حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مملكة الضحك (5):

ماري منيب… الخجل يصنع نجوميتها في أول مواجهة مع الجمهور

كتب: القاهرة - ماهر زهدي

مثلما كان «عماد الدين» في وسط القاهرة شارعاً للفن، لما كان فيه من مسارح وملاهٍ، كان كذلك حيّ «روض الفرج»، أقرب الأحياء الى حي شبرا»، إذ إنه ملاصق له ويضج بالمسارح والمراقص والملاهي الليلية، فكان مقصداً للترفيه وعشاق فن التمثيل والغناء والرقص. إضافة إلى ذلك، كان «ساحل روض الفرج» مقصداً للمصطافين من الفقراء والطبقة الوسطى، في حين كانت منطقة «الزمالك» منتجعاً ومصيفاً لأولاد الطبقة الراقية والأرستقراطية، ممن لا وقت لديهم لمغادرة القاهرة بسبب ارتباطهم بأعمال خلال الصيف، وفي الوقت ذاته كان يتجه كثر في هذا الفصل إلى الإسكندرية ورأس البر.

ومثلما اختار «أبو الكشاكش» نجيب الريحاني شارع «عماد الدين» ومنطقة «وسط البلد» ليكون فيها مسرحه، اختار «بربري مصر الوحيد» علي الكسار شارع «ساحل الغلال» في روض الفرج مكاناً لمسرحه. ففي منتصف شارع «المبيضة» في روض الفرج، يقع شارع «ساحل الغلال» عمودياً عليه والذي ينتهي بدوره أمام نهر النيل، وفي هذا الموقع الحيوي كانت توجد لافتة كبيرة مكتوب عليها «جوق بربري مصر الوحيد».

كان علي الكسار يقدّم على هذا المسرح روايات مكوّنة من فصلين، يفصل بينهما فاصل غنائي راقص يعتمد على راقصة يصاحبها مطرب، يقدّمان فاصلاً ترفيهياً لرواد المسرح، وهذا ما كان يفعله نجيب الريحاني وغالبية الفرق المسرحية الهزلية أو الكوميدية آنذاك لضمان أكبر عدد من المتفرّجين، في إطار الحرص على إرضاء الأذواق كافة.

في شهر سبتمبر من عام 1914، عُرض الموسم الأخير لرواية «القضية نمرة 14» التي كان يقدّمها علي الكسار، والتي كانت تتناول بشكل كوميدي ساخر انعكاس الحرب العالمية التي نشبت قبل شهرين، في يوليو من العام نفسه، على الشعوب الفقيرة التي لا حول لها ولا قوة، والتي غالباً ما تستخدمها القوى العظمى كوقود في مثل هذه الحروب.

ظنّت ماري وأليس أنهما ستؤديان البطولة أمام الفنان علي الكسار، فراحت أليس تمني نفسها بدور «ست الحسن والجمال»، وأكدت ماري أن الكسار حتماً سيختارها لدور الأميرة، وربما هذا هو ما دار في خلد أمّهما أيضاً، حتى فوجئن بما قاله جبران:

* بطولة كده مرة واحدة؟… ده إيه ده… وبعدين الرواية لا فيها ست الحسن والجمال ولا دور أميرة.

= وشو بيشخصوا يا جبران أفندي.

* يا ستي الرواية فيها ولاد المفروض أنهم شحاتين.

= شحاتين!! يا حسرتي… ولاد سليم حبيب شحاتين!!

* يا ستي هو ده التشخيص… أمال اسمه تشخيص ليه… النهاردة شحاتين بكره دور أميرة بعده دور بنت بلد… وأهو كل يوم بشكل.

- الله… دي حاجة حلوة قوي.

* أمال… يلا بقى أجهزوا علشان نلحق معاد المسرح ونوصل قبل الأستاذ علي الكسار ما يوصل… لأنه بيروح بدري قوي.

ظنّت ماري أنه مثلما وقفت هي وشقيقتها أليس بين يدَي «أبو الكشاكش» لاختبارهما وتفحّص هيئتيهما، حتماً سيحدث الأمر نفسه مع الكسار، غير أنهما ما إن أوصلهما جبران ومعهما والدتهما السيدة قاسمة إلى باب دخول المشخصاتية وسلّمهما الى مدير خشبة المسرح فنجري أفندي، حتى فوجئتا به يأخذهما من والدتهما ويسوقهما إلى أسفل خشبة المسرح  حيث غرف تبديل الملابس، غير أن ماري لم تكن لتفوّت هذا الموقف، وراحت تسأل فنجري أفندي بينما هو يسجّل اسميهما في دفتر الكومبارس لإثبات الحضور:

= اسمك إيه يا حلوة إنت وهيّ؟

* أنا ماري ودي أختي أليس.

= الثلاثي… إسمكم الثلاثي.

* ماري سليم حبيب وأليس سليم حبيب بس كنت عاوزة…

= بس إيه… عاوزة إيه؟

* كنت عاوز أسأل يعني… هو الأستاذ علي مش هيقولنا الأول إحنا هنشتغل ولا لأ.

= خلاص الأستاذ فنجري وافق… فاهمين؟ أنا هنا اللي بقول مين يشتغل ومين ميشتغلش… وإنتو كده اشتغلتوا خلاص… يلا هتدخلوا الأوضة دي هتغيروا هدومكم وتلبسوا هدوم الشحاتين.

* نلبس هدوم شحاتين ليه؟

= الرواية كده… هتكوني إنت وهيّ مع الشحاتين في الرواية ومش عايز غلبه وكتر كلام… يلا غيروا هدومكم قوام.

* طيّب هو أحنا مش هنقابل الأستاذ علي الكسار علشان يشوفنا؟

= عاوزة تقابلي الأستاذ علي الكسار حته واحدة كده… يلا يا سنيورة منك لها يلا… واحمدوا ربنا إنكم هتشوفوه شخصياً على خشبة المسرح.

القضية نمرة 14

لم تكن أليس أو ماري تفهمان معنى التمثيل أو حتى ترغبان فيه، غير أنه بالنسبة إليهما وقت لطيف ستلعبان خلاله وتضحكان، كما فهمتا من جبران، والأهم من ذلك هو باب للرزق، وما ستتقاضيانه فيه من راتب، سيفرج عنهما الضيق الذي يعيشان فيه وأمّهما.

صعدت ماري وأليس مع بقية الكومبارس إلى خشبة المسرح، وبدأ مدير الخشبة يشرح لهم ماذا يفعلون وأين يقفون وكيف يجلسون، وما أن انتهى وغادر، حتى راحت الفتاتان تختلسان نظرة إلى جمهور الصالة من خلف «خرم» صغير في ستارة المسرح البالية، جمهور غفير، رجال يرتدون البدلات الفاخرة، و{الجلاليب» البلدي، ونساء ترتدين فساتين فاخرة بألوان وأشكال مختلفة، وبعضهن يضعن «فورير» فوق أكتافهنّ، خوفاً من «لسعة برد المساء» لقربهنّ من نهر النيل، أو ربما إمعاناً في التباهي والتفاخر.

مرّت أعين ماري وأليس على نوعيات الجمهور وهما تطيران فرحاً وسعادة، وراحتا تمنّيان نفسيهما بمزايا العالم الجديد وما يمكن أن يحقّق لهما من ثراء وسعادة. وظلتا تتفحصان جمهور الحضور حتى استقرتا عند موضع جلوس أمهما ما زاد على طمأنتهما.

كانت قاسمة تجلس في مكان قريب من خشبة المسرح، وما أن سمعت دقات المسرح الثلاث حتى راح قلبها يطرق بسرعة، كأنها هي التي ستخوض بعد لحظات امتحاناً مصيرياً يحدّد مستقبلها وحياتها.

فُتح الستار، في الخلفية منظر بانورامي لبيوت قديمة في أحد الأحياء الشعبية، وفي مقدّمة المسرح على اليمين واليسار مجموعة من الفتيان والفتيات في عمر أليس وماري وأكبر قليلاً، يفترشون خشبة المسرح بملابس «شحاذين» نائمين في أوضاع مختلفة. ومع بدء تحرّكهم من وضع الثبات، أعلنت موسيقى أغنية بداية الرواية التي من المفترض أنهم يقومون بأدائها، ثم دخل عدد من الخفراء ونهروهم قائلين:

= فز يا واد انتو وهو…

ممنوع النوم بره وجوه.

فردّ الأولاد بأغنية:

يا أخونا بردانين…

يا أهل الشفقة جعانين

حنوا على المساكين

يا أخونا تعبانين

كانت أحداث الرواية تقضي بأن يظلّ هؤلاء «الشحاذون» في مقدّمة خشبة المسرح طيلة أحداث الفصل الأول بعد أداء الأغنية، وبعدها يعودون للرقاد ثانيةً، ثم ينهضون ويؤدون أغنية أخرى فى نهاية الفصل.

أظهرت أليس براعة في ما طُلب منها، وشاركت المجموعة أداء الأغنية، لكن ماري حين هبّت لتقوم من رقدتها وفتحت عينيها ووجدت نفسها في مواجهة جمهور الصالة وجهاً لوجه، خافت من هذا المنظر الذي سبّب لها رعباً حقيقياً، فأغمضت عينيها بسرعة وعادت إلى رقادها على الأرض، وهنا ضجّت صالة العرض بالضحك، وكلما ضحك الجمهور زاد رعب ماري وخجلها ظناً منها أن الجمهور يضحك ساخراً منها، وليس لها ولما تقوم به من حركات كوميديّة.

مواجهة الجمهور

لم تتوقّع ماري أن تكون مواجهة الجمهور بهذه الصعوبة، غير أنها لم تستسلم، فلا بد من وقوفها ومشاركة أقرانها الغناء، ولن تكون أليس أشجع منها هي وبقية الفتيات الموجودات، فحاولت ثانيةً وفتحت عينيها لتهبّ واقفة، غير أن شجاعتها خانتها هذه المرة أيضاً، فأغمضت عينيها بسرعة وعادت إلى رقدتها، وهنا ضجّت الصالة بالضحك مجدداً.

في تلك الأثناء، كان الفنان علي الكسار يقف في الكواليس يتابع الكورس وهم يؤدون الأغنية قبل دخوله إلى خشبة المسرح، ولاحظ ما تفعله ماري ورد فعل الجمهور على حركتها، وظنّ أنها تتعمّد فعل ذلك لتنتزع ضحكات الجمهور:

- واخد بالك يا فنجري من البنت دي واللي بتعمله وضحك الجمهور عليها.

- أيوه يا أستاذ… واخد بالي.

= البنت دي أول مرة أشوفها هنا.

= أيوه يا أستاذ دي بنت جديدة أول يوم لها النهاردة… وربنا يستر.

- باين عليها بنت ذكية قوي وفاهمه مسرح.

= طبعا يا أستاذ دي اكتشافي… أنا اللي مدربها.

- انت اللي مدربها… أنا معرفش إنو إنت بقيت تشتغل مخرج دلوقت يا أستاذ فنجري يا أبو مخ تخين… ينكد عليك وعلى عمرك.

استمرّت ماري على هذه الحال حتى نهاية الفصل الأول، وبعدما أُسدل الستار رفضت أن تنهض وتفتح عينيها، فاضطرّ العاملون إلى سحبها من يديها فوق خشبة المسرح لإخراجها الى الكواليس فيما هي نائمة رافضة الوقوف، ما فجّر ضحكات جديدة لدى الجمهور ظناً منهم أن كل ما حدث هو جزء من الرواية، وظناً من الكسار بأن الفتاة تستمرّ فى الأداء الكوميدي المتعمّد، حتى أن قاسمة ظنّت الظنّ نفسه، ونسيت كل همومها وراحت تضحك من قلبها لما تفعله ابنتها الصغيرة ماري، التي لم تكن تدري أن لديها هذه المواهب كلّها.

الوحيدة التي كانت تعرف حقيقة الموقف هي ماري نفسها، فكانت ترتعد خوفاً من هذا الموقف الجديد عليها ومواجهة الجمهور، وزاد رعبها وقلقها عندما شاهدها فنجري:

= إنت… إنت يا بنت إنت.

* أنا يا أستاذ؟

= أيوه إنت يا ساهيه… ده انت طلعتي مصيبة… وكنت فاكرك طيبة وساهية.

* أنا عملت حاجة يا أستاذ فنجري.

= كل ده ومعملتيش؟ كنت عاوزة تعملي إيه تاني؟ اتاريكي كنت بتسألي هو الأستاذ علي الكسار مش هيشوفنا… كنت عاوزة تطمني أنه هيشوفك وياخد باله منك وحركاتك… وأهو حصل… بعد الرواية ما تخلص ما تمشيش علشان هتقابلي الأستاذ علي.

مرت دقائق الفصل الثاني من الرواية ثقيلة جداً على ماري، الجميع في كواليس المسرح في حالة بهجة وسعادة، حتى أن أليس اندمجت معهم ولم تلحظ شرود شقيقتها.

اللقاء مع الكسار

ترى ماذا يريد الكسار؟ هل سيعاقبها على خجلها فوق خشبة المسرح وخوفها من مواجهة الجمهور؟ هل سيكون العقاب مادياً بحرمانها من الراتب، أم أدبياً بحرمانها من العمل في الفرقة؟ أم أنه سيسخر منها أمام أفراد الفرقة ويجعلهم يضحكون عليها مثلما ضحك الجمهور ساخراً منها؟

انتهت الرواية واتّجهت قاسمة فرحةً الى الكواليس لتصطحب ابنتيها اللتين أثبتتا براعة فائقة في التمثيل منذ الليلة الأولى.

ركضت ماري وارتمت في أحضان والدتها كأنما تستنجد بها مما سيحدث لها من الكسار، حتى أنها كانت تدفعها ببطء الى باب الخروج كي لا يلاحظ أحدٌ مغادرتهما، وفيما كانت تستقبلها أمها بالأحضان مهنّئة، خرج الكسار من فوق خشبة المسرح وشاهد ماري بجوار والدتها فبادرها:

* تعالي هنا يا بنت إنت.

أبت ماري أن تذهب إليه، فدفعتها والدتها إليه دفعاً:

= يا عيب الشوم… شو هل الحكي يا ماري روحي للأستاذ بده يحكي معك.

* وكمان طلعتم من الشام… عال عال ده أحنا طلعنا قرايب.

هنا تجرأت ماري وسألته:

- قرايب إزاي هو إنت من الشام.

* لا، من مصر وأمي من السودان وإنتو من الشام… يعني كلنا عرب… يبقى قرايب ولا لأ يا ست ماري؟ مش اسمك ماري برضه؟

- ماري سليم حبيب.

* طيب يا ست ماري سليم حبيب أنا مبسوط منك قوي وكمان هاديلك النص «ريال» ده (عشرة قروش) وكل يوم هاديلك زيو… بس بشرط.

- إيه  هو؟

* كل يوم تعملي اللي كنت بتعمليه النهاردة على المسرح وتموّتي الناس من الضحك… وتيجي بكره الساعة حداشر الصبح تعملي  بروفة مع الفرقة… اتفقنا؟

- اتفقنا.

كل  ما خرجت به ماري من اللقاء هو رضى علي الكسار وعدم معاقبتها، بل إنه أعطاها مبلغاً كبيراً وسيكون راتباً يومياً بخلاف راتبها الشهري، وهذا في حدّ ذاته إنجاز ما بعده إنجاز، غير أنها لم تكن تدرك أنه بطلبه هذا يرسم لها خارطة مستقبلها، وأنه يضع اللبنة الأولى في بناء كيانها كممثلة كوميدية، كي يمكّنها من انتزاع ضحكات الجمهور فوق خشبة المسرح من دون عناء أو جهد… فحسب باستخدام البساطة والتلقائية.

في طريق العودة إلى البيت، أصرّت ماري على دعوة أليس وأمّهما على عشاء فاخر على نفقتها الخاصة، وأن يكون في الهواء الطلق على كورنيش النيل، فلديها ثروة تقدّر بـ «نصف ريال»، أول أجر تحصل عليه من عملها، فكان العشاء آنذاك الوجبة الأشهر على كورنيش النيل، وبين المسارح والملاهي من بائع «السميط والجبنة والبيض».

الحلم بالمستقبل

لم تنم ماري ليلتها، وبعد الاحتفال مع شقيقتها وأمها، بما حقّقته ـ من دون أن تقصد ـ من نجاح، راحت تحلم بالمزيد منه في يقظتها وهي ممدّدة في سريرها، ثم استكملته في منامها.

كانت ماري تحضر البروفات الصباحية بمفردها من دون أليس، حيث كانت تتدرّب على ما تقوم به من حركات كوميدية تؤديها في الرواية، ثم تعود في المساء لتنفّذها في العرض، ويوماً بعد يوم كانت تظهر براعة فائقة في ما تقوم به فأُضيف عدد آخر من الحركات الى دورها، لدرجة أن الجمهور كان يصفّق لها طويلاً أثناء التحيّة النهائية، حتى لاحظ أمين صدقي، الشريك الإداري للفنان علي الكسار في الفرقة، ففكّر في أن يستغلّ هذه الموهبة بشكل أكبر، فعرض على الكسار أن تؤدي ماري رقصة في الاستراحة بين الفصلين، بدلاً من الراقصة «سنية شخلع» التي باتت تفرض شروطها المجحفة على الفرقة.

لاقت الفكرة هوى في نفس الكسار، فطلب فوراً من ماري أن تحضر معها والدتها في البروفة الصباحية، وما إن عرض الفكرة على قاسمة حتى انتفضت قائلة:

* شو هل الحكي أستاذ علي… كيف لابنة سليم حبيب بتشتغل راقصة؟

= يا ستي مش زي ما انت فاهمة… هي مش راقصة بالضبط… لكن هتمثل أنها راقصة.

* ولو… بيكفي أنها بتشتغل مشخصاتية… هيدا اللي كان بينقصنا تشتغل راقصة.

= اهدي بس وأنا هفهمك.

* شو بتفهمني… ترقص وتتعرى.

= لا لا… كله إلا كده… معندناش الكلام ده.

* وحياة الله بيكفي أستاذ بيكفي ما هيك بيصير في ولاد الناس.

= يا ستي ولاد الناس على عينا وراسنا… مين قال بس أننا عاوزين حاجة وحشة لولاد الناس… ده كله تمثيل في تمثيل… وبعدين ما احنا برضو ولاد ناس… أنا بس عاوزك تهدي كده وتسمعيني.

رفضت قاسمة رفضاً قاطعاً أن تعمل ماري راقصة، غير أن الكسار استطاع إقناعها أولاً بقبول الفكرة، ثم بأن الرقص جزءٌ من التشخيص وبأن تظهر ماري في إحدى الروايات بدور راقصة، وهذا لا يعني أنها كذلك بل ممثلة تؤدي دور راقصة، وهذا ما سيحدث بالضبط، وأنها سترقص ببدلة رقص محتشمة، لن تظهر حتى كعب قدميها، وإمعاناً في التأثير عليها قرّر أن يزيد راتبها أربعة جنيهات للرقص خلاف راتبها من التمثيل.

ماري راقصة

اضطرت قاسمة الى  الموافقة بعدما أقنعها الكسار، غير أن مشكلةً أخرى واجهته حين فاجأته ماري هذه المرة قائلة:

* بس أنا مش بعرف أرقص.

أمام إصرار أمين صدقي واقتناع الكسار بالفكرة، قرّر الأخير أن يعهد بماري إلى الراقصة الأولى في روض الفرج، ومدرّبة الرقص الشرقي ماري منصور التي كانت تملك آنذاك ملهى على بعد خطوات من مسرح الكسار، والتي أكدت له أنها ستكون جاهزة للرقص خلال ثلاثة أيام فقط، لأن ماري كما رأت ماري منصور «بنت ييجي منها».

بعد ثلاثة أيام، خرجت ماري سليم على جمهور مسرح الكسار لتمارس الرقص الشرقي، بل ورقصت ما يُسمى بـ «رقصة القلل» الشهيرة، وفيها تحمل «قلة من الفخار» فوق رأسها، تتحرّك بها وترقص من دون أن تسقط من فوق رأسها، ما أثار إعجاب الجمهور، خصوصاً فتوات وتجار روض الفرج، لدرجة أن عدداً كبيراً منهم كان يذهب إلى المسرح لحضور فاصل الرقص يومياً، على رغم أنه سبق له مشاهدة المسرحية مراراً، فكان يصفّق لماري بحرارة، ما شكّل مصدر سعادة بالغة لصدقي والكسار. وهكذا أصبحت ماري عضواً مهماً وبارزاً بين أعضاء الفرقة، وسبباً قوياً لإقبال الجمهور على رغم حالة الكساد التي كانت تشهدها البلاد في تلك الفترة بسبب أجواء الحرب التي خيّمت على المنطقة.

البقية في الحلقة المقبلة

الجريدة الكويتية في

19/08/2011

 

مملكة الضحك (6):

ماري منيب… الغيرة تطاردها وتكبدها ثمناً فادحاً للنجاح

كتب: القاهرة - ماهر زهدي  

لجأ علي الكسار وأمين صدقي إلى إدخال الرقص الشرقي إلى مسرحهما، بعدما انتشرت مقاهي الرقص والطرب كبديل عن المسارح في مناطق: روض الفرج، بير حمص، قنطرة الدكة، وميدان الخازندار، وبعدما أُغلقت أغلبية المسارح بفعل سلطة الاحتلال الإنكليزي، بسبب ما كانت تقدّمه من روايات مناهضة له، وأغانٍ وطنيّة تندّد بوجوده في مصر.

وكي لا يهجر الجمهور مسرح علي الكسار وينسحب إلى تلك المراقص والملاهي فيضطر إلى إقفاله، كما حدث في مسارح عدة، قرّر استقدام الرقص الشرقي لجمهوره في المسرح، وبعد أن كان مجرّد فقرة قصيرة بين فصلَي المسرحية التي كان يقدّمها، أصبح الرقص برنامجاً أساسياً في مسرح الكسار وصدقي.

استمرّ وجود ماري سليم أكثر من ثلاث سنوات في فرقة علي الكسار فأثبتت براعة فائقة كممثلة وراقصة، لا سيما بعد أن نضج جسدها وأصبحت شابة يافعة في الخامسة عشرة من عمرها، وبدأت تلفت أنظار كل رواد مسرح الكسار من الجمهور الجديد الذي فرضته أجواء الحرب، من الأغنياء الذين يتاجرون في كل شيء، بداية بالسلاح، وليس انتهاء بالمواد الغذائية والسلع التموينية، في وقت ظلّت شقيقتها أليس كواحدة من أفراد الكومبارس من دون دور أساسي، سواء في الروايات المسرحية، أو الرقص. بالتالي، كان أجر ماري في تزايد مستمر، فيما أجر أليس يزيد زيادات غير ملحوظة.

كانت أليس مقتنعة ببراعة شقيقتها، بل أصبح ذلك مصدر تباهٍ وتفاخر لها وسط أعضاء الفرقة، خصوصاً في ظلّ الاهتمام الواضح والملحوظ من صاحبَي الفرقة وتحديداً الكسار الذي كان يرى في ماري فنانة شاملة، فهي ممثّلة كوميدية بارعة، وفي الوقت نفسه ترقص وتغني وتقدّم استعراضاً، وهذه المقوّمات كلّها جعلته وصدقي يوليانها اهتماماً خاصاً، لأنها باتت أحد أهم مصادر دخل الفرقة.

الغيرة القاتلة

هذا الاهتمام بماري، خصوصاً من الكسار، أثار غيرة وأحقاد كثيرات ممن يعملن في الفرقة، ولم تكن ماري تهتمّ بذلك على الإطلاق، غير أن الأهم أنهن استطعن أن ينقلن هذه الغيرة إلى صدر زكية إبراهيم بطلة الفرقة الأولى التي كانت تشارك الكسار بطولة كل روايات الفرقة، غير أنها كانت ممتلئة القوام ولم تكن تصلح للرقص.

بدأت زكية تنتبه إلى اهتمام الكسار بماري، فلفت نظره إلى ذلك مراراً، حتى ضاق صدرها بها:

* هي جوق علي الكسار مبقاش فيها غير ماري سليم ولا إيه؟

= إيه الكلام ده مش صحيح..؟ ماري زيها زي أي بنت في الفرقة؟

* لا مش باين ياسي علي..؟ واضح كده إن بقى لها معزة خاصة؟

= انت بتغيري منها؟ أهو كده؟ يا ولد… والله برافو عليها البنت ماري عرفت تشعلل الحب وتخليك تغيري.

* هي مين دي؟ أنا أغير من حتة بنت كومبارس لا راحت ولا جت؟ أنا بتكلم في مصلحة الشغل يا سي علي.

= لا… لو على مصلحة الشغل… إن جيتي للجد بقى هي شايفه شغلها كويس قوي… وكمان بتزوّد الإيراد.

* إيراد إيه يا أبو إيراد… الإيراد بيزيد علشان الجمهور اللي بيجي علشان زكية إبراهيم.

= طيب إن كان كده سلام عليكم بقى.

* هو إيه أصله ده… على فين كده… مش بكلمك؟

= إذا كان الجمهور بييجي علشانك انت والست ماري… أروح أنا بقى.

* انت فهمت إيه… أنا مش قصدي.

= أمال قصدك إيه؟ انت شوية وهي شوية وأنا مليش لازمة؟

* لا؟.. انت عارف كويس أنا بتكلم على إيه. انت عاوز تعمل راسها براسي… وأنا اللي بحبك وبخاف عليك.

= أيوه كده قوليها… يا ولد.

* لا أوعى كده مبقيتش أحبك… خلي الست ماري تنفعك.

= ماري مين… ينكد عليه وعلى عمره… مفيش غيرك يا نجمة روض الفرج الأولى.

* وعماد الدين كمان وحياتك.

= طبعاً طبعاً… وماري دي بنت غلبانه بتاكل عيش.

* تاكل عيش في حته تانية يا عنيه.

= مش فاهم… تقصدي إيه؟

* أقصد إن يا أنا يا الست ماري دي في الفرقة.

تسبّبت غيرة زكية إبراهيم بطرد ماري سليم من الفرقة بعد أن أمضت فيها ثلاث سنوات بنجاح متصاعد ومستمر، فاضطرت هي وشقيقتها أليس الى البحث عن عمل في مكان آخر.

المقاومة بالغناء

لم يستمر بحث ماري سليم طويلاً، فما إن علمت ماري منصور بتركها فرقة الكسار حتى أرسلت في طلبها لتعمل في الملهى الخاص بها في روض الفرج، غير أن العمل في ملهى ماري منصور سيكون مقصوراً على الرقص دون تمثيل، بما يعني أن أليس لن يكون لها مكان في الملهى، فهي لا تستطيع الرقص أو الغناء، ولكنها اكتفت بمصاحبة شقيقتها كل ليلة فربما تعثر لها على عمل.

في بداية العام 1917، اشتدّت مقاومة المصريين للاحتلال، وزاد التفافهم حول الزعيم سعد زغلول، لدرجة أن كثيراً من المسارح والملاهي الليلية تحوّلت إلى ساحات للنضال، بالكلمة والأغنية، وكان لا بد لملهى ماري منصور أن يجاري هذه الأجواء كي لا ينصرف عنه الجمهور. استطاعت ماري منصور أن تدرّب ماري سليم على إحدى الأغنيات الشهيرة آنذاك التي كانت تغنّيها بديعة مصابني في الملهى الخاص بها في عماد الدين، والتي انتشرت بشكل كبير وسريع لدرجة أن سلطات الاحتلال كانت تحارب وجودها في أي مكان وتمنعها، فبدأت ماري تغنّيها على جمهور روض الفرج:

ياست مصر صباح الخير

يسعد صباحك ياعنيه

فين العداله يا مون شير

وبس فين الحريه

أما الزمن ده له أحكام

أحكام لكن عرفيه

واللي يشوف ثغره بسام

يحسب أموره مرضيه

وبس مين يرضى يا رجال

حره وتصبح مأسوره

وبعد الدهب تلبس أغلال

وتعيش أسيره ومقهوره

خدام في بلدي…

وده حال

يبكي أهل المعموره

ياست مصر صباح الخير

يسعد صباحك ياعنيه

نجحت ماري سليم في الأغنية نجاحاً غير عادي، فكان يقبل عليها جمهور غفير كل ليلة، لدرجة أن يوم إجازتها من الملهى يغيب الجمهور معهاً، ما أوغر صدر ماري منصور عليها، على رغم أنها كانت سبب في تحقيق إيرادات كبيرة للملهى الخاص بها، فاستغنت عنها غيرةً من نجاحها.

عادت ماري سليم وشقيقتها أليس ثانيةً الى الجلوس في بيتهما إلى جوار والدتهما، التي لم تنقطع يوماً عن عملها في «الحياكة».

«أم أحمد»

لم تكن لأعضاء الفرق الفنّية والممثلين تسلية في أوقات الفراغ سوى النميمة في أحوال الوسط الفني والفرق، فكان خبر ترك أحدهم أو إحداهن العمل في فرقة ينتشر بسرعة النار في الهشيم، وقد أصبح اسم ماري سليم الآن من الأسماء التي يمكن تداولها و«النم» عليه في الوسط الفني، فانتشر خبر تركها ملهى ماري منصور بسرعة حتى وصل إلى جبران ناعوم، الذي كان قد ارتبط إنسانيًا بهذه الأسرة.

لم يهدأ لجبران ناعوم بال حتى استطاع في أقل من أسبوع أن يجد عملاً جديداً لماري، وذهب إليها يسابق الريح ليخبرها بهذا الخبر السعيد:

= البسي هدومك وتعالي معايا حالا.

* خير يا أستاذ جبران.

= خير إن شاء الله… شغل يا ماري… شغل وفرصه كويسه قوي.

* أخيرا هشتغل مع أبو الكشاكش… أكيد وافق بعد ما بقيت ممثلة بيقولوا إني كويسة.

= طبعا كويسة ونص… بس يا ستي… أبو الكشاكش لسه عامل رواية جديدة وكاملة… وانت مينفعش ترجعي تشتغلي في الكورس تاني.

* أمال هشتغل فين؟

= انت طبعا عارفه الأستاذ فوزي الجزايرلي وفرقته؟

* آه ومين ميعرفوش؟

= وطبعا عارفه أن بنته إحسان بطلة الفرقة»

* عارفه… ووحياتك ما في واحدة تقدر تقرب من الفرقة وهي موجودة.

= عال قوي…

* عال إزاي يا أستاذ جبران… وانت لسه قايل إني منفعش اشتغل تاني في الكورس.

= كورس إيه انت هتكوني بطلة الفرقة.

* وإحسان… دي كانت تعملني زي الكبيبة الشامي.

= ماهوعلشان كده انا جيت لك.

* علشان تعملني «كبيبة».

= لا ياستي هم دلوقت بيعملوا رواية جديدة وعاوزين كذا ممثلة جديدة… وأنا كلمت الأستاذ فوزي الجزايرلي عليك ووافق… يلا معندناش وقت الأستاذ مستني.

عملت ماري مع فرقة فوزي الجزايرلي أكثر من 28 ليلة عرض بنجاح غير عادي، وأظهرت براعة في الأداء قرّبتها من إحسان الجزايرلي، فلم يكن نجاح ماري يسبّب لها أيّ مشكلة، لأنها بطلة الفرقة ونجاحها يلفت الأنظار أكثر من أي ممثلة أخرى فيها.

واصلت ماري عملها مع فرقة الجزايرلي، إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان ولم تتوقّعه، ففي إحدى ليالي عرض الفرقة سقطت الجزائرلي من فوق خشبة المسرح، ولأنها كانت ممتلئة القوام فارعة الطول، كان السقوط مدوياً، حتى أن ساقها كُسرت فتوقّف عمل الفرقة ثلاثة أيام، إلى أن طلب فوزي الجزايرلي ماري في مكتبه في المسرح:

= طبعا انت عارفه إن إحسان وقعت على المسرح وانكسرت؟

* آه يا روح قلبي… ربنا يشفيها ويقومها بالسلامة ترجع تنور فرقتها.

= إن شاء الله… إن شاء الله… بس مفيش حد يرضى أن الناس تبطل أكل وبيوت الناس تتقفل لحد ما إحسان تقوم بالسلامة.

* آدي الله وآدي حكمته يا أستاذ.

= أيوه أيوه عارف… بس الفرقة لازم تشتغل… والرواية ناجحة ولازم تستمر… وبرسوم المجبراتي قال إن رجلها تقعد في الجبس تلات شهور… وطبعا الفرقة مش هتقفل في عز الموسم…

* والعمل يا أستاذ؟

= أيوه قولتلي العمل…. أنا اخترتك يا ماري تعملي دور «أم أحمد» لحد ما إحسان تقوم بالسلامة.

فور سماعها هذا الكلام، قفزت ماري من فوق الكرسي حتى كادت تطال سقف الحجرة.

* أنت بتقول إيه يا استاذ فوزي؟ أنا أشتغل مكان إحسان؟.. إزاي ميصحش دي كانت تزعل والزعل مش كويس دلوقت على صحتها؟

= لا ياستي يصح.؟. وبعدين ده مش رأيي؟.. ده رأي إحسان؟.. إحسان بنفسها هي اللي رشحتك تعملي دورها لحد ما تفك الجبيرة؟

* أيوه بس انت شايف إني أنفع أعمل دور…

= شوية حاجات بسيطة وبالتدريب تنفعي… وكمان انت تشبهي إحسان… وعودك قريب من عودها… يعني مفيش مشكلة.

وهكذا، حلّت ماري مكان إحسان الجزايرلي في رواية «بحبح أفندي» ونجحت في الدور بشكل أذهل فوزي الجزايرلي نفسه، فساهمت في زيادة ملحوظة لإيراد المسرحية، لدرجة جعلت إحسان تستعجل في فك الجبس لتعود الى دورها بعد أن شعرت بالخطر من ماري، وبأنها قد تسحب البساط من تحت قدميها، وهذا ما تأكّد لها فعلاً عندما طلب منها والدها أن ترتاح أسبوعاً آخر كي تتأكّد من الشفاء التام، وألا تشغل بالها لأن ماري سليم ناجحة في الدور ولا توجد أي مشكلة. وإذا كان هذا رأي والدها وصاحب الفرقة، فكيف هو رأي الجمهور؟

ماري… فتاة الأحلام

هكذا، فكّرت إحسان في النجاح الذي حقّقته ماري، فقرّرت ضرب كلام والدها عرض الحائط، ووضع حدّ لهذا النجاح الذي حقّقته ماري بغيابها، ومن دون علم والدها اتفقت مع الخطاط على تغيير الملصق في المسرح:

«الليلة تعود إليكم إحسان الجزايرلى في دور «أم أحمد» بعد عودتها من خارج القطر المصري}.

بهذه الجملة الصغيرة، وضعت إحسان الجزايرلي حداً لنجاح ماري سليم في فرقة «فوزي الجزايرلي»، التي قرّرت الاستغناء عنها نهائياً وليس إقصائها عن دور «أم أحمد» فحسب، إلا أنه إذا كانت إحسان نجحت في الحدّ من نجاح ماري في فرقة والدها، فلن تستطيع أن تضع حداً لنجاحاتها المتزايدة في أماكن أخرى.

عادت ماري إلى فرقة علي الكسار وأمين صدقي بعد أن غادرتها زكية إبراهيم، إثر خلاف كبير مع الكسار بسبب غيرتها المتزايدة، لكنها عادت مضطرة كي لا تجلس في بيتها، وإن كانت لم تنسَ استغناء الكسار عنها بسبب زكية إبراهيم.

في منتصف العام 1917، استطاع اللبناني أمين عطاالله أن يكوّن فرقة مسرحية جديدة وراح يختار لها أفضل الممثلين والممثلات، فوقع اختياره على ماري سليم لتكون بطلة الفرقة، كذلك اختار شاباً وسيماً يعمل في فرقة الريحاني يُدعى بشارة واكيم، ليكون بطلا الى جانب ماري.

وجدت ماري الفرصة متاحة أمامها لترك فرقة علي الكسار هذه المرة بنفسها فتردّ بذلك على طردها من الفرقة في المرة الأولى، وقد فشلت كل محاولات الكسار وصدقي في إثنائها عن قرارها، بعدها انتقلت فوراً مع فرقة أمين عطا الله إلى الإسكندرية.

قدّمت ماري سليم وبشارة واكيم موسماً مسرحياً ناجحاً في الإسكندرية، لدرجة أن نجاحهما أصبح حديث كل الفرق المسرحية.

آنذاك، وقع بشارة واكيم في حب ماري سليم، غير أنها لم تكن تشعر بهذا الحب، بل فسّرته على أنه اهتمام خاص بها لأنها فنانة ناجحة، ولم يكن في بالها أنها أصبحت شابة يافعة في مقدورها أن تلفت نظر الآخرين الى الحب والزواج، فيما حاول بشارة أن يفعل كل ما في استطاعته للفت نظرها إليه كحبيب، وليس كممثل أو صديق.

في الإسكندرية، التقى بشارة واكيم بصديقه محمد بيومي، وعدد آخر من الأصدقاء الذين استطاعوا إقناعهما بضرورة عمل فرقة مسرحية خاصة بهما، وبأن لديهما مقوّمات النجاح.

لم يدم تفكير بشارة في الأمر طويلاً، ووجدها فرصة للتقرّب أكثر من حبيبة القلب ماري، فشرع في تكوين فرقة كانت بطلتها الأولى ماري التي وافقت بلا تردّد بعدما أقنعتها والدتها وشقيقتها بذلك، كما استطاع بشارة إقناع أكثر من نصف أعضاء فرقة «أمين عطا الله» بالانتقال إلى فرقته الجديدة، بعد زيادة واضحة في رواتبهم، فبدأت فرقة «بشارة واكيم ومحمد بيومي» بتقديم أول عروضها في الموسم الصيفي نفسه في الإسكندرية، معلنةً عن البطلة الجديدة والوحيدة في الفرقة ماري سليم.

لم يرضَ أمين عطا الله بما فعله بشارة وماري وبقية من انتقلوا معهم من أعضاء الفرقة، فقرّر أن يضربهم بقوّة ويلقّنهم درساً لن ينسوه، فنزل إلى القاهرة وجمع عدداً من الممثلين يعوّض بهم من تركوه، غير أنه حرص على انتقاء أعضاء مميزين حتى لو كلّفه ذلك ضعف ما كان يدفعه لمن استغنوا عنه، وفي أقل من أسبوع عاد إلى الإسكندرية ومعه الممثلون الجدد، فبدأ البروفات وأعلن عن افتتاح جديد ومميز لفرقة أمين عطا الله وبممثلين لم تشهدهم مدينة الإسكندرية سابقاً يتقدّمهم الممثل والمونولوجيست الشاب فوزي منيب.

لم يمر أسبوع إلا وكانت فرقة ناجي عطا الله قد بدأت بسحب البساط من تحت فرقة بشارة واكيم، فأصبحت حديث الإسكندرية كلهّا، وراح الجميع يتحدّثون عن ذلك الشاب الأسمر الذي أحضره أمين عطا الله من القاهرة، والذي يجعل رواد المسرح لا يكفّون عن الضحك طوال أحداث المسرحية:

* سمعت يا بشارة عن النجاح اللي عاملاه فرقة أمين؟

= شوفي يا ماري… الكلام ده ما يدخلش العقل… كل دي دعاية فارغة… علشان أمين يخلينا نغير ونندم أننا تركنا فرقته.

* لكن بيقولوا إن الممثل اللي جابه مكانك في الفرقة عامل شغل كويس قوي وبيموت الناس من الضحك؟

= مين ده اللي ممكن ينافس بشارة واكيم؟

* طب أنا عندي فكرة.

= إيه يا أم الأفكار النيرة؟

* إيه رأيك لو نروح نحضر بكره عرض الفرقة بتاع أمين ونشوف بنفسنا النجاح اللي بيقولوا عليه ده… وأهو بكره إجازة الفرقة عندنا ونروح نشوف؟

= وإيه هيفيدنا… نزود إيرادهم أكتر؟

* لا طبعا… أحنا نروح علشان نعرف إيه اللي بيقدموه زيادة ومش عندنا ونقدمه لجمهورنا؟

= ربنا يخللي الدماغ دي اللي زي البرلنت؟

اصطحبت ماري شقيقتها أليس كي لا تكون بمفردها مع بشارة واكيم لمشاهدة عرض مسرحية فرقة «أمين عطا الله»… جلست أليس بين ماري وبشارة في مكان قريب من خشبة المسرح، دقّت دقات المسرح الثلاث، فُتح الستار، بدأ العرض، وما إن أطلّ فوزي منيب على الجمهور حتى ضجّت الصالة بالتصفيق… بدأ فوزي بتقديم مونولوجاته، حتى جاء المونولوج الشهير الذي تفاعل معه جمهور الصالة وردّده معه، وكانت بدايته عبارة عن كلمة واحدة من حرفين يردّدهما على طريقة دقات القلب:

تم… تم تم… تم

مع هذه الحروف البسيطة التي تشبه في نطقها دقات القلب، لم تدرِ ماري ماذا حدث لها؟ بدأ قلبها يدقّ بعنف لهذا الشاب الأسمر فوزي منيب… لم تعرف لماذا؟ فقد خطفها من كل من حولها… شعرت بأنها وقعت في الحب للمرة الأولى.

البقية في الحلقة المقبلة

الجريدة الكويتية في

20/08/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)