حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

فيلم "لارى كراون"..

كوميديا فى مدح "الحلم الأمريكي"

محمود عبد الشكور

تعاملت هوليوود دوماً مع صناعة الأفلام الروائية الطويلة باعتبارها وسيلة للترفيه ولتفريخ النجوم ولجلب النقود والأموال، ولكن صنّاع هذه الأفلام لم يتناسوا أبداً أن أفلامهم تعبّر عن القيم الأمريكية الأساسية مثل إعلاء دور الأسرة، وترسيخ فكرة الحلم الأمريكى بالثراء من خلال العمل الناجح، ونشرمفهوم الحرية وأهمية الدفاع عنها.

نستطيع القول إن هذه القيم تظهر بشكل مباشر أو غير مباشر فى نوعيات مختلفة من الأفلام، وبتنويعات عجيبة لدرجة أنك قد تجدها مثلا فى أفلام "ديزني" مثلما تجدها فى أفلام تجارية شهيرة مثل سلسلة "روكي".

نعم هناك أفلام تسخر بشراسة من هذه "القيم"، وترى فيها نوعاً من الخرافة التى يكذّبها واقع شرس وقاس كما شاهدنا فى أفلام كثيرة من "إنهم يقتلون الجياد .. أليس كذلك ؟" الى الفيلم ذائع الصيت والمغزى "الجمال الأمريكى"، ولكن ظلت المعادلة الأساسية أن الفيلم يصبح أمريكياً بقدر ما يعبّر عن هذه الروح البراجماتية المتفائلة، وبقدر ما يتغير أفراده فى اتجاه تحقيق أحلامهم الفردية.

فيلم أمريكي

مناسبة الكلام فيلم ظريف وشديد البساطة حتى تظنه فى البداية قد ضل طريقه الى السينما، وكان أجدر بصنّاعه لو قدّموه كفيلم تليفزيونى يُعرض فى سهرات الأحد، ولكنك ستكتشف تدريجيا أنك أمام فيلم أمريكى بامتياز ( بالمعنى المشروح سابقاً ).. فيلم يقول اشياء كثيرة من خلال الكوميديا عن العلم والعمل ولكن فى إطار مجتمع الحلم والتحقق الفردى.

أتحدث هنا عن فيلم  larry crowne الذى قام ببطولته وأخرجه واشترك فى كتابته توم هانكس، وقاسمته البطولة رائعة الحضور والموهبة جوليا روبرتس، أما الشخص الذى يحمل الفيلم اسمه فلا يزيد عن كونه واحداً من الناس العاديين الذين فقدوا وظيفتهم بسبب عدم حصولهم على مؤهل عال، والمعنى الوحيد للحكاية كلها أن تؤدى عودة بطلنا الى الجامعة الى عودته الى عمل آخر، بل وحصوله على الحب والأسرة معا، و بهذه الطريقة لا تصبح الشهادة مجرد ورقة (كما يحدث فى الحلم المصرى)، ولكنها تصبح وسيلة لاستعادة الحلم الأمريكى بكل مفرداته، وكأن الفيلم يقول بوضوح إن كلا من العلم والعمل فى خدمة الحياة، وفى خدمة الحلم الفردى.

ورغم أن الفيلم ينتصر لفكرة العلم والعمل معاً إلا أنه لا يغلق الباب أمام نماذج ستترك الجامعة لكى تتحقق من خلال مشروع صغير ناجح، الشئ الوحيد الذى يرفضه الفيلم هو أن يصبح الإنسان عاطلا عن العمل فلا يستفيد هو ولا يستفيد المجتمع.

لا يعنى ذلك أن فيلم "لارى كراون" كامل الأوصاف، إذ أنه رغم الكوميديا العذبة فى مشاهد لا تنسى، ورغم الأداء والحضور الكبير لبطليه، إلا أن السيناريو الذى كتبه هانكس مع نيا فاردالوس، كان بحاجة الى يد أكثر خبرة منهما لتعميق قصة الحب بين البطلين، ولاستخراج المزيد من إمكانيات المعالجة المرحة، ومع كل ذلك  لم يفلت أبدا المعنى المقصود بالدمج بين العلم والعمل، بين الحلم وأدوات تحقيقه الواقعية، لقد أصبح "لارى كراون" بطلاً أمريكياً بامتياز بل ومضروبا فى اثنين حيث حقق حلمه أولاً بدون شهادة، فلما فُصل من العمل حقق حلمه الجديد بشهادة وبامرأة تحبه، وإن فقد منزله كأحد خسائر الحرب المحتملة فى سبيل الحلم.

الشخصيات

نجح الفيلم الى حد كبير فى رسم شخصية "لارى كراون " كإنسان عادى تماماً، مخلص جداً فى عمله فى أحد فروع محلات السوبرماركت العملاقة، نراه فى مشاهد العناوين وهو يعيد تريب السلع، ولا يطيق أن يرى أى خلل وكأنه صاحب المكان، عندما يستدعونه يراهنه صديقه على أن الإدارة ستختاره "موظف الشهر"، ولكنه يندهش عندما يستقبل قرار الإدارة بالإستغناء عنه.

سبب القرار غريب: لقد اكتشفوا أن "لارى"، رغم إخلاصه وتفانيه فى العمل، لن يحصل أبداً على ترقية عليا لأن تعليمه توقف عند الشهادة الثانوية، وبمنطق الصعود الأمريكى، أصبح عليه أن يترك الفرصة لمن يمتلك التفانى فى العمل والشهادة العليا معا. من خلال تعبيرات وجه ممثل قدير، وبمساحة خالية تحتل منتصف الكادر، وبنور السيارة الخلفى الأحمر، يعبّر السيناريو عن تأثير القرار على "لارى" الذى يبدو شخصاً عادياً لدرجة تجعله تجسيداً لمأساة كثيرين خاصة فى وجود هذا النوع من المديرين الذين يتباهون بشهاداتهم ودرجاتهم، المفارقة أن "لارى" سيقابل أحدهم بعد ذلك حيث سيراه وهو يعمل فى توصيل طلبات البيتزا، ويبدو أنه طرد بعد أن دخل المنافسة معه من هو أعلى شهادة وأكثر تفانيا فى العمل.

بعد مجهودات فاشلة فى البحث عن عمل، يقتنع "لارى" بفكرة جاره "لامار" بأن يلتحق بالجامعة باعتبارها طريق استعادة العمل، وخصوصا أن "لارى" يعيش تحت ضغط تسديد ديون كان قد اقترضها من البنك لشراء منزله ( امتلاك المنزل هو أحد أيقونات ودلائل تحقيق الحلم الأمريكى )، أما "لامار" نفسه فقد حقق ثراء من خلال الصدفة بأن ربحت إحدى أوراق اليانصيب التى اشتراها، ولكنه كأمريكى صالح لم يضع أمواله فى البنك، وإنما استثمرها فى بيع كل شئ تقريباً فى حديقة منزله، وستكون مساوماته المستمرة مع "لارى" ومع بقية الزبائن مثاراً للحظات كوميدية ظريفة ولكنها دالة على مغزى الحكاية وشخصياتها.

الاقتصاد والخطابة

مع الدخول الى الجامعة، سيكون من الأمور اللافتة أن يختار "لارى" للدراسة مادتين تلعبان دوراً هامة فى الحياة الأمريكية: الاقتصاد والخطابة أو بمعنى أدق فن التواصل مع الجمهور لإقناعهم والتأثير عليهم، وسينجح السيناريو الى حد كبير فى استغلال شخصية أستاذ الإقتصاد "متسويانى" ليس فقط فى تفجير الضحكات والسخرية من أسلوبه الجاد، ولكن فى الحديث عن دور الإقتصاد فى إدارة العالم وامتلاكه، وستساعد دروس "متسويانى" بطلنا على فهم ما يريده البنك، ولكنه لن يجد فى النهاية سبيلا لحل مشكلة القرض إلا بالتنازل عن منزله.

يلقى "لارى" أيضا دعماً غير محدود من زملائه الشباب راكبى الموتوسيكلات وخاصة الجميلة السمراء "تاليا" التى تغير ترتيب منزله وتسريحة شعره وتختار له ملابسه ليولد من جديد على مستوى الشكل أيضاً، ولكن التغيير الأكبر سيكون بلقاء "لارى" مع أستاذة الخطابة ودارسة الدراما الجميلة "مرسيدس تينوت" (جوليا روبرتس).

 رُسمت هذه الشخصية بطريقة جيدة فيما يتعلق بحياتها الخاصة والعملية ، فهى تشعر بالإحباط بسبب قلة الطلاب وبسبب عدم اكتراثهم بالمادة، وتعانى من الحياة مع زوج شبه عاطل يقول أنه كاتب نشر كتابين من قبل ، ولكن معظم وقته يقضيه فى مشاهدة صور عاريات المواقع الإباحية أو فى كتابة تعليقات سطحية على بعض المدونات .. الفيلم لن يتسامح أبدا مع شخصية كهذه لأنها شخصية لا تمثّ الأمريكى الصالح، وسينتهز الفرصة لكى تنفصل عنه "مرسيدس" مما يفتح الباب فى النهاية لوصول العلاقة بين "مرسيدس" و"لارى" الى نهايتها السعيدة.

مشكة السيناريو

ظلّت المشكلة الواضحة أن السيناريو لم ينجح فى بناء الخيط الرومانسى ليكون موازياً لخيط تطور قدرات "لارى" الخطابية والإجتماعية بل ونجاحه فى العمل كطباخ فى مطعم مستعيداً بذلك مهنته الأصلية التى عملها فى البحرية الأمريكية لمدة 20 عاما قبل أن يلتحق بسلسلة محلات التجزئة الشهيرة، بدت العلاقة باهتة لدرجة أن البطلين لم يتقابلا خارج الفصل إلا فى مشاهد قليلة جدا.

لم يفطن السيناريو الى دور علاقة الحب فى إثراء تجربة "الحلم الأمريكى"، كما لم ينجح فى تعقيد العلاقة وحلّها حيث لم تزد المشكلة عن شكّ "مرسيدس" فى وجود علاقة بين "لارى" و"تاليا"، وفى خوفها من أن يعرف الطلاب بأن هناك علاقة بينها وبين أحد تلاميذها، فى كل الأحوال فإن حضور "جوليا روبرتس" والكيمياء الرائعة مع "توم هانكس" أنقذت الموقف الى حد ما ن وأن كان واضحا أنه يمكن تفجير المزيد من الضحكات والمواقف الطريف المبتكرة.

فى الجزء الأخير سيبدو واضحاً أن الحلم سيتحقق من جديد: "لارى" سيحصل على الشهادة وسيعمل طباخا ربما فى انتظار عمل يحتاج شهادته، أو ربما  يصبح صاحب سلسلة مطاعم. "تاليا" ستترك الجامعة بعد أن اكتشفت قدرتها فى مجال بيع الملابس مع أصدقاء الموتوسيكلات. "مرسيدس" تطلّق زوجها العاطل وترتبط بصانع الحلم "لارى" ثم تسعيد إيمانها "بالعمل" عندما يحضر دروسها المزيد من الطلاب . ويظل "لامار" فى عمله الدائم كبائع لكل شئ دون أى يتنازل عن الفصال والمساومة فى السعر.

بساطة الأسلوب

لا يحاول "هانكس" استعراض عضلاته كمخرج وإنما يعتمد البساطة فى كل شئ ، سلاحه الاساسى هو إدارة ممثليه واستخراج طاقاتهم الكوميدية ، وقد نجحوا جميعا فى ذلك خاصة الشباب الذيىن لعبوا أدوار زملاء الفصل، استخد "هانكس" ببراعة لقطات رد الفعل لدعم المشاهد الكوميدية، كما قدم تعبيراً صامتاً لا ينسى بالوجه والعينين بعد إبلاغه بقرار الفصل ، كان واضحا أن الممثل الكبير يحب موضوعه وممثليه ، وكان واضحا أن سخرية فيلم "فورست جامب" الواضحة من فكرة الحلم الأمريكى الذى حققه شاب يتعثر فى الكلام والمشى بمحض الصدفة، قد تحوّلت هنا الى رحلة صعود أمريكية بامتياز تستخدم كل الأدوات والوسائل من أجل استعادة الحلم المفقود ، ولتقول فى النهاية أن أمريكا "بلد شهادات".. ولكنها بلد أعمال فى نفس الوقت!

عين على السينما في

09/07/2011

 

صفاء الليثي:

رحلتى من المونتاج إلى النقد السينمائى 

جاءنى اتصال من أنطوانيت عازرية السورية زميلة الدفعة بوجودها مع فيلم "ليالى ابن آوى" بمهرجان القاهرة، لست متأكدة من التاريخ هل كان 1989 أم 1990، ما أذكره جيدا أنه كانت قد مرت 17 عاما بين آخر لقاء لى مع أنطوانيت قبل تخرجنا بعام واحد، تواصل الحديث بيننا وكأننا كنا معا طوال هذه السنوات.

كنت فى نهاية مرحلة عملى كمساعد فى المونتاج - يطلق عليه عندنا مونتير مساعد – كان التعليق الأول:"شكلك ما اتغيرش، زدت كام كيلو".وكانت عينا أنطوانيت النجلاوتان تبرقان بنفس الحماسة،وكنت أنا اتهديت، مجهدة برعاية ثلاثة أبناء مع العمل فى المونتاج.

سرنا فى الطريق إلى قاعة المؤتمرات بمدينة نصر حيث كان يقام المهرجان وقتها، كانت المرة الأولى لى بعد انقطاع أن أحضر عرضا يجمعنى مع الزملاء، تقابلنا مع إيناس الدغيدى زميلة الدفعة التى شرخت مع السينما كمخرجة تملأ أخبارها الدنيا، إيناس تسير ببنطلون استريتش - وكان موضة انتشرت فى نهاية الثمانينيات- وبلوفر به فرو، مع زوجها والممثلة رغدة، كانت أنطوانيت قد قابلت إيناس فى أكثر من مناسبة بدمشق، وفى الطريق للحاق بالفيلم تبادلتا الدعابات، وأنا هادئة أشعر بالغربة، فى نهاية الفيلم انحنت إيناس– هى فارعة الطول وأنا قصيرة القامة- لتقول لى تعليقا على الفيلم "لذيذ"، كمن يتحدث عن عمل عليها مجاملته، عمل بدائى، ظلت كلمتها فى رأسى، أندهش من اتفاقى معها فعندى مشكلة مع السينما السورية والميل للرمز، المؤثرات كانت مخلقة فى الاستديو وليس بها حيوية شريط الصوت فى أفلامنا المصرية.

كنت وقتها أقوم بعمل المونتير المساعد فى فيلم "كابوريا" حيث أقوم بتركيب شرائط الصوت بما أمدنى به خيرى بشارة، بخبرته مع الأفلام التسجيلية.كانت اللكمات حقيقية وليست تلك الزائفة المستخدمة عادة فى السينما السائدة، والأغانى وكل تفاصيل الصوت مجهزة بعناية، وما علىّ سوى تركيبها..مونتاج الصوت كان جزءا من مهام مساعد المونتير، وهو عمل أعتز به كثيرا لم يلتفت إليه فى مصر، وأصبح الآن من مهام من يسمى مصمم الصوت.

أعود لإيناس بداخلى ابتسامة، معها حق، ألم تقدم أربعة أفلام حتى الآن؟! إيناس واثقة جدا من نفسها ولكنها بسيطة ولا تهتم برأى الآخرين بها ولا بتجاهلهم، وهو ما أفعله عادة معها، فعندى مشكلة فى عدم القدرة على التعامل مع المخالفين لى فى الرأى، الأمر مختلف مع أنطوانيت، نتفاهم حتى بدون كلام رغم عدم إعجابى بأغلب الأفلام السورية، أفضل فيلم نبيل المالح "كومبارس" عن أفلام عظمائهم مثل محمد ملص وأسامة محمد.

عادت إلى الحيوية تدريجيا مع عروض المهرجان، وعاد إلى الهوس بالسينما، فى العام التالى انتظمت مع نادية شكرى فى الذهاب، كنا نتقابل أمام مجمع المونتاج، تنتظرنى على السلم وتقول للزملاء – رايحين نتثقف- كنت كأهل الكهف لا أفهم ما تقصده، بالنسبة للبعض أفلام مهرجان القاهرة غير مراقبة، يعنى فيها مناظر. كان هذا أبعد ما يكون عن تفكيرى، مرة كنا نحضر عرضا بسينما التحرير بالدقى، وكنت أقوم بترجمة سريعة للفيلم لنادية شكرى، وكانت معنا أيضا عنايات السايس المونتيرة العصامية وكانت صديقة لنادية، قلت لهما هناك كلمة تتكرر كثيرا لا أعرفها، غمزتنى نادية وقالت أنا هقولك عليها، كانت المرة الأولى التى أسمع  فيها كلمة " Fuck"  تتكرر فى حوار بالأفلام.

وهكذا كنت أذهب مع نادية بسيارتها الصفراء الصغيرة، ثم نصعد سيرا على الأقدام تلا مرتفعا للوصول لقاعات العرض. تتألم نادية فقد أصابها مرض الروماتويد اللعين الذى يصيب المفاصل..

كان لمهرجان القاهرة مذاق مختلف فى منفاه هذا بمدينة نصر بعيدا عن قلب العاصمة، وتم نقله لمنطقة الأوبرا بعد احتجاج الصحفيين لبعده عن صحفهم. لم نتفارق أنا ونادية. وبعد كل فيلم كانت ناقدتان شهيرتان تسألاننا عن رأينا فأنبرى بصبيانية بالتعبير بحماسة عن رأى، مرة أخرى تقرصنى نادية شكرى، هذه المرة لتطلب منى أن أوجز فى رأىيلأنهم يأخذون ما نقوله ويقولونه فى التلفزيون باعتباره رأيهما.

صناع السينما لديهم ثقة أنهم يستوعبون الأفلام أفضل من الصحفيين ومن كثير من النقاد. خبرتنا فى تركيب الأفلام تجعلنا قادرين على تفكيكه ومن ثم تحليله وتقديم رؤية نقدية عنه. لم أكف عن النقد الشفاهى للأفلام، قالت لى وفاء حلمى- كاتبة بالعربى الناصرى- "انت لازم تكتبى، انت بتعرفى تعبرى عن رأيك".  

متابعة مهرجان القاهرة كان متعة كبيرة لى، عدد من الأفلام يظل باقيا فى رأسى وكأنه حياة عشتها فعلا وليس صورا خيالية على شاشة الخيالة. من هذه الأفلام الفيلم المكسيكى" مثل الماء للشوكولاته"،Like Water for Chocolate

فيلم مكسيكى مأخوذ عن رواية بنفس الاسم،  يتجلى مذهب الواقعية السحرية فى هذا الفيلم البديع الذى فى ظاهره يحكة قصة حب بين أختين، الأم تجبر الصغرى على الانتظار حتى تتزوج أختها، كما يحدث فى ثقافتنا، الأخت التى لم تتزوج ولم تنجب ترضع الصغير بلبن يتفجر من ثدييها حبا وحنانا، الطعام المكسيكى المعمول من الورود البلدية الحمراء، عنفوان الحياة وهى تقفز على حصانها كما ولدتها أمها وكأننا فى بداية الخليقة. الثقافة الشعبية فى صياغة فنية نادرة للواقعية السحرية. بادئة من الاسم الذى يحمل إيحاءات غنائية تصف حالة عاطفة مشبوبة.

أذكر أننى كنت فى صف وراء أمير العمرى وعرب لطفى، عرب كانت تنتقد حديثى بصوت مرتفع فى الفواصل بين الأفلام، ونحن ننتظر بدأ العرض كان العمرى يدلى برأيه فى أمر ما بصوت سمعه كل من حوله، قلت لعرب لست وحدى صاحبة الصوت المرتفع، لقد سمعت حديثكما كله.

كنت أعرف أمير العمرى عن بعد وأجده نجما فى النقد وأسمع عن دوره فى نادى سينما الجامعة، كنا طلاب الأكاديمية فى منطقة الهرم البعيدة عن قلب المدن الجامعية نحسد زملاءنا المتواجدين فى قلب الأحداث السياسية لطلاب الجامعات وقتها، وننظر إليهم كما ننظر إلى المناضلين الذين شاهدناهم فى أفلام أوروبية، ولهذا شعرت بالراحة أن يكون لهذا المناضل نفس عيبى الكبير، الصراحة المطلقة والتعبير بصوت مرتفع.

بجوارى أنا ونادية شكرى، محمد خان والكاتبة سلوى نعيمى السورية التى تعيش فى باريس وتزور القاهرة دائما فى هذا الوقت نهاية نوفمبر وديسمبر، هل معك لبان؟ نتبادل اللبان والبسكوت لأننا نحتاج طاقة صغيرة لمواصلة المتابعة لثلاثة أو أربعة أفلام كل يوم، الأمر مجهد ومكلف ولكنه أيضا ممتع جدا، التواجد فى المهرجان ليس فقط لمتابعة عروض، إنها كرنفالات وموالد لا تقل بهجة عن الموالد الدينية التى حضرتها ببلدتى فى المنوفية.

من التركيب إلى التفكيك

لم أكن أعرف سهام عبد السلام جيدا، وذات مرة عبرت فى ندوة حول فيلم جزائرى عن رأيى، وقامت سهام وقالت أعجبتنى قراءة صفاء للفيلم ولكنى عندى قراءة أخرى، أعجبنى تعبيرها ولم أنسه يوما، الفيلم ككتاب يُقرأ لمرة واحدة متصلة، كل منا يقرأه ويفسره على هواه، تفسيراتى تجنح إلى كثير من الشطحات، البعض يعجب بها وتستفز البعض الآخر، المخرج مجدى أحمد على قال لى مرة بغضب "انت بتشوفى على كيفك" وقبل أن أرد انبرت سهام عبد السلام وفريدة مرعى مدافعات "أمال تشوف على كيفك انت".

فريدة قد انضمت إلى الصديقات المتابعات لأنشطة المهرجان، فى الحقيقة أنا التى انضممت إليهما، فقد كانت سهام وفريدة تتعاونان فى العمل بالمهرجانات، تشاركتا معا فى مهرجان الإسماعيلية فى دورته الثانية  على ما أظن،  وكنت وقتها أقوم بعمل مونتاج فيلمى الأول "الحجر الداير" وعدت إلى التركيب وركنت التفكيك (النقد) جانبا، حتى عاد لى بقوة مع أزمة فيلم "هيستريا" عام 1998.

ملاحظة مجدى التى ذكرتها ليس هذا زمنها، وقد قيلت لى فى وقت لاحق بعدما كتبت سلسلة مقالات فى "الفن السابع" تحت عنوان "جماليات السينما التسجيلية" عام 1999.. الذاكرة فى دماغى لا تعمل طبقا للتواريخ، تتداعى لى الأفكار ويقوم المخ بتقديمها وتأخيرها طبقا للمزاج، أفهم جيدا طريقة السرد التى لا تتبع خطا زمنيا وأتوحد معه، وأطلب من القاريء أن يتفهم تداعياتى، وأن يتابعنى بينما أتنقل بين السرد بأسلوب المتكلم، وبين الحكى وأطلب من السيد رئيس التحرير عدم التدخل، وليتركنى لمسئوليتى أمام قرائى، فإما أن ينصرفوا عنى، أو يتابعونى ويسبحوا مع تداعى أفكارى متفهمين حريتى فى القفز فوق محطات الذاكرة.

كان أول مقالاتى كناقدة هو: " المونتير ليس حاويا ، والمونتاج يبدأ من السيناريو".

فى مقر جمعية السينمائيات بالدقى جمعتنى مع هالة خليل مناقشة حول اتهام المنتجة ناهد فريد شوقى المونتاج بإفساد فيلم "هيستريا" العمل الأول لعادل أديب ومونتاج منى ربيع، قيل إنها أتت إلى مجمع المونتاج وقالت إنها ستقبل عتباته وتعتذر من شيوخ المونتيرين الذين تركتهم - استجابة لرغبة المخرج- وتركت الموفيولا ليتم مونتاج الفيلم على أجهزة المونتاج الحديثة.

كان كريم جمال الدين قد أسس شركته "الإكسير" وأحضر أجهزة مونتاج غير خطى- غير ميكانيكى- فى فيلا أنيقة بطراز حسن فتحى المعمارى وعين بها خريجى المعهد العالى للسينما للعمل بالطرق الحديثة فى المونتاج. كانت هذه الثورة التقنية تقابل بالرفض الشرس من المونتيرين التقليديين، وخاصة أن أغلبهم اكتسب خبرته دون دراسة، كان صعبا على المونتيرة الكبيرة رشيدة عبد السلام أن تترك "المافيولا" كما كانت تنطقها شوشو، لتعمل على هذا المونيتور الذى بالكاد يشبه تلفزيونا 16 بوصة. وكانت آرائهم كومنتيرين كبار أن عدم نجاح الفيلم –تجاريا- سببه المونتاج والعيال وأجهزتهم الحديثة.

وقد أخذتنى حماسة الدفاع عن فن المونتاج ورفض القول بأنه أفسد الفيلم. وحين عبرت عن رأيى لهالة خليل- وكانت قدمت فيلمها القصير الناجح "طيرى يا طيارة" قالت اكتبى ده، وبعدما كتبت قامت هى بعمل المونتاج على ماكتبته، حيث أشارت على الفقرة الثانية وطلبت منى أن أضعها فى مقدمة المقال. باقتراح من سيد سعيد سلمت المقال لمجلة الفن السابع. كان أسامة عبد الفتاح هو مدير التحرير وقتها، وكنت قد نشرت مقالا سابقا فى مجلة "سطور".

أزمة هستيريا

كانت أزمة فيلم "هيستريا" محتدة ووجدته إدارة التحرير مقالا مناسبا وصفه الكردوسى على طريقة "شهد شاهد من أهلها"، كنت معجبة بالفيلم فعلا وبغناء أحمد زكى الذى يشبه ما يقوم به مطربو ثورة 25 يناير الآن، غناء بصوت مجروح به شجن.

يحكى هيستريا عن أحمد زكى مطرب مترو الأنفاق  الذى يكافح من أجل مكان تحت الشمس وجده النقاد واحدا من أفضل أفلام عام 1998.فاز الفيلم الذى أخرجه عادل أديب بجائزة أفضل فيلم وأفضل اخراج فى المهرجان القومى الرابع للسينما المصرية فى نفس العام الذى فاز فيها فيلم "المصير "ليوسف شاهين بالجائزة الثانية. نتائج المهرجان القومى أعطتنى الثقة فى حكمى على الأفلام رغم كراهيتى لوصف الناقد بأنه قاضى للفن.

وانفتحت رغبتى فى التعبير بادئة بعدة مقالات عن المونتاج حتى طلب منى الكردوسى التوسع وكتابة مقالات أطول، فأعددت دراسة عن نيازى مصطفى وفيلمه " رصيف نمرة خمسة" فى العدد الخاص بالرواد.

كنت فى هذه الفترة على علاقة وطيدة بالمخرجة هالة خليل، تربطنى بها صداقة حقيقية، على ما يبدو أن انقطاعى عن الحياة العامة وتفرغى بالمنزل لرعاية الأولاد لعدة سنوات جعلنى أتواصل روحيا وفكريا مع جيل التسعينيات، وأتحرك كأننى واحدة من جيلهم. بل كانت خبرتهم العملية وذكاؤهم الاجتماعى يفوقنى. ذات مرة كنت معها بمبنى جريدة الأهرام، أسامة عبد الفتاح وسعد القرش يتعاركان حول من منهما اكتشفنى كناقدة، هالة لاحظت نظرتى الفرحة بهذه المعركة، أسعد جدا إذا أعجب أحد بما أكتبه، رغبتى أن أكون " الكاتبة " تفوق كافة رغباتى السابقة، عالمة الذرة مستقبلا، أو المونتيرة، أو ربة البيت.

ذكرت مرة للمخرجة هالة لطفى- وهى أيضا صديقة- أننى أشعر بأنوثتى إذا أثنى أحدهم على ما أكتب، ضحكت هالة ساخرة، ضحكت وكأنها تدرك هذا جيدا. "الكاتبة صفاء الليثى "كان رغبة حققتها، لا لكسب العيش، ولكن لأشعر أننى أعيش. توالت مقالاتى حتى كلفت بالإشراف على باب مخصص للسينما التسجيلية، بالنقاش مع محمود الكردوسى رئيس تحرير الفن السابع ومع الأديب أحمد غريب- وكان يعمل معه وقتها- فضلنا أن يجمع الباب كل أنواع السينما غير الروائية الطويلة، وأسمينا الباب "السينما الأخرى".

كان الباب ناجحا، نافذة لكل أعمال الشباب ليس من مصر فقط، ولكن ككل المجلات المتخصصة أغلقت "الفن السابع"، بعد العدد 45، ووجدتنى أبحث عن مكان أمارس فيه الحياة التى أحبها، أكتب عن السينما ،مهرجاناتها وأفلامها والحياة الواسعة التى تمنحها لنا.

" المتعة عالمية والبؤس عربى"

فى "أخبار الأدب"نشرت مقالا عن مشاهدات فى مهرجان القاهرة عام 2001 ، كان المقال بعنوان" المتعة عالمية والبؤس عربى، كان فيلم "مالينا" لتورناتوريقد أصابنا بسحره، بينما فيلم سورى للمخرج غسان شميط بعنوان "الطحين الأسود"يفرض كآبته علينا، فكان المقال عن ترحيبى بجمال الفن ورقيه لصاحب سينما باراديزو جوسيبى تورناتورى، وقبح الادعاء فى الفيلم العربى.

بعد فترة قابلت الطبيب الناقد د. أحمد عبد الله وأخبرنى أن مقالى دفعه للبحث عن فيلم "مالينا" ومشاهدته وكذا قال لى الناقد محمود عبد الرحيم، سعادتى لاتوصف وتذكرت تعريف سهام عبد السلام للنقد: "تجربة إبداعية عاشها الناقد ويريد أن يشرك آخرين فيها"، هل ما أكتبه نقد حقا، المهم بالنسبة لى أن يُقرأ وأن نتواصل معه رفضا أو قبولا. وهو ما يحدث دائما من التواصل عبر الكتابة حتى من أشخاص لم نلتق بهم أبدا.

الناقد الكبير فاروق عبد القادر قال لى مرة، القارئ موجود لا تعرفين أبدا أين هو، موجود فى مكان ما ويصله ما تكتبينه بنفس الروح الذى يكتب به العمل.قلقى من اختلاط الأنواع الأدبية فيما أكتب أحيانا سألت عنه الناقد الكبير ابراهيم فتحى، فقال لم يعد هناك حد فاصل بين المقال والقصة القصيرة، كلها نصوص لا مشكلة فى اختلاطها، المهم أن يتواصل معها القارئ. بعض الكتاب يقرأ وفى ذهنه هذا القارئ وكثيرا ما يكتب الناقد أحمد يوسف فى مقاله مخاطبا قارئه.. ستلاحظ عزيزى القارئ.. وهكذا يدرك الكاتب أنه لا قيمةلما يكتب دون وجود هذا المتلقى الذى لا يعرفه وإن كان يشعر بوجوده.

أنطوانيت عازريه

أعود لأنطوانيت التى وجدت مناخا لتميزها فى سوريا فور تخرجها معنا من المعهد العالى للسينما دفعة 1975 محققة المرتبة الأولى علينا، كنا أربعة فقط فى القسم وكنت الأولى على القسم والدفعة فى السنة الثالثة التى قمنا فيها بالثورة على الأساتذة والمناهج، بادئين برفض الانتظام فى محاضرات الفنان التشكيلى يوسف فرنسيس وكنا نجده غير كفء، كانت عميدة الأكاديمية الكاتبة التقدمية لطيفة الزيات، والأديب يوسف السباعى وزيرا للثقافة، وقد تقابلنا معهما نحن المحتجين من المعهد أتزعمهم وأنطوانيت فى الصف الأول من المسيرة.

تحدثت أنطوانيت بلكنتها المحببة وكانت نوعا خاصا من الفصحى قاطعها يوسف السباعى انت منين قالت من حلب، قال وأنا بقول العيون الحلوة دى منين، ضحكنا جميعا وتفرقت المظاهرة على وعد بالاستجابة لمطالبنا، وفعلا ألغيت مادة لا أذكر اسمها الآن، كل ما أذكره أن يوسف فرنسيس قد خرج باكيا، وكنا كوحوش صغار تأخذنا الحماسة فى هذه الفترة ونحن نقاوم السادات وسياساته.

لم تكن مجموعة "دكاترة موسكو" قد وصلت المعهد بعد تخرجنا مباشرة قبل أن يتولوا مسؤولية المعهد الذى تحول إلى مستشفى كما يحب الطلاب بعدنا تسميته، بعد امتلائه بحاملى شهادات الدكتوراة ممن يفتقد أغلبهم الخبرة العملية والموهبة، وإن كانوا يحملون شهادات نظرية. عملت أنطوانيت مع دكاترة موسكو السوريين، وطبقا لموقع المؤسسة العامة للسينما السورية فهى من مواليد حلب 1948، درست في المعهد العالي للسينما في القاهرة وتخرجت من قسم المونتاج سنة 1976 بعد أن قدمت ثلاثة أفلام عملية كمشاريع تخرج، وفاز فيلمها "حكاية ما جرى في مدينة نعم" الذي أخرجه المخرج محمد كامل القليوبي بجائزة مونتاج وإخراج بمهرجان السينما التسجيلية.

أول الأفلام التي عملت فيها بعد عودتها إلى سورية كان فيلم "الدجاج"للمخرج عمر إميرلاي، وفي عام 1977  تم تعيينها في المؤسسة العامة للسينما ولا تزال تعمل فيها، قامت بمونتاج عدد كبير من الأفلام السورية الهامة منها: "نجوم النهار"لأسامة محمد، "ليالي ابن أوى"لعبد اللطيف عبد الحميد، "الطحالب"لريمون بطرس، "اللجاة"لرياض شيا وغيرها، وقد نالت جائزتي مونتاج عن فيلم "نجوم النهار"في مهرجان قرطاج السينمائي وعن فيلم "اللجاة"في مهرجان الإسكندرية،وكرمها مهرجان دمشق السينمائي عام 1995 عن مجمل أعمالها.

عدت للالتقاء بها عام 2006 حين شاركت بفيلمها القصير"أبيض" بمهرجان الإسماعيلية، لم أعجب بالفيلم نهائيا، وسألت أنطوانيت زميلنا سيد سعيد: "صفاء تقول رأيها عن كل الأفلام فلماذا سكتت عن فيلمى؟". أسكت دائما عندما لا أتواصل معفيلم ما، وأثق بأننى لا أمتلك الصواب فى رأيى، فقراءة الأفلام تظل شأنا خاصا بكل متلقى، لم تكن لدينا مادة علمية فى النقد السينمائى، كانت هناك مادة التذوق السينمائى للدكتور رفيق الصبان، كانت أقرب إلى التحليل، تدريجيا أصبحت أقوم بتفكيك الأفلام بعد أن أمضيت عمرا فى تركيبها، ومن التركيب إلى التفكيك قطعت شوطا كبيرا يجعلنى أشعر بمتعة لا تقل عن متعة بناء الفيلم فى المونتاج.  

عين على السينما في

09/07/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)