حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

فيلم "أنت مرة أخرى":

فكرة تكفيها حلقة تليفزيونية واحدة

بقلم: محمود عبد الشكور

أحد مواهب كاتب السيناريو الأساسية أن يحدّد القالب الذى سيقدّم فيه فكرته. طبعا لاتوجد أجهزة علمية دقيقة تقرّر ذلك، كل ما فى الأمر أننا نشاهد النتيجة النهائية للعمل الفنى ، فنعرف هل كانت الفكرة مناسبة للقالب الذى خرجت به، أم أنها قد تعرّضت لنوع من "اللتّ والعجن" لكى تبدو أكبر مما تحتاج، وأكثر مما تستحق؟

الحقيقة أن الفيلم الكوميدى الأمريكى  you again أو "أنت مرة أخرى" يشكّل حالة نموذجية فى تحليل فيلم يقوم على فكرة محدودة جداً تصلح بالكاد لكى تكون إحدى حلقات "الست كوم"، ولكن السيناريو (من كتابة مو جيللين) أخذ العجينة، وجعل يفردها، ويقلبها، وينقلها يميناً ويساراً، وشرقاً وغرباً ودون خيال قوي، فانفرط العقد، وانهارالإيقاع، وانتهينا الى المزيد من الإفتعال مع أننا أمام فكرة ظريفة ولطيفة وذكية ، ولكن الفكرة تحتاج الى تطوير ومعالجة مبتكرة وإلا تجمّدت كما حدث فى فيلمنا.

الموضوع

المدار الذى يدور فيه الفيلم الذى أخرجه  آندى فيكمان يتركز حول سؤالين متكاملين الأول هو: الى أىّ حد تؤثر ذكريات الماضى وتحديداً فترة الدراسة على شخصيانتا وتصرفاتنا  فى الحاضر؟

والسؤال الثانى هو: هل يستحق الآخرونفرصة أخرى تفتح أبواباً للتسامح تجاه ما بدر منهم فى حقنا؟

أما الحدوتة فهى بسيطة، وتصلح بامتياز لكى تكون موضوعاً لدراما كوميدية: فتاة تعانى طوال دراستها الثانوية من إهانات متكررة من إحدى زميلاتها، ثم تكتشف بعد سنوات أن شقيقها سيتزوج من هذه الفتاة.

تلك هى حدود الفكرة، وكما ترى فكأنها مناسبة جداً لحلقة تليفزونية تبدأ عندما تفتح بطلتنا الباب فتجد نفسها أمام زميلة الدراسة المزعجة، ويصبح التساؤل عما إذا كانت قد تناست إهانات الماضى أم لا؟ وهل تستحق خطيبة الأخ فرصة ثانية لكى تبدأ صفحة جديدة؟

ولكن هذا الموقف القصير جداً يتعرّض فى الفيلم الى عملية فرد وشدّ، وقلْب وعدْل، فالصراع الأساس بين الفتاة "مارنى ولسن " التى أصبحت فى منصب مرموق بشركة ضخمة، والتى تعّلم الآخرين أصول العلاقات العامة بعد أن كانت طالبة منبوذة تتعرض للسخرية طوال الوقت بنظارتها الطبية، وبجهاز تقويم الأسنان الذى يشوّه شكلها، وما أن بدأت تنسى ذكريات الماضى الدراسى المؤلم، حتى ظهرت لها من جديد غريمتها فى المدرسة الثانوية "جوانا" التى أصبحت ممرضة محترفة، والتى نجحت فى الفوز بقلب "ويليام" شقيق "مارنى" .

موقف نموذجى لإحدى حلقات "الست كوم"، ولكن البذرة أصبحت شجرة، الشخصيات الثلاث أصبحت عائلة، وبالإضافة الى صراع "مارنى" و" جوانا" أضيف صراع جديد عندما اكتشفنا أن "جيل" ( والدة مارنى) عرفت أن "رامونا" غريمتها فى الدراسة ليست إلا عمّة الفتاة "جوانا "، وهى صدفة جديدة يفسرها الفيلم دائما بأننا فى مدينة صغيرة تدعى "ريدجفيلد"، ولذلك من المحتمل جداً أن "يلتقى الشتيتان بعدما يظنّان كل الظن ألاّ تلاقيا".

استهدف إضافة خط "جيل" و "رامونا" الى خط "مارنى" و " جوانا " تعميق الفكرة، وزيادة جرعة الضحك لأن الصراع سيكون بين أمراتين تجاوزتا سن الشباب، ولكن ما شاهدناه هو أن إضافة الصراع الجديد، لم يحقق سوى زيادة جرعة الضحك، خاصة مع اسناد دور رامونا للممثلة "سيجورنى ويفرز"، وإسناد دور "جيل" للنجمة " جيمى لى كيرتس"، والإثنتان ممثلتان مخضرمتان ولهما مظهر شديد الصرامة، واشتهرتا بأداء الأدوار العنيفة، ولذلك كانتا أفضل ما فى الفيلم كله لأن تصرفاتهما الطفولية، وغيرتهما من بعضهما وهما فى هذه السن، يتناقض تماماً مع مظهرهما الجاد الصارم مما فجّر أفضل الضحكات وأكثرها ذكاءً.

الصراع الفرعي

ولكن السيناريو نسى أن يستغل هذا الصراع الفرعى لدعم الصراع الأصلى بين "مارنى" و"جوانا ". لقد ظل صراع "جيل" و "رامونا" غير مؤثر فى الحكاية الأصلية، فلم نسمع من  "جيل" مثلاً فكرة "فركشة" خطوبة ابنها لأن عمة العروس هى زميلتها السابقة التى تكرهها ، بل لقد ظلت حكاية "جيل " و " رامونا "موازية لقصة "مارنى" و"جوانا"، وكأننا نكرر نفس المعنى فى فيلم آخر.

ولأن الفكرة لا تحتمل أكثر من أن تواجه "مارنى" زميلتها السابقة أو تعاتبها  فى حضور العريس الشقيق " ويليام "، فإن عملية التوسعة غير الواعية بدت كمحاولة فاشلة لكى يتم ملء زمن الفيلم الطويل، ولذلك أضيفت شخصيات كثيرة لكى تساند هذا الهدف : هناك مثلا الأب والد "مارنى" ووالد العريس، وهناك الأخ الأصغر ل"مارنى" واسمه "بن"، وهناك خطيب سابق ل "جوانا" يدخلنا فى خط آخر بعيداً عن المشكلة الأصلية وهى الثأر الشخصى بين "جوانا" و"مارنى" منذ سنوات الدراسة، ولدينا ايضاً الجدة "بانى"، وهى جدى "مارنى" لأمها، وهناك السيدة المنوط بها تنظيم حفل الزفاف. اتسعت الصورة، وتعددت الخطوط ، وكأن الهدف فقط هو تكبير ما لايستحق التكبير.

ومما زاد من مأزق السيناريو أن الصراع الإضافى بين "جيل" و"رامونا " بدا أظرف وألطف من الصراع بين " مارنى" و "جوانا "، فاحتفاظ سيدتين فى سن كبيرة بذكريات الدراسة السيئة والصراع على العشاق يؤكد أن الماضى لا يموت أبداً، والطريقة التى رسمت بها شخصية "جيل" النشيطة المرحة، ثم شخصية "رامونا " صاحبة الفنادق الباحثة عن السعادة رغم امتلاكها الملايين ، كل ذلك جعل كفة الثنائى المخضرم ترجح بالمقارنة بالثنائى الشاب .

أما "مارنى" و " جوانا " فقد ُرسمت ملامحهما بطريقة غريبة نوعا ما، صحيح أن "مارنى" عانت كثيراً مما حدث لها فى المدرسة الثانوية، ولكن الصحيح أيضا أنها احترفت فن العلاقات العامة، ولذلك كان يمكن أن تحذّر شقيقها من "جوانا "بطريقة أكثر لباقة بدلاً من عرض شريط مقالبها فى بروفة حفل الزفاف ، من ناحية أخرى ، بدت "جوانا " أيضا شخصية محيّرة لدرجة أنك لن تفهم بالضبط هل تغيّرت بعد أن أصبحت ممرضة أم أنها تضحك على الجميع؟

حصاد هزيل

فى الرُبع الأخير من الفيلم أصبحنا بوضوح أمام الحصاد الهزيل للمشكلتين (التوسع وزيادة الشخصيات ) ، ثم ظهرت مشكلات أخرى مثل الإفتعال الشديد سواء فى المصادفات او فى تجسيد الرغبة فى الثأر وكأن الجميع لم يغادروا فترة المراهقة ، وحدث تخبط شديد سواء فى ابتعاد "ويليام " عن خطيبته "جوانا" إثر فضح مقالبها، وسخريتها من "مارنى"، أو فى عودته إليها وزفافهما فى المستشفى، أو حتى فى تسوية حساب "جيل" مع " رامونا " التى سرعان ما تجد عريسا هو حبيب الدراسة القديم، وحتى الجدة العجوز "بانى"،  سنكتشف فى الحفل وجود جدة أخرى كانت تتصارع معها فى سنوات الدراسة ، ويبدو _ والله أعلم _ أن هذه الأسرة "متعهدة مشاكل" مع الجميع فى تلك القرية الصغيرة العجيبة "ريدجفيلد"!

عين على السينما في

17/08/2011

 

د. وليد سيف يكتب عن الخروج من قصر السينما

د. وليد سيف 

علمت بعد فترة من عملى بقصر السينما أن الناقد أمير العمرى كان مرشحا من قبلى لإدارة القصر ولكنه بالغ فى شروطه على حد قول البعض. ولكن تجربتى أكدت لى أن هيئة قصور الثقافة هى التى تبالغ فى بخلها واستهانتها بقيمة المثقفين الكبار و أقدارهم.

كما أفهمنى البعض أن المديرة السابقة أمل جمال الدين فقدت منصبها بسبب عصبيتها و قسوتها مع العاملين. ولكن خبرتى الحكومية المتواضعة علمتنى أن العصبية والقسوة مع المرؤسين  لم تفقد أحدا منصبه فى هذا البلد أبدا. ولكن السبب الرئيسى لفقدان المنصب غالبا هو إغضاب القيادات. وهو ما فعلته السيدة الفاضلة التى ملت من المطالبة بأبسط الحقوق للقصر، مما اضطرها لإحراج أحد كبار المسؤولين على مرآى ومسمع من الحضور فى مناسبة ما، فوضعت نفسها فى القائمة السوداء ولم تشفع لها جهودها ولا أمانتها.

وعلى الرغم من هذا كنت فى غاية التفاءل والحماس. كنت أعتقد أن خبراتى الإدارية والفنية كفيلة بأن تساعدنى على مواجهة أى مشكلات وعقبات تواجهنى. و هيأت نفسى لأسوا الأحوال فى تصميم على إكمال التجربة وفى شعور بالإنتصار لمجرد أن  تؤل رئاسة قصر السينما لأول مرة فى تاريخه إلى شخص يعمل فى مجال الثقافة السينمائية مثلى.  وكنت أحاول أن أبدد أى مخاوف أو وساوس قد تدفع اليأس إلى قلبى.

قررت من البداية أن أستفيد من كل تجارب القصر السابقة الإيجابية وأن أتعرف على  كل خبرات المديرين السابقين عبر الملفات والمطبوعات والأنشطة. كانت الأستاذة أمل جمال الدين قد حققت إنجازات طيبة فى المجال الإدارى والمالى. كما كانت قد بدأت الإعداد لبرامج مهمة إعتقد البعض أنى سأقوم بإلغائها على الطريقة الفرعونية. ولكنى أجلتها بعض الوقت لدراستها بعناية.

وكان أهمها برنامج عن السينما المستقلة لمجموعة أعمال لحسن خان وشريف العظمة. لم أمتلك شجاعة وضعها تحت مسمى أفلام مستقلة كما كانت تنوى المديرة السابقة، كما لاحظت أنها أعمال لا يمكن إعتبارها أفلاما بالمعنى المألوف، فمنها عروض يتوازى فيها توظيف الموسيقى بشكل متفاعل ومباشر مع الصورة.

فكرة الرقابة

واتفقت مع حسن خان على تسميته أسبوع أعمال الفيديو بناءا على إقتراحه. كما اتفقت معه أيضا على التوفير فى تكلفة البوستر الذى رأيت أن مستوى طباعته ونوع الورق المستخدم فيه لا يتناسب مع هيئة ثقافة جماهيرية.

كنت سعيدا ومتحمسا للفكرة وشاهدت بعض الأشرطة التى سيعرضها حسن. ولكنى شعرت بقدر من التوجس والمسؤولية وضرورة أن أشاهد البرنامج الذى سيعرض كاملا. وعلمت أن حسن خان سيقدم نفس العروض بالجامعة الأمريكية قبل الأسبوع المخصص له بالقصر.

توجهت إلى الجامعة الأمريكية وشاهدت العرض وأعجبتنى جرأته فى نقد النظام. لم تكن لى أى ملاحظة إلا على قدر من التجاوز فى قطع متوازى بين صورة مبارك بين ضباطه وصورة و أصوات كلاب تنبح. أعجبنى التشبيه ولكن كان الأسلوب شديد المباشرة والجرأة.

ورأيت أنه لا يتناسب بهذه الصورة مع العرض فى هيئة حكومية وأن عرضا مثل هذا معناه أن أفقد منصبى من أول يوم عمل بالقصر. طلبت من حسن عدم عرض هذه اللقطة، فأقنعنى أن هذا ممكن جدا وأن اللقطات فى هذا العمل بالذات يتم إختيارها من عدة أشرطة. كان العرض على مسؤوليتى الشخصية ورفضت كعادتى الجوء للرقابة، رغم كل ما يتضمنه البرنامج من لقطات جريئة كثيرة. ومع ذلك لم يلتزم الأستاذ حسن بالإتفاق وعرض المشهد الذى اعترضت عليه كما هو. لم ألومه أو أعاتبه، بل ربما كنت أريد أن أشكره على شجاعته وعدم استسلامه لمطالب المسؤول الحريص على منصبه الذى هو حضرتى.

برنامج عروض

توازى مع استلامى رئاسة القصر إنتهاء فعاليات مهرجان  الإسكندرية فقررت أن أقيم برنامجا للأفلام الفائزة بجوائزه وأهم الأفلام التى شاركت فى مسابقته الدولية. و حرصت على أن يتولى المناقشة والتعليق على الأفلام أحمد الحضرى كأحد شيوخ النقاد  وهشام لاشين من جيل الشباب فى وقتها. كنت أريد أن أبعث رسالة أن القصر أصبح به متسع للجميع من مختلف الأجيال. و بالفعل حدث تجاوب مع رسالتى واتصالاتى بالزملاء. و بدأ البعض يعرضون آراءهم و أفكارهم.

كنت اتحمس لأى برنامج له مدلول ومنهج وكنت حريصا على أن يشارك فى هذه البرامج نقاد ممن يقدرون على مخاطبة جمهور بسيط من الهواة و المهتمين بفن السينما دون خلفية ثقافية كبيرة.

كنت حريصا على خصوصية القصر وانتمائه لهيئة ثقافة جماهيرية. فندواته ليس من المفروض أن تكون ذات طبيعة متخصصة مثل المجلس الأعلى للثقافة أو أكاديمية الفنون. كما أن الحرص على التعريف بالسينمات العربية الشقيقة كان أحد أهدافى، و كذلك بالطبع الإهتمام بتراث السينما المصرية، مع حيز مقبول للسينما الأوروبية  فى حرص على تنويع ثقافة الجمهور الذى يكاد لا يشاهد فى دور العرض سوى السينما الأمريكية.

فى هذا الصدد سعدت بعرض الناقد فوزى سليمان بأسبوع للسينما المجرية أشرف عليه بكل جدية وحرص، فى بداية قوية لأسابيع الأفلام الأجنبية. كما سعدت بإختيار الناقد سمير فريد لقصر السينما كأحد مواقع عرض مهرجان الفيلم الأوروبى.

كانت مشاركة سمير فريد فى أنشطة القصر أحد إنجازاتى التى أعتز بها بعد طول غيابه ورفضه  مجرد دخول هذا المكان. لم تجمعنى به معرفة سابقة ولكننا سرعان ما أصبحنا أقرب للأصدقاء بمجرد أن أجريت إتصالا به ووجهت له الدعوة لإدارة ندوة لأحد الأفلام. لا يعرف سمير فريد كم أسعدنى قبوله دعوتى. كان هو بالفعل أستاذى ونجمى المفضل ولم يكن بالتأكيد يتذكر أول لقاء لى معه.

أول لقاء

كان ذلك فى  صيف 1978 حين توجهت إلى دار التحرير لإستلام  الجائزة التى حصلت عليها لفوزى في مسابقة أقامتها  جريدة السينما والفنون التى كان يرأس تحريرها. كنت تلميذا بالصف الأول الثانوى ولكني كنت أعرف من هو سمير فريد بفضل  اهتمامى بالسينما ومتابعتى لما يكتبه فى مختلف الجرائد والنشرات السينمائية.

كانت اتصالاتى بالزملاء لا تنقطع وتواجدى بالمكتب شبه دائم صباحا ومساءا. تمكنت فى زمن قياسى من إعادة الدراسات السينمائية الحرة بعد إعادة هيكلتها وبالإستعانة بكبار المتخصصين كل فى مجاله و أصبحت أقيم فى كل أسبوع أكثر من إفتتاح لأكثر من برنامج.

كانت باقى القصور لا تحقق على مدار الشهر سوى برنامج أو إثنين على الأكثر. فى ظل هذه الأجواء فوجئت بمكالمة ظاهرها الرقة من رئيس الهيئة أنس الفقى هنأنى فيها على جهودى ولكنه أنهى المكالمة بجملة لم أفهم مدلولها فى حينها.. "إنت بتتعب نفسك أوى.. ولازم تفهم إن مش مطلوب منك كل ده". 

اعتبرت هذا نوعا من المديح. و لكنى بدأت ألاحظ محاولات لعرقلة الأنشطة بتأخير الإعتمادات والمطبوعات. و لكن هذا الأمر لم يعوقنى فقد كنت أعمل بأقل الإمكانيات. و كنت أحصل على الأفلام بالمجان من الأصدقاء، كما كنت أنفذ المطبوعات بأبسط الأشكال وأقل التكاليف حتى ولو على نفقتى الشخصية. و لكن الغريب أن أنس لم يتصل بى ثانية وبعد أن كان مكتبه مفتوحا لى على مصراعيه فى أى وقت، أصبحت مقابلتى له لتذليل بعض المصاعب أمرا شبه مستحيلا حتى ترك الهيئة وتولى أول حقيبة وزارية، فانقطعت صلتى به تماما.

وكأن أنس أراد أن يوجه لى فى آخر مكالمة الرسالة التى كان على كل من يعمل فى مجال الثقافة أن يستوعبها. فليس مطلوبا سوى نشاط محدود وشكلى وإنما العمل الجاد و المستمر فى هذا المجال هو أمر غير مرغوب فيه.

برنامج الكوميديا

جاء شهر رمضان وأعددت له برنامجا ترفيهيا، لا يخلو من هدف، كان عنوانه برنامج الأشرطة الضاحكة. كان العنوان فى حد ذاته يعبر عن موقف من الأفلام العروضة. وكان البرنامج فرصة لعرض أفلام حديثة يقبل عليها الجمهور وفرصة فى نفس الوقت لمناقشة المفهوم الصحيح لفن الكوميديا ومدى الإبتذال و الرداءة الذى يقدم من فن تحت هذا الشعار. وكان فى رأيى أول برنامج يناقش الفيلم الكوميدى كفن له أصوله وأنواعه و أساليبه، إعتمادا على دراسة سابقة لى بعنوان سحر الكوميديا فى الفيلم المصرى.

كان البرنامج يتضمن أيضا مختارات من أفضل الأفلام الكوميدية فى العامين الأخيرين. و أمكن لى أن أحقق جاذبية وترويج جيد للبرنامج بحضور نجوم و فنانى الأفلام . وكانت ندوة فيلم "جواز بقرار جمهورى" أقل بكثير من أن تحتمل نقاشا فى السياسة، ولكن خالد يوسف إنطلق يهاجم النظام وحسنى مبارك شخصيا بمنتهى الحدة والمباشرة والضراوة. ولم تمر الأمور هذه المرة كالسابقة بل كان من نتيجتها أننى إكتشفت فجأة أن قصر السينما يتبع إدارة إسمها القصور المتخصصة.

وبعد أن كانت برامجى تتحقق بموافقتى المباشرة وبمجرد إخطار لمكتب رئيس الهيئة اصبح من اللازم أن أحصل على موافقة الإدارة العامة. بل وأصبحت الإدارة تراقب أنشطة القصر بطريقة فجة وهو ما أثار غضبى وإستيائى، مما أدى لتقديمى إستقالتى لأكثر من مرة ولكن كانت تتم تهدئتى وإقناعى بأنها مجرد أمور روتينية يخضع لها الجميع.

أمن الدولة

فى نفس الوقت كانت تصلنى مكالمات تليفونية متباعدة من شخص مهذب جدا يعبر عن تقديره الشديد لى و أنه يعتبرنى أستاذه و يتمنى أن يقابلنى. وكانت المفاجأة أنه مقدم بمباحث أمن الدولة. فى البداية لم أفهم الأمر واعتقدت أنه ضابط شرطة غاوى سينما ونقد. و أخبرته أننى بإمكانى أن أبعث له بقائمة كتب تساعده لو فكر فى التقدم للإلتحاق بمعهد النقد الفنى. ولكن حيرتى إزدادت حين أخبرنى إنه لا يفكر فى هذا الأمر.

تكررت إتصالاته الودودة جدا وكان يدعونى دائما لزيارته فى مكتبه بمنتهى الود و الذوق. ولكنى توجست بشدة واعتذرت عن هذا الأمر وقد بدأ القلق يساورنى. وفوجئت به يأتى لزيارتى فى مكتبى فوجدته رجلا مهذبا ومتواضعا ويبدو من حديثه أنه على قدر من التدين ولكن حواره معى بدأ يتسلل إلى مناطق السؤال عن بعض الأساتذة من كبار النقاد وبالتحديد عما إذا كانوا "وطنيين" أم ليهم إتجاهات كده". وهنا بدأت الأمور تتضح وبدأت أجيب فى حزم وصرامة عن أننى لا أستطيع أن أجيب على أسئلة من هذا النوع. وعلى الرغم من هذا لم يقطع سيادته إتصالاته الودودة بى عن بعد وخاصة فى المناسبات والأعياد و لكنه لم يكرر سؤاله عن وطنية الزملاء.

كان المطلب الوحيد الذى ألححت عليه بشدة للقيادات هو شراء كاميرات فيديو ديجيتال ووحدة مونتاج حتى يتمكن طلاب دراسات السينما بالقصر من تصوير مشروعاتهم بأقل التكاليف إستعانة بكاميرة القصر. 

كانت كل المحاولات تبذل لعرقة هذا المطلب أو لتحقيقه عبر لجان معقدة وغير متخصصة وذات أغراض لا أسمح بها. و عندما وجدت أن الأمور تسير فى طريق مسدود لم يكن أمامى بدا من شراء كاميرا على نفقتى الخاصة لتنفيذ مشروعات الطلبة وورشة الأفلام القصيرة التى بدأت فى الإعداد لها.

كنت أخسر كل يوم على المستوى الصحى والنفسى والمادى . وكان وقتى يتبدد دون أن أجد لحظة لكتابة مقال أو حتى لمشاهدة فيلم. فقد كانت العقبات و المشكلات المالية والإدارية المفتعلة تستهلك معظم وقتى وطاقتى.

كان المتنفس الوحيد لقاءات متباعدة مع صديقى السيناريست سامح سر الختم الذى كان يعد سيناريو فيلم اللى بالى بالك ويستعين بإستشاراتى من حين لآخر. وبعد إنفصال سامح عن شريكه فى الكتابه طلب منى أن نعمل سويا. وأمكننى أن أستقطع بعض الوقت بصعوبة للإجتماع بسامح وزميلنا الثالث محمد نبوى من حين لآخر. وكان الجو مهيآ لحالة من شبه التفرغ للكتابة.

تداعيات الحريق

كان حريق قصر ثقافة بنى سويف قد وقع فى تلك الأثناء. و كان ذريعة جيدة لكل تنابلة الوزارة على وجه العموم والهيئة على وجه الخصوص لإيقاف الأنشطة، بحجة أن القصور كلها ليست مستوفية للشروط الأمنية.

صدرت الأوامر بإيقاف العمل  بكل القصور تقريبا ومنها قصر السينما، على الرغم من حالته الجيدة.  ولكنى بدلا من أن أتفرغ لأعمالى الخاصة، وجدت وسيلة للتحايل من أجل إستئناف النشاط بالقصر سواء من خلال الدراسات الحرة التى لا تدخل فى نطاق العروض والندوات وإن أمكننى إستغلالها فى إقامة عروض وندوات موازية دون الدخول فى خلافات مع الأمن. كما واصلت نشاط ورش الأفلام التى تعتمد على عدد محدود من الحضور، مما لا يشكل خطورة أمنية تتطلب إجراءات خاصة.

وكذلك بدأت فى إقامة ندوات بمكتبة القصر أسميتها حلقات دراسية وليست ندوات حتى أتجنب قرار وقف النشاط. كانت هذه المعلومات تصل إلى قيادات الهيئة فيستشيط غضبهم، ولا يدرون ماذا يفعلون معى حتى أوقف النشاط. ولم أكن مقتنعا بأن هناك ما يستلزم أن أوقف العمل أو أغلق بابى فى وجه هواة السينما بعد كل هذا الجهد الذى بذلته لاجتذابهم و إقناعهم أن هذا القصر هو بيتهم الذى يستطيعون فيه أن يمارسوا هوايتهم وأن يطوروا مواهبهم وأن يتعلموا أصول الفن الذى يحبونه.

وكان الدكتور أحمد نوار قد تولى رئاسة الهيئة فى تلك الفترة. وأشار له البعض بأن القصور المتخصصة هى سبب البلاء، ربما لأنها هى الوحيدة التى تعمل، وربما لأن من ضمنها قصر السينما الذى على رأسه رجل لا يهدأ، فأصدر قراره بإلغائها وإعادة تبعيتها للقصور العامة. لم يكن هذا القرار يعنى سوى شيئا واحدا وهو أن القيام بأى نشاط فى القصر يلزمه الوقوف فى طابور يضم 68 قصرا آخر فى مديرية القاهرة حتى أحصل على موافقة لإقامة أسبوع أفلام أو مجرد ندوة. أى أننى لن يصبح بمقدورى أن أقيم أكثر من فعالية واحدة على مدار العام الكامل شأن باقى القصور المظلمة. لم يكن بإمكانى أن أقبل وأنا ناقد سينمائى أن يحال قصر السينما المتخصص فى عهدى إلى قصر عادى. و لم يكن من المنطقى أن يهدر كل ما صرف من أجل تحويل هذا القصر إلى قصر سينمائى متخصص به ثلاث قاعات عرض سينمائى وبلاتوه.

اجتمعت برؤساء القصور المتخصصة وقررنا أن نرفض الإنصياع لهذا القرار. بلغت الأنباء رئيس الهيئة بالطبع الذى تراجع عن قراره بعد أن و صلت أصواتنا إلى الوزير. لكن يبدو أن رئيس الهيئة  أضمر فى نفسه شيئا. ففى خلال عدة أسابيع كان قد أصدر قراره بإنهاء إنتدابى وتعيين الفنان الشاب تامر عبد المنعم بدلا منى.

بلغنى الخبر بشكل مفاجىء طبعا. كنت أتوقع أن صداما سوف يحدث بينى وبين رئيس الهيئة وأن هناك بعض المشكلات سوف أواجهها أو بعض العقوبات سوف تنالنى ولكنى لم أتصور أن تتم إقالتى بهذه السرعة و الإستهانة.  توالت المقالات وردود الفعل الغاضبة التى تدين إقالتى. واعتقد البعض أننى كنت غاضبا لأننى فقدت منصبى. ولكن الحقيقة التى لن يصدقها أحد اننى كنت فى قمة الإرتياح بعد أن رفعت عن كاهلى هذا العبء الثقيل وتخلصت من هذا الصراع اليومى مع مختلف القيادات الموازية أو الإدارات المعاونة الغير متعاونة بل التى كانت بالفعل قوى معادية ومعطلة.

كان الشىء الوحيد الذى أثار غضبى وانفعالى هو أن المسؤولين بهذه الدولة الغاشمة أمكنهم أن يعزلونى بجرة قلم، لمجرد أننى رجل لم أنتم فى يوم من الأيام إلى شلة تحمينى ولم أسع للتقرب أو حتى لقبول دعوة جهة سيادية لتدعمنى. وصفنى سمير فريد فى مقال له بمناسبة عزلى بأننى شخص لا أجيد سوى عملى. لا أدرى كيف أمكنه أن يفهم هذا رغم لقاءاتنا القليلة والمتباعدة.

كنت أحمل أوراقى الخاصة وأنا فى طريقى إلى بيتى عائدا من القصر لآخر مرة، وأنا أفكر من جديد. هل أضعت حياتى فى السينما؟ 

عين على السينما في

17/08/2011

 

"الهاجس":

بدأ بحب وتحول إلى جريمة ثم اختتم بمأساة

هشام عبد الموجود 

سنرجع معاً في الزمن ثمانية وستين عاماً بالتمام والكمال ونتوقف عند عام 1943 حينما قدم لوكينو فيسكونتى أول أفلامه للسينما الإيطالية بعدما عمل كمساعد مخرج مع الفرنسي جان رينوار في الثلاثينيات وقدم أعمالا عديدة للمسرح الإيطالي. الفيلم مأخوذ عن رواية للأمريكي جيمس كاين بعنوان "ساعي البريد دوماً يطرق مرتين".

في زمن الحرب العالمية الثانية و الفاشية الإيطالية على أشدها جاء فيلم الهاجس أو Ossessioneعلى غير هوى الطبقة الحاكمة فقد انتهك المحظورات واخترق سياج المثالية التي أرادت السلطات رسمه منهاجاً للسينما فما كان منها إلا أن قامت بإحراق نيجاتيف الفيلم ولكن لحسن الحظ احتفظ فيسكونتي بنسخة أخرى منه وتمكن فيما بعد من عرض فيلمه.

ولم يكن ما قامت به السلطات غريباً فالفيلم أتى مغايرا للأفلام السائدة في تلك الفترة بجرأته في تصوير علاقات اجتماعية فاسدة وبيئة تبدو فقيرة ومحرومة وأنفس ترتكب الجريمة في وقت لم تكن تعرف فيه الأفلام سوى مجتمع المدن الأرستقراطي المحافظ اجتماعياُ، الذي يقدس قيم العائلة والسلطة ويحفل بحياة اللهو والترف.

اعتبر العديد من النقاد هذا الفيلم بداية أفلام الواقعية الجديدة، في حين أصر آخرون على أن البداية جاءت بعد انتهاء الحرب، تلك الأفلام التي تميزت بأسلوب متشابه يعتمد على التصوير خارج الاستوديوهات المغلقة والذهاب إلى الأماكن المفتوحة، وطاقم التمثيل غالباً من غير المحترفين إن لم يكونوا من العامة وأولئك الممثلين المشهورين ستراهم يؤدون أدواراً مخالفة تماماً لما عرفه عنهم الجمهور، ويدور موضوع الفيلم حول الطبقات العاملة والأكثر فقراً.

تبدأ أحداث الفيلم حينما يصل الشاب الوسيم جينو إلى استراحة على الطريق السريع يمتلكها رجل سمين يُدعى بريجانا. يتفق الرجل مع جينو على إصلاح سيارته ومعدات أخرى يمتلكها مقابل أن يمكث جينو معه هو وزوجته جوفانا في تلك المدة.

الزوجة الصغيرة في السن، تشعر بسأم شديد من حياتها وباشمئزاز من لمسات زوجها، ترى في جينو المُنقذ لها من تلك الحياة التعسة خاصةً وهي تلحظ على الفور عضلاته المفتولة فتقول له: كيف يُصيبك الحر بالإجهاد وأنت تمتلك جسدا كالحصان. كما أن مفهوم بريجانا للزواج لا يتعدى خدمة الزوجة لزوجها ومساعدتها له في عمله في إدارة المطبخ وتلبية احتياجاته المختلفة.

يستغل الاثنان غياب الزوج ويمارسان الحب، وهما ينتظران تلك اللحظة منذ أن تقابلت عيناهما. يمضي جينو بعد ذلك إلى سبيله بدون جوفانا التي ترفض المضي معه بسبب خوفها من العودة إلى حياة الفقر والتشرد وهي التي لم تتزوج إلا لتتجنبهما.

يتعرف جينو إلى صديق يُدعى الإسباني يعمل معه في تقديم الاستعراضات في الأماكن المفتوحة.. وفي أحد الاستعراضات يتعرف بريجانا وزوجته من وسط الجمهورعلى جينو، يوجه بريجانا له اللوم على تركهم ويقول ألم تكن أفضل حالاً معنا، وفي الحال يرافقهما جينو الذي لم يستطع أن ينسى جوفانا طوال الفترة الماضية. وفي طريق العودة تخطر فكرة التخلص من بريجانا مستغلا ثمالته وكي يبدو الأمر وكأنه حادث.

كان هناك أسلوب متبع نجده كثيراً في أفلام تلك الفترة، وهو أن يأتي خبر ما عن شخص غريب لا نعرفه ثم يستلهم البطل هذا الخبر ليتحقق لاحقا. هنا مثلا يرويُ بريجانا في بداية الفيلم وقوع جريمة مقتل رجل على يد عامل من أجل زوجته، وكأنه يوحي للعشيقين ويمهد لما سيحدث لاحقاُ مما يذكرك بطريقة ما بفيلم شاهين "باب الحديد" عندما علم قناوي بجريمة مقتل فتاة بسكين وإخفاء جثتها في صندوق ليباشر تنفيذها حرفياً بعد ذلك.

بعد أن يتمكن الاثنان من قتل بريجانا، تدير جوفانا الاستراحة وتتمكن من جني الأموال فضلاً عن قيمة التأمين على حياة زوجها، فيما يبدو جينو شارد الذهن وفي حالة فتور لا متناهٍ تجاهها وعُقدة الذنب تلاحقه دوماً وهو يتذكر بريجانا في كل مكان ويتهم جوفانا بأنها استعانت به لتحقيق مأربها وهو جني أموال زوجها، وتقوم هي بتهديده بإبلاغ الشرطة عن حقيقة الحادث بعدما رأته بصحبة فتاة أخرى.

تبرز طوال تلك المدة فرصتان أمام جينو ليستقل بنفسه ويبدأ حياة جديدة بعيداً عن تأثير جوفانا السيئ عليه، أولاهما عندما عاد صديقه الإسباني إليه ودعاه للسفر معه وثانيهما عندما تعرف على فتاة لطيفة وقضى معها بعض الوقت.

تعلم الشرطة الحقيقة بواسطة شهود تواجدوا ساعة الحادث وتراقب جينو الذي يظن أن عشيقته أبلغت عنه بالفعل، فيذهب إليها لتخبره بانتظارها مولوداً منه.

وقع الخبر المفاجئ يجعل جينو يستعيد توازنه ويتخلص من عقدة الذنب ويتأكد من حبه لجوفانا فيقرران الرحيل أخيراً ليبدآ حياة جديدة مع المولود المنتظر وهنا تتدخل القدرية فتنحدر السيارة من أعلى الجرف وتتهاوى بطريقة مشابهة لما حدث للزوج، لتلقى جوفانا حتفها وتقوم الشرطة بإلقاء القبض على جينو لينتهي الفيلم النهاية العادلة والمأساوية لبطليه.

الفيلم بسيط في أسلوبه، بطيء في إيقاعه، يعتمد على اللقطات الطويلة والمتوسطة وقليلاً ما يلجأ إلى اللقطات القريبة إلا عند احتدام الصراع بين الشخصيات. جمل الحوار قصيرة مع ترشيد في استخدام الموسيقى التي تبرز في البداية والنهاية على وجه الخصوص. ولا توجد أي حيل بالكاميرا، كل ذلك أدى إلى واقعية شديدة يظهر من خلالها الفيلم.

ولعل من الإجحاف والظلم النظر إلى الفيلم والحُكم عليه بالمعايير السائدة حالياً دون وضعه في إطاره الصحيح المحدد زمنياً واجتماعياً وجغرافياً وبمقارنته بنظائره ستجده فيلماً مميزاً بلا شك.

عين على السينما في

18/08/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)