حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الحب والحب... وأيضاً الحب [17]

«قصة حب» لا تعرف الفوارق في الطبقات

عبدالستار ناجي

حينما كتب الروائي الأميركي ستيفن سيغال روايته الشهيرة «قصة حب» عام 1970، لم يكن ليتوقع أن تبكي القراء في جميع انحاء العالم، بعد أن تمت ترجمتها للغات عدة، من بينها العربية، ولتتحول لاحقاً الى عمل سينمائي، بالاسم ذاته، أحرق قلوب الجماهير ولوعهم، للمعاناة الإنسانية التي رصدها الفيلم، وهو يرصد قصة الحب الشهيرة التي جمعت بين الشاب الثري «أوليفر» و«الصبية البسيطة» جينيفر.

ايريك سيغال روائي من الطراز الأول، وفي رصيده كروائي عدد مهم من العناوين من بينها «قصة أوليفر» 1978، و«تغيير الفصول» 1980، و«رجل وامرأة وطفل» 1983.

وفي كل مرة هنالك الحب حاضراً بقوة، لأنه عرف بأن الطريق الحقيقي لاجتذاب القراء، ومن بعدها الجمهور الى الكتاب والفيلم، لا يتم إلا عبر (خلطة) روائية يظل الحب والولع عنوانها الرئيس.

هكذا راح يغزل الروائي الاميركي ايريك سيغال جملة نصوصه الروائية، وايضاً السيناريوهات التي كتبها معتمداً على نصوصه الروائية.

والآن دعونا نذهب الى الحكاية، حيث نرصد حكاية الشاب الثري أوليفر باريت (ريان أونيل) الذي يدرس القانون في جامعة هارفرد، احدى كبريات الجامعة الاميركية والعالمية. يلتقي مع الصبية الجميلة جنيفر كافيلري (لي ماكغرو)، والتي كانت تدرس الموسيقى هو ينتمي الى أسرة ثرية، تضرب جذورها في اعماق عوالم السياسة والاقتصاد والقانون.. وهي صبية بسيطة.. تتطور بينهما العلاقة الى حيث الحب.. والتعلق التام.

ورغم ان الاحداث، تجري في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، الا ان أسرة ذلك الشاب ترفض فكرة زواجهما.. وارتباطهما اصلاً.. وتقف حائلاً دون تلك العلاقة، التي كانت تشعر كلا من الشاب والشابة بالأمان والاستقرار والفرح.

هنا يقرر الحبيب تحدي أسرته، والإصرار على الزواج والارتباط بمن أحب قلبه.

وتبلغ العلاقة حد التهديد.. والوعيد.. والإنذار من قبل الأسرة، اتجاه ابنها، كي يبتعد عمن يحب، ولكنه يمضي في علاقته.. وحبه.

ولكن الحكاية لا تنتهي عند هذا الحد، حيث كان القدر يقف بالمرصاد لقصة الحب تلك.. حينما نكتشف بأن الفتاة أصيبت بمرض السرطان.. الذي يفتك بها لتترك حبيبها وزوجها وقدرها وحلمها في حالة من الحزن الدائم.

ونعود الى المشهد الأول، المشهد الافتتاحي للفيلم، حيث أوليفر وهو يجلس، في اول تلك المشاهد، وظهره الى الكاميرا، وهو ينظر الى النهر.. ويتذكر حبيبته وكيف كانت تعشق الموسيقى، بالذات موسيقى «موزارت»، كما تعشق التزلج على الجليد وتعشقه.. ليعود بنا الفيلم عبر تداعي الذكريات، ومن خلال فلاش باك (طويل) يتم من خلاله سرد حكاية حبه وألمه التي انتهت بوفاة المرأة الوحيدة التي أحبها وعشقها وتعلق بها.

إنها قصيدة ألم.. وليست قصة ألم.

إنها قصيدة حب.. وليست قصة حب عادية.

حيث تضافرت كل الجهود لصناعة فيلم يأسرنا، يأخذنا الى عوالم تلك الشخصيات.. حتى ونحن نعرف ومنذ البداية اننا نتجه الى قصة حب نهايتها الموت، تظل تبحث عن أمل.. ولحظة للخروج من ذلك المأزق، في مواجهة المرض والموت.

فيلم كل مشهد يذهب بنا الى مشهد آخر، أكثر وهجاً.. وأكثر ألماً. ورغم ذلك. نظل ملتصقين بالكرسي.. نتابع ونستمتع.

ونؤكد، نتابع ونستمتع لأننا أمام عمل درامي، من النادر ان ننسى (مثلا) موسيقاه الخالدة، التي كتبها الموسيقار فرانسيس لي، والذي استطاع أن يمنح الفيلم جرعة عالية من الشجن.. والألم.. ستظل تصدح في اذهان الجماهير، كلما تذكرنا ذلك الفيلم.. أو استمعنا الى تلك الموسيقى.

فيلم يذهب الى كم من المقولات، لعل أبرزها، ان الحب لا يعرف الطبقات... ولكن الموت يعرف الجميع... ولا مفر منه، حتى ونحن نرى ذلك الشاب يتحدى قدره... وأسرته... وتاريخه... من أجل من يحب... ولكنه حينما يواجه القدر الحقيقي... فانه امام النهاية الحتمية.

لقد صنعت لحظات الحب بعناية وسخاء في التعابير والمضامين وهكذا هي لحظات الألم... والشحن... والاحتضار... لقد كان يعرض كل منها ان «الموت» هو الفورية المحتومة، ولكنه رغم كل ذلك، يظل يرسخ قيم الحب ومعانيه عبر التأمل... الحقيقي.

سينما مختلفة... من النادر مشاهدتها في عوالم هوليوود الجديد حيث الحب هو المعادل الاساسي.. وهو الموضوع المحوري.

بدور الصبية كانت هناك «لي ماكجرو» وهي زوجة النجم الراحل ستيف ماكوين، أهم نجوم هوليوود في ذلك الزمان، وهي تمتلك تاريخا سينمائيا عامرا بالاعمال الكبيرة، من أبرزها فيلم «الهروب» (مع ستيف ماكوين) وغيرها من الأعمال، وان كل فيلم «قصة حب» يمثل الأساس في تجربتها، بل هو الفيلم الذي رسم صورتها في ذاكرة الجماهير.

وهذا ما جعلها في مرحلة لاحقة تتجه الى التلفزيون، لتعيش نقلة فنية جديدة في تجربتها ومسيرتها ونتاجاتها... لانها لم تكن تريد ان تمسح تلك الصورة بأي عمل سينمائي لا يرتقي الى ما قدمته.

اما النجم ريان أونيل «وهو والد النجمة تاتوم اونيل» فقد مر بمراحل محطات ولحظات، جعلته بين الانطلاق والانزلاق...

بدأ مشواره في مرحلة مبكرة من مطلع الستينيات من القرن الماضي، في التلفزيون على وجه الخصوص ومن الاعمال التي قدمها «بيري ميسون» و«الفرجنيون» وغيرها.

وفي عام 1970 قدم فيلم «قصة حب» لينطلق بعيدا في فضاء الشهرة والنجومية، ليقدم بعدها «النمر المتوحش 1971»، و«باري لندن - 1975»، وجسر بعيد جدا 1977، وقصة أوليفر 1978، وبعدها عاش كما من الاخفاقات... ودخل في دوامة من الادمان... والبطالة... وايضا الانفصال عن زوجته الجميلة «فرح فاوست».

ولكنه عاد ليتماسك من جديد، بدعم من ابنته تاتوم، التي وقفت الى جواره، رغم خلافاتهما التي وصلت الى حد الصحف... والمحاكم... واخيرا أنجزا فيها تلفزيونيا بعنوان «ريان وتاتوم: أوتيلز».

ونتوقف ايضا عند المخرج ارثر هيلر، ويوصف هذا المخرج، بانه كان وراء ترشيح خمسة نجوم للأوسكار، بينهم ريان أونيل ولي ماكجرو من أهم اعماله «قصة حب» 1970، و«رجل امانشا» 1972، و«ارثر ارثر» 1982، وغيرها من الاعمال، التي رسخت حضوره كمخرج محترف، يعمل على تحفيز قدرات فريقه، وترسيخ حضورهم من خلال الشخصيات التي يقدمونها.

وعلى الصعيد المادي، نشير الى ان الفيلم تكلف انتاجه مليوني دولار فقط، وتجاوزت عوائده في الاسواق الاميركية فقط «106» مليون دولار، وهو بذلك يشكل انجازا ماديا ضخما...

ولايزال الفيلم يعرض في تلفزيونات العالم وبعده لغات ولهجات... كما أعيد اطلاقه في الأسواق العالمية عام (2000)، بل اطلق بنسخة جديدة، ذات مواصفات عالية الجودة، حصدت ملايين عدة اضافية لرصيد الشركة الموزعة فيلم «قصة حب» فيلم يذهب الى ذواتنا... يجعلنا نعيش اللحظات... عبر أداء جميل... وموسيقى خالدة وصور كتبت باحتراف.... وألم لا ننساه مطلقا...

وهكذا هي السينما الرومانسية الحقيقية بشكلها التقليدي الكلاسيكي.

anaji_kuwait@hotmail.com

النهار الكويتية في

19/08/2011

 

صناع السينما نجوم الزمن الجميل

صلاح أبو سيف.. المفكر السينمائي

القاهرة - أحمد الجندي  

إذا كان المسرح هو «أبو الفنون» بحكم انه الفن الأقدم، وإذا كانت هناك فنون أخرى مثل: الموسيقى الخالصة، وفن الأوبرا والباليه والفن التشكيلي، تعرف بأنها فنون الخاصة والنخبة، فإن السينما كانت وستظل فناً شعبياً أي «فن العامة»، وإذا كان الهدف منها عند اختراعها في نهايات القرن الـ 19 هو التسلية والمتعة والترفيه، فإنها مع مراحل تطورها عبر سنوات وحقب زمنية متلاحقة، تعاظم دورها ولم تعد لمجرد المتعة والتسلية، بل أصبحت مرآة المجتمعات، تعكس وتكشف وتعبر عن واقع المجتمع أي مجتمع وتنتقد سلبياته وتعلو بإيجابياته، من هنا أصبحت للسينما رسالة تنويرية وتثقيفية في حياة الشعوب والمجتمعات، ومن هنا أصبحت «فن العامة» وفي مقدمة الفنون التي تحظى بالشعبية.

ومن هنا نجد أن من حق هؤلاء الكبار من فناني السينما المصرية وصانعي تطورها ونهضتها سواء الذين تحملوا عبء الريادة الأولى، أو الأجيال التالية لهم التي تحملت عبء التواصل والتطور، علينا أن نكرمهم ونعرف الأجيال بتاريخهم ومشوارهم ومسيرتهم السينمائية والفنية الحافلة، ليس فقط لأنهم «صناع السينما المصرية» ومبدعوها عبر مراحل تطورها، ولكن لأنهم مع مرور الزمن أصبحوا رموزاً لزمن وعصر من الفن الجميل، كان عصراً مفعماً بالهدوء والجمال والرومانسية والمشاعر الصافية والإبداع الصادق والإخلاص الكامل للفن وللسينما، عصر نفتقده جميعاً ونتمنى عودته.

في كتابه «تاريخ السينما» الذي تناول فيه الناقد والمؤرخ السينمائي الفرنسي الكبير «جورج سادول» تاريخ السينما في العالم منذ بدأ اختراعها في عام «1895» أشار إلى «صلاح أبو سيف» كواحد من أحسن مخرجي السينما المصرية والعربية المعاصرين، وكتب سادول من بين ما كتب عنه: «صلاح أبو سيف واحد من أحسن مخرجي السينما العربية المعاصرين، تتميز أفلامه بقوة إحساسه بالحياة الشعبية وبالواقع الإنساني»، وعندما أثبت هذا الناقد والمؤرخ الفرنسي الكبير هذا الرأي في أخطر وأهم مجلد عن السينما في العالم كان هذا في منتصف الخمسينيات ولم يكن قد مضى على عمل صلاح أبو سيف في السينما سوى «9» سنوات قدم خلالها للسينما «10» أفلام فقط ومع ذلك تنبه إليه أكبر ناقد سينمائي في العالم واعتبره واحداً من أهم «100» سينمائي من بينهم «شارلي شابلن، دارسون ديلز وفيتوريو دي سبكا وسيسل دي ميل وهيتشكوك وإيزنشتاين ومخترع السينما نفسها الإخوان لومير».

لم ينل الغرور من صلاح أبو سيف وتعامل مع الأمر بتواضع شديد واستمر في مشواره السينمائي ليقدم «تحفاً» سينمائية تعد من «كنوز» السينما العربية وشغل بأفلامه الرائعة الرأي العام السينمائي محلياً وعالمياً وانهالت الجوائز على أفلامه، حيث ضرب أبو سيف الرقم القياسي منها ودخلت هذه الأفلام لتشارك وتحصل على الجوائز في مهرجانات سينمائية عالمية مثل: كان وبرلين وفينسيا وكارلو فيفاري وموسكو، ونافس على جائزة الأوسكار الأميركية عام 1967، ولهذه المكانة الرفيعة يري نقاد السينما ومؤرخوها أن صلاح أبو سيف ليس مجرد مخرج سينمائي كبير، بل هو مفكر صاحب رؤية اتخذ من السينما وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه وكانت وسيلته لتوصيل أفكاره للناس لذلك فهو مفكر سينمائي وهو أحد الآباء الشرعيين للسينما المصرية والعربية بعد الحرب العالمية الثانية وبعد جيل الرواد والأوائل في السينما المصرية.

ولد «صلاح أبو سيف» في 10 مايو 1915 في شارع صغير يحمل اسم «قساوات» في حي «بولاق أبو العلا» بوسط القاهرة وأبيه كان يشغل منصب «العمدة» في قرية «الحومة» التابعة لمركز «الواسطى» بمحافظة «بني سويف» في صعيد مصر، وكان هذا الوالد من المزارعين الإقطاعيين الأثرياء الذين يمتلكون المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية بالإضافة إلى المنصب والجاه، وعندما ولد صلاح كانت أمه قد انفصلت عن أبيه الإقطاعي بشهور قليلة لذلك لم يولد صلاح ولم ينشأ في كنف الأب، أما سبب الانفصال فيرجع إلى أن الأم كانت الزوجة الوحيدة المتعلمة ضمن زوجات ثلاث آخرين غيرها في حوزة الأب وجميعهن من النساء الريفيات وكانت هي المتعلمة الوحيدة لذلك لم تتحمل هذه النظرة للمرأة من جانب هذا الأب ذي الثراء والمنصب والجاه، فتمردت على حياتها معه وحدث الانفصال وهي حامل في ابنها «صلاح» الذي نشأ في منزل جدته لأمه ووسط أخواله في حي بولاق «كما أشرنا».

لم تكن نشأة صلاح سهلة أو ميسورة فالأب مارس العناد مع الأم بعد انفصالها عنه وقرر أنه لا يصرف ولا يرعي الابن لذلك كانت الأم وابنها يعيشان في هذا الحي الشعبي وهم بالكاد مستورون وهذه النشأة وموقف الأم الحازم وحفاظها على كرامتها وإنسانيتها أمام جبروت الأب سيكون له تأثير كبير في إبداع صلاح فيما بعد.

التحق صلاح بمدرسة بولاق الابتدائية وبدأ أولى مراحل تعليمه بها وأثناء دراسته وفي طريق عودته من المدرسة إلى المنزل كان يمر في طريقه المعتاد على سينما «إيديال» الواقعة في نفس الحي وكان يستلفت وهو في هذه السن الصغيرة الصور المعلقة على باب السينما وأفيشات الأفلام، وعرف لأول مرة معنى كلمة سينما التي وجدها مكتوبة وتتصدر مدخل هذه الدار، وبفضول الأطفال أراد صلاح أن يتعرف على الذي يدور بالداخل واستطاع أن يقتطع من مصروفه الصغير «قرش صاغ واحد» دفعه ثمناً للتذكرة ليدخل السينما التي كانت تعرض فيلمين من الأفلام الصامتة في برنامج واحد، ومنذ أن شاهد صلاح الفيلمين وجد نفسه مشدوداً إلى هذا العالم المليء بالسحر والغموض، وبدأ يحكي لزملائه وأصدقائه في المدرسة ما شاهده ومع الوقت بدأ يأخذهم معه لمشاهدة الأفلام في دار سينما «إيديال» القريبة من مدرسته ومنزله وكانت هذه هي العلاقة الأولى لصلاح أبو سيف بعالم السينما.

ولم يكتفى صلاح بهذه الخطوة بل بدأ يستعير من المكتبات بالكتب التي تتحدث عن السينما وبدأ مشدوداً أكثر لهذا العالم وعندما أنهى دراسته الابتدائية بتفوق لم يكن في مقدور والدته أن تلحقه بالمدارس الثانوية لكي يكمل بعد ذلك تعليمه العالي كما كانت تتمنى فأمام الظروف الحياتية الصعبة ألحقته بمدرسة متوسطة للتجارة الدراسة بها ثلاث سنوات فقط ليتخرج بعدها ويتحمل مسؤولية نفسه ويتحمل أيضاً مسؤولية أسرته الصغيرة المكونة من أمه وجدته، وخلال دراسته في مدرسة التجارة المتوسطة أصبح صلاح مشدوداً أكثر إلى السينما واستزاد من إطلاعه على الكتب المتخصصة فيها، ولما كانت معظم الأفلام التي يشاهدها أفلاماً أجنبية بدأ يفكر في السفر إلى أوروبا ودراسة السينما وهذا ما جعله يفكر في تعلم اللغات الأوروبية وهو ما فعله بالفعل حينما التحق في قسم خاص داخل مدرسته لتعليم اللغات الأجنبية وتعلم بالفعل «الإنكليزية والفرنسية» ومن خلال قراءاته السينمائية بالعربية وباللغات التي تعلمها أصبح لديه ثقافة سينمائية جيدة وهذا ما جعله وهو في سن الـ 15 يكتب مقالات سينمائية ويبعث بها إلى الصحف والمجلات الفنية وكانت الصحف تنشرها وانتشر اسمه كناقد سينمائي خصوصاً بعدما أصبح على علم كامل بكل مراحل العملية السينمائية من «سيناريو وإنتاج ومونتاج وتصوير وديكور» وكانت هذه هي الخطوة الثانية الأكثر أهمية في اهتماماته السينمائية المبكرة في ذاك الوقت ولم يكن عمره يتجاوز 16 عاماً.

وبعد تخرجه من مدرسة التجارة المتوسطة أصبح محرراً فنياً في مجلة «الراديو والبعكوكة» وأصبح يتقاضى راتباً شهرياً قدره 3 جنيهات، وكان هذا المبلغ أول راتب يحصل عليه في حياته، لكنه اكتشف بعد شهور قليلة أنه لا يفي بضروريات حياته وحياة أسرته فقبل العمل موظفاً بشركة الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى وتوارت أحلامه السينمائية قليلاً في دراسة السينما والعمل بها بسبب ضغوط الحياة المادية، لكن تحدث المصادفة التي تغير حياته، فأثناء عمله بهذه الشركة تصادف أن يلتقي بالمخرج الشهير «نيازي مصطفى» الذي سافر إلى شركة الغزل بالمحلة ليصور فيلماً تسجيلياً لحساب بنك مصر وكان نيازي مصطفى وقتها مخرجاً معروفاً ودرس السينما في أوروبا، وعندما التقى صلاح أبو سيف الذي كان وقتها يعمل سكرتيراً لمدير عام الشركة واستعرض صلاح أمام نيازي معلوماته السينمائية الغزيرة وكان نيازي قد سمع عنه من مقالاته التي كان ينشرها في الصحف عن السينما فأعجب به بشدة وهذا ما جعله يقنع المسؤولين في ستديو مصر بأن يعمل صلاح بالستديو بسبب ثقافته السينمائية وهو ما حدث بالفعل وانتقل صلاح للعمل بستديو مصر «مساعد» بقسم المونتاج بمرتب قدره 12 جنيهاً شهرياً، وكانت هذه هي بداية عمل صلاح أبو سيف في السينما كمحترف وبداية الطريق الحقيقي له كسينمائي، وكان هذا في عام 1936.

بعد أقل من عام كانت أحلام صلاح السينمائية قد كبرت وبدأ يعمل مساعداً للإخراج لعدد من المخرجين بالإضافة إلى عمله في المونتاج وهذه المحطة من أهم المحطات الفنية في حياته وعمل مساعداً لنيازي مصطفى في إخراج فيلم «سلامة في خير» لنجيب الريحاني لكن العمل الأهم بالنسبة له وقتها كان مع المخرج الكبير «كمال سليم» عندما عمل مساعداً له في فيلمه الشهير «العزيمة» الذي يعد من كلاسيكيات السينما المصرية وبداية أفلامها الواقعية، ويعد كمال سليم هو الرائد الأول للواقعية في السينما المصرية ويلقبه نقاد السينما بـ «أبو الواقعية» استفاد صلاح من اقترابه من هذا المخرج الكبير ولما أظهر براعة وثقافة سينمائية كمساعد مخرج أعجب به كمال سليم واعتبره صديقه وعمل معه صلاح مساعداً في أفلاماً أخرى لكن كانت لعلاقة الصداقة والعلاقة الفنية التي ربطته برائد الواقعية أثرها الكبير في مشواره السينمائي كله فيما بعد.

وتدور الأيام دورتها وتتحقق أحلام صلاح أبو سيف عندما يرسله ستديو مصر الذي يعمل به إلى فرنسا لدراسة السينما وكان هذا هو الحلم الأثير له في طفولته وصباه المبكر عندما كان يشاهد الأفلام السينمائية الأجنبية في دار سينما «إيديال» القريبة من منزله في «بولاق أبو العلا»، ويسافر صلاح إلى فرنسا عام 1939 وفي ستديو «كلير» في باريس يدرس صلاح المونتاج والإخراج السينمائي على يد المخرج الفرنسي الشهير وقتها «جورج لاكومب» وبدأ أيضاً يتدرب في عدد من الستديوهات هناك وأشهرها «ستديو أدرسولين» الذي كان يقدم تجارب تعبيرية في السينما تجعل السينما وسيلة للتفكير وليس لمجرد المتعة والتسلية وقد أثرت هذه الدراسة في تفكيره وثقافته وزادت من خبراته السينمائي بشكل كبير ووضح تأثيرها على أفلامه فيما بعد عندما أصبح مخرجاً يقدم أفلاماً تعتمد على الرؤية والفكر.

وبعد عودته من بعثته الدراسية في فرنسا التي استغرقت ما يقرب من عام ترقي في وظيفته في ستديو مصر إلى رئيس قسم المونتاج وارتفع مرتبه إلى 60 جنيهاً شهرياً وكان مبلغاً ضخماً وقتها لكن صلاح بعد مرور أعوام قليلة في هذا المنصب أخرج خلالها عدداً من الأفلام التسجيلية القصيرة، وجد صلاح نفسه مدفوعاً برغبة محمومة في داخله إلى خوض تجربة إخراج الأفلام الروائية، وأخبر المسؤولين في ستديو مصر برغبته ولما كان هؤلاء المسؤولون يثقون في قدراته وافقوا وقدم صلاح أبو سيف أول أفلامه الروائية كمخرج وكان فيلم «دايماً في قلبي» عام 1946 وكانت البطولة لعماد حمدي الذي كان هذا الفيلم هو فيلمه الثاني بعد فيلمه الأول الذي لم يحقق النجاح الجماهيري، ومن هنا كان عماد حمدي يعتبر فيلم «دايماً في قلبي» هو بدايته الحقيقية في السينما وهو الفيلم الذي أطلقه كنجم سينمائي وكان دائماً يدين بالفضل في هذا لصلاح أبو سيف، وشارك في بطولة الفيلم أيضاً عقيلة راتب. وفي الخمسينيات وهذه الحقبة من أخصب المراحل الفنية في مشواره السينمائي وبدأها صلاح بفيلم «الحب بهدلة» 1951 وهو الفيلم الوحيد الذي أسقطه من حساباته الفنية وفشل الفيلم فشلاً ذريعاً وأرجع صلاح هذا الفشل إلى أنه لم يشارك في مرحلة كتابة السيناريو بل قبل إخراج هذا الفيلم مجاملة لصديقه بطل الفيلم ومنتجه محمد أمين ومحمد البكار وكان السيناريو يكتب في الستديو أثناء التصوير ولم تكن هناك فرصة لمراجعته من جانب صلاح وهي التجربة التي لم يكررها صلاح مطلقاً طوال مشواره السينمائي حيث كان دائماً مشاركاً في كتابة السيناريو لكل أفلامه أو على الأقل صاحب الفكرة الأصلية للفيلم وهو ما حدث في كل أفلامه المقبلة.

لذلك وخلال نفس العام يقدم واحداً من أهم أفلامه «لك يوم يا ظالم» 1951 الذي أنتجه بنفسه من أجل أن يقدم من خلاله رؤيته الفنية وأفكاره السينمائية وقد رفض المنتجون وقتها إنتاج الفيلم من خلال نظرتهم التقليدية للسينما، ونجح الفيلم نجاحاً جماهيرياً هائلاً وأشاد به النقد كثيراً، واعتبروه بداية أخرى جديدة للواقعية في السينما المصرية بعد البداية والريادة الواقعية التي قدمها من قبل كمال سليم في فيلمه الشهير «العزيمة»، أعطى هذا الفيلم الثقة لصلاح أبو سيف في أن يقدم أفلامه وفق أفكاره دون خوف من الفشل الجماهيري وقد أدى نجاحه في هذا الفيلم إلى استمراره في هذا الأسلوب الواقعي ثم تطويره بعد ذلك، وقد أظهر صلاح خلال هذا الفيلم البيئة الشعبية بشكل ربما غير مسبوق في السينما المصرية، لذلك بقيت الحارة الشعبية المصرية بأشخاصها وأحداثها الواقعية تشكل جزءاً مهماً من عالمه السينمائي فيما بعد.

ويواصل صلاح أبو سيف بعد هذا الفيلم الناجح السير في نفس الاتجاه فيقدم فيلم «الأسطى حسن» 1952 الذي يعد الفيلم الذي كان سبباً في انطلاق نجومية بطله فريد شوقي، وحاول أبو سيف في هذا الفيلم الشهير الذي حقق نجاحاً فنياً وجماهيرياً هائلاً أن يطرح ويكشف لها الفروق غير الإنسانية بين حياة الفقراء ساكني الأحياء الشعبية والأغنياء ساكني الأحياء الراقية ومن خلال هذه المقارنة كانت البداية للتحليل الاجتماعي للمجتمع المصري الذي سيظهر تدريجياً في أفلام أخرى مقبلة ومنها «ريا وسكينة» الذي قدمه في العام التالي مباشرة 1953 من خلال تقديمه لسيرة اثنتين من أشهر المجرمين في التاريخ المصري وربط جرائمهما بالواقع الشعبي، وبعدها مباشرة يقدم واحداً من أهم أفلامه وهو «الوحش» 1954، حيث قدم في هذا الفيلم أول تحليل اجتماعي مستنير في السينما العربية للجريمة في القرية، حيث يكشف عن جذور الجريمة وعلاقة أطرافها الاجتماعية ببعضها بعضاً فالمجرم هنا يخشاه الجميع في القرية بما فيهم «السلطة المحلية» لكن تحميه «السلطة السياسية» وربما هذا الاتجاه مازال موجوداً في مجتمعاتنا العربية إلى اليوم.

ويوصل صلاح أبو سيف في فيلمه الشهير «الفتوة» إلى قمة النضج في الفكر والرؤية، حيث يبحث ويفتش ويكشف عن الأسباب الموضوعية لفساد السوق والاستغلال الذي يتعرض له الفقراء، فالفساد هنا ليس فردياً أو مجرد مسألة أخلاقية فردية، بل هو نتاج نظام كامل من العلاقات الفاسدة فرض فساده على الناس والمجتمع، وقدم الفيلم دعوة مبكرة للاشتراكية وانتقاداً حاداً للاقتصاد الحر دون مباشرة أو كلمات خطابية أو أسلوب توجيهي فج. بعد فيلم «الفتوة» والنجاح الهائل الذي حققه فنياً وجماهيرياً وبعد نجاح كل أفلامه السابقة خلال حقبة الخمسينيات يخترق أبو سيف واحدة من أهم المشكلات الشائكة في المجتمع المصري والعربي وهي مشكلة وضع وحرية المرأة العربية والعلاقة بينها وبين الرجل ومن خلال عدد من الأفلام يحطم «التابوهات» الثابتة والأساطير المسيطرة على المجتمع عن دور المرأة في المجتمع وعلاقتها بالرجل، ومن أفلامه المهمة والناجحة فنياً وجماهيرياً التي قدمها في هذا الاتجاه: «الوسادة الخالية» 1957 الذي قام ببطولته عبدالحليم حافظ ولبنى عبدالعزيز، «هذا هو الحب» 1958 والبطولة للبنى عبدالعزيز أيضاً أمام يحيى شاهين، «الطريق المسدود» لفاتن حمامة وأحمد مظهر، «أنا حرة» 1959 لشكري سرحان ولبنى عبدالعزيز، وقد رأي النقاد أن ما أشاعه صلاح أبو سيف من رؤية تنويرية عن دور المرأة في المجتمع العربي خلال هذه الأفلام لا يقل عن الرؤية التنويرية التي قدمها «قاسم أمين» عن المرأة وكانت رؤية صلاح امتداداً لرؤية هذا الرائد والمفكر الكبير، ولا يجب أن ننتهي من حقبة الخمسينيات دون الإشارة إلى فيلمين في غاية الأهمية وهما «شباب امرأة» 1956 الذي يعد من أهم أفلامه ومن كلاسيكيات السينما المصرية والذي تناول فيه مجدداً واقعاً اجتماعياً شديد القسوة حول شاب ريفي تصدمه الحياة في المدينة وواقعها، وأيضاً فيلمه الشهير «بين السماء والأرض» 1959 الذي كان نوعاً جديداً على السينما المصرية وقتها ولم ينجح جماهيرياً في حينه لكن بعد ذلك أصبح من أكثر الأفلام جماهيرية وهو أيضاً ضمن أهم كلاسيكيات السينما المصرية. ونأتي إلى حقبة الستينيات لنرى أن صلاح أبو سيف يواصل تقديم أفلامه المهمة التي شكلت علامات بارزة في مسيرة السينما المصرية، ويبدأ هذه الحقبة بالتحفة السينمائية «بداية ونهاية» 1960 في هذا الفيلم يوجه نقداً حاداً وغير مسبوق للمجتمع المصري في السنوات القليلة على ما قبل ثورة يوليو من خلال أسرة فقيرة تحاول أن يعيش أفرادها داخل هذا المجتمع الذي يحاول أن يخنق أحلامهم وحتى وجودهم كما يوجه نقداً حاداً للمؤسسة العسكرية باعتبارها جزءاً من المجتمع وليست كياناً فوق النقد والمساءلة، أيضاً يقدم رائعته الشهيرة «القاهرة 30» 1966 الذي عاد فيه إلى عالمه الأثير عالم المقهورين وفساد أصحاب السلطة ومعاناة بسطاء الناس، وقدم فيلمه منتصراً لحق الفقراء في الحياة وكاشفاً عن أسباب الظلم والفساد وعرى مجتمع القاهرة في الثلاثينيات، حيث الاضطهاد والفساد واستغلال النفوذ. ونأتي إلى رائعة أخرى من روائعه السينمائية والمتمثلة في فيلم «الزوجة الثانية» 1967 الذي يعد امتداداً للقهر واستغلال النفوذ من جانب أصحاب السلطة والأثرياء ضد البسطاء والفقراء، وهنا لابد أن نشير إلى أفلامه الأخرى المهمة خلال هذه الحقبة لنرى أفلاماً أخرى رائعة ناجحة جماهيرياً وفنياً مثل: «لا تطفئ الشمس» 1962، «لوعة الحب» 1961، «رسالة من امرأة مجهولة» 1962، لا وقت للحب» 1963، «القضية 68» 1968، كما لابد أن نشير إلى التأثير الكبير الذي حمله صلاح أبو سيف من طفولته وصباه وقدمه في أفلامه فكما أشرنا سابقاً إلى معاناة والدته المتعلمة في زواجها وانفصالها عن والده «العمدة» الإقطاعي الثري وقدم أبو سيف ملمحاً من هذا التأثير في أفلامه عن المرأة والتي أشرنا إليها وأيضاً نشأته في حي شعبي خلقت بداخله تأثيراً هائلاً ظهر واضحاً في الواقعية الشعبية التي قدمها في العديد من أفلامه. وفي حقبة السبعينيات يواصل صلاح أبو سيف تقديم سلسلة من أفلامه التي غلب عليها الطابع الاجتماعي والسياسي أحياناً وبدأ هذه الحقبة بفيلم «حمام الملاطيلي» 1972 وهو واحد من أكثر أفلامه جرأة بل من أكثر الأفلام جرأة في السينما المصرية وقدم خلاله تحليلاً للواقع الاجتماعي في مصر بعد هزيمة يونيو 1967 وما عاناه جيل النكسة، وفي فيلمه «الكذاب» 1975 يقدم شهادته عن أضرار الفساد السياسي على المجتمع، أما في فيلم «السقامات» 1977 وهو أحد أهم الأفلام المصرية ومن أهم كلاسيكيات السينما فقد جاء هذا الفيلم الذي لعب بطولته فريد شوقي وعزت العلايلي على نسق غير معهود في أفلام صلاح أبو سيف، حيث ناقش قضية الموت وموقف الإنسان منها من خلال شخصين أحدهما يخشى الحياة رغم أنه يعمل «سقا» ويوزع المياه وهي رمز الحياة، والآخر يقبل على الحياة بنهم رغم أنه يعمل «حانوتي» يحمل الموتى إلى مرقدهم الأخير، وقد غلب الطابع والجو الفلسفي على أحداث الفيلم المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب الكبير يوسف السباعي، ومن الأفلام المهمة لصلاح أبو سيف خلال هذه الحقبة: «سنة أولى حب» 1976 الذي شارك في إخراجه مع مخرجين مصريين آخرين، «المجرم» 1979، «وسقطت في بحر العسل» 1978.

النهار الكويتية في

19/08/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)