تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

إيلاف" تفتح ملف الذاكرة المرئية في العراق، وتستجلي أسباب فقرها وقصورها (17)

المخرج باز البازي: التلفزيون أو الصندوق الفازغ يشبه حصاناً يجر شعوباً الى النسيان

حاوره عدنان حسين أحمد من لندن

تشكّل الذاكرة الثقافية رصيداً بالغ الأهمية لأي شعب من الشعوب، فكيف اذا كان الأمر يتعلق ببلد عريق ذي  حضارات متعددة وموغلة في القدم مثل العراق. ولأن الذاكرة الثقافية مفردة واسعة وعميقة الدلالة، وتضم في طياتها الذاكرة المرئية والمسموعة والمكتوبة، إلا أن استفتاء "إيلاف" مكرّس للذاكرة المرئية فقط، والتي تقتصر على السينما والتلفزيون على وجه التحديد. ونتيجة للتدمير الشامل الذي  تعرضت له دار الإذاعة والتلفزيون، ومؤسسة السينما والمسرح، بحيث لم يبقَ للعراق، إلا ما ندر، أي وثيقة مرئية. فلقد تلاشى الأرشيف السينمائي العراقي بشقيه الروائي والوثائقي. وعلى الرغم من أن السينما العراقية لم تأخذ حقها الطبيعي على مر الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق، كما لم يحظ السينمائيون العراقيون بأدنى اهتمام من مختلف الحكومات العراقية التي كانت منشغلة بموازناتها السياسية، وبأرشفة أنشطتها المحدودة التي لا تخرج عن إطار الذات المرَضية المتضخمة. وقبل سقوط النظام الدكتاتوري في بغداد كان السينمائيون العراقيون يعلِّقون الآمال على حكومة العراق الجديد التي تمترست خلف أطاريح الديمقراطية، والتعددية السياسية، والتناوب السلمي على السلطة من دون انقلابات أو ثورات يفجرها مغامرون عسكريون مصابون بعقدتي السجادة الحمراء والموكب الرئاسي، غير أن واقع الحال يكشف، خلافاً للتمنيات المعقودة، بأن نصيب الذاكرة المرئية من الرعاية والاهتمام يكاد يكون معدوماً، بل أن بعض السينمائيين العراقيين قد بات يخشى تحريم هذا الفن الرفيع أو اقامة الحد عليه. لقد عنَّ لـ "لإيلاف" أن تثير خمسة محاور أساسية في محاولة منها لاستجلاء واقع السينما العراقية عبر تفكيك منجزها الروائي والوثائقي على قلته، ورصد حاضرها المأزوم، واستشراف مستقبلها الذي نتمنى له أن يكون مشرقاً وواعداً بحجم تمنيات العراقيين وتطلعاتهم نحو حياة حرة، آمنة، مستقرة، كريمة.

أسئلة الملف السينمائي

1- على الرغم من غنى العراق وثرائه الشديدين، مادياً وبشرياً، إلا أنه يفتقر إلى الذاكرة المرئية. ما السبب في ذلك من وجهة نظرك كمخرج "أو ناقد" سينمائي؟

2- أيستطيع المخرجون العراقيون المقيمون في الداخل أو المُوزَعون في المنافي العالمية أن يصنعوا ذاكرة مرئية؟ وهل وضعنا بعض الأسس الصحيحة لهذه الذاكرة المرئية التي بلغت بالكاد " 105 " أفلام روائية فقط، ونحو 500 فيلم من الأفلام الوثائقية الناجحة فنياً؟

3- في ما يتعلق بـ " الذاكرة البصرية " كان غودار يقول " إذا كانت السينما هي الذاكرة فالتلفزيون هو النسيان " كيف تتعاطى مع التلفزيون، ألا يوجد عمل تلفزيوني ممكن أن يصمد مدة عشر سنوات أو أكثر؟ وهل كل ما يُصْنَع للتلفاز يُهمل ويُلقى به في سلة المهملات؟

4- كيف نُشيع ظاهرة الفيلم الوثائقي إذاً، أليس التلفاز من وجهة نظرك مجاله الحيوي. هناك المئات من الأفلام الوثائقية التي لا تحتملها صالات السينما، ألا يمكن إستيعابها من خلال الشاشة الفضية؟

5- في السابق كانت الدكتاتورية هي الشمّاعة التي نعلّق عليها أخطاءنا. ما هو عذرنا كسينمائيين في ظل العراق الجديد؟ وهل هناك بصيص أمل في التأسيس الجدي لذاكرة بصرية عراقية ترضي الجميع؟

 

في ما يلي الحلقة السابعة عشرة التي يجيب فيها المخرج السينمائي باز شمعون البازي على أسئلة ملف السينما العراقية.

المخرج باز البازي: التلفزيون أو الصندوق الفازغ يشبه حصاناً يجر شعوباً الى النسيان

ترميم الوجه العراقي

1- ليس بالضرورة أن يكون العراق بلداً ثرياً لكي يقوم بصيانة إرثه وحضارته، بلدي يفتقر الى الذاكرة المرئية على رغمٍ من ثرائه الحضاري والثقافي العريق في جميع المجالات الابداعية، لأسباب عديدة أهمها افتقاره الى عصرنة كيانه وقوامه، إنه بلد يكبر فيه الخوف من مؤسساته الحكومية والمدنية  والدينية، حيث تمَّ تحويل مؤسسات الدولة الى أقبية وأمكنة لكوابيس وخوف وقتل روح الآخر وتفريغها من محتواها ووجودها الوطني والقومي والانساني الى مؤسسات حزبية عشائرية، عنصرية، طائفية التفكير والمنطق، وبعيدة كل البعد عن التحديث والحداثة بلدان مبنية لنخبة بسيطة جداً، ضيقة الى حد الاختناق،  تحمي فقط المتنفذيين السياسيين في الدولة. عزلة البلد والحصار الغذائي والثقافي والحروب المتعاقبة عليه محلياً واقليمياً وعالمياً أكثر من ربع قرن ناهيك عن تاريخه المتشابك والازدواجي ومشاكله الداخلية الممزقة جعل من الصعب أن ترفع من أهمية تأسيس ذاكرة مرئية واعية مؤسساتية تعمل ببرامج مدروسة لتطوير وعي الفرد وتكوينه ورسم مستقبله، الذاكرة المرئية، كانت السلطة العربية القطب الوحيد في المجتمع الذي له الحق في أرشفة بطولاته، وتدوين خطاباته الشوفينية والقومية عبر أجهزتها الاعلامية وهي من أهم سمات حكوماتنا في الشرق الأوسط وخصوصاً حكومة النظام البائد في العراق التي لا تؤمن  بهذه الخرافات اطلاقاً، وخرافة " الذاكرة المرئية" الجماهيرية التي كانت ومازالت تحت الرقابة المكثفة المستمرة والتي لم تعمل على أسس القانون والدستور بقدر ما كانت تعمل على طرق قتل الوعي يعني قتل الذاكرة الشعبية " المرئية" ، فكيف سيكون لها وجود "الذاكرة" والسلطة لا تقبل الحرية الدينية والدنيوية والتحديث، بل العكس تقتل القيمة المادية لحظة انبثاقها. أرشفة حكوماتنا لذاكرة شعوبهم جاء من أبواب كبيرة مفتوحة على الجهل والتخلف والتسلط والقمع غير المبرر. ومثال كبير على هذا هو أطنان من الوثائق المرئية والمقرؤة التي صودرت بأيدي العراقيين في اتنفاضة الأكراد في كوردستان العراق والشيعة في جنوبه في عام 1991 في الوقت الذي لم يخلِّف النازيون ومؤسسات هتلر بجبروتها عند الهبوط والسقوط في الانهيار هذه الكميات الهائلة من تدوين الجيد والحريص من قبل أجهزة النظام العراقي البائد على شكل تسجيلات صوتية وصورية وملفات مكتوبة. 

الذاكرة المرئية هي عملية تدوين كاملة لوعي الانسان وحياته لها قانونها ووظائفها وهي تشمل  مختلف قطاعات الشعب والجماهير الشعبية وبكل مستوياتها وفروع الحياة الأخرى من علم وطب وفن معماري وعالم الحيوان والبيئة والاقتصاد الى السياسة، تعرف جيدا ما حصل في الاهوار من دمار واستلاب  لروح الأرض ومياهها وفقدان البلاد عشرات من الحيوات الحيوانية النادرة في العالم، هل هناك أرشفة مرئية للخسارة البيئية هذه؟ لا، بالتأكيد. وماذا عن ملايين من أشجار النخيل التي أحرقت في الحروب الكارثية على البلاد، لا، الذاكرة المرئية يجب ان تكون هوية المجتمع ووجهه الحقيقي على مر الزمان وتتوقف عليها حياة أجيال المستقبل بكاملها، وها نحن لا نفتقر لهذه الذاكرة فقط، بل حتى لأبسط أنواع الارشفة المرئية الذاتية فكيف ونحن نتحدث عن أرشفة ذاكرة مجتمع بأكمله بقيمه وصراعاته وطاقاته الابداعية وثرواته وقيمه. هناك في العراق أربع حضارات تفاعلت وأنتجت ذاكرة مرئية واضحة ليتسنى لنا قراءة تاريخها ومشاكلها واكتشافاتها وعبقريتها في الوجود واللاوجود  وهذا حدث عبر الفن "فن الصورة "  وهو فن الحياة وجمال الانسان ونجاحه في نقل حياتهم الينا عمل عظيم للبشرية وبكثافة نحن في محاكاة مباشرة ومستمرة مع حضارات بابل وآشور وسومر على رغمٍ من مرور آلالاف السنين من خلقها  ستجد ملايين البشر في العالم في يومنا هذا يتعاملون بشكل مباشر مع ما قدمته هذه الحضارات وإن دل هذا شيء فإنما يدل على أن هؤلاء تركوا لنا بصماتهم بشكل مبدع وخلاق، ولكن نلاحظ اليوم القليل من بصمات لذاكرة أجيالنا المعاصرة، وما زاد من مشكلتنا اليوم بأن هذا الارث القديم هو اليوم مكسور مهدم من دون أية رعاية وصيانة منتظمة، هو الآخر تم سلبه ونفيه من موطنه الاصلي، فمالذي تبقى لنا من الذاكرة المرئية، كنوز من الذاكرة "المادية" أُقتلعت من مكانها لتتناقلها أيادي الاثرياء وعصابات التهريب. الذاكرة المرئية لا تنحصر فقط بالافلام السينمائية خصوصا اليوم في ظل العولمة والتكنولوجيا المتطورة، وبالذات الرقمية منها. الكومبيوتر هو أرقى مثال لحفظ الذاكرة "مرئيا" في عصر العولمة. الأرشفة الفوتوغرافية، ولكنها محدودة وقليلة وتقتصر على الصور الشمسية التي كانت منتشرة في بلدي بشكل واسع ولكن الفن التشكيلي أيضا يندرج في هذا المجال ويعتبر شكل مهم من اشكال أرشفة لذاكرة المرئية.

لم تخلق حكوماتنا شيء  يضيف للإرث العراقي بقدر ماتم تحطيمه حيث كان هناك تدمير للذاكرة المتبقية واليوم أفضل مثال شارع المتنبي، إنه يدخل في خانة المرئي والذاكرة هنا يكون "البصر" حاضراً ، حينما تتمعن وتتعمق في هذه الثيمات تصيبك الخيبة والالم في أن أرث بلدي قد خسر الكثير إن لم نقل انتهى. أعتقد بأن علينا أولاً أن نقوم بتعديل وترميم الوجه العراقي " عليه أن يمر بعملية نحت جديدة وعلى أسس عادلة وانسانية ويعيش بكرامة وحرية وقيم أكثر تسامحا بين ألوانه ومكوناته الدينية ليتمكن من متابعة تطور البشرية، وأن يكون في هارموني مع نفسه والعالم خصوصا في بناءه لإرثه "ذاكرته" وعلى حكومته وشعبه أن يعرفا بان من هو دون ذاكرة ، ومن دون اسم يعني أنه بلا هوية وبلا وجود.

ذاكرة في طور الولادة

2- كما ذكرت لك سابقاً بأن الذاكرة المرئية لا تتأسس فقط عبر الافلام السينمائية أو الوثائقية، بل تتعدى هذا المجال الى أنواع أخرى مختلفة من أساليب  الأرشفة خصوصاً المؤسسات الحديثة والمبنية على أساس تكنولوجي متقدم في حفظ الذاكرة. بالتأكيد وشيء منطقي بان العراقيين المنفيين يصنعون ويكونون ذاكرة مرئية مستقلة في المنفى ومباشرة في نفس الوقت مع بلدهم الأم، ولكن ما حجم هذه الذاكرة، وهذا هو الشيء الذي يميزهم عن اقرانهم في الداخل اي تجربتهم، وجودهم واعمالهم وابداعاتهم المهنية تؤشر الى وجود تكوين حديث لهكذا ذاكرة بالرغم من قصر عمرها ولكنها تحتاج الى بناء وتنسيق ومؤسسات وبرامج وميزانية دولة  ومختصين كما في معظم عواصم العالم اليوم تحت ادارة مؤسسة مثل السينماتك الفرنسية أو السينماتك التابعة للفيلم القومي الكندى الذي ترجع أرشفته الى الثلاثينيات من القرن الماضي ومحفوظة حتى في حال الحرب أو الضربة النووية تؤرشف فيه أعمال الفنانين والسينمائيين والهواة والبسطاء ويتعدى ذلك الى أفلام عالم الحيوان والتكنولوجيا والعلوم الانسانية وغيرها من العلوم وتضم ملايين الاقدام من الاشرطة في شكل صورة وصوت، وهناك امثلة اخرى في كل من المانيا وهولندا واليابان وامريكا في صنع وحفظ الذاكرة المرئية لشعوبهم.

نحن نصنع في المنفى ذاكرة مرئية ولكنها بسيطة وهي لا تزال في طور الولادة وبشكل غير منسق ومدروس ومن غير مؤسسات تتبناها، تجارب فردية محدودة جدا.

لاتوجد أسس صحيحة لهذه الذاكرة المرئية، وليس لها قوام مؤسساتي فيعني هذا لا وجود للذاكرة المرئية في العراق وفي حال وجود هذه الذاكرة فهي مبادرات فردية من قبل عراقيين يهتمون بالموضوع لا أكثر من هذا ولا أقل، لماذا؟ أولا قتلتها السلطة، وثانيا قلة المهتميين في السينما وخصوصا العملية الانتاجية، وثالثاً النظرة الدونية تجاه الفنون المرئية "التي هي أهم عنصر في بناء الذاكرة التي تتحدث عنها" في بلداننا من قبل المجتمع ومؤسساته المتهرئة، وبالتحديد الفن السينمائي ولوازمه الأخرى من الفنون.

الرقم الذي تذكره بخصوص الافلام الروائية العراقية المنتجة خلال السنيين الطويلة من تاريخ العراق لا يستطيع تكوين ذاكرة واسعة ومتنوعة المفاصل مؤثرة في حياة الانسان اذ كان ينتج  من الافلام الوثائقية والروائية في الهند في عام واحد أو اقل من عام العدد الذي طرحته في سؤالك، وتعرف جيداً بأن الوصول الى بناء ذاكرة مرئية يكون الانتاج هو الذاكرة من دون الانتاج للذاكرة، انتاج أي مادة، الذاكرة التي تتحدث عنها تحتاج الى انتاج سينمائي وتلفزيوني فكيف تطلب من المخرج العراقي المنفي بناء ذاكرة ونحن غير قادرين على تمويل فيلم روائي واذا حدث هذا فيكون كل عشر سنوات وبميزانيات مزرية وبسيطة. لهذا يكون السؤال هل الفرصة سانحة  للمباشرة ببناء وصنع ذاكرة مرئية "صورية"  للمجتمع  العراقي، عراقياً في الوطن أم منفيا في المنفى، وكيف؟

المزاج الكوني

3- التلفزيون هو مرآة المجتمعات المعاصرة والحديثة إنه أخطر عنصر مرئي مبتكر بهذه القوة حيث له القدرة في السيطرة على التفكير العام، المزاج "الكوني" ، صارخ وسطحي ينقل معلومة ويغيب آلالاف بل ملايين المعلومات، يقود ايدلوجيات ومفاهيم ويعلن حروب ويفكك بلدان ويهدم مصائر شعوب ويؤسس لحكومات وانقلابات ويؤثر على العالم بقوة المباشرة الصلفة في "البيت"  لكنه في نفس الوقت يكتب التأريخ، يوثق سلباً وايجاباً العالم الآن  وهذه  اللحظة لا اكثر من هذا ثم ينتهي بالنسيان. لهذا السبب لا تصمد الوثيقة الا في دهاليز الأرشفة وتنساها لتبقى مفتوحة لنخبة من المفكريين والمحللين أو الباحثين في شؤون الاقتصاد أو الفن أو العلوم وفي الجامعات والمعاهد المختصة. الشيء الآخر والمهم والأخطر هو أن الصورة اي التلفزيون أصبح قوة عالمية، سلطة قوية توجه عقول وتؤثر في وعي مليارات البشر. التلفزيون بهذه القوة والامكانات المادية الكبيرة والتي حولته ليكون من أكبر الدايناصورات وأثراها. لهذا بدأت هوليوود بالخوف من إعلان انتهاء السينما. التلفزيون هذا الصندوق الفارغ أصبح بمثابة لعابة صبر " تسلية" القرن الواحد والعشرين لشعوب هذا العالم، انه بالفعل وبتركيبته الحالية كحصان يجر شعوبا الى النسيان.     

المؤسف بأن اليوم لا تستطيع تنفيذ عملاً روائياً أو وثائقياً الا وكان التلفزيون له الحصة الأكبر من الميزانية ومن دون هذه الوكالة التلفزيونية  " license "  ليس بمقدور المخرج أو المنتج من تمويل أي مشروع سينمائي، وهذا يقدم لنا صورة واضحة عن سلطة التلفزيون على المادة الممنتجة بشكلها ومضمونها وميزانيتها. هل بمقدور العالم أن ينسى كيف أن جابلن طهى حذائه ووضعه على طاولة خشب وبدأ أولاً بمص المسامير ومن ثم أكل الجلد في تلك الليلة الثلجية الباردة، حالة مرعبة ومؤلمة وانسانيا محزنة وكوميدية في اللحظة ذاتها، هل تستطيع نسيان هذا المشهد الذي يلخص آلالام الكون كله، هل أن التلفزيون اليوم قادر على هذا الفعل، وهل يقبل بهذا الفعل، بالتاكيد  لا، فهذه مادة صورت على شريط سينمائي مخصصة للشاشة الكبيرة ولا تملك أخلاقية الصورة التلفزيونية، هناك اختلاف كبير بين المادة المقدمة للتلفزيون عن المادة المصنوعة للسينما، هناك الفلم التلفزيوني، وهناك الفلم السينمائي والفرق كبير بينهما من ناحية التكنيك والمعالجة والبناء الدرامي ..الخ. والمخرج التجريبي كودار يعرف جيداً عندما يريد العودة الى المجتمعات في الثلاثينيات وبعدها أو قبلها بالتأكيد انه بهذا يرجع الى الذاكرة المصورة "الفلم السينمائي" انه  الماضي بالنسبة له ولا يستطيع مسخ الماضي على العكس انه يرتكز عليه وبقوة  لتطلعاته المستقبلية في فن الفلم  فيؤكد لا نسيان في السينما كما في النص المكتوب قبل مئات السنيين، النسيان هو مصير المادة التلفزيونية فكم هي هزيلة وسطحية المادة المعمولة بمعالجآت آنية صدفوية من دون الدخول في تفسير وتحليل معمق للحدث أو الفكرة. المادة المنجزة للتلفزيون تنتهي بالسرعة التي تم بناؤها وبعد عرضها يكون النسيان مصيرها. الفلم السينمائي يعمل بطريقة مختلفة ويعالج الموضوعة بشكل ومضمون مختلف وله لغته السينمائية الخاصة وأصوله الانتاجية، وعملية تصنيع مادته  تختلف، وبعيدة كل البعد عن التلفزيون ومعالجاته وتوابعه.

محاربة التلفاز للفيلم

4- هذا بالتأكيد، ولكن لا تنسى بأن سياسة التلفزيون "هنا نتحدث عن القنوات العالمية " في اختيار المادة " أساسها تجاري جماهيري"  ايدلوجي فكري دعائي مع سطحية عالية في الشكل والمضمون، وهذا يتعارض وبقوة مع الفيلم المؤلف والمستقل أي السينما أساساً. إن محاربة التلفاز للفيلم هي من أولوياته وهذا بالفعل مايحدث اليوم في سياسات القنوات العالمية.

اليوم جميع المؤسسات الحكومية أو الأهلية السينمائية تحولت الى منتج أساسي للتلفزيون ومن دون التلفزيون المادة الفلمية لن ترى النور، واذا حدث هذا الشيء فسيكون على مستوى محلي وضيق والعمل يكون مصنف بعمل أمتيري من درجة " ب " ويكتب له الفشل جماهيريا، إن قوة التلفاز في ميزانياته العالية وهذه الميزانيات توصل الأعمال الى جودة عالية وينطلق بدعاية قوية تجارية. أنت أحد النقاد العراقيين المنفيين والناشطين في مجال النقد الفيلمي أو السينمائي وتعرف جيداً سياسة استيعاب التلفزيونات العالمية أو العربية للأعمال الجدية وتضيقها المدمر على المادة الفيلمية المستقلة والجريئة والتي تحمل الشجاعة في طرح موضوعتها لن يقبل عليها التلفزيون، ليس هذا فقط، بل يصل بالعاملين ومدرائهم في التلفزيونات الى حد قتل المادة وعدم اعطائها فرص عرض في برامجهم بحجة " خطابهم المعروف" أن الفيلم ليس فيلماً تجارياً جماهيرياً، وفي الوقت نفسه يطلقون ملايين الساعات من البورنوغرافية وبرامج الطبخ إضافة الى وجوه القادة والسياسيين والمغنين حتى انقلب التلفزيون اليوم ليكون بمصطلح مؤسساته " تلفزيون الواقع ".

مصيدة الضغوطات

5- أنا شخصياً لست سينمائياً في ظل العراق الجديد، ولست على اتصال بأية مؤسسة سينمائية عراقية مستقلة أو حكومية، ولم أتسلم دولاراً واحداً من أية مؤسسة عراقية  للأعمال التي أقوم بها في منفاي الذي تجاوز رقم " 30 " سنة، ولا أُحسب على أية جهة منها، فليس لي أعذار أقدمها هنا بخصوص نشاطي السينمائي في ظل العراق الجديد أو القديم، كنت منفياً وعلى ما يبدو بأني سأموت منفياً، ولكن ما أعرفه بأن مؤسسات العراق لا تقدم دعماً للمخرجين العراقيين، ولا يملك المخرجون العراقيون في الداخل والخارج أملاً في الحصول على ميزانية لإنتاج أفلامهم والتي طابعها عراقي وهويتها عراقية، وفي حال أن حصل أحد المخرجين على ميزانية من العراق فقد يقع الفنان وفيلمه في مصيدة الضغوطات الطائفية أو العائلية أو السياسية والى آخره، ومصيره في المنفى نفسه في الداخل حيث أن القنوات التلفزيونية لا تقدم دعماً إلا من أهل البلد، واذا حدث هذا فيكون بشروط ومقاييس الانتاج الاجنبي أي ميزانيات رديئة. فيما لو كان هناك بصيص أمل في تأسيس ذاكرة عراقية أعتقد بأن عليك أن تسأل وزارات الحكومة العراقية ومؤسساتها المدنية أو تخاطب رئيس وزرائنا الجديد الاستاذ نوري المالكي ورئيس دولتنا الاستاذ الكبير جلال الطلباني ليعملا الى لم شمل المخرجين العراقيين في الداخل والخارج ويخصصا لهم دعماً مادياً سنوياً لكي يتسنى لمخرجي العراق الجديد  بناء هذه الذاكرة، من دون دولة وحكومة لا يقوى مخرج المنفى من التقديم والابداع خصوصاً في صناعة الفيلم التي تحتاج الى ميزانيات الدولة التي أنت محسوب على هويتها، مثال السينما الايرانية ودعم الدولة لها السينما المصرية ومؤسساتها الثقافية، ولكن على ما يبدو بأن ما يحدث اليوم أن ميزانيات الافلام ذي الهوية العراقية يذهب الى مخرجين عرب وأجانب وعقود المحطات التلفزيونية توزع على اشقائنا العرب وليس على العراقيين وهذا شيء مؤسف وخانق للذاكرة التي تتحدث عنها، فكيف النهوض بذاكرة وطن وأنت مجزأ ومهمش الى هذا الحد في عالمك وعالم بلدك.

إيلاف في

16/06/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)