهجي لا شك، لكن لي دائماً الشعور بأننا جميعنا عبارة عن ملف بالنسبة الى شخص آخر. ثانياً، لم اود قط أن يبدو كريستي صاحب عمل بطولي. كل ما يفعله انه يتلقن درساً من رئيسه عن معنى كلمة "قانون" و"ضمير"، ويُعاد تالياً ادخاله الى السرب. لم يكن في ودي شخصية تراجيدية انما شرطي يتمتع بقدر من المناقبية. لكن علينا أن نعترف أن كثراً من الذين يعانون مشكلة اخلاقية ويحشرون بين اقتناعاتهم الشخصية وواجباتهم المهنية، ينتهي بهم الأمر الى أن يتخذوا القرار الذي اتخذه كريستي.

ختاماً، ماذا عن الموجة الرومانية الجديدة التي كثر الحديث عنها قبل سنتين اثر فوز "أربعة أشهر، ثلاثة اسابيع ويومان" لكريستيان مونجيو "السعفة"؟ هل من مثال اعلى تلاحقونه، علماً انكم من الجيل الذي ولد وشبّ في ظل نظام كان يعتبر السينما أداة للترويج والبروباغاندا، والآن هذا كله بات خلفكم؟

ــــ هذه المسائل التي اشرت اليها هي القاسم المشترك بين كل السينمائيين الرومانيين الجدد. كلّ منا لديه رؤية خاصة وعالمه المختلف، وأنا متأكد من أن كلاً منا سيطوّر مشروعه في المستقبل، وستكون هناك اتجاهات مختلفة. لكن، لسنا مثل "الموجة الفرنسية الجديدة" التي باتت شيئاً كلاسيكياً في تاريخ السينما، والسبب اننا لسنا اصحاب نظريات في فنّ صناعة الصورة، كما كانت الحال مع اسلافنا الفرنسيين. على رغم ذلك، ما نتشارك واياهم فيه، هو الذائقة السينمائية عينها. واقع اننا تربينا في محيط شيوعي، يجعلنا نكون شرفاء أكثر تجاه أنفسنا وتجاه ما نريه في أفلامنا.

 (hauvick.habechian@annahar.com.lb)

النهار اللبنانية في

25/06/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)