حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

كتاب "سينما كن لوتش": تطور الأسلوب الفني

أمير العمري

في السينما البريطانية الحديثة هناك اسمان صنعا المجد العالمي الذي تتمتع به تلك السينما العجوز، أو بالأحرى، أعادا تلك السينما إلى دائرة الاهتمام على الساحة الدولية، رغم اختلاف الرؤية والأسلوب والمعالجة.

الأول هو المخرج بيتر جريناواي Peter Greenaway صاحب "عقد الرسام" و"حديقة الحيوانات" و"الغرق بالأرقام" و"معدة المعماري" وكتب بروسبيرو"، غير أن فيلمه الأكثر صداما مع السائد كان فيلم "الطاهي واللص وزوجته وعشيقها" (1989) The Cook, the Thief, his wife and her Lover هذا الفيلم الذي عرض للمرة الأولى في مهرجان فينيسيا السينمائي، كان بمثابة صدمة هائلة للذوق السائد، و"مانيفيستو" للتمرد الجمالي والفكري على طبقة اجتماعية تكلست، وأصبحت في حاجة إلى من يهز قناعاتها، ويقلب في تناقضاتها، ويستخرج كل أعراض نفاقها وغشها وانتهازيتها، إلى السطح لكي يعريها ويهتك أسرارها. وكان هذا تحديدا هو ما أقض مضاجع تلك الطبقة التي تحولت في عهد رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مرجريت تاتشر، إلى طبقة متوحشة، على استعداد لان تأكل كل شيء في طريقها دون أن تجد نفسها حتى مضطرة إلى تقديم تبرير أو تفسير. وكان هذا تحديدا ما يتناوله جريناواي في فيلمه هذا بكريقته الخاصة التي تبتعد عن الواقعية بقدر ما تقترب من السيريالية.

ولعل جريناواي مد هذه التجربة على استقامتها فيما بعد في فيلمه الآخر الأكثر قسوة "طفل من ماكون" Baby of Macon الذي يذكرنا بأجواء فيلليني في "ساتيريكون" ولكن على صعيد آخر، له علاقة بالتأكيد، بعالم شكسبير وإن جاء في قالب سينمائي خالص.

أما السينمائي الثاني فهو المخرج الشهير كن لوتش صاحب الأفلام السياسية الملتهبة التي تصل في حدتها وهجائيتها للمؤسسة وللنظام الحاكم، إلى درجة الصدام المباشر أحيانا كما في فيلم "مفكرة سرية" (1990) Hideem Agenda الذي يوجه انتقادات قاسية للدور البريطاني في أيرلندا الشمالية، ويكشف الفظائع التي كان يرتكبها رجال المخابرات البريطانية في ترويع وتعذيب المواطنين.

وشأنه شأن بيتر جريناواي، لا يعتبر كن لوتش من المخرجين المحبوبين كثيرا في بريطانيا على الرغم من النجاح الكبير الذي تحققه أفلامه في المهرجانات السينمائية الدولية وعلى مستوى العروض العالمية خاصة في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، والسبب يعود بالطبع إلى أن أفلام لوتش الواقعي، مثلها مثل أفلام جريناواي السيريالي، أفلام مقلقة، تكشف وتعري وتفضح وتنتقد، وتجرح السطح الزائف للأشياء، بالإضافة بالطبع إلى قسوة ما تصوره، وقدرة مخرجها على الإقناع بواقعيتها الإنسانية التي يلعب فيها الأداء التمثيلي الرفيع دورا مباشرا.

توقفت طويلا أمام أفلام كن لوتش أخيرا، وراجعت البعض منها مثل "طائر العاسوق" و"تمطر حجارة" و"الأرض والحرية" و"الريح التي تهز الشعير" وغيرها، وذلك خلال مطالعتي لكتاب "سينما كن لوتش: الفن في خدمة الناس" The Cinema of Ken Loach: Art in the Service of the People الصادر في لندن من تأليف جاكوب لي، ويقع في 192 صفحة.

أفلام كن لوتش التي يعرضها الكتاب بالترتيب الزمني لظهورها، تتنع كثيرا بل وتختلف أيضا في الأسلوب والشكل، لكنها تتفق في اقترابها من المناطق السياسية الساخنة، وتناولها لموضوعات اجتماعية ذات صبغة سياسية مباشرة.

في مقدمة الكتاب يحدد المؤلف هدفين من وراء تأليف الكتاب هما "تقديم وصف لتماسك المضمون والأسلوب في أعمال كن لوتش، وتقديم بيان لتطور مساهمته السينمائية".

ويعتبر الكتاب رحلة تحليلية في أفلام لوتش، مع التركيز بوجه خاص على أهمية تعاونه مع عدد محدد من كتاب السيناريو مثل جيم ألن وغيره، وبحث كيف تمكن لوتش من تطويع أفكار كتاب السيناريو الذين كتبوا أفلامه لأفكاره السياسية اليسارية المعروفة، دون أن يتنازل عن بحثه الشاق في تطويع الشكل ايضا، واللغة السينمائية، وتطوير الأساليب التي يستخدمها في السرد وفي تقديم الفكرة.

في الفصل الأول من الكتاب مثلا، وهو بعنوان "مقطوعات واضحة في الحفل الموسيقي" Clear Notes in the Concert، يتوقف المؤلف أمام عناصر محددة مثل الواقعية، السياسة، الميلودراما من خلال تحليل مشهدين فقط من فيلم "أغنية كارلا" Carla’s Somg الذي أخرجه لوتش عام 1996.

ومن خلال هذا الفصل يبحث المؤلف في الفكرة المؤرقة عند لوتش، وهي كيفية التعبير عن فكره السياسي، وفي الوقت نفسه، تقديم شكل فني ممتع يجذب الجمهور، وكيف يلعب الأداء التمثيلي السلس والطبيعي والمتدفق أمام الكاميرا دورا كبيرا بل وأساسي، في إضفاء الواقعية التي تقترب أحيانا من الطابع الوثائقي، على الفيلم، وتصل بالتالي إلى الجمهور، في حين أن الأداء التمثيلي المحكم، المعد سلفا، ربما يجعل المشاهدين يشعرون بالتكلف.

وفي الفصل الثاني "ماذا تفعل بالكاميرا" What to do with a Camera يناقش المؤلف في ثلاثة اقسام داخل الفصل، الأفلام الثلاثة الأولى التي أخرجها لوتش في الستينيات وهي "عند مفترق الطرق" Up the Junction و"كاثي تعود للبيت" Cathy Comes Home و"البقرة المسكينة" Poor Cow

ويدلل المؤلف على ابتعاد لوتش في تلك المرحلة المبكرة من مسيرته السينمائية، عن الواقعية أو المنهج الطبيعي الذي سيتوصل إليه لاحقا في مراحله الأكثر وعيا ونضجا، على ميل لوتش في تلك المرحلة إلى استخدام أسلوب التغريب البريختي المعروف خصوصا في استخدامه للأغاني والموسيقى، وكيف يقطع الغناء السياق السردي الدرامي، أو كيف تفرض الموسيقى نفسها فجأة لكي تمنع اندماج المتفرج مع ما يشاهده، وكيف كان يستخدم سياقا للسرد غير متناغم أو متصاعد، بل يصعد ويهبط، وهو كا يرى المؤلف، أنه أسلوب ناتج عن تأثير الفرنسي الشهير جان لوك جودار على لوتش.

ويبحث المؤلف أيضا في استخدام لوتش الأسلوب الوثائقي في المونتاج، واستخدامه التعليق الصوتي من خارج الصورة، وتقديم أرقام وإحصائيات على طريقة الفيلم التعليمي- وهي فكرة بريختية أيضا.

في الفصل الثالث "ملاحظة متعاطفة" Sympathetic Observation يقول المؤلف إن لوتش بعد تجربته التي لم تنجح في الاقتراب من آفاق الفيلم الشعبي أو الجماهيري في فيلم "البقرة المسكينة" (الذي يعتبر أول أفلامه للسينما: وما سبقه كان للتليفزيون)، اتجه مع منتجه توني جارنيت وجهة أخرى في فيلمه السينمائي الثاني "طائر العاسوق" Kes المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه صدرت في 1969.

ويتوقف المؤلف طويلا أمام هذا الفيلم، بل ويخصص الفصل بأكمله لتحليل كل جوانبه الفنية، راصدا كيف توصل لوتش إلى أسلوب خاص في التصوير بمساعدة المصور البريطاني الكبير كريس منجيز Chris menges الذي سيصبح فيما بعد مخرجا لامعا أيضا.

ويرصد المؤلف كيف يعبر لوتش في فيلمه هذا عن رسالته السياسية النقدية دون أن يلجأ الى الاسلوب المكشوف بل الى الاستخدام الموحي للرمز، ويستفيد من الجوانب الخاصة في الشخصية الرئيسية، بل ان الفيلم يعد على نحو ما أيضان دراسة تحليلية لحالة انسانية، مستخدما زاوية أحادية للنظر الى موضوع الفيلم لإضفاء الواقعية.

وفي الفصل الرابع وهو بعنوان "تجربة التاريخ" The Experience of history يتوقف جاكوب لي أمام العلاقة التي ربطت بين كن لوتش وكتاب سيناريو مثل جيم الن (الذي كتب له ستة من أفلامه، ثلاثة منها للتليفزيون). وجدير بالذكر أيضا أن جيم ألن هو مؤلف المسرحية الشهيرة بعنوان "الهلاك" The Perdition التي كانت تكشف بالوثائق التاريخية، كيف باع بعض زعماء اليهود الأثرياء، أغلبية يهود المجر لحساب النازيين مقابل السماح بهجرة عدد محدود من اليهود الصهاينة إلى فلسطين. وقد ذهب مئات الآلاف منهم إلى معسكرات الابادة النازية بمباركة الزعماء الصهاينة، وهذه المسرحية تحديدا جاءت شهرتها أو ذاع صيتها بعد منع تقديمها على مسرح الرويال كورت في لندن في 1987، بعد تلقي المسرح تهديدات بتفجيره بالقنابل من قبل جماعات صهيونية متطرفة، كما هوجمت ومنع تقديمها في مهرجان ادنبره للمسرح. وقد تناولتها بالتفصيل في كتابي الأول "سينما الهلاك" (الذي يستمد عنوانه من تلك المسرحية تحديدا). وقد أخرجها كن لوتش للمسرح. وقد عرضت لمدة أربعة أيام فقط في قاعة صغيرة تم استئجارها ولاقت هجوما شديدا في الصحف البريطانية الخاضعة للنفوذ الصهيوني، وخاض مؤلفها ومخرجها، حربا حقيقية من أجل الدفاع عن وجهة نظرهما.

وجدير بالذكر أيضا أن الموقف السياسي المتقدم لكن لوتش من ممارسات إسرائيل بلغ قمته عندما رفض المشاركة في مهرجان إدنبره 2009 إلا إذا أعاد المهرجان منحة مالية كان قد حصل عليها من إسرائيل مقابل دعم تقديم عرض إسرائيلي، وذلك احتجاجا على الحملة الإسرائيلية العسكرية على غزة.

عودة إلى الكتاب، إلى الفصل الخامس، وهو بعنوان "الأهمية والموضوعية" Signifigance and Objectivity وفيه يبحث المؤلف في الأسلوب الواقعي لكن لوتش، ويحلل أصوله التي تكمن أساسا في السينما الوثائقية، وكيف تمكن من خلق علاقة بصرية وثيقة بين الخيالي وغير الخيالي في أفلامه، وبتركيز خاص على تجربة لوتش في فيلم "حارس اللعبة" Gamekeeper (1980) وتعاون لوتش فيه مع الكاتب باري هاينز، والمصور كريس منجيز، ويحلل المؤلف طريقة عمل لوتش في هذا الفيلم من الناحية السينمائية، فيتوقف أمام استخدامه اللقطات البعيدة، والاضاءة المحدودة وحركة الكاميرا،وهو الأسلوب الذي سيكرره في فيلمه التالي "نظرات وابتسامات" Looks and Smiles (1982). وبعده أخرج عددا من الأفلام الوثائقية الى نهاية عقد الثمانينيات، ومنها استفاد كثيرا بلاشك في تطويع تقنية الفيلم الوثائقي لخدمة أفلامه الروائية التالية.

في الفصل السادس والأخير "قطع في قلب ما يحدث" Cutting to the Core of What’s Happening يتناول المؤلف الأفلام الكثيرة المؤثرة التي أخرجها لوتش في التسعينيات بدءا من "مفكرة سرية" ثم "ريف راف" Rif Raf و"تمطر حجارة" و"ليدي بيرد.. ليدي بيرد" Ladybird.. Ladybird ثم "الأرض والحرية Land and Freedom الذي يعد أكثر أفلام لوتش جرأة وتعبيرا عن رؤيته السياسية بل وانعكاسا لتصوره السينمائي الخاص بخلق دراما تقوم على المشاركة الجماعية وإن حاول أن يربط خيوطها باستخدام قصة فردية يتشابك مصري صاحبها مع المصائر الأخرى لشخصيات متنوعة جاءت من بلدان مختلفة وشاركت في فيالق المناضلين خلال الحرب الأهلية الاسبانية، وعانت من التناقضات الداخلية والانشقاقات المذهبية التي كانت سائدة وقتذاك.

يتميز الكتاب بغزارة المعلومات التي يقدمها، لكن أهم ما يميزه وضوح الرؤية والمنهج والهدف، وقدرة مؤلفه، المحاضر في جامعة لندن، على تقديم تحليل تفصيلي رصين وممتع، وتطرقه إلى الجوانب الجمالية والأسلوبية في عمل كن لوتش، بحيث ينجح تماما في تقديم صورة متناغمة لتطور مسيرته السينمائية رغم أنه، بكل أسف، لا يلحق بالأفلام التالية المهمة التي أخرجها لوتش في السنوات الأخيرة، وبات الكتاب بالتالي في حاجة إلى طبعة ثانية مزيدة، تلم بكل ما حققه هذا المخرج المرموق.

الجزيرة الوثائقية في

28/04/2011

 

شجرة اللاشيء في رحلة كياروستامي

فجر يعقوب  

في فيلمه الأخير” نسخة طبق الأصل” يبدو المخرج الايراني عباس كياروستامي أمينا لفكرته عن مراقبة العالم عبر سيارة متحركة . لقاء جولييت بينوش الأول مع وليم شيمل يمر عبر هذه الواسطة المتنقلة . لايقوم الممثلان الغريبان” عن عوالم كيارستامي بالتلصص على مقومات الشجرة العارية باعتبارها النسخة الأصل كما في الفلسفات الشرقية القديمة، ولكنهما يعكسان تدفق الأفكار الذي يؤمن به المخرج، فالسينما بمقدورها أن تكون حركة، وهي حركة ذهنية ومادية تقوم على استدراج المشاهد في رحلة خارج الفيلم، في رغبة مايسميه المخرج اقتناص اللاشيء .

الآن تبدو أفكار عباس كياروستامي أكثر نضوجا، بعد أن وسم الشعر الصافي الحر تجربته، ومنح أبعادا اضافية للصورة التي بحث عنها في أفلامه السابقة .  كان دائم التقليب في بطانة أفكار جديدة لم تكن تكتمل إلا لحظة اضاءة المكان، وهو من خلال الاستقواء بالحركة، كان دائما يتغلب على ما هو مستنسخ وأصلي مما يعرض أمامه من أفكار سينمائية، وربما هنا يكمن سر فيلمه الأخير الذي يمثل تقليبا وبحثا عن الأفكار التي لا يمكن تصيدها إلا من تلك الزوايا الهامشية الأتي لايعرفها سوى مخرج مثله .

بهذا المعنى كياروستامي يمثل طائفة نادرة من الأفكار المتأججة، من الصعب متابعتها عند مخرج آخر، إذ تبدو أحيانا مهمة اقتناص اللاشيء، مهنة إضافية عنده تودي في نهاية المطاف إلى السينما التي يحب مشاهدتها، ويحب صناعتها، حتى لو افترض جدلا أنه يقيم دائما في الجانب المظلم من العالم، إلا أن اضاءة اللاشيء الذي يبحث عنه في قرارة أعماقه تغير من حصن المساءلة النقدية، وتكف عنه شر السؤال . مايعني أن كياروستامي يمثل في أفلامه كلها انسيابا حرا للفكر، ولجماليات الأحاسيس المتوارية خلف الصور التي يجيد رسم ابعاد اضافية لها وتثويبها باللمعان والقدرة على صناعة السؤال من خلال مغادرة المكان نحو اكتشاف مكان آخر، لايبدو مهما في السياق حين يقدر له أن يكون هو” اللاشيء” الذي يبحث عنه من خلال تأمين رحلة خارج الفيلم .

تبدو رحلة كياروستامي في مخيم فلسطيني قبل ثماني سنوات” أتأملها من زاوية مختلفة وليس كما حدثت” مثل رحلة مقدرة نحو هذا اللاشيء، وخارج السينما في آن . ربما تعطيها الكتابة الآن معنى مختلفا لم يكن ممكنا العثور عنه حين طلب زيارة المخيم . هي بالتأكيد رحلة مختلفة، لا تشبه رحلات من طلبوا من قبل زيارة مخيمات فلسطينية مختلفة، فكياروستامي الذي كان يسير في أزقة مخيم اليرموك القريب من دمشق، كان يبدو مثل منوّم مغناطيسي لا يعبر فيها من طاقة الزمن التي يجيد النظر منها حين يقرر صناعة فيلم من أفلامه . ربما تهيأ حينها خلال الاقتراب من مكان له خصوصية في الذاكرة الانسانية المطفأة من اللقطات التي يحب تكويناتها، ولكنه كان يغادرها، باعتبارها الجانب المظلم في الحكاية، هكذا بدا في رحلته غير المتكررة، فهو يعرف كيف يقرب أبطاله من أفلامه ويبعدهم حين لايجيدون مثله القدرة على التأمل، وحين يقتادهم من شعورهم في المغارات المفتوحة على تدفق أفكار لا ينضب، فهي تتوالد دائما أمامه، ويكفي أن يشع منها مقطع شعري صغير حتى يؤمن كياروستامي لنفسه فكرة فيلم قادم .

قراءة أخرى في معنى طلب الزيارة قد لايضيف شيئا إلى السيرة الذاتية لصاحب” طعم الكرز”، فالمخرج كان ربما بعكس مرافقيه” أنا ومصوره سيف الله صمدايان” لا يفكر سوى بشحن قدراته على تخيل ماهو معصوب تحت العين، فقد بدا وهو يسير على قدميه  وقد صمم لنفسه نافذة سيارة متخيلة ينظر من خلالها إلى الأشياء المتحركة من حوله . كان كل شيء ثابتا في مطرحه لا يتزحزح، كأنه ينتظر وضع نهاية منطقية ومقبولة لحوار مع أشياء غير مجدية ولاتصلح للسينما، فهو لا يستطيع وضع تصورات لأفلامه بالكلمات، بل من خلال مراقبة عناصرها المكونة لها . هذا لايعني بالطبع أن كياروستامي كان مشغولا حينها بوضع تصور عن فيلم مقبل، بل كان مشغولا بممارسة هوايته الأثيرة في” مغازلة” اللاشيء واقتناصه من مسافة قريبة .

هواية مختلفة لايمارسها مخرجون كثر . ربما هو وحده من يقرر ذلك، فإذا كان يلفق أبطالا لأفلامه، كما فعل مع حسين سابزيان الذي كان مهتما في فيلم” كلوز آب” بأن يصبح المخرج محسن مخملباف، ليواصل مخادعة عائلة ايرانية، فإنه غدا مخملبافيا أكثر من مخملباف نفسه، الذي لم يعد مهتما بأن يكون كذلك بعد أن حصل على سيرته الذاتية، واستكمل شروط الانتساب إلى العائلة الايرانية المنتظمة بوصفه المعبود لها ، فيما ظل اللص الحقيقي حسين سابزيان لصا بنظر هذه العائلة  بوصفه العبد” للشجرة العارية”.يشكر كياروستامي الدراجة النارية لأنها سمحت في نهاية الفيلم بأن يستقلها العبد والمعبود” محسن مخملباف وحسين سابزيان” في مشهد سينمائي خلاق

لم يتكلم في رحلته . كان صامتا، قلقا، يشكل لغزا لنفسه، فطلبه الزيارة ظل ملتصقا به من دون تفسير. حتى سؤاله عن القضية الفلسطينية ظل بدون اجابة . كل مافعله حينها لم يتعد شراء الأقراص المدمجة الخاصة بعبد الحليم حافظ، فهو قد أسرّ ببضع كلمات عنه مفادها أنه عاشق كبير لأغانيه . غير ذلك لم يقل شيئا عن السينما التي يؤلفها في خياله .

في رحلته الشخصية قبل ثماني سنوت كان كياروستامي يلفق لنفسه نافذة غير حقيقية ليعبر منها نحو الشجرة العارية، لكن العبور لم يكن ميسرا بعكس أبطاله الذين يمرون بسهولة  وينتقلون بين فلوات الصورة بحرية أكبر . في فيلم سوف تحملنا الرياح” يغدو السؤال عن الشجرة العالية المنفردة محرما، فهناك الكثير منها فوق التلة العالية ... وهي عالية، لأن كياروستامي يصبح أكثر قدرة على البوح، بأن هذا لن يؤدي بأحد إلى أي مكان . ومافعله في رحلته لايغدو أكثر من ملاحقة صارمة لآثار شجرة عارية لم تكن متوفرة بالمكان الذي قصده متعثرا وخجلا وغير قادر على ترجمته في صورة واحدة من دون أبعاد متوغلة فيها . أسئلته حينها لم تكن متولدة من نافذة السيارة المتخيلة التي لم تكن متوفرة في هذا الفيلم الواقعي المتولد من زيارة عابرة لمكان لن تعرفه عدسة كياروستامي لو جابته ثانية . ربما لم يرد الخروج من الجانب المظلم، فهو يعرف أحيانا أن الشاعرة الايرانية فوروغ فرح زاد قد سبقته مرارا إلى هناك حين تنشد :

"الغيوم كجمهرة من نساء ناحبات،

تنتظر ولادة المطر ..

ثانية واحدة ...ثم لاشيء

وراء هذه النافذة الليل يرتعش

والأرض تكف عن الدوران وراء هذه النافذة.

الجزيرة الوثائقية في

28/04/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)