حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«وشم بالعين» ليمنى عيتاني سيرة مجتمع على حافة الهاوية

البؤس حياة البؤساء وفنهم

نديم جرجورة

إنه القاع. العمق الكبير للمدينة وناسها. المساحة الأكبر للجرح العميق في النفس والروح والجسد. الصُوَر الملتقطة في زوايا المدينة وباطنها المجتمعي والإنساني صادمة. أكاد أقول إن قسوتها أرحم من واقع العيش اليومي لـ«أبطالها» المهمَّشين. لـ«أبطالها» المكسورين عند الخطّ الفاصل بين إنسانيتهم المسلوبة ومتاهاتهم المفتوحة على الخيبة والعزلة والجنون. إنه القاع. قاع مدينة ومجتمع وشبان منذورين للشقاء. أو مقيمين في الألم. ما فعلته الكاميرا معهم عاديّ: رسمت لهم وجوهاً، وأعطتهم متنفّساً لوجود مختلف عمّا اعتادوه. أو بالأحرى، استعادت وجوههم المنسية، وجعلتها صنو لحظات أخرى من الحياة. ما فعلته الكاميرا معهم لم يعد عادياً: باتوا بفضلها اناساً حقيقيين، وإن ضربتهم صنوف الشقاء من كل حدب وصوب.

خيط رفيع

بهذا المعنى، يُمكن القول إن خيطاً رفيعاً جداً فَصَل التوثيقيّ عن الروائيّ، في الفيلم القصير «وشم بالعين» (30 دقيقة) ليُمنى عيتاني. التوثيق واضح. الشخصيات المُقدَّمة مستلّة من سيرهم الذاتية. سردوا أشياء من واقعهم اليومي. التوثيق، هنا، ركيزة أولى. النصّ الروائي إضافة نوعية. استكمال للتوثيق. ترجمة بصرية له. الخيط الرفيع جداً بين التوثيقيّ والروائيّ لم يحل دون إخراج الشبان من واقعهم الحقيقي إلى حالة سينمائية مرادفة لأمزجتهم وأنماط عيشهم. الحالة السينمائية خروج مؤقّت إلى عالم أرحب، أرادوه لحظة استراحة، أو صرخة ضد الذات والمحيط. «وشم بالعين» منح هؤلاء الشبان إمكانية القول. وعندما قال كل واحد منهم وجعه وسلوكه وتمزّقاته، مباشرة أو مواربة، بدا الفيلم أشبه بشهادة إنسانية محضة. بدا الفيلم انعكاساً لحالة اجتماعية واقعية.

«الحافز الأساسي الذي دفعني إلى إنجاز هذا الفيلم، كان أن أروي جروح شبّان باب التبانة وإحباطهم، والحلقة الجهنمية التي يتخبّطون بها». قدّمت يمنى عيتاني «وشم بالعين» بهذه الكلمات. الصفة الأجمل للواقع الأكثر بؤساً شكّلت الصورة الأكثر مأسوية لهؤلاء الشبّان: «الحلقة الجهنمية». وصفٌ مفتوح على أشكال العيش والموت. على تفاصيل هامشية صنعت أشياءهم المحطّمة. على حكايات صغيرة يسمعها كثيرون ولا ينتبهون إلى واقعيتها الفجّة والقاتلة. وصفٌ معنيٌّ، بالدرجة الأولى، بأولئك المسحوقين داخل البؤر التي يُفترض بها أن تكون أمكنة طبيعية لحياتهم. مع هذا، فإن ما ذهبت إليه يمنى عيتاني بدا، بعد إنجازها الفيلم، أبعد من مجرّد «حلقة جهنمية»: هناك شرخ مفتوح على عالم مُعقَّد ومتشابك ومتداخل في متاهات لا عدّ لها ولا حصر، جعله هؤلاء الشبّان ملاذاً وحيداً وأخيراً لهم. الغرق في شتّى أنواع البؤس، المتأتي أصلاً من أسباب جمّة لم تشأ يمنى عيتاني تحليلها أو الغــوص فيـها، نابعٌ من انسداد أفق، أو انغلاق درب: العائلة، البيئة، الوضع المعيشي، أنماط التربية، الرعاية المفقودة. هذه أسباب وردت في سياق الحكاية السينمائية بخفر ومواربة. لكن «وشم بالعين» لم يُحاكم ولم يُحلّل. اختصر حالة وبيئة وأناسا متمــسّكين بالحياة ربما، لكنهم مقيمون على حافة الموت، إن لم يكن فيه.

يوميات البؤس

أما الحكاية، فهي حكاية إبراهيم (عمر ثلجه)، ابن الأعوام السبعة عشر، الذي يُعاني فقراً وعنفاً عائلياً وتشرّداً وإدماناً على المخدّرات. ارتياده السجن دمغة في حاضره، وانخراطه في المجتمع شبه مستحيل. أبو قطنة (إيهاب محمد) في الثامنة عشرة من العمر، يعاني مشاكل مماثلة. العنف سلاحٌ وحيد لتحقيق مبتغاه، و«التشبيح» قوته اليومي. إنه صراع بينهما: فأبو قطنة اعترض إبراهيم في ورشة الحديد لابتزازه مادياً بمبلغ زهيد. اصطدما مع بعضهما البعض، إثر رفض إبراهيم دفع المبلغ. طعنة سكين أفضت إلى مطاردة انتهت بعنف بدا أنه لا ينتهي. العنف المنزلي (تعرّض إبراهيم لضرب وحشيّ من قِبَل والده) أدّى به إلى السكن في سيارة مهجورة. لكن «الحلقة الجهنمية» مستمرّة في حصد الأحلام المتواضعة. مستمرّة في إنتاج مزيد من بؤس اليومي وشقاء الروحي. في تقديمها «وشم بالعين»، قالت يمنى عيتاني: «رافقت الشبّان بضع سنين تحضيراً لفيلمي. هم فتحوا عينيّ على طريقة عيشهم اليومي. كانت حياتهم تُهدر هدراً. التشبيح والجريمة والمخدرات والسجن والانتكاس وجرد الأجساد... طريقة عيش». أضافت أن عثورها على مذكّرات أحد هؤلاء الشبّان في السجن، سمح لها بوضع الإصبع على المأساة التي يعيشونها: «صفحات تروي من دون خجل ألمه وغضبه وبحثه عن عالم أفضل». رأت أنه «كان يُمكن لهؤلاء المراهقين، أثناء توقيفهم، أن يقضوا أياماً عدّة في الانفراد والظلمة». قالت إنها قرّرت، بعد هذا كلّه، أن يمثّلوا في فيلمها، لأنها رأت أن أداؤهم سيكون أكثر أصالة، وأن هذا الأمر سيــحافظ «على النكهة المحلية»، حيث عاشوا التجربة الحقــيقية للأشخاص الذين أدّوا أدوارهم أمام الكـاميرا: «تبيّن لي أن هذا الخيار صعب». ذلك أن سلوكهم الذي لا يُمكن التنبؤ به يُعرّضهم للاعتقال في كل لحظة، أو للتخلّي عن التصوير، أو «لابتزازي كسابق عهدهم». مع هذا، استمرّت في العمل: «أعطى من اخترتهم من الفتيان كل ما عندهم. وحين فهموا ضرورة وجودهم طوال مدّة التصوير، اغتنموا الفرصة ليتصرّفوا كنجوم».

هذا نمط من الاشتغال السينمائي: اختيار بلاتوه طبيعي. التصوير في أمكنة مفتوحة على وقائع العيش اليومي في القهر والألم. التعاون مع فتيان غير محترفين. هذه كلّها أدوات فنية. المضمون أقوى، ربما لأن البؤس أقوى. التفاصيل الجانبية ليست ضرورية جداً. هناك جهد مبذول للحصول على أفضل أداء ممكن. لكن الفتيان ليسوا ممثلين. أداؤهم المرتبط بواقعهم بدا أمام الكاميرا متصنّعاً بعض الشيء. ليس نقداً، بل محاولة للتأكيد على أن المناخ الروائيّ غلّف الجانب الوثائقي. هؤلاء هم هكذا. هذه حياتهم. «وشم بالعين» شهادة بصرية مكتوبة عنهم ولهم ومعهم.

يُعرض الفيلم السابعة مساء كل يوم في صالتي «أمبير دون» (فردان) و«أمبير سوديكو»، وقد شاهده 793 مشاهداً، في الفترة الممتدّة بين الواحد والعشرين من كانون الثاني الفائت والرابع عشر من شباط الجاري.  

السفير اللبنانية في

17/03/2011

 

صـلاح مرعـي وفلسـفة المكـان

نديم جرجورة 

الصورة الأولى التي ظهرت سريعاً أمامي، عند سماع نبأ رحيل مهندس الديكور السينمائي المصري صلاح مرعي، متمثّلة بحضوره الرائع في أروقة «مهرجان الإسماعيلية للأفلام القصيرة والتسجيلية»، في تلك المدينة الممتدة على الجانب الآخر من صحراء سيناء، وأمام مجرى قناة السويس. لم أذهب إليه يوماً لتعارف أو لسلام. خجلي لا يتناسب ووظائف المهنة. لكنّي اكتشفتُ أن أفضل الطرق إلى التعارف مع مبدعين كبار كامنٌ في معاينة نتاجاتهم. هذا شعورٌ جعلني أرتاح إلى ذاتي في علاقاتي بالآخرين. صلاح مرعي أحد هؤلاء. لا يُمكن للمرء أن يتغاضى عن رغبة التقرّب إليه، عند لقائه الأول به. في شخصيته جاذبية مصنوعة، ربما، من هوسه بأن يكون عفوياً في اللقاءات العامّة. أو ربما من طيبة لا يُمكن إدراك كنهها. أو ربما من بساطة متجلّية في تلك القدرة على أن تكون صناعة الديكور السينمائيّ حافزاً إلى فهم أجمل للمشهد. لا أعرف. تفاصيل كثيرة كان يُمكن لي الاستعانة بها لتعارف شخصيّ. لكنّي فضّلت البقاء على مسافة، تتيح لي متعة لقاء من طرف واحد.

تفاصيل كثيرة؟ أعتقد أن اللحظة الأولى التي جعلتني أنتبه إلى كون الديكور السينمائي أساسي في البناء الإبداعي للصورة الفنية، متمثّلة بقراءتي عدداً خاصاً بشادي عبد السلام، أصدرته مجلة «القاهرة» منذ سنين طويلة. الصوَر المنشورة عن فيلم «المومياء» ومشروع «أخناتون» كافيةٌ لمتعة البصر والانفعال، قبل مُشاهدة الأول والتحسّر على عدم إنجاز الثاني. هناك، في تلك الصوَر والحكايات المستلّة من أعماق التاريخ، ما يُحيل النصّ إلى مفتاح لإدراك الخفايا، ولعيش حقيقة القول إن العين مفتاح الروح، أو مدخل إليها. اشتغال صلاح مرعي في هذين الفيلم والمشروع بداية تعارف من جانب واحد، وبداية انتباه إلى تلك المفردات الجانبية، التي تُصبح معه ومع أمثاله متن الحكاية كلّها. اشتغال صلاح مرعي هذا أعانني على حشرية القراءة الخاصّة بالعمارة أيضاً، بين حين وآخر، هو الحالم بتخصّص أكاديمي في هندسة العمارة، قبل انتقاله إلى رحاب العالم الشاسع للإبداع السينمائي.

لم يكن شادي عبد السلام لحظة تحوّل جذريّ في مسار صلاح مرعي وحده. من جعلني أتحمّس لمُشاهدة «المومياء»، كامنٌ في كلام جميل وعميق قاله لي يُسري نصر الله عن السينمائي الذي ألهم كثيرين بإنجازات قليلة. في الإسماعيلية، أردتُ ذات مرّة أن أسأل صلاح مرعي عن سبب الانجذاب الإبداعي إلى شادي عبد السلام. أقول إن خجلي حال دون ذلك. غير أن مُشاهدة «المومياء» كفيلةٌ لفهم الخطوات الأولى التي يُفترض بمن عشق السينما أن يخطوها، كي يدخل العالم الواسع للفن السابع: اللقطات وألوانها. الفضاء ومساحته المفتوحة على دهاليز الروح، ومتاهات العيش على التخوم الواهية بين الذاكرة والراهن. الأداء. التفاصيل الأخرى. «المومياء» يبقى مدخلاً جوهرياً إلى فهم المعنى الأسمى لصناعة فيلم. مدخلاً أول إلى الإسراف اللاحق بمعاينة دقيقة لتلك الجوانب/ الأصول، لتلك المفردات القائمة في بنية النصّ واشتغالاته الأخرى. لـ«المومياء» قصّة أخرى أيضاً: أول عمل فعلي لصلاح مرعي في مجال الديكور تمثّل باشتغاله، في العام 1959، في مسرحية «أوديب» مع شقيقه الممثل الراحل أحمد مرعي. أحمد مرعي؟ بطل «المومياء» لاحقاً. أهو القدر أم الصدفة؟ أهو الهاجس الإبداعي أم بساطة الأشياء المنسابة إلى معالمها الخاصّة؟ ربما. لكن شادي عبد السلام حاضرٌ منذ البداية: التأثير الأول، والدراسة الأكاديمية. ثم الذهاب إلى قلب العمل المباشر معه: «إذا كان هناك بيتٌ في الريف، يضع مصمّمو الديكور جميعهم «مشنة» أو «زلعة» أو «قشّ الذرة». قد لا يكون هذا كلّه مرتبطاً بالدراما. ما يحدث «شوشرة» لا معنى لها. لكن، إذا نظرت إلى مشهد من «المومياء» لبيت ريفي أيضاً، لا ترى أي ملامح للريف: بط، ماعز، خراف. ذلك أن التركيز الأول والأساسي كامنٌ في المشهد، الذي يمثّل صحوة ضمير إزاء التراث والتاريخ، والذي يحمل موضوعاً فلسفياً بعيداً عن المشاكل والأشكال السطحية للريف، الذي يقف عندها مصمّمو الديكورات الآن، بعيداً عن روح السيناريو».

اهتمامه بالديكور السينمائي أتاح له فرصة العمل في مشاريع متناقضة بين بعضها البعض، شكلاً ومضموناً. لا أعرف سرّ القدر: أن ينجذب صلاح مرعي إلى السينما بفضل سينمائيين كبار في بداية رحلته الطويلة («الحياة حلوة» لحلمي حليم، 1964)، قبل أن يُنهي حياته الفنية بالعاديّ («زهايمر» لعمرو عرفة، 2010). لكنّي أعرف أن صلاح مرعي أدرك صناعة إبداعية لاشتغالاته المتنوّعة. فالأهم عنده مرتبط بالحرفية: «يجب على مهندس الديكور أن يكون واضحاً ومحدَّداً، لأننا نعمل في وسط لديه مسلمات وأعراف وتقاليد ثابتة. عليه أن يكون مثقفاً في المجالات كلّها، كالعلوم والفنون والتاريخ والعمارة. أن يكون لديه حسّ تشكيلي وتصوّر خاصّ بالبناء والإضاءة. أن يُلمّ بأسس الدراما والإيقاع والحركة. أن يتمتّع بموهبة القيادة والسيطرة على فريق العمل. إن أي عمل يتطلّب الوعي بتاريخه وبيئته والثقافة السائدة وانعكاسها على الناس وتقاليدهم ومعتقداتهم، بالإضافة إلى الذوق والمقدرة على التصميم». هذه، باختصار، حكاية صلاح مرعي. أعتقد أن أي كلام آخر لن يُغني كثيراً.

السفير اللبنانية في

17/03/2011

 

جان بيار غوبلتان جندي السينما

نديم جرجورة

مات جان بيار غوبلتان قبل ثلاثة عشر يوماً. في بيروت، المدينة التي أحبّها، لم يُدرك كثيرون نبأ رحيله إلاّ متأخّرين. بعضهم احتاج إلى خمسة أيام كي يذكر النبأ. بعضهم الآخر لم يستطع الكتابة عنه. مات الرجل في منزل ما في مدينة ما في بلده الأصليّ. ذهب إلى هناك منذ أعوام عدّة. لم يعد قادراً على العيش في بيروت، المدينة التي أحبّها كثيراً، والتي أمضى فيها سنين طويلة لا تُعدّ ولا تُحصى. المدينة التي شغلته، كحيّز جغرافي، وكفضاء مفتوح على الاشتغال الإبداعي. المدينة التي أخذته إليها، قبل أن تلفظه منها، عندما ضاقت سبل العيش فيها، وبات عليه أن يُغادر المكان الأحبّ إلى قلبه ووجدانه وروحه وعقله وانفعاله. المدينة التي سحرته منذ نهاية الأربعينيات الفائتة، فتخلّى عن أشياء كثيرة كي يبقى فيها ومعها. كي يعيش في أعماقها. كي يُشارك في صناعة رفاهيتها الثقافية والفنية. المدينة التي جعلته يكتب، بل التي جعلته يساهم في كتابة جزء من تاريخها الثقافي وحضورها الفني. المدينة التي أطلقته إلى آفاق واسعة، متيحةً له أجمل الفرص، قبل أن يُبادلها بفرص أجمل، رسمت شيئاً كثيراً من سيرتها. المدينة التي فتحت أبوابها أمامه، قبل أن يجد نفسه عاجزاً عن الاستمرار فيها، من دون أن تشفع به السنين المديدة التي أنفقها هنا ولها ومن أجلها.

لا أذكر اللحظة الأولى التي التقيتُ فيها جان بيار غوبلتان. لعلّه الحوار الصحافي الذي أجراه الصديق محمد سويد معه، ونشره في «السفير» ذات يوم من أيام الثمانينيات المنصرمة. أتذكّر فقط أن لقائي به فتح أمامي ملف الذاكرة الفردية لبيروت، ولسينماها وانشغالاتها بهموم الفن السابع ومنعطفاته التاريخية والثقافية والاجتماعية. أتذكّر فقط أن حماسته للسينما، التي اختبرتها عن قرب لأعوام عدّة، لم تنضب يوماً، في مقابل هزيمتنا وبلادتنا وادّعاءاتنا الشبابية التي لا تنتهي. لم يرضخ لوطأة العمر. قيل إنه توفي وهو في الثالثة والتسعين من عمره. لا أذكر أن ملامح العمر ظهرت على محياه يوماً. لا أذكر أن الشيخوخة عرفت طريقاً إلى جسده وروحه. لا أذكر أنه غاب مرّة عن أي عرض سينمائي خاصّ بالصحافة النقدية. عن مهرجانات ونشاطات وسجالات. غير أني لا أنسى أيضاً قدرته الدائمة على السخرية الجميلة، والنكتة الطيّبة. نحن الذين انهزمنا في مقتبل العمر، ورضخنا لبشاعة المهنة، وبحثنا عن مصادر رزق كي نواجه وحش الحياة اليومية. نحن الذين ظننا أن العمر الفتيّ قادرٌ على منحنا أجمل اللحظات، قبل أن نكتشف في الرجل تلك القدرة الغريبة والجميلة على حماية الذات من بهتان الصورة، وعلى التزام السينما، مشاهدة وكتابة وتعليقاً ونقاشاً، أداة عيش وفرح ومتع لا تنتهي. حتى عندما دخلت بيروت عصر انحطاط في الثقافة والفنون، كما في السياسة والاقتصاد والأمن والأخلاق والعلاقات الإنسانية، ظلّ الرجل متيناً في قناعاته، وعصيّاً على التخاذل والإحباط. لكن الإحباط ضربه بقوّة، على ما أظنّ، عندما ضاقت به المدينة، ولم تعد صحفها ومجلاتها راغبة في التعاقد المهنيّ معه، متناسية تاريخه العريق في الكتابة النقدية السينمائية، التي بلورت مفهوم النقد السينمائي في الصحافة اللبنانية، بتعاونه الوثيق مع سمير نصري.

الفرنسيّ القادم إلى الشرق الأوسط بسبب الحرب العالمية الثانية جندياً في الجيش الفرنسي، بات اللبناني الأعرق والأهمّ والأجمل، عندما اختار النقد السينمائي الصحافي درباً إلى معاينة الحياة والدنيا والتفاصيل بعين ثاقبة، وروح منفتحة على الاختبارات المتفرّقة. حيويته لا توصف. حماسته لا تُحدَّد بكلمات. هوسه بالسينما ظلّ يتنامى حتى اللحظة الأخيرة من اشتغاله، قبل مغادرته بيروت إلى الفصل الأخير من حياته، التي انتهت قبل ثلاثة عشر يوماً فقط. تُرى، كيف أمضى الرجل ذاك الفصل الأخير من حياته؟ ماذا كتب؟ ما هو الفيلم الأخير الذي شاهده؟ أم أنه فضّل الابتعاد المطلق عن انشغالاته القديمة؟ أم أن العزلة فُرضت عليه؟ لا أعرف. لكنّي متأكّد من أمر أساسي، كما خُيِّل إليّ دائماً: حماسة العيش، بالنسبة إليه، أقوى سلاح في مواجهة القدر. أم أن السينما حياة لا تنضب؟

السفير اللبنانية في

17/03/2011

 

«نجوم» السلفية... دعاة الثورة المضادة

محمد عبد الرحمن  

القاهرة| منذ سقوط حسني مبارك، تتسابق القنوات المصرية على استضافة الشخصيات السياسية والدينية والإعلامية التي بقيت لسنوات ممنوعة من الظهور على الشاشة. في السنوات السابقة، كان النظام يسيطر على جميع مفاصل الإعلام الخاص والحكومي. والمصريون جميعاً يذكرون ردّ الفعل الذي أثارته منى الشاذلي يوم استضافت مرشد جماعة «الإخوان المسلمين» محمد بديع في برنامجها «العاشرة مساءً» على قناة «دريم». يومها، أطلّ مالك المحطة على شاشة «المحور» ليهاجمها، ويعلن تبرؤ قناته من هذا الحوار الذي أغضب قادة النظام السابق.

اليوم تغيّرت الصورة، والممنوع بات مسموحاً به. هكذا أطلّ عشرات الإسلاميين (معظمهم مساجين سابقون) على الشاشات المصرية، لتثير حلقاتهم جدلاً واسعاً في الشارع، وخصوصاً بين الناشطين على الـ«فايسبوك». البداية كانت مع نائب المرشد العام لـ«الإخوان المسلمين» خيرت الشاطر، والقيادي البارز في الجماعة حسن مالك، الخارجين من السجن بإعفاء صحي بعد خمس سنوات على اعتقالهما. شاهدنا الشاطر يتنقّل من شاشة خاصة إلى أخرى. أما على «التلفزيون المصري»، فأطلت مجموعة من الشخصيات الإخوانية البارزة التي لم تدخل السجن خلال ممارستها عملها السياسي. واللافت كان إصرار مقدّم برنامج «مصر النهاردة» تامر أمين على تبرير استضافة هذه الشخصيات على الشاشة الحكومية، بعد سنوات من تركيز البرنامج نفسه على مهاجمة «الإخوان المسلمين» وغيرهم بصفتهم «العدو الأول للشعب المصري». وقال أمين إن الهدف من هذه اللقاءات هو «التعرف إلى فكر جماعة تتمتّع بثقل سياسي في الشارع المصري».

إلا أن النقاش انتقل إلى مرحلة جديدة بعدما انتقلت حمى الظهور الإعلامي الإسلامي إلى عبود الزمر، وطارق الزمر المتهمَين باغتيال الرئيس أنور السادات. وكان قرار الإفراج عن الرجلَين قد صدر أخيراً بعد 30 عاماً قضياها داخل الزنزانة رغم انتهاء فترة محكوميتهما قبل عشر سنوات. والأكيد أنه لولا «ثورة 25 يناير»، لبقيا في السجن حتى موتهما. ويبدو أن القياديَين في تنظيم «الجهاد الإسلامي» يدركان هذه الحقيقة، فقد وجّها في كل إطلالاتهما الإعلامية الشكر إلى الثوّار، إلا أنّ تصريحات عبود وطارق الزمر في برنامجَي «العاشرة مساءً» على «دريم»، و«تسعين دقيقة» على «المحور» وأيضاً على «الجزيرة مباشر» فتحت جدلاً من نوع آخر. رأى عدد كبير من مناهضي هذه الجماعة الإسلامية، أن كلام المعتقلَين السابقَين يندرج في إطار «الثورة المضادة»، لأن أفكارهما المتطرفة، ستؤكد للرأي العام أنّ خيار نظام مبارك بسجنهما طيلة هذه السنوات كان صائباً. هكذا أطل عبود الزمر على المشاهدين ليعتذر من الشعب المصري «لأن اغتيال السادات جاء بحسني مبارك إلى سدة الحكم وأدى إلى كل هذا الفساد»، لكن الرجل أكّد أن قتل السادات كان ضرورة «بعدما سد الرجل كل المنافذ أمام معارضيه وهدد مكانة مصر العربية والإسلامية بتوقيع معاهدة سلام مع إسرائيل». هنا اختارت منى الشاذلي الدخول في سجال شبه عقيم معه، وتطرق الحديث إلى موقفه من الأقباط، ومن ملفات أخرى...

وبعد الحديث عن أنور السادات، انتقلت المقابلة إلى محور آخر وهو موقف عبود الزمر من الأقباط، فطالب الإسلامي الشهير بضرورة إعادة فرض الجزية عليهم (ما يوازي الزكاة في الإسلام)، مؤكداً ضرورة حماية الدولة للأقباط، لكن كأقلية في مصر. وعندما حاولت الشاذلي تذكيره بأنه في «حرب أكتوبر» (1973)، تشارك المسلمون والمسيحيون في محاربة الإسرائيليين، كان جواب الزمر بسيطاً: «اتحد الطرفان لأن العدو كان من الديانة اليهودية، لكن ماذا لو كان العدو مسيحياً، فإن الأقباط سيعانون حرجاً كبيراً».

وبعد هذه المقابلة، خرج على موقع «فايسبوك» مئات المصريين الذين طالبوا الإعلام بعدم التسابق على استضافة هذه الشخصيات الإسلامية، وخصوصاً أن خطاب بعضها قد يؤدي إلى فتنة مذهبية، أو تحريض طائفي «مصر في غنى عنه في الوقت الحالي». وأشار هؤلاء إلى أن الفرق كبير بين عملية إطلاق سراح الرجلَين وإجراء مصالحة شاملة بين كل أطراف المجتمع المصري من جهة، وبين فتح الهواء أمام تصريحات قد تسبّب انقساماً كبيراً داخل مجتمع لا يزال يبحث عن هويته الحقيقية بعد ثلاثين عاماً من الدكتاتورية. وبين الإخوان والجماعة الإسلامية، كان السلفيون الرابح الأكبر منذ اليوم الأول للثورة عندما استعان بهم أصحاب القنوات الفضائية وفتحوا الأبواب أمام شيوخهم، وخصوصاً محمد حسان، الذي أطلّ على التلفزيون المصري. هكذا، بعدما أغلقت قنواتهم فجأةً في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي إثر قرار أصدره وزير الإعلام السابق أنس الفقي... ها هو يدخل السجن، وهم يخرجون إلى الضوء.

وعاد الشيخ إمام

«التلفزيون المصري» يبث أغاني الراحل الشيخ أمام. الخبر وحده يعدّ إحدى عجائب «ثورة 25 يناير». الرجل الممنوع مع صديق عمره أحمد فؤاد نجم يطل عبر الشاشة... الحكومية، وفي أهم برامجها، أي «مصر النهاردة». إذ نفّذ المشرفون على هذا البرنامج شريطاً مصوراً عن أجمل المعالم الطبيعية والسياحية في مصر على خلفية صورة الشيخ إمام عيسى يغني «يا مصر قومي وشدي الحيل» التي كتبها الشاعر نجيب شهاب الدين. وقد دخلت هذه الأغنية في منافسة مع كل الأعمال الوطنية التي سجّلت في الأسابيع القليلة الماضية، لتُعرِّف جيلاً كاملاً من الشباب والمراهقين إلى صوت هذا الرجل الذي ظل ممنوعاً منذ عهد جمال عبد الناصر حتى خروج المصريين إلى ميدان التحرير.

الأخبار اللبنانية في

17/03/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)