حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مملكة الضحك (1):

ماري منيب… ملكة الكوميديا تولد من رحم المعاناة

كتب: ماهر زهدي

ربما لا يوجد بين ناطقي اللغة العربية، من المحيط إلى الخليج، مَن لا يتذكّر «بخشوان هانم»، تلك التركية العانس الخفيفة الظلّ السليطة اللسان، التي تطل من حين الى آخر من شباك حجرتها لتسأل سائقها الجديد: «إنتي جاية اشتغلي إيه؟». ذلك المشهد الأشهر من المسرحية الكوميدية «إلا خمسة»، أول بطولة مطلقة لـ«مملكة الضحك المتحركة» ماري منيب أو كما كان يناديها أعضاء فرقة نجيب الريحاني وفنانوها «الست مرمر»، الفنانة المتعدّدة المراحل، التي استمر تألّقها فوق خشبة المسرح وعلى شاشة السينما أكثر من 50 عاماً.

فنانة من طراز فريد لم وربما لن يتكرّر في السينما العربية، فلم تستطع أي فنانة مهما كان اسمها وخبرتها التمثيلية وحجم نجوميتها، أن تملأ الفراغ الذي تركته ماري منيب، فهي ليست برشاقة نجمات جيلها أو من سبقنها أو من جئن بعدها، ولم تكن جميلة الجميلات، ولم تدرس التمثيل في كبرى معاهد أو أكاديميات التمثيل، ومع ذلك استطاعت ببساطتها الاستحواذ على قلوب الجماهير العربية، بملامحها التي تشعّ طيبة وحناناً، ولا تزال «قفشاتها» وعباراتها تتردد بين الجماهير من مختلف الأجيال.

فقد تخصّصت إلى حدّ البراعة في تجسيد دور «الحماة النكدية» التي لا تدّخر جهداً في الوقيعة بين ابنتها وزوجها، أو ابنها وزوجته، فهي القادرة بكلمة واحدة أن تحوّل أجمل جنة إلى جحيم لا يطاق، وعلى رغم ذلك لا تستطيع أن تكرهها.

قدّمت ماري منيب تلك الشخصية في أكثر من فيلم سينمائي: «حماتي قنبلة ذرية»، «حماتي ملاك»، «الحموات الفاتنات»… وهي بالتأكيد لم تكن الوحيدة من بين بنات جيلها أو من سبقنها التي تجسّد تلك الشخصية، غير أنها كانت أكثرهن خفة دم وحضوراً، وأكثر من تركت بصمة واضحة على شريط السينما وخشبة المسرح من خلال هذا الدور.

فمن خلال تجربتها الزاخرة بالإبداع والتحدّي، فرضت ماري منيب وجودها واستقطبت جمهورها، وذاع صيتها فوق خشبة المسرح بين الفرق المسرحية الموجودة منذ عشرينيات القرن العشرين، حتى أنها طرقت أبواباً أخرى في مجالات التمثيل، فعملت في السينما التي شهدت تألّقها وبداية شهرتها الحقيقية ونجحت في عمل ثنائيات مع الكثير من نجوم الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، وربما الستينيات، فكانت ثنائيات كوميدية تركت بصمة مهمة في تاريخ السينما العربية، لكن المدهش أن ماري لم تحبّذ العمل في التلفزيون، على رغم معاصرتها له ما يقرب من تسع سنوات، والسبب في رأيها أن تقاليد التلفزيون المهنية تختلف كثيراً عن المسرح والسينما.

ابنة الريحاني

رغم خوضها تجارب طويلة والتحاقها بمدارس متعددة في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، فإن مدرسة الريحاني تحديداً هي التي صقلت ماري منيب ورسمت لها الشخصيات الكوميدية التي تتناسب مع إمكاناتها الفنية على يد عملاق الكوميديا نجيب الريحاني والمبدع الكاتب بديع خيري، فقدّمت أنماطاً جديدة اختيرت لها بعناية مدروسة، فأضافت إليها وقدّمتها بطريقتها الساخرة الساحرة التي انحاز إليها الجمهور، خصوصاً شخصيات: العانس، الشمطاء المتصابية، أو السيدة الشعبية ذات اللسان السليط، التي لا تنسى أن تذكّر الجميع بأنها «خبرة.. ومدوباهم اتنين»، حتى لو كانت تبدو خلال العمل أنها تخطّت الخمسين من عمرها، إلا أنها تذكّر كل من أمامها بأن المشكلة الحقيقية في الرجال أنهم «عديمو النظر» لا يقدرون جمالها، ولا مانع من أن ترتبط بشاب في الخامسة والعشرين من عمره، على اعتبار أنه «يكبرها» بأربع أو خمس سنوات، لأن عمرها لم يتخطَّ يوماً ـ في كل أدوارها ـ الحادية والعشرين ربيعاً، بل إنها كانت أحياناً تكسر القاعدة ليصل عمرها إلى 16 عاماً!

67 عاماً كان عمرها آنذاك تقريباً، بدأته بالشقاء والكفاح منذ طفولتها، فلم يقدَّر لها أن تعيش طفولتها كمن هنّ في مثل عمرها، فلم تكن قد تخطّت عامها الثالث عشر حتى اتجهت إلى التمثيل، صعدت السلّم من بدايته، اعتماداً على قدراتها الخاصة والموهبة التي حباها بها الله، فواصلت الرحلة لتصعد وتتربّع على عرش قلوب الملايين ممّن أحبوها.

نجحت ماري منيب بقوة من دون أن تعتمد على أنوثتها أو جمالها أو جمال صوتها في الأداء، بل اعتمدت على صدقها الفني وقدراتها على تجسيد كل الشخصيات، وخفّة ظلّها الطبيعية وسرعة بديهتها وحضورها الطاغي.

ومع أنها لم تتلقَّ أي قدر من التعليم أو التدريب في فنّ التمثيل، استفادت ماري منيب من كبار المخرجين الذين عملت معهم، ووظَّفت ملهاة التهريج والمكايدة من دون إسراف أو استخدام نكات لفظيّة جارحة أو حركات جسدية غير محبّبة.

وعلى رغم حرصها الشديد على احترام النص المكتوب، إلا أنها كانت تصبغ كل شخصية تجسِّدها بصبغتها الخاصة، وتضيف إليها «لزمه طريفة» سواء من خلال جملة حوارية أو حكمة أو مثل شعبي أو توظيف قطع الأكسسوارات، فلا تجد في أدوارها التي تمحورت كلّها حول «الأم والحماة» أي تشابه بينها، إذ كانت تقدّم شخصيّاتها بطريقة مبتكرة غير مكرّرة، ما حال دون تكرارها ثانيةً من أي ممثّلة أتت بعدها.

لذا لم يكن من بين جيلها أو من الأجيال السابقة أو حتى اللاحقة عليها، من لم يتمنَّ العمل معها، إذ عملت مع مختلف الأجيال، بداية من فوزي الجزائرلي، مروراً بـ «بربري مصر الوحيد» علي الكسار، ثم يوسف بك وهبي، ونجيب الريحاني، الذي توقّفت ماري عند محطّته طويلاً، وإسماعيل ياسين، عبد الفتاح القصري، حسن فايق، استيفان روستي، ميمي شكيب، زوزو شكيب، محمد الديب، محمد شوقي، إسكندر منسي، محمود لطفي، فيكتوريا، حبيقة، سراج منير، عباس فارس، سعاد حسين، عدلي كاسب، أديب الطرابلسي، ومن الأجيال التي تلت جيل الرواد: نجوى سالم، جمالات زايد، عادل خيري، فريد شوقي، هدى زكي، حسين عبدالنبي، محمد عوض، إبراهيم سعفان، سهير الباروني، نيللي، أحمد مظهر، وعادل إمام، ومن المخرجين: عزيز عيد، نجيب الريحاني، يوسف وهبي، بديع خيري، سراج منير، عدلي كاسب، عبدالعزيز أحمد، عادل خيري، نبيل خيري، حافظ أمين، عبدالمنعم مدبولي، وغيرهم.

إنها ماري حبيب نصر سليم، التي أكملت بقية حياتها باسم «السيدة أمينة عبد السلام»، في الوقت الذي احتفظت فيه باسم شهرتها«ماري منيب»احتراماً لفنّها، ولجماهيرها التي عشقتها.

بيروت أولاً

ظلّت ماري منيب طيلة حياتها تعتبر نفسها مصرية من أصول لبنانية، مصرية الروح والهوى، لبنانية الجسد، عربية الملامح، فهي تشبه بيروت في نضارتها وثلوجها البيضاء، وتشبه القاهرة بسحرها وخفة دمها، سيدة يمكن أن تختصر أجمل ما في لبنان وأجمل ما في مصر، فإذا كانت مصر قد شهدت شبابها وتألّقها ونجوميّتها، فلبنان كان بلد المولد والطفولة المبكرة.

في ذلك الوقت المبكر من مطلع القرن العشرين، كان لبنان، كغيره من الأقطار العربية، يعاني من نير الاستعمار، إذ ظلّ حتى العام 1918 مقاطعة ضمن مقاطعات الإمبراطورية العثمانية، إلى جانب التدخلات البريطانية والفرنسية في ما بعد، لكنه تميّز منذ القرن السادس عشر بانفتاح لافت على أوروبا، سياسي وثقافي في آن، وإن كانت للصراع «الدرزيّ المارونيّ»، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والمسمى بـ «فتنة عام 1861» نتائج خطرة على لبنان برمّته، فقد تمخّض عنه وجود نظام حكم قائم لمتصرفيّة لبنانيّة كان يعمل جاهداً على الاستقلال عن الحكومة العثمانيّة، وقد فتح الوضع الإداري الجديد لجبل لبنان نافذة واسعة على أوروبا، وهذا أمر أدى إلى تدخّل تلك الدول بشكل واسع في شؤون لبنان وطوائفه، وقد تطوّر مفهوم التدخّل الأوروبي في لبنان إلى استغلال الامتيازات الأجنبية التي تحوّلت في ما بعد إلى نوع من الحماية الأجنبية. كذلك، أحدثت الفتن المتعاقبة بين الطوائف في جبل لبنان شرخاً في العلاقة الحسنة التي ظلّت تسود مجتمع الطوائف اللبنانية.

من خلال تلك الأوضاع المتزامنة مع ضعف الدولة العثمانيّة، برزت فكرة القومية العربية، والحركة الوطنية العربية المناهضة للحكم العثماني في بلاد الشام، وقد تجلّى هذا المفهوم الفكري الرامي إلى إحياء العروبة عبر حركة إحياء اللغة العربية، والأدب العربي، والتاريخ العربي والتراث العربي برمته. وقد تعمّق هذا الفكر العربي وتوسّع في بلاد الشام في أعقاب بروز القومية الطورانية التركية التي حمل لواءها أتباع جمعية «الاتحاد والترقي»، فكان نموّه ردّة فعل على الاتجاه التركي المتعصّب الذي ركّز على تعزيز سياسة «التتريك» والإضرار بالعرب، وقد نشط هذا الفكر في بلاد الشام من خلال كتابات اليازجي والبستاني، وهما في طليعة رواد الفكرة العربية، التي استطاعت أن تحفظ للبنان هويّته العربية.

في ذلك الوقت، لم يكن الأهالي في لبنان بمعزل عن تلك الأحداث، خصوصاً أن التعليم كان قد انتشر مبكراً، وحدث معه تفتّح في الوعي لدى الشعب العربي في بلاد الشام، بسبب التعرّف إلى التيارات الغربية، فقد قامت في القرن السابع عشر علاقات بين الأمير فخر الدين ودوقات توسكانيا، ثم أقام الأمير بشير الشهابي في القرن التاسع عشر علاقات مع فرنسا، هذه الروابط التي كانت العائلات الحاكمة المحلّية تقيمها مع أوروبا أثارت بالطبع استياء السلطة العثمانية المسيطرة آنذاك على الشرق بكامله. وفي موازاة ذلك، تطوّرت العلاقات مع إيطاليا وفرنسا على الصعيد الثقافي، وإن كان لبنان استفاد من هذه العلاقات، لا سيما في تطوير الطباعة والاطلاع على الأفكار القومية والديمقراطية الأوروبية وتطوير التعليم وتحديثه، فقد ساهم الكثير من اللبنانيين في المقابل منذ القرن السادس عشر في نشر الثقافة واللغة العربيّتين في أوروبا.

أدت حركة التبادل هذه والاتصال بين لبنان والغرب، طوال القرن التاسع عشر، إلى قلب البنى الاقتصادية التقليدية في البلاد، فإن كان لبنان قد عُرف في العصور القديمة بالحضارة الفينيقية المتألّقة التي تفوّقت في مجالي الملاحة والتجارة، إلا أن الحملات الصليبية، ثم غزو المغول أجهزا تماماً على مدن بيبلوس وصيدا وصيدون وطرابلس، أما بيروت فقد اشتهرت في عهد الإمبراطورية البيزنطية بمدرسة الحقوق، لحرص الغالبية من أبنائها على دراسة الحقوق، بل على التعلّم في الاختصاصات كافة، فأتى في المرتبة الثانية بعد الحقوق الاقتصاد والتجارة.

طريق المال

من بين هؤلاء الذين حرصوا على دراسة الاقتصاد والتجارة، سليم حبيب نصر الله، الذي عشق الاقتصاد والأرقام عن والده حبيب نصر الله، الذي كانت له تجارة كبيرة في بيروت، ومع ذلك كان حريصاً على أن يعلّم ابنه تعليماً عالياً.

وما إن أنهى سليم حبيب دراسته حتى وجد طريق العمل مفتوحاً أمامه ومرحباً به، لما يحمله من شهادة عالية لم تتوافر لكثيرين من أهل بيروت في ذلك الوقت المبكر من نهاية القرن التاسع عشر.

عمل سليم في أحد أكبر مصارف بيروت، ولم يستغرق وقتاً طويلاً حتى يثبت براعة فائقة في عمله، الأمر الذي انعكس عليه مادياً بشكل إيجابي وسريع، فخلال سنوات قليلة أضحى أحد أنشط الصيارفة في بيروت وأشهرهم، وأصبح له دخل كبير ومميّز، غير أن هذا الدخل لم يكن حافزه الأول الاستقرار الأسري، بل الدخول في «لعبة المال»، أي محاولة جني الأموال بسرعة ويسر، سواء عن طريق «البورصة» وهو عمل مشروع إلا أنه غير ثابت الربح، فكانت نصائح الأصدقاء بأبواب أخرى تجلب المال له سريعاً، إما عن طريق المراهنات على الخيل، أو لعب «القمار»، وإن كان الأخير هو من تمكّن من سليم وأصبح مداوماً عليه كل ليلة، حتى ضجّت به الأسرة، وكانت النصائح للأم من الأهل والجيران:

= سليم بدو شي ينسّيه اللعب والسهر.

- ما في كلام… أفضل شي يتزوج.

_ هذا يوم المنى ياخانو… من بكير بزوجه إذا بيريد.

= وحتى إذا ما بيريد… بدك تخلّيه يريد.

= ما في صبية في بر الشام كله ما بتتمنى الزواج من سليم.

- ما في أجمل ولا أشطر من قاسمة.

_ قاسمة من؟

- قاسمة مسك… وهي مثل المسك… جمال ودلال وبيت وأصل وعيلة.

على رغم الأجواء السياسية المضطربة التي كان يعيشها لبنان آنذاك، إلا أنها لم تمنع أهله من الاستمتاع بالحياة، واقتناص السعادة كلما أمكنهم، فلم يمضِ سوى أشهر قليلة حتى كان سليم قد تزوّج من قاسمة مسك، سيدة ممن تتّضح فيهم ـ كما يقال ـ «ملامح الشوام»، شديدة البياض ممتلئة القوام، «ست بيت» ماهرة، ليس في كل شؤون المنزل من أعمال طبخ وغسيل وخلافه فحسب، بل أيضاً في الكثير من الحرف النسائية اليدوية مثل أعمال التطريز والحياكة، وشغل «الأركيت»، فهي من عائلة بسيطة هاجر كثر منها خارج لبنان سعياً وراء الرزق، بعضهم اتّجه إلى مصر، وآخرون إلى سورية، والبعض الآخر إلى أوروبا.

البشارة الأولى

استطاعت قاسمة أن تحوِّل بيت سليم إلى جنة حقيقية، بيت يملؤه الحب والحنان، تجتهد لتوفّر له كل سبل الراحة، وعلى رغم ذلك كلّه، لم تفلح محاولات قاسمة واجتهاداتها في ثني سليم عن تلك الآفة التي ابتلى بها، وهي «القمار».

ظنّت قاسمة أنها لو أخبرت سليم بالمفاجأة التي تحملها في أحشائها، فستكون سبباً قوياً في ثنيه عن الطريق الذي يسير فيه:

= سليم… بدي أحكي معك.

* حبيبتي قاسمة أنا مستعجل… إن شاء الله لما بعود في المسا بنحكي للصبح.

= حبيب إنت بتعود تعبان ومزعبر وما بدك تاكل ولا تحكي ولا تنظر حدا.

* لا حبيبتي اليوم إن شاء الله بعود طاير في السما… بس بدي تدعيلي.

ترك سليم قاسمة واستكمل طريقه في اتجاه الباب للخروج، وقبل أن يغادر أطلقت مفاجأتها التي أعادته مهرولاً إليها.

= إمو لإميل مرأت لهون أمس.

* أم إميل الـ…

= إيه هيي… وقالتلي بشّري الأستاذ سليم إنه قريباً بيصير أب.

كاد سليم أن يطير فرحاً، غير أنه استثمر هذه البشارة لصالح مهمّته التي يتعجّل الذهاب إليها وهي لعب الورق.

* هذه أجمل بشارة… بشرة خير يا ستي… أنا هلأ متأكّد إنو اليوم يوم سعد إلي… من شان هيك ربح اليوم كلّه إليك… بجبلِك هدية عظيمة بكرا يا أم بشارة.

= بشارة… شو بشارة هيدا.

* بشارة هيدا ولي العهد… شو رأيك بنسميه بشارة… اسم منيح وكلّه أمل وبشرى.

= ابنك وكيف ما بدّك بتسميه.

راحت أسرة سليم تنتظر أول حفيد لها، الجميع يلتفّون حول قاسمة، يرون أن أحشاءها تحمل من سيبعث اسم عائلة «حبيب نصر الله» من جديد، ويكتب لها البقاء، فقد بات الأمل كبيراً في سليم وزوجته، لذا راح الكلّ يتمنّون في أنفسهم بقدوم ولي العهد «بشارة».

لم تدم الأمنيات طويلاً، وسرعان ما كشفت الأيام عما تخفيه أحشاء قاسمة، التي استقبلت وزوجها سليم مولودهما الأول الذي لم يكن «بشارة» كما كان يتمنى الجميع بل فتاة أطلقت عليها أمها إسم «أليس».

لم يكن استقبال سليم لطفلته الأولى «أليس» لائقاً بها، ربما فرح لأنه أصبح للمرة الأولى أباً، غير أن وجودها لم يكن دافعاً له لأن يستقر في بيته ويلتهي عن عادة لعب القمار، الذي كان يستدعي منه السهر كل ليلة إلى ساعات متأخرة من الليل. وعلى رغم ذلك، لم يتقاعس سليم عن عمله الذي كان يحبّه ويخلص له بشكل كبير، ما كان سبباً لترقّيه بسرعة في درجاته الوظيفية، إلا أن هذا الإخلاص في العمل واللعب، كان على حساب صحّته التي أهملها بشكل كبير.

في الوقت الذي لم يكن وجود أليس سبباً في تغيير حياة سليم، أصبحت هذه الطفلة كلّ حياة أمها قاسمة، فملأت عليها الدنيا ووقت فراغها، ولم تعد تلحّ على سليم بالبقاء في البيت، إلا أنها لم تمتنع عن عادة انتظاره حتى ساعات متأخرة من الليل، وفي أحيان كثيرة ساعات مبكرة من الصباح.

كعادة أهل ذلك الزمان، كانت النساء يجتمعن في يوم محدّد في بيت إحداهن، في وقت يغيب فيه الأزواج، يجلسن في شكل صالون، يتبادلن الحكاوي والسمر، بل ويتناقشن في مشاكل بعضهنّ البعض.

وفي أحد تلك الصالونات كان اقتراح المجلس النسائي أن الحلّ الوحيد لإعادة سليم إلى بيته أن يكون له ولد، فإذا كان الله قد رزقه في المرة الأولى بابنة جميلة، فربما سيكون المولود الثاني ذكراً  يعيده إلى رشده ويبعده عن تلك الآفة اللعينة.

لم يمر وقت طويل حتى شعرت قاسمة بأن مولوداً جديداً يتحرّك في أحشائها، غير أنها هذه المرة لم تسمح لنفسها بالفرح الزائد عن الحد، لأن المولود الثاني قد يكون إما سبباً في عودة سليم إليها والى أسرته أو سبباً في زيادة الهوة بينهما.

البقية الحلقة المقبلة

الجريدة الكويتية في

15/08/2011

 

مملكة الضحك (2):

ماري منيب… قدر الأب الضائع يصنع مستقبلها اللامع

كتب: القاهرة - ماهر زهدي  

لم يكن مثل هذا الشتاء قد مر على لبنان منذ سنوات، هكذا وصف أهل بيروت شتاء عام 1902، مع ذلك لم تمنع قسوة هذه الأجواء سليم حبيب من الخروج والسهر، كعادته كل ليلة، للعب الورق، ولم يكن يدري أن الأقدار رتبت له موعداً لوصول مولوده الثاني، وكلما برقت السماء ورعدت، زادت مخاوف قاسمة على زوجها وزادت آلام المخاض لديها، بينما وقفت أم جدعون الخادمة والمربية، حائرة لا تعرف ماذا تفعل، لا بدّ من إحضار القابلة أم إميل وسليم ليس في المنزل والجو يزداد سوءاً والأمطار والرعد والبرق تشكّل حاجزاً أمام أي محاولة للخروج.

لم يعرف سليم سرّ الحظ الذي نزل عليه فجأة تلك الليلة فقد ربح، خلال دقائق أمضاها في اللعب، أضعاف ما كان يربحه في ساعات وعلى مدار ليال عدة:

= ماشاء الله سليم… الجو تلج وبيشتي وإنت حظك اليوم نار.

* بلا حظ… بلا بطيخ… هادي شطارة ومفهوميّة.

= اليوم صارت شطارة ومفهومية ولما بتخسر بيصير الحظ ملعون.

- إذا بتريد سليم سلفني شي ألفين تلاتة لبكرا… بدي عوّض الخسارة.

يضحك سليم وهو يلملم أمواله ويستعدّ للانصراف:

* متل ما بيقولوا إخوانا المصاروة… «السلف تلف».. بيكفي عاد اليوم… الجو صعب كتير… يلا يلا فوتنا العافية معكم.

البشارة الثانية

لم يكد سليم يضع قدميه داخل منزله حتى كان صراخ قاسمة يشقّ الظلام ليخترق قلبه وليس مسامعه، استقبلته أم جدعون عند باب المنزل وجسدها ينتفض من الخوف على حالة السيدة قاسمة، فهذه ساعتها، لم تكن العربة التي أوصلت سليم قد انصرفت بعد، وبينما كان السائق يدير وجهة الخيول ليعود أدراجه، لم يدرِ سليم كيف قفز ثانية إلى داخل العربة منطلقاً بها ليحضر القابلة أم إميل.

على رغم أن المولود الثاني لسليم جاء أنثى أيضاً، عكس ما كان يتمنى مثل المرة الأولى فإنه فرح بقدومها وشعر بأنها «وش السعد» عليه، وكان مقياسه في ذلك الأرباح التي حقّقها في 11 فبراير 1902 ليلة مولدها، لذا سماها هذه المرّة بنفسه، ليس لأنها «وش السعد» فحسب بل لأنها تشبه والدته إلى حدّ كبير، فأطلق عليها اسمها: ماري سليم حبيب نصر الله.

مثلما كانت سعادة سليم بمولودته الثانية ماري، كانت سعادة شقيقتها أليس بها، وربما أكثر، إذ لم تعد بمفردها فقد تخطت أليس عامها الثاني وأصبحت تمشي، بل وتركض وتلعب وتملأ البيت مرحاً، تعشق والدها وتتعلق به وتبكي عند مغادرته المنزل، فيما هو متعلّق بها بسبب بشرى اللقاء الأول والأرباح التي حقّقها ليلة مولدها.

بالقدر نفسه من السعادة وربما أكثر كانت سعادة قاسمة لأن ماري أعادت والدها سليم إلى البيت الذي غمرته السعادة بوجوده فيه، وأصبح لا يغادر المنزل إلا للزيارات العائلية فحسب، ويمضي غالبية وقته بين أليس وماري، وبينهما قاسمة، ولم تكد ماري تكمل عامها الأول حتى زاد يقين سليم بأنها «وش السعد» عليه:

* وين ماري؟

= ماري وأليس بغرفتهن… فيه شي لا سمح الله؟

* إيه فيه… فيه أشياء كتيرة.

= خير… وجعت قلبي.

* ياستي خير إن شاء الله… وقلبك ما بينوجع طول ما أنا موجود…

= إحكي سليم شو فيه؟

* الله بعتلي البنت مارى وبعت معها الرزق.

= ماري وحدها… وأليس وأمّها ما إلهن مكان؟

* ياستي كلكن ع راسي… بس البنت ماري رزقها واسع.

= شو اللي صار؟

* تلقيت ترقية كبيرة… ومن اليوم وطالع إنت صرتي حرم سليم بك مدير البنك.

بداية الضياع

مرّ عامان كان فيهما سليم مثال الزوج المحبّ لأسرته ولابنتيه، حوّلت خلالهما قاسمة البيت قطعة من الجنة، غير أن هذه النقلة الاجتماعية الجديدة لسليم لم تكن دافعاً للاستمرار في حياة الاستقامة والاستقرار، فسرعان ما عاد إلى اللهو واللعب والسهر حتى ساعات متأخرة من الليل، بعدما أعاده الأصدقاء إلى لعب القمار مجدداً، وكما هي العادة، بدأ بالربح الذي أغراه بالاستمرار، لتكتشف قاسمة أنه عاد إلى تلك الآفة التي كانت تشاركه فيها.

كانت قاسمة تنتهز فرصة غياب سليم عن المنزل وتنجز أموراً منزلية كثيرة تفاجئه بها يومياً، من تطريز وشغل الإبرة والأركيت، غير أن سليم لم يكن يقابل ذلك بامتنان بقدر ما كان يهمّه ألا تنزل زوجته إلى مستوى اجتماعي أقلّ مما يريدها فيه، لا سيما أنه يمكنه أن يشتري لها ما تريده وبأي ثمن. وكانت قاسمة ترى في ذلك ما يشغلها ويعوّضها عن غيابه، وبعدما كانت تنتظر بمفردها على شرفة المنزل إلى حين عودته، أصبح معها شريك في الانتظار، ماري التي لم تكن تخلد إلى النوم قبل أن ترى والدها وتقبّله، وكانت قاسمة تتركها ساهرة إلى هذا الوقت المتأخر من الليل، لربما يرقّ قلب سليم على سهر هذه الطفلة التي لم يصل عمرها إلى الثلاث سنوات ويعود مبكراً من أجلها، غير أنه لم يعبأ بذلك، أو ربما لم يلتفت إلى تلك الحيلة.

مثلما كان الربح دافعاً لاستمرار سليم في اللعب، كانت الخسارة دافعاً أقوى للاستمرار لتعويض ما يخسره، حتى كان اليوم الفصل في حياته، استمرّ في الخسارة حتى أنه لم يجد سوى بيته ليكتب به ورقة «رهن» مقابل اللعب، وكانت المفاجأة أنه خسره أيضاً، وأصبح المنزل الذي تعيش فيه طفلتاه وزوجته قيد الرهن. لم يتحمّل قلب سليم الصدمة وسقط على طاولة القمار، فحمله الأصدقاء إلى بيته يصارع الموت، وشخّص الأطباء حالته بأنه تعرّض لصدمة عصبية عنيفة أثرت على قلبه الذي لم يعد يتحمّل صدمة ثانية، وإلا لن تكون هناك ثالثة.

لم يكن حزن سليم على ما خسره من أموال، بل كان قلبه يعتصر كلما شاهد طفلتيه أمامه:

* ترى ماذا سيكون مصير هاتين الطفلتين إذا قدم حسون ورقة الرهنية للمحكمة؟ سيتم طردنا جميعاً إلى الشارع… سننفضح في المنطقة… ولن أستطيع العيش فيها بعد اليوم… وهيك ما بسترجي أطلب مساعدة العيلة… يا ويلك يا سليم… دبرها من عندك يا الله.

جاء الإنقاذ عن طريق أصدقاء اقترحوا على سليم السفر معهم إلى مصر، فهم يضاربون في البورصة ويحققون أرباحاً طائلة هناك، وفي أقلّ من شهر يستطيع استعادة أمواله وربما أكثر.

رحلة إلى مصر

دارت الفكرة في رأس سليم ولم يضيّع وقته، تقدّم فوراً بإجازة من البنك لمدة 15 يوماً وأقنع قاسمة بأن لديه مهمة عمل في القاهرة سيغيب خلالها أسبوعين ويعود سريعاً، وسينتهز الفرصة ويعرض نفسه على الأطباء هناك، وعلى رغم عدم رضا قاسمة عن سفره، إلا أنها رضخت للأمر الواقع ووافقت شرط ألا يطول بقاؤه يوماً واحداً بعد انقضاء مهمته.

ودّع سليم زوجته وطفلتيه بحرارة وبكاء، كأنه اللقاء الأخير بينهم، وأمسك سليم ماري بين يديه ونظر في عينيها قائلاً:

* شو بدك البابا يجبلك معو من مصر؟

- ما بدي شي… بدي روح معك.

* ما بتأخّر… بتنامي وبتصحي بتلاقيني معك… بنلعب ونجري وبجبلك أشيا كتير كتير حلوة… بس البابا إلو عندك طلب… بدي تدعيلي إنو الله يرزقني ويوفّقني، ويكون وجهك الصبوح هيدا حلو عليّ في مصر، مثل ما كان في بيروت.

هزت الطفلة رأسها بالإيجاب والدموع تسيل من عينيها ولم تنطق.

ترك سليم زوجته وطفلتيه وليس معهن من المال سوى ما يكفي بالكاد انقضاء هذا الشهر، وعلى ظهر أول باخرة متّجهة إلى الإسكندرية كان يمنّي نفسه باستعادة وضعه المالي في مصر.

وقف سليم أمام البحر ونظر إلى السماء، وراح يقسم بينه وبين نفسه أنه إذا استعاد توازنه المالي فلن يعود إلى اللعب ثانيةً.

وجد سليم الإسكندرية تشبه بيروت إلى حدّ بعيد، لم يشعر فيها بالغربة ويمكنه العثور بسهولة على من يتأقلم معه، فقد استطاع برفقته أصدقاء أتوا معه من بيروت، معرفة الطريق إلى صالات لعب «القمار»، ولأن سليم محترف قديم لم تكن لديه مشكلة بل راحت الدنيا تبتسم له قليلاً وبدأ يحقّق أرباحاً أنسته الخسائر التي مني بها في بيروت، لدرجة أنه نسي النزول إلى القاهرة، بل وانتهت الخمسة عشر يوماً، المدة التي كان قد وعد زوجته بأنه سيمضيها في مصر، وزاد عليها وهو في الإسكندرية.

انتعشت حالة سليم المادية إلى حدّ ما، فكان أول ما فعله أن أرسل إلى زوجته مبلغاً يعينها وطفلتيه على العيش مرفقاً بخطاب يعتذر فيه عن العودة إلى بيروت لأن عمله لم ينته في مصر، ثم غادر إلى القاهرة ليبدأ رحلة البناء من جديد، وكان أول بيت يطرقه سليم في القاهرة هو بيت نبيه بك خال قاسمة، الذي كان يسكن في منطقة في شرق القاهرة حديثة العهد والبناء يطلق عليها «صحراء مصر الجديدة» على أطراف المدينة، وكان أحد رجال المال والتجار الذين يعملون في تجارة القطن والمضاربين بالبورصة، فحرص سليم على أن تكون علاقته به استشارية ليرسم له خارطة طريق حول التجارة والمضاربة في بورصة القاهرة، ورفض أن يقيم في بيته، وفضل النزول في أحد الفنادق في حي العباسية، القريب من مصر الجديدة.

ماري في القاهرة

خلال أسابيع استقلّ سليم بنفسه بعيداً عن نبيه بك، كي لا يثقل عليه من ناحية، وكي لا يكون قناة تنقل أخباره إلى قاسمة ابنة شقيقته، التي كان سليم يرسل إليها المال خلال الستة أشهر الأولى، لا سيما أن أموره المالية أخذت في الانتعاش، وأقام شبكة صداقات واسعة، سواء من الأصدقاء اللبنانيين أو من المصريين، غير أنه كان يتجنّب لقاء نبيه بك خصوصاً أن أخباره انقطعت عن قاسمة ولم يعد يرسل إليها مبالغ اعتاد إرسالها إليها شهرياً بعدما عاد إلى لعب القمار الذي لم يصمد كثيراً أمام إغراءاته، وسرعان ما جرفه التيار ونسي قاسمة، بل ونسي أليس وماري، وإن كان لم يغب عن ذهنهنّ لحظة واحدة، خصوصاً ماري التي كانت دائمة السؤال عن «البابا»، وتأتي الإجابة المعتادة على لسان قاسمة:

* ماري… إنت بتعرفي أنو البابا بيحبك كتير… بس يخلص شغله في مصر بييجي وبيجبلك إشيا حلوة كتير إنت وأليس.

= أنا ما بحب مصر هادى… أخدت البابا وما بيعود.

* لا حبيبتي… أكيد بيعود… بس إنت الحين أدخلي غرفتك مع أختك وبكير بيعود إن شاء الله.

كانت قاسمة تبحث كل مرة عن حيلة جديدة تهرب بها من مواجهة أليس وماري عند سؤالهما الدائم عن والدهما، غير أنها لم تستطع إخفاء مشاعرها الحقيقية عن والدتها السيدة منيرة، التي كانت تزورها بشكل شبه يومي، ليس للاطمئنان عليهن باعتبارهن بلا رجل فحسب، بل الأهم هو توفير نفقات العيش لهن بعدما انقطعت عنهن أموال سليم:

* بعرف أمي إني أثقلت عليكِ في المصاري إنت وأبي لكن…

- لا تكملي بنتي… شو هالحكي… شو مصاري وما مصاري… القصة قصة سليم… وين راح… حتى أخي نبيه بك بيحكي في مكتوبه الأخير إنه ما عاد بيعرف وين أراضيه ولا وين راح… حيّ ولا…

* أمي الله يخليك ما تكملي…

- لا بنتي بعيد الشر عنه… لكن في نيسان بيصير له عامين…

* إيه عامين… قال أسبوعين وصار له عامين.

- وحتى لو عاد اليوم وين بيشتغل بعد ما المصرف استغنى عنه؟

* بيشتغل وين ما بده بس يعود أمي… يعود… ما بقدر أتحمل أكتر من هيك.

لم تكن أخبار بيروت وما يحدث فيها غائبة عن سليم، في وقت ضاقت به الأحوال من جديد، ولم يعد معه من المال سوى خمسة آلاف جنيه، ربما هو مبلغ ضخم لدى آخرين، غير أن ما خسره سليم أضعاف هذا المبلغ، فقرر أن يودعه في «البتراخانة» ـ كنيسة بطريرك الكاثوليك ـ إلى حين عودته من بيروت، إذ قرر السفر إليها لإحضار زوجته وابنتيه للعيش معه في القاهرة، واتجه من فوره إلى نبيه بك وأطلعه على قراره بالبقاء في مصر والمبلغ الذي أودعه في الكاتدرائية، ونيته السفر إلى بيروت لإحضار قاسمة والطفلتين، فلم يكن أمام الأخير إلا أن بارك قراره، وكان في وداعه في رحلته من القاهرة إلى الإسكندرية التي ظل فيها ثلاثة أيام قبل وصول المركب الذي سيقلّه إلى بيروت.

انتظرت قاسمة أن يحلّ شهر حزيران لتستطيع ركوب البحر، قد لا تتحمل الطفلتان برودة هوائه، والسفر إلى مصر بحثاً عن زوجها بعدما أقنعها الأهل والمقربون بأنه لا بديل عن ذلك، ويستطيع نبيه بك العثور على سليم خلال أيام، ومع أن سعادة قاسمة وأليس بهذا القرار كانت كبيرة إلا أن الأسعد حالاً به كانت ماري:

* الحين أمي أنا بحب مصر كتير… من شان بنروح ونشوف البابا فيها… البابا وحشني كتير كتير.

ربما خرجت قاسمة ومعها أليس وماري من باب ميناء الإسكندرية ودخل سليم من باب آخر، فقد غادر إلى بيروت على المركب نفسه الذي أقلّ زوجته وطفلتيه إلى الإسكندرية.

رحيل سليم

عانت قاسمة كثيراً في السفر من الإسكندرية إلى القاهرة، ومن القاهرة حتى العثور على بيت خالها في ضاحية مصر الجديدة، غير أن أليس التي كانت بلغت عامها الثامن وماري التي بدأت عامها السادس، لم تعبئا بمشقة السفر في سبيل رؤية والدهما.

فوجئ نبيه بك بقاسمة وطفلتيها يقفن أمام باب شقته، وبقدر ارتباكه في بداية الأمر، إلا أنه سعد بهن واستقبلهن استقبالا حاراً، إلا أنه لم يعرف كيف جئن وهل جئن بمفردهن أم أنهن التقين سليم في الإسكندرية؟ أسئلة عدة دارت في رأسه غير أنه قرّر أن يسألها بحذر لعلّ في الأمر شيئاً يجهله:

= ع السلامة ع السلامة… وين سليم راح… ليش ما إجا معكن؟

* خالو… أنا اللي جاية أسألك وين سليم… وكيف هو؟

= سليم… آه آه سليم موجود… أنا بذاتي وشخصي بجيبهولك لهون… بس ارتاحوا وبيدبرها الله.

= خالو… إذا كان فيه شي لا سمح الله أنا قوية بقدر أتحمل…

* لاسمح الله يا خالو… مافي شي… بس ارتاحوا من السفر وبإذن الله من بكير بقلب المحروسة عاليها واطيها وبجيبلك سليم لهون.

نظرت ماري إلى أمها وهي في دهشة من كلام خال قاسمة:

- أمي… ما إنك قلتي إنو البابا بمصر… ليش خالو بيقول إنه راح المحروسة هادى؟

(ضاحكاً)

* له… له يا خالو… المحروسة هادي هي مصر… وهون بيقولوا عليها المحروسة منشان محروسة من الله… والحين أعطي بوسة كبيرة لخالو يا أليس.

- أنا اسمي ماري سليم حبيب… وما بعطيك البوسة إلا لما بتجيب البابا.

لم يشأ نبيه أن يخبر قاسمة بسفر سليم، كي لا تقرر العودة إلى بيروت، وارتأى أن يخبرها بعد أيام على أمل أن يسرع سليم في العودة إلى مصر بمجرد علمه بسفره زوجته وطفلتيه إليها.

شعر سليم بانكسار كبير عند وصوله إلى بيروت، فضلاً عن أن قلبه لم يتحمّل مشقة السفر، وزاد وجع قلبه ما أن علم بسفر زوجته وطفلتيه بحثاً عنه في مصر، واكتمل الوجع عندما التقى الأهل والأصدقاء وراح يسمع منهم ما حدث لزوجته وطفلتيه خلال غيابه عنهن، لم يرد أن يظهر أمام الجميع بمظهر المنكسر، فتظاهر بالنصر في مصر وأنه كوّن ثروة وجاء ليعود بهن.

كتم سليم ألمه في صدره، غير أن قلبه لم يتحمّل كل هذه الآلام، فتوقف ليرحل سليم في وقت تنتظر فيه قاسمة وأليس وماري في بيت نبيه بك العثور عليه… قبل أن يصل تلغراف إلى بيت نبيه بك:

«نبيه بك… البقية في حياتكم انتقل سليم حبيب نصر إلى الأمجاد السماوية».

البقية في الحلقة المقبلة

الجريدة الكويتية في

16/08/2011

 

مملكة الضحك (3):

ماري منيب… بنت شبرا تدخل عالم المشخصاتية مصادفة

كتب: القاهرة - ماهر زهدي  

عاشت قاسمة وابنتاها أليس وماري، أياماً سعيدة في بيت خالها نبيه بك، عوضن فيها عن الحرمان الذي قاسينه خلال العامين اللذين انقطع فيهما زوجها عنهن، ووفر لهن نبيه بك سبل الراحة واصطحبهن في رحلات يومية لزيارة معالم القاهرة، في محاولة منه للتخفيف من غياب الأب الذي بات مؤكداً أنه سيمتد إلى الأبد.

كان الخال يبتسم ويضحك معهنّ وقلبه يعتصر من الألم، لا يعرف كيف يخبر ابنة شقيقته بوفاة زوجها، ومع كل يوم يمرّ يحاول أن يجد إجابات جديدة لأسئلة قاسمة وأليس، والأهم أن يجد إجابات مقنعة عن أسئلة ماري كل ليلة والتي لا تنتهي… حتى تنام:

* وين البابا… ليش ما إجا… ما أخبرته أن ماري ناطراه هون؟ إذا ما بده يجي أنا بروح لعندو.

مرّ ما يقرب من الشهر ولم يعثر نبيه بك على إجابات مقنعة لأسئلة قاسمة وطفلتيها، حتى ضاقت السيدة فادية، زوجة نبيه بك، بهذا الوضع، وطلبت منه أن يخبر قاسمة بوفاة زوجها لكي تنتهي تلك التمثيلية التي لم تعد تحتملها.

أرسل نبيه بك أليس وماري للعب مع فتيات في مثل عمرهما في حديقة فيللا مجاورة ليخبر قاسمة بوفاة زوجها.

لم تصدق قاسمة الخبر، كذّبت خالها، انهارت قواها، لم تحتمل الصدمة، سقطت مغشياً عليها. لم يجد نبيه بك مخرجاً من هذا المأزق أمام أليس وماري سوى أن يخبرهما بأن والدتهما مريضة ونصحها الطبيب بألا تغادر الفراش قبل أسبوع، ليكون لديها وقت لتقبّل الصدمة والتعايش معها والتفكير في المستقبل، وفي الوقت نفسه كان ذلك كافياً لانشغال أليس وماري مع صديقاتهما والكفّ عن السؤال عن والديهما.

لم يعد وجه قاسمة يعرف الابتسام أو الفرح، بعدما ظنت أن الدنيا ستبتسم لها أخيراً بمجيئها إلى مصر ليلتئم شمل الأسرة مجدداً مع سليم، غير أن الأقدار كان لها رأي آخر، وزاد من حزنها تجاهل فادية هانم، التي كانت تنتمي إلى طبقة أثرياء لبنان وتعشق الحفلات والسهرات ولا ترى سوى نفسها، فقد انتهى الترحاب بقاسمة وطفلتيها وباتت تشعر أنها أصبحت عبئاً على خالها وزوجته، تحديداً زوجته التي لم تعد تهتمّ بها وبابنتيها، وما إذا أكلن أو شربن، وهل ثمة ما يضايقهنّ؟ هذا كلّه غير مهم، الأهم عندها نفسها وضيوفها من الأصدقاء والمقرّبين وحفلاتها التي لم تكن تنقطع حتى بعد إعلان خبر وفاة سليم.

اللجوء إلى شبرا

كان لا بد من أن تجلس قاسمة مع خالها لتدبّر أمرها، لتجد إجابات عن أسئلة عدة تلحّ عليها في داخلها: ماذا بعد موت سليم؟ ماذا ستفعل في مستقبلها ومستقبل الطفلتين، هل ستبقى في مصر؟ وإذا بقيت ماذا ستفعل وكيف ستعيش ومن أين سيكون مصدر دخل الأسرة؟ هل تعود إلى لبنان؟ لكن ماذا ستقول للأهل هناك؟ وهل ستستمر أسرتها في الإنفاق عليها وعلى طفلتيها، وبدلاً من أن ترد دين أسرتها وما أنفقته عليهنّ خلال العامين الأخيرين، يستمرّ إنفاقها عليهنّ إلى الأبد؟

غير أن السؤال الأهم: أين ذهبت أموال سليم؟ وهل ترك أموالاً بالفعل أم فقد كل ما كان يملك؟ فهي تعرف أنه لم يترك شيئاً في بيروت، كما أنه لم يرسل لهن أموالاً منذ ما يقرب من العامين، فمن المؤكد أن لديه بعض المال، لكن هل تركه هنا أم أخذه معه في رحلته الأخيرة إلى بيروت؟

أسئلة كثيرة دارت في رأس قاسمة، غير أن خالها أجابها عن السؤال الأخير قبل أن تسأله وهو الأهم:

* قاسمة… فيه شي بدي أحكي معك فيه بخصوص …

= إيه خالو بعرف… يومين تلاتة وبدبر حالي أنا والولاد و…

صرخ فيها:

* ما بتحكي ولا كلمة زيادة في هالحكي… اللي بدي أقولك إياه… إن سليم الله يرحمه ويقدس روحه ترك شي مبلغ هيك في…

قبل لحظات شعرت قاسمة كمن يغرق في بحر بلا نهاية، وفجأة ألقى أحدهم إليها طوق نجاة… فلم تنتظر أن يكمل خالها كلامه وبادرته:

= أديش ترك… وتركهم وين… إحكي خالو؟

* شوي شوي خالو… بحكي… ياستي سليم أخبرني قبل ما يسافر ع بيروت أنه أودع في البتراخانة شي خمسميت جنيه تقريباً.

= بس… أقصد وين ها البتراخانة؟

* إيه بس هو خبرني هيك… والبتراخانة هون قريب منا… بالعباسية.

= منيح منيح كتير… الحمد لك يا الله.

* بكير بنروح أنا وياكي للبتراخانة ونشوف كيف بدنا نسحب المبلغ من شان تدبروا حالكن قبل السفر.

صمتت قاسمة.. ونظر إليها خالها محاولاً اكتشاف ما تفكّر فيه… غير أن صمتها لم يطل، لأنها كانت فكرت ودبرت واتخذت القرار وفاجأته:

= خالو أنا ما بدي سافر ع بيروت… بدي أنطر هون أنا والولاد… والله بيدبرها من عنده.

* كيف يا خالو… بتتركي بلدك وبتعيشوا هون بمصر؟

= ما بقي لنا حدا ببيروت.

* لا… لا يا خالو… لك الأهل والعيلة والحبايب.

= سامحني يا خالو… ما بقدر أعيش لحظة واحدة ببيروت من غير سليم.

* معك الحق والعذر يا بنتي…

كانت فادية تجلس على مقربة من سليم وقاسمة وتسمع الحوار الدائر بينهما ولم تتدخّل، بل بدا عليها أنها مشغولة بقراءة إحدى المجلات، لكن ما أن سمعت تعليق نبيه الأخير على قرار قاسمة حتى بادرته بنظرة فهم نبيه معناها، فاستدرك كلامه:

* لكن كيف بدكن تعيشوا هنا… أقصد أن مصر غير بيروت، مصر واسعة وما شاء الله كبيرة كتير… بيتوه فيها أهلها، ولا تواخذيني حبيبتي إنت ع العين والراس… لكن…

= بعرف خالو من غير ما تحكي… وكتر خير الله أن سليم ترك مصاري… مندبر بها حالنا والله ما بينسانا.

اتفقت قاسمة مع البتراخانة ألا تسترد المبلغ الذي تركه سليم كاملاً، بل على أقساط شهرية، باعتباره وديعة لديهم يمكن أن تحقق ريعاً شهرياً بنظام المصارف، ومنه تُصرف ستة جنيهات شهرياً لها، وبهذا المبلغ البسيط يمكن أن يدبرن حالهن، حتى تكشف الأيام ما تخبئه لهن من جديد، وكان القسط الأول في يدها قبل أن تغادر البتراخانة.

عزمت قاسمة على ألا تعود إلى بيت خالها، بعد اليوم، وأن تستقلّ بنفسها وحياتها وطفلتيها بعيداً عنه، أو بالأحرى بعيداً عن زوجته فادية هانم وعالمها وحفلاتها وسهراتها، وأصرت على أن تستأجر سكناً خاصاً بها، غير أن خالها أكد لها أن استئجار شقة في منطقة مصر الجديدة لن يقلّ عن جنيهين شهرياً، ما يعني أن ثلث ما ستتقاضاه من البتراخانه شهرياً سيذهب إلى إيجار الشقة، غير أنها فاجأته بأنها تحبّذ أن يكون السكن بعيداً عن مصر الجديدة وعالمها الخاص الذي له ناسه وعاداته وتقاليده التي لن تقوى عليها.

الصدفة وحدها قادت نبيه بك إلى أن يلتقي أحد الأصدقاء في البتراخانة، وما أن اطلع على سبب وجوده وابنة شقيقته وعرف قصّتها وبحثها عن سكن بسيط، حتى بادره بأن لدى أحد معارفه شقة خالية للإيجار ويمكن أن يتدخل ليجعل إيجارها الشهري لا يزيد على الخمسين قرشاً. طارت قاسمة من الفرح، وأصرت على الانتقال إليها اليوم… وليس غداً.

استأجرت قاسمة الشقة الجديدة في شارع «بركات» أسفل كوبري شبرا، في أحد أهم أحياء القاهرة الشعبية وأعرقها، وكانت المساعدة الأولى وربما الأخيرة التي قدّمها لها خالها نبيه بك، أن فرش الشقة بأثاث قديم مستعمل على نفقته الخاصة، إذ أصرت قاسمة على أن تصطحب طفلتيها معها ويقضين أول ليلة لهنّ في الشقة، حتى لو كانت خالية من الأثاث.

قرّرت قاسمة قطع علاقتها بخالها إلا من السؤال وألا تلجأ إليه مهما حدث ومهما قست عليها وعلى طفلتيها الأيام، ليس كرهاً فيه أو عدم اعتراف بفضله، ولكن كي لا تكون سبباً في مشاكل بينه وبين زوجته فادية هانم.

الشبراوية

لم تمرّ سوى أيام قليلة حتى أصبحت قاسمة وأليس وماري جزءاً من حي شبرا وأهله، فهو أحد الأحياء التي لها طابع خاص ويتميّز أهله بدفء غير عادي، لا ينتظرون أن تعلن عن شكواك حتى يمدوا لك يد العون، ليس بينهم غريب، يطبقون مبدأ «من عاش بيننا… صار منا»، لذا سرعان ما اعتبر أهل شارع «بركات» قاسمة وأليس وماري مسؤوليتهم، خصوصاً أنهن يفتقرن إلى رجل يحميهنّ، فصار كل رجل في الشارع عماً أو خالاً لأليس وماري وأخاً لقاسمة، وأصبحت كل امرأة أختاً لها وبالتبعية هي خالة لأليس وماري.

مرت الأيام الأولى على قاسمة بطيئة ثقيلة، تجترّ أحزانها، خصوصاً مع تجدد سؤال أليس وماري عن والدهما، لا سيما ماري التي كانت متعلّقة به على رغم أنها لم تعش معه إلا أن إحساسها به كان قوياً، ولم تجد أمّهما أمامها سوى التمهيد لهما، كالعادة في مثل هذه الظروف مع الأطفال في مثل عمرهما، بأن والدهما سافر سفراً طويلاً ربما سيتأخر فيه، لكنه لن ينساهما وسيرسل لهما رسائل من حين إلى آخر، وربما أرسل مع صديق له هدايا لهما، إذا نفذا كلام والدتهما ولم يغضباها.

مع مرور الأيام، اكتشفت قاسمة أن الجنيهات الستة لا تكفي لإعانتها وطفلتيها على أعباء المعيشة، خصوصاً مع وصول أليس وماري إلى سن لا بد من أن تلتحقا فيها بالمدرسة، فكان عليها أن تبحث عن مورد آخر للرزق يدرّ عليها دخلاً حتى لو لم يكن ثابتاً، ولم يكن أمامها سوى أن تستغلّ مهاراتها القديمة التي تجيدها في فنّ شغل الإبرة وغزل الصوف والأركيت، فاشترت خيوطاً وبعض الأدوات، وراحت تغزل مفارش وملابس صوفية وتعرضها على الجيران الذين رحبوا بها واشتروها وطلبوا المزيد منها، كذلك اشترت أخشاباً وصنعت أقفاصاً للعصافير والحمام وباعتها للجيران وجيران الجيران، فكان هذا كله يدرّ عليها قروشاً إضافية إلى جانب جنيهات البتراخانة لتعينهن على العيش، فوفّرت خمسين قرشاً شهرياً بعيداً عن احتياجاتها، لتدفعها قسطا شهرياً ثابتاً لشراء ماكينة حياكة بناء على نصيحة إحدى جاراتها لتحيك ملابس العرائس ومن يرغبن من نساء الحي.

مدرسة «سيدة الرسل»

أصرّت قاسمة على أن تلتحق أليس وماري بمدرسة «سيدة الرسل» للراهبات في شبرا التي تُعنى بالتعليم الفرنسي، وإن كان هذا الأمر لم يلقَ هوى عند ماري تحديداً، لأن في نفسها هوى آخر أتقنته بسرعة، وهو اللهجة المصرية كما ينطقها أهل حي شبرا:

* يا سلام يا ماري انت بقيتي بتتكلمي مصري زي المصاروة تمام.

= ما انت كمان بتتكلمي مصري كويس… انت مش فاكرة لما كنا بنقعد نتكلم في الشارع ولا في المدرسة.. كانوا الولاد بيضحكوا علينا إزاي؟

* أيوه فاكرة… بس دلوقت خلاص بقينا زينا زيهم… وبنتكلم كمان أحسن منهم.

= يا سلام لو الفرنساوي اللي بناخده في المدرسة يبقى زي المصري كده سهل.. كنا نبقى من الأوائل.. أنا مش عارفه إحنا بناخد الفرنساوي ده ليه أصلا… هو فيه حد في شارع بركات هنتكلم معاه فرنساوي… أنا زهقت من «الغرامير».

* لا وكله كوم و»الكاتيشيزم» كوم تاني…

= أنا عارفة بس ماما دخلتنا هذه المدرسة ليه؟

* مش عجباكي المدرسة.. طب أنا بكرة ها قول «للمسور» شوفي بقى هتعمل معاكي إيه.

= لا أرجوكي أليس.. بعدين تقوللي اكتبي «أنا غلطانة» ألف مرة وأفضل أكتب لحد ما أموت.

على رغم أن قاسمة لم تكن قد بلغت عامها الثلاثين بعد، إلا أنها بدت أكبر من عمرها، سواء بسبب الحزن على فقدان زوجها والوحدة التي تعانيها، أو بسبب تكاثر أعباء الحياة يوماً بعد يوم، فالفتاتان تكبران وتزداد أعباؤهما وطلباتهما فضلاً عن مصاريف المدرسة التي لم تعد قادرة على الوفاء بها، وتراكم إيجار الشقة عليها ثلاثة وأربعة أشهر، وإن كان الجيران المقرّبون لم يتركوهنّ ويتواصلون معهن في المناسبات كافة، لدرجة أنهن كن ضيفات شبه دائمات على موائد غالبية الجيران طيلة شهر رمضان، بعدما عرفوا أنهن مسيحيات، بل إن «فوانيس رمضان» كانت تأتي لأليس وماري على غرار أطفال الحي. مع ذلك كان أمام قاسمة أن تبذل مزيداً من الجهد في العمل وتحديداً في «الحياكة» لمحاولة كسب «زبائن» جدد عن طريق المعارف والجيران، حتى ذاع صيتها ومهارتها، إلى درجة أن زوجة أحد كبار تجار القماش والملابس ويدعى سمعان صيدناوي طلبت منها تفصيل فستان لها:

* شوفي بقى ياست قاسمة… أنا جايلك على الصيت… وكمان لما شفت شغلك… أنت لو عندك كام ماكينة وكام بنت بيشتغلوا معاكي… هتنافسي جوزي سمعان صيدناوي بذات نفسه.

= يا هانم إحنا وين وسمعان بك وين… شو بيوصلنا إله… الله بيزيده.

* قصدي أقولك إن الفستان ده لو عجبني… مش بس أنا هبقى زبونتك… لا ده كمان هجبلك زباين كتير… وكلهم من ولاد الذوات.

= الله بيخللي إياكي يا هانم… بإذن الله بيعجبك.

* ودول يا ستي عشرين قرش تحت الحساب… وأول ما يخلص الفستان هبعتلك الباقي مع جبران أفندي جوز أختي وياخد الفستان… أصل المشوار من الحلمية لحد شبرا بعيد عليّ… قولي بقى ابعته إمتى؟

= بإذن الله بتفوتي يومين وبيكون جاهز في اليوم التالت بالمسا.

فستان الهنا

شعرت قاسمة بأنها دخلت في تحدٍّ مع نفسها، لأن هذا الفستان قد يفتح عليها أبواب الخير، ليس لأن ثمن حياكته،80 قرشاً، يمكن أن يساهم في تدبير جزء كبير من مصاريف مدرسة أليس وماري فحسب، بل لأنه سيكون سبباً في جلب مزيد من الزبائن على شاكلة زوجة سمعان صيدناوي، لذا كان لا بد من أن توصل الليل بالنهار لإنجاز الفستان ولينافس، كما قالت صاحبته، أفضل ما في محلات سمعان صيدناوي، فانكبت على الماكينة لإنجاز هذه المهمة الصعبة لدرجة لفتت انتباه الطفلتين:

* ماما صعبانه عليا قوي يا أليس.

= وأنا كمان يا ماري… مش بتقوم من على الماكينة لا ليل ولا نهار… هو ده فستان عروسة؟

* لا ده فستان الست اللي كانت هنا أول أمبارح مرات واحد اسمه صيدناوي… يعني إيه صيدناوي يا أليس.

= أنا عارفه!! إحنا في ماما اللي عينيها هتوجعها من نور «اللمبة الغاز» ولا في صيدناوي واسمه.

في الموعد المحدّد، حضر جبران أفندي زوج شقيقة زوجة سمعان صيدناوي، وكانت قاسمة قاربت على الانتهاء منه وعليه أن ينتظر قليلا، وقبل أن ينتهي من احتساء فنجان القهوة الذي أعدته أليس سيكون الفستان جاهزاً:

* انت اللي عملتي القهوة دي يا أمورة؟

= أيوه يا عمو… وحشة؟

* وحشة!! دي أجمل قهوة شربتها في حياتي… واسمك إيه بقى؟

= اسمي أليس.

- وأنا اسمي ماري… ماري سليم حبيب نصر وفي الفصل التاني في مدرسة «سيدة الرسل».

* عال عال… عاشت الأسامي.

- وإنت اسمك إيه؟

= ماري… عيب كده.

* لا بالعكس دي جريئة وشاطرة… أنا يا ستي اسمي جبران ناعوم… وبشتغل مشخصاتي في جوق «أبو الكشاكش».

ضحكت ماري وأليس وهما تنظران إلى بعضهما البعض، لأنهما لم تفهما كلمة واحدة مما قاله جبران.

* يا سلام… أنا عارف إنو ماركة مسجلة… مجرد ذكر اسم أبو الكشاكش لوحده يضحك طوب الأرض.

- لا ياعمو إحنا بنضحك لأننا مش عارفين يعني إيه مشخصاتي ولا جوق ولا أبو الكشاكش… يعني إيه كل ده؟

* آاااه… طب شوفوا بقى… مشخصاتي يعني ممثل… بنجيب الروايات المكتوبة زي الحواديت كده وبنحكيها للناس بطريقتنا، واللي بيحكوا الحكاية دي اسمهم «جوق» أو فرقة… أما أبو الكشاكش ده بقى حدوته… ده كشكش بك اللي بيشخصه الأستاذ نجيب الريحاني صاحب الفرقة والممثل الأول فيها، ولما تشوفوه وهو بيشخص على المرسح تقعوا على الأرض من الضحك.

- يا سلام… دي حاجة جميلة خالص… أنا نفسي أشوف أبو الكشاكش ده

= ماري… عيب كده ها أقول لماما.

* لا ولاعيب ولا حاجة… بسيطة أنا يا ستي أجيلك يوم الجمعة اللي جاية أخدكم أفرجكم أنتوا وماما على رواية من روايات أبو الكشاكش.

بالفعل أنجزت قاسمة الفستان على أفضل ما يكون، فسلّمته إياه وتسلّمت منه ثمانين قرشاً بقية الحساب.

البقية في الحلقة المقبلة

الجريدة الكويتية في

17/08/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)