حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

فيلم «عواء»:

عن القصيدة التي مجّدت خطيئة الشعر

فادي سعد

«إنّ الفنّان فيّ قد تغلّب على الجنتلمان». هذه العبارة، كما يوردها همبرت همبرت عاشق لوليتا الفاجر، كانت الأكثر تأثيراً في سياق تبريراته لانتهاك طهارة طفلة قاصرة. كأنّ صراعاً ما كان يدور في رأس نابوكوف أثناء كتابة روايته، لكنّه بقي يردّد في نفسه: الفنان وليس الجنتلمان. عبارة تصلح بامتياز لتبرير جرائم قتل جنتلمانات الكتابة بخناجر الأعمال الأدبية الفاسقة والعظيمة. تلك الجرائم التي مجّدها التاريخ دائماً.

الفنّ الذي ظلّ يؤرّق كهنة الطهر وفرّيسي الفضيلة كلّما نطقَ بالحقيقة. الفن المرآة الذي يأبى في أرقى أشكاله تَغْطية العورات.

عن القصيدة، لا عن الشاعر

بعد الاحتفاء بالشاعر، أرادت السينما أن تحتفي بالقصيدة. هكذا أتتْ فكرة الفيلم السينمائي عن قصيدة آلن غينسبرغ الأكثر شهرة «عُواء»، بعد الفيلم الوثائقي الذي كان قد تمّ إنجازه عن الشاعر في العام 1993. «عُواء» (الفيلم) أخذَ على عاتقه مهمة تجسيد القصيدة وحكايتها بصرياً، من الزمن الذي سبق كتابة حرفها الأول حتى محاكمتها (يُنهي الفيلم جولته في المدن الأميركية شهر شباط).

«عواء» (القصيدة) تُدين بشهرتها للمحاكمة (التي اتّهمَ فيها الادّعاء ناشر القصيدة بترويج البذاءة)، كما يدين لها غينسبرغ، ليس بشهرته فقط التي بدأت مع محاكمة «عواء»، بل بنضجه وبروزه كشاعر مفصلي في الحركة الشعرية الأميركية الحديثة. أصدقاء غينسبرغ ومعارفه الذين قابلهم مخرجَا الفيلم روب إبستاين وجيفري فريدمان، يتحدثون عن غينسبرغ آخر بعد «عواء». ازدادت ثقته بنفسه. تحوّل من شاعر مراهق يتلمّس طريقه، إلى شاعر رجل واثق من مصيره الأدبي. كشرارة الثورات التي تهدم حاجز الخوف، تَلزم المواهب الكبيرة في أحيان كثيرة، الحدث الذي يحرّرها من خوف التعبير ويُطلق خصوصيّتها.

يبدأ الفيلم بتصريح أوّل يحاول توضيح طبيعة العمل: «كلّ كلمة واردة في هذا الفيلم مُقتبَسة من حياة الأشخاص الحقيقيين. الفيلم بهذا المعنى وثائقي، لكن، من أيّ وجهة نظر أخرى، هو ليس كذلك». التوثيق مع الأداء الدرامي يمتزجان إذاً، لتقديم الحلّ الأمثل ربّما لاجتراح فيلم عن قصيدة. وقائع المحاكمة، المقابلة الصحافية مع غينسبرغ، الأحداث التاريخية، اعتمدَتْ جميعها على أرشيف من الوثائق والرسائل والصور الفوتوغرافية ومقابلات قديمة مع الشاعر. المعالجة الروائية جاءتْ لتمنح الفيلم تدفّقه البصري الدرامي الممتع منتقلاً بين محاور ثلاثة متشابكة. الأول مقابلة صحافية طويلة مع غينسبرغ (يمثّل دوره ببراعة جيمس فرانكو) مع مراسل صحافي لا نرى وجهه، يعرض فيها غينسبرغ آراءه ويعود عبرها (فلاش باك) إلى محطات رئيسيّة في حياته قبل وخلال كتابة «عواء». الثاني يدور حول وقائع محاكمة ناشر «عواء» لورنس فرلنغيتي، وهو المحور الأكثر درامية في الفيلم. الثالث، يحاول فيها الفيلم عرضَ مُعادل تخييلي للقصيدة، عبر ترجمة بصريّة من رسوم متحركة صمّمها الفنان إريك دروكر (الذي عمل سابقاً مع غينسبرغ)، حوّلَ فيها كلمات «عواء» إلى ملائكة تحترق وأجساد عارية ترتعش وأعضاء تناسلية وهياكل عظميّة وناطحات سحاب ممسوخة وحقن مورفين وشوارع رماديّة تحاول تمثيل الإحالات الشخصيّة والصور والأفكار والمدَنيّة الخانقة التي كتبَها غينسبرغ في قصيدته.

الأدب والشرّ

«الشعر نكد بابُه الشر، فإذا دخل في الخير ضعف»، يقول الأصمعي. بعد أكثر من ألف عام، يؤكد جورج باتاي ثانية: «الشيطان هو روح الشعر الخالص». وعبر نماذج تاريخية، يُرينا باتاي في كتابه «الأدب والشر» كيف ملأ الشرّ الأدبَ بحيوية إنسانية. «يصبح الأدب، إذا بقي بعيداً عن الشرّ، مُضجراً»، يقول في مقابلة مسجَّلة. لكن الأمر، كما قد يُفهم من هذا الكلام، ليس خياراً من أجل المتعة، فكتابات بشار بن برد وأبي نواس والماركيز دو ساد وبودلير وجان جينيه وحسين مردان وغينسبرغ لم تكن لتصمد لو كان هاجسها الإمتاع والصدمة فقط. رؤية كهذه كانت ستُسبغ عليها شبهة الممارسة الاستعراضية ولو من بعيد. خصوصيّة «الشر» الأدبي تكمن في لمعان صدقه وبريق حقيقته. كتابة بودلير تأسرنا كونها تسعى دائماً إلى الانعتاق، وترفض لجْم الخيال الإنساني: جوهر الخلق الأدبي. في هذا السياق، يسرد باتاي بلهجة ناقدة محاولات سارتر التنقيب في الدوافع النفسية خلف شر بودلير: «رفضَ بودلير التصرّف كرجل ناضج»، «لم يذهب أبعد من مرحلة الطفولة». تحليلات سارتر تبدو فاقدة للإبداع والخيال النقديَيْن. فقدرة الفنان على التخلّص من القيود الشخصية والاجتماعية والدينيّة، تلك القيود التي تساهم دائماً في خنق الإبداع، ارتبطتْ وثيقاً باحتفاظه بتلك المنطقة الطفولية المنزوعة القدسية، والحرّة خصوصاً. إذا كان الشر في الأدب طفولة مستمرة، فهو بهذا المعنى خير إبداعي.

ينتقد باتاي تحليلات سارتر من زاوية أخرى: عدم فهم شعرية شرّ بودلير وثوريّته. شعرية الشرّ التي تحوّله من مجرّد موقف أخلاقي إلى موقف وجودي، أمام بطش الخير المقنّع بالفضيلة (الدين، الخنوع، الدولة، العالم الصناعي). الشر «الأدبي»، بعريه الفاضح، تمرّدٌ ثوريّ، وتعبيرٌ صادق عن التجربة الإنسانية، خارج منطق القوانين المحنّطة التي حاولت وضعه في قفص الاتهام، من قضبان أبي نواس، عبر باستيل دو ساد، إلى صراخ المدّعي العام في قاعة محكمة «عواء».

ليس ثمة جيل «بيت»

هكذا يجيب غينسبرغ، عن سؤال بخصوص جيل «البيت»، يوجّهه إليه الصحافي المجهول الهوية. يجيب: «ليس ثمة جيل «بيت»، كنّا فقط مجموعة من الرفاق الذين كانوا يحاولون نشر كتاباتهم».

الشعراء يستهويهم دائماً العبث بأوراق التاريخ الأدبي.

في الفيلم، تبدو المقابلة المُقتبسة في لحظات كثيرة منها، أشبه بجلسات التحليل النفسي، يظهر فيها غينسبرغ مستلقياً على كنبة، وهو يستعيد بعض محطّات حياته، وإخفاقاته العمليّة، التي انتهتْ به في إحدى المصحات العقلية لثمانية أشهر. هناك، التقى كارل سولومون. أصبحا رفيقَيْن في الجنون والأدب، ليهديه علناً، كما نعرف، قصيدة «عواء» في ما بعد. لكن في الفيلم نسمع اعترافاً آخر: «كتبتُ في الحقيقة «عواء» من أجل جاك (يقصد جاك كيرواك)». لا يمكن التقليل من التأثير الهائل الذي مارسه كيرواك على تشكّل غينسبرغ الأدبي والنفسي؛ يقول: «جاك هو الشخص الأول الذي اعترفتُ له بمثليّتي». وكيرواك كان الشخص الأول الذي بعث إليه غينسبرغ بالمسودات الأولى لـ«عواء». نصَحه صديقه في إحدى رسائله بالاحتفاظ بعفوية الكتابة وتدفقها («انسَ الصنعة») من دون شطب وتدقيق. لم يمتثل غينسبرغ لنصيحة كيرواك، أو لنصيحة بورخيس في الإقلال من التنقيح. في الطبعة الخمسينيّة لـ«عواء» (حرّرها باري مايلز)، تتوالى مسودات «عواء» المليئة بالشطوبات والإضافات في سلسلة لا تنتهي، تصل أحياناً إلى ثماني عشرة مسوّدة (كما في القسم الثاني من القصيدة). بالقدر نفسه الذي حاول فيه غينسبرغ الإيحاء بالتدفق والعفوية، كان أيضاً تقنيّاً ماهراً. يبدو هذا واضحاً في مراسلاته الطويلة مع نقّاد عصره وشعرائها، فيها يُطلعنا بشفافية وصراحة على تفاصيل تقنياته وتأثراته الشعرية التي بُنيتْ فوقها «عواء».

نسمع قصّة خروج غينسبرغ من المصحة العقلية: خرجَ بعدما وَعَد الطبيب بأن يكون غيرَ مثليّ! مثليّته كانت حملاً ثقيلاً كبّلتْ قلمه. أحداث الفيلم تكشف لنا تحرّر غينسبرغ النفسي والأدبي الذي جاء بعد قبول مثليّته والكفّ عن إخفائها. «عواء» انبجستْ من رحم هذا الانعتاق، دون أن تقتصر على التعبير عن هواجس شخصية ضيّقة. فـ«عواء» قصيدةُ جماعة وثقافةٍ وطريقةُ تفكيرٍ مضادة. هكذا أرادَها غينسبرغ: قصيدة غير شخصية. عينُه كانت على التاريخ لحظة كتابتها. في الفيلم يقول: «النبوءة هي التعبير عن إدراك وإحساس قد يشعر به شخص ما بعد مئة عام». كان ينسج أهمية قصيدته بعناية. في مقدمته المنشورة لطبعة 1986 يكتب: «من خلال نشر «عواء»، كنتُ مهتماً بترك قنبلة عاطفية زمنيّة وراء جيلي، لا تتوقف عن الانفجار في الوعي الأميركي....». كان مؤمناً بأهمية ما يكتب، لذلك اهتمّ بترويج قصيدته ونفسه. أرسلَ نسخاً من «عواء» إلى كبار أدباء عصره: إليوت، باوند، فولكنر، فان دورن، شابيرو، ... وطبعاً ويليام كارلوس ويليامز الذي كتبَ له مقدمة.

يبدو إذاً اعتذار غينسبرغ المتأخر إلى كارل سولومون (طبعة «عواء» 1986) من زجّ اسمه في القصيدة، ما أدّى إلى الصورة النمطية التي ربطَتْ سولومون بالمصحّات العقلية، اعتذاراً يشوبه بعض الادّعاء. «لم أكن أتوقع أن تأخذ القصيدة هذه الشهرة»، يقول غينسبرغ مُبرّراً. لكنه عملَ حثيثاً على صنع هذه الشهرة.

المحاكمات الأدبية

حُكم البراءة (1957) الذي ناله ناشر «عواء»، كان نقطة مضيئة ومحطة رئيسية في حرب الحريّات الأدبية في الولايات المتحدة. العديد من المؤرّخين يعتقد أن انتصار «عواء» القانوني هو الذي فتحَ الباب أمام نشر أعمال أدبية «فاسقة» هامة في بداية الستينيّات كـ«مدار السرطان» لهنري ميلر و«عشيق الليدي شاترلي» لـ د.هـ. لورانس (في بريطانيا وأميركا).

«ليس من السهل دائماً أن يفهم المرء ما يقوله الشاعر المعاصر»، يردّ الناقد والكاتب مارك شورر على هجوم المدعّي العام. تسعة من الأكاديميين والنقّاد والأدباء دافعوا شهوداً عن «عواء» خلال المحاكمة. في النهاية نسمع حكم القاضي الأخير: «المادة الأدبية التي تملك أيّ قيمة اجتماعية، ولو في حدّها الأدنى هي مادة غير فاسقة» وبالتالي محميّة من أيّ مصادرة أو ملاحقة. هذا الحكم أسّس وصمدَ، ليصبح معياراً قانونيّاً في معارك الأدب اللاحقة في أميركا.

حرب الحريّات تحتاج إلى أكثر من معركة واحدة، و«عواء» كانت إحدى المعارك الفاصلة.

تاريخنا العربي لم تنقصه المعارك الأدبية والمحاكمات (إلى يومنا هذا). وكان لنا في زحمة الخسارات بعض الانتصارات. محاكمة الشاعر العراقي حسين مردان تخطر في البال هنا، لتقارُبِ الحقبة الزمنيّة والمسبّبات والظروف. في العام 1949، صدر ديوان مردان «قصائد عارية». ديوان عن الشهوة والجنس والجسد والماخور. بسببه تمّت محاكمة الشاعر بتهمة الخروج على الذوق العام. مرافعة الدفاع (المحامي صفاء الأورفلي) يمكن أن تصلح للدفاع عن أيّ عمل أدبي عربي يتعرض لمحاكمة أخلاقية (راجع مقدمة الطبعة الثانية، وقائع المحاكمة، دار الجديد، 2007). انتصرتْ حينئذ حريّة الأدب وتمّ تبرئة الشاعر والديوان.

لكن هذا الانتصار الصغير مرّ هكذا من دون تخليدٍ لمعناه. كالعادة، ظلّ أرشيفاً منسيّاً، من دون أن يشكّل معياراً أو سابقة في تاريخنا الأدبي الحديث.

السفير اللبنانية في

25/02/2011

 

للمخرج بهيج حجيج الذي اختار أن يلقي الضوء على تداعيات الحرب حاصدا بذلك جوائز عدة

الفيلم اللبناني «شتي يا دني»: عودة إلى قضية المخطوفين اللبنانيين في جوانبها النفسية والاجتماعية

بيروت: كارولين عاكوم 

في فيلمه «شتّي يا دني»، يستكمل المخرج اللبناني بهيج حجيج مسيرته السينمائية من دون أن يخرج نهائيا أو أن يتفلت من عقال «روح» الحرب اللبنانية التي «كبلت» أفلامه السابقة، وأهمها الوثائقي «المخطوفون»، و«زنّار النار»، لكنه هذه المرة وسع دائرة بحثه فاختار أن «يغوص» في قضية المخطوفين اللبنانيين النفسية والاجتماعية بعيدا عن الجانب السياسي الذي بات عصيا على التفسير أو الوصول به إلى نتيجة شافية. وإضافة إلى قضية «شتي يا دني» الأساسية، نجح حجيج في تسليط الضوء على قضايا اجتماعية في لبنان، لا سيما تلك التي تدور داخل جدران البيوت، من «نضال» المرأة والأم والزوجة اللبنانية، إلى مشكلات الشباب والحياة الاجتماعية. كذلك، وعلى خط درامي آخر، كان لمعاناة أهالي الضحايا وقعها بين مشاهد الفيلم الأساسية، وكانت ذات تأثير واضح في حبكة القضية الأم ومجرياتها، وذلك من خلال إلقاء الضوء على معاناة واقعية عاشتها الصحافية اللبنانية نايفة النجار التي خطف ابنها وهو في سن الـ13 عاما خلال الحرب اللبنانية، وبقيت تكتب له ولخاطفيه مقالات ورسائل على أمل أن تلتقي به مجددا، إلى أن وصلت إلى حائط مسدود وقررت بعد تسعة أشهر من اختفائه الانتحار قبل أن تنعم برؤية طفلها، وقد برعت في تأدية هذا الدور الممثلة اللبنانية برناديت حديب.

وفي ما يتعلق بمحور قضية حجيج الاجتماعية بشكل عام والنفسية بشكل خاص، جاءت القصة المستقاة من نص لمسرحية «إنها تمطر أكياسا»، التي كتبها سام بردويل وإيمان حميدان، وتولى حجيج بنفسه كتابة السيناريو، فهو يرتكز على شخصية رامز الذي برع في تأدية دوره الممثل اللبناني حسان مراد، وهو واحد من آلاف اللبنانيين الذين تعرضوا للخطف خلال الحرب اللبنانية بين عامي 1975 و1990، وقد أفرج عنه بعد اختفائه 20 عاما، ليعود وهو في العقد الخامس من العمر، بعدما ضاعت سنوات شبابه داخل قضبان السجن حيث تعرض للتعذيب، غريبا عاطفيا ونفسيا في كنف عائلته المؤلفة من زوجته التي أدت دورها الممثلة اللبنانية جوليا قصار، وابنه وابنته اللذين يعيشان أهم مرحلة من حياتهما في تقرير مسار مستقبلهما. وقد قامت بدور الابنة، الممثلة اللبنانية ديامان أبو عبود، والابن الممثل اللبناني إيلي متري. وعودة رامز، غير المتوقعة، تجعل أفراد عائلته الذين لطالما انتظروه لكنهم في الوقت عينه اعتادوا على غيابه جسديا ونفسيا، يعيشون مشاعر تتأرجح بين رفضهم لهذه التغيرات المستجدة ومحاولة تأقلمهم مع «الحضور الأبوي» الجديد. وهنا يطلق حجيج العنان لمخيلته الإخراجية لتغوص في تفاصيل حياتية عائلية يومية، وصولا إلى الغربة التي يشعر بها المخطوف العائد المريض والمضطرب نفسيا تجاه زوجته التي تعيش حياتها بحرية اجتماعية واستقلالية تامة وتتولى إدارة البيت بمفردها. واقع الغربة هذا الاجتماعي والنفسي جعل رامز يبحث عما يعوض عنه من ألفة وعاطفة وحب في زوجة لبناني مخطوف آخر لا تزال هي أيضا تعيش على أطلال ذاكرة الماضي بانتظار زوجها الذي اختطف من بيته منذ عشرين عاما على أمل عودته، رافضة حتى التفكير في مجرد احتمال وفاته، وهي الحقيقة المرة التي أخبرها إياها رامز.

وفي مداخلة له خلال العرض الافتتاحي لـ«شتي يا دني» في صالة «سينما سيتي» في بيروت، أشار حجيج إلى أن صعابا كثيرة واجهت تنفيذ الفيلم، لا سيما منها المتعلقة بالناحية الإنتاجية، وفي مراحل عدة كاد يتوقف. وقال «الفيلم له علاقة بتداعيات الحرب، لكنه بعيد عن مشاهدها. جرح قضية المخطوفين والمفقودين ما زال مفتوحا، وهو مطروح دائما في النقاشات السياسية، لكنني شئت أن أعالجه من زاوية ما بعد العودة، لا من زاوية الخطف بالذات». ويلفت إلى حضور نايفة النجار التي وإن ظهرت في مشاهد من الفيلم لا علاقة لها بالقصة الأساسية، فإنها تشكل ضمير الفيلم.

وعن اختياره للممثلين، قال حجيج «حسان مراد كان غائبا عن الساحة الفنية، لكني وجدت فيه ممثلا يمكن أن يؤدي الدور، وقد نجح في المهمة على أكمل وجه». ورأى حجيج أن «كلا من جوليا قصار وكارمن لبّس تتمتع بفرادة تمثيلية خاصة، وهما ممثلتان قديرتان جدا ولكل منهما خط مختلف ومقاربة مختلفة للدور، وهذا أمر يغني الفيلم والشخصية، كما كان لحضور برناديت حديب وقع قوي جدا».

ومنذ إطلاقه نجح «شتي يا دني» في حصد جوائز عدة، منها في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي جائزة «اللؤلؤة السوداء» لأفضل فيلم روائي طويل من العالم العربي، في الدورة الرابعة من مهرجان أبوظبي السينمائي، وشارك في مهرجان الدوحة «ترايبيكا» السينمائي السنوي الثاني الذي نظمته مؤسسة الدوحة للأفلام، كما عرض ضمن محور «البانوراما العالمية»، من خارج المسابقة. كما فاز بطله حسان مراد بجائزة أفضل ممثل في المهرجان الدولي السابع والثلاثين للأفلام المستقلة في بروكسل، ونال مخرجه بهيج حجيج جائزة أفضل إخراج في مهرجان وهران الدولي الرابع للفيلم العربي.

وفي ما يتعلق بتكلفة الفيلم الذي صور بكاميرا «سينما رقمية»، قال حجيج «استغرق العمل عليه أربع سنوات، وبلغت تكلفته نحو 500 ألف دولار»، مشيرا إلى أنه أنتج بأموال خاصة وبدعم منظمة الفرنكفونية، ومن صندوق «سند» الذي أسسه مهرجان أبوظبي السينمائي.

الشرق الأوسط في

25/02/2011

 

أم كلثوم تتحول إلى شماعة لنفاق بعض الفنانين

غنوا لمبارك وروجوا للتوريث.. والآن يغنون لثورة «25 يناير»

القاهرة: طارق الشناوي 

غنت أم كلثوم للملك فاروق ثم بعد قيام ثورة 23 يوليو (تموز) غنت لجمال عبد الناصر وكذلك فعلها عبد الوهاب في قصيدة «الفن» التي تبدأ بهذا المقطع: «الدنيا ليل والنجوم طالعة تنورها».. ثم بعدها كان عبد الوهاب لا يترك مناسبة وطنية إلا ويغني مباشرة باسم عبد الناصر.. قسط وافر من الفنانين الذين كانوا من أعمدة النظام المصري السابق وكانوا أصحاب أعلى الأصوات في الدعوة لشرعية وعدالة نظام مبارك، على مدى 30 عاما، وكانت الدولة تعتمد عليهم في كل مواقفها السياسية، سواء في الدعاية لحسني مبارك في ولاية سادسة أو في التمهيد لجمال مبارك رئيسا خلفا لوالده.. كل هؤلاء (تشعبطوا) في قطار أم كلثوم وعبد الوهاب واستندوا إلى مقولة جمال عبد الناصر الشهيرة عندما قامت الثورة فقرر أحد الضباط الصغار أن يمنع صوت أم كلثوم من الإذاعة المصرية بحجة أنها غنت للملك ومحسوبة على العهد البائد، قال عبد الناصر: إذن امنعوا أيضا النيل؛ لأنه من العصر البائد!! تولى حسني مبارك الحكم في نهاية عام 1981 وتميز حكمه في البداية بمحاربة الفساد، لكن بعد سنوات قليلة بدأ الفساد يكشر عن أنيابه وشاهدنا الدولة وهي تشرع قوانين تصب في صالح الأثرياء وتحديدا دائرة محدودة ممن ارتبطوا بالنظام وقبل نحو 10 سنوات ظهر ملف التوريث وأصبح الكل يعرف أن الرئيس يريد لجمال أن يتولى الحكم من بعده وكل النخبة من النجوم والفنانين صاروا يعرفون أن أكثر ما يسعد الرئيس وزوجة الرئيس هو أن يتم تمهيد المجتمع المصري بكل طوائفه لتوريث جمال الحكم خلفا لوالده وهو على قيد الحياة!! الغريب أن من غنوا للرئيس وقدموا له الكثير من الأوبريتات رأيناهم بعد ذلك وهم يتنكرون لذلك كله.. أكثر ملحن استفاد من اقترابه من السلطة السياسية التي تؤهله للاستحواذ على القسط الوافر للتلحين لمبارك في احتفالات أكتوبر (تشرين الأول) وكل الاحتفالات الرسمية مثل احتفالات الإعلام الرسمية الأخرى كان بلا شك هو عمار الشريعي. كان وزير الإعلام القوي صفوت الشريف، وهو من أقوى الشخصيات التي ارتبطت بمبارك، يرشحه لتقديم الأوبريتات التي تتغنى دائما باسم مبارك وقال عمار في أكثر من حوار بعد قيام ثورة «25 يناير»: إن صفوت الشريف، وزير الإعلام الأسبق، كان كثيرا ما يطلب منه أن يغني للعريس بينما هو كان يريد في احتفالات أكتوبر أن يغني للجيش المصري وليس للعريس.. يقصد بالعريس بالطبع اسم مبارك، إلا أنه كان يضطر في نهاية الأمر إلى الغناء باسم مبارك، أقصد العريس.. منذ مطلع التسعينات وعلى نحو يزيد على 14 عاما كان عمار هو الملحن الرسمي للدولة كان هو الوحيد الذي يحتكر تقريبا التلحين في كل المناسبات الرسمية وليست فقط الوطنية مثل الليلة المحمدية واحتفالات مهرجان الإذاعة والتلفزيون، لكن لوحظ في السنوات الأخيرة أن الدولة بدأت تحرص على أن تتسع الدائرة ليشارك في التلحين عدد من الجيل التالي لعمار طمعا في تحقيق شعبية أكبر من خلال جيل من الملحنين صار أقرب إلى نبض الشباب.. عندما قامت ثورة الشباب يوم 25 يناير واكتشف عمار أن الشباب قد أوشكوا على تحقيق الانتصار بدأ يعلن تبرؤه مما كان يحدث في الماضي ومن الأوبريتات التي اضطر لتقديمها، وأضاف موضحا أنه امتنع بعد ذلك عن تقديم تلك الأوبريتات وكأن الدولة عليها أن تكتفي بملحن واحد فقط، وإذا تعاونت مع ملحنين آخرين فإنه ينبغي أن يسألوه أولا فإذا لم يوافق يبحثوا عن آخرين.. والحقيقة أن عمار لم يتوقف عن التلحين لمبارك، والدليل أنه في عام 2005 عندما قدم الإعلامي عماد أديب حديثا كان عنوانه «حديث الساعات الست»، أطول حوار لحسني مبارك، هذا الحوار وضع له الموسيقى التصويرية عمار الشريعي.. فكيف يتفق هذا مع ادعائه بأنه لم يلحن أي شيء لمبارك في السنوات العشر الأخيرة من حكمه، وكان المقصود بهذا الحوار الذي أجراه أديب هو الدعاية لحسني مبارك بمناسبة استعداده وقتها للترشح لولاية خامسة؟! هل تعاقب الدولة الفنان إذا لم يستجب إليها، لو رفض مثلا عمار أن يلحن الأغنيات التي تتغنى باسم مبارك؟ ما الذي من المكن أن يحدث له؟ ما العقاب الذي ينتظره؟ الحقيقة أن العلاقة بين الدولة والفنان في دول العالم الثالث قائمة على تبادل المنفعة، الدولة عندما تريد أن تحقق نجاحا لرئيس تبحث على الفور عن الأوراق الرابحة وكان عمار كملحن في مطلع التسعينات هو تلك الورقة في ذلك الزمان، فلقد قدم فرقة موسيقية اقتربت كثيرا من الناس وهي الأصدقاء، وهو أيضا كان يمثل وقتها جيلا جديدا أرادت الدولة من خلاله الوصول للجمهور! هل يملك الفنان أن يقول لا؟ الحقيقة هي أن الزمن تغير، يستطيع الفنان في العهود كلها أن يقول لا، وفي هذه الحالة سوف يدفع الثمن، لكن في زمن التسعينات كان الثمن هينا بعد أن اتسعت الحياة بمئات من القنوات الفضائية.. في الماضي كانت الدولة تملك كل الوسائط الإعلامية، إذا غضبت على فنان قطعت عنه الهواء والنور والماء، لكن مع التسعينات من القرن الماضي تغير الزمن، صار الفنان يستطيع، إذا لم يجد ترحيبا من الإعلام الرسمي في الدولة التي ينتمي إليها بسبب رغبة الدولة في التعتيم عليه، أن يجد أمامه في هذه الحالة الإعلام الخاص داخل الحدود وخارجها.. وبالطبع لا أحد من الممكن أن ينكر أن الدولة، خاصة في عالمنا العربي تقبض بيدها على الإعلام بشقيه العام والخاص وأنها تمارس أيضا نوعا من الضغوط على المكاتب العربية، لكن يظل أن الفنان يستطيع في ظل «الميديا» الحديثة أن يتنفس، لم تعد الدولة تملك الأوراق كلها!! ولو أنه قال لا سوف يجد أبوابا أخرى تفتح أمامه، والدليل أنه بينما كان عمار الشريعي يلحن أغاني أكتوبر، التي يضطر فيها للغناء للعريس حسني مبارك، على حد قوله، فإن توأمه الفني الشاعر سيد حجاب الذي كتب نحو 50% من الأغنيات التي لحنها عمار، هذا الشاعر الكبير، رفض أن يشارك في كتابة هذه الأغنيات والأوبريتات الرسمية؛ لأنه يعلم أن المقصود ليس الغناء للجيش المصري أو للانتصار ولكن مباشرة للرئيس.. لم يتم إلقاء القبض على حجاب وظل يكتب الأغاني وتترات المسلسلات من دون أن يطارده أحد.. ربما خسر مثلا المبالغ الضخمة التي تدفعها وزارة الإعلام المصرية لمن يشارك في هذه الاحتفالات أو ربما يصبح غير مرحب به في الأعمال الرسمية، لكنه لا يمكن أن يظل ممنوعا من التداول الفني.. هناك ثمن بالتأكيد سوف يدفعه الفنان، لكن يكفي أن الفنان يحترم في النهاية تاريخه وقبل ذلك نفسه؛ لأنه لم يتورط في التغني بأشياء يرفضها أو على أقل تقدير لا يرتاح إليها؛ لأنها لا تعبر تماما عن قناعاته!! عندما كتب صلاح جاهين أو أحمد شفيق كامل أو عبد الرحمن الأبنودي ولحن كمال الطويل وبليغ حمدي أغنيات واكبت ثورة يوليو تغنى بها عبد الحليم لم يتقاضوا أجورا من أي جهة رسمية كانوا يعبرون عن قناعاتهم الفنية والسياسية، ولهذا عاشت هذه الأغنيات؛ لأنهم على الأقل كانوا صادقين مع أنفسهم ولو افترضنا جدلا أنهم امتنعوا عن الغناء فإن الثمن الذي سيدفعونه ولا شك فادح، وعلى الرغم من ذلك فإن هناك بالفعل من دفع الثمن وصار يقدم فنا خارج الصندوق الرسمي للدولة مثل الملحن الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم في عصر السادات، كونا ثنائيا شهيرا وكان لهما موقف معارض للسادات وسياسته وتعرضا للاعتقال أكثر من مرة وتم التعتيم الإعلامي عليهما تماما، وعلى الرغم من ذلك انطلق إبداعهما خارج الدولة الرسمية وكان الناس في العالم العربي وليس فقط مصر يتبادلون أغاني نجم وإمام على أشرطة كاسيت!! الفنان أمامه، حتى في عز سطوة الأنظمة، ثلاثة اختيارات: إما أن يساير النظام ويتحول إلى مجرد آلاتي يعزف اللحن المطلوب منه، وإما أن يمتنع عن المشاركة ويكتفي فقط بالغناء بعيدا عن نفاق السلطة ويقدم فنا لا يشتبك مباشرة مع السلطة لا يروج لها ولا يعاندها في الوقت نفسه.. الاختيار الثالث هو أن يقدم أفكاره وقد يتحول إلى مناوئ لها، أي أنه يدخل في معركة مباشرة معها.

لم يكن بالطبع مطلوبا من الفنانين الذين تغنوا بعصر مبارك أن يقدموا فنا ضد السلطة السياسية، لكن كان بإمكانهم ألا يشاركوا فيما لا يعتقدون أنه يعبر عن قناعاتهم، ويعودون بعدها أيضا إلى منازلهم من دون خوف من ملاحقة أمنية، لكنهم من المؤكد استفادوا ماديا وأدبيا من اقترابهم من الدولة والدعاية مباشرة للنظام!! في الستينات مثلا تعرض الشاعر العربي الكبير نزار قباني إلى وشاية بعد قصيدته «هوامش على دفتر الهزيمة»، الوشاية كانت تؤكد أن نزار هاجم جمال عبد الناصر بعد الهزيمة في 1967 وصدرت تعليمات بمنع تداول قصائد نزار وأرسل نزار رسالة إلى عبد الناصر تضمنت هذه القصيدة قرأها عبد الناصر ولم يجد فيها ما يسيء إليه شخصيا وطلب من الإذاعة والتلفزيون عودة قصائد نزار.. كان بالفعل قرار منع قصائد نزار يعني تعرضه للموت الأدبي.. الآن لو تصورنا جدلا أن هذا حدث، فالأمر من الممكن التغلب عليه أمام انتشار الفضائيات، وحدث بالفعل قبل أكثر من عام بعد أحداث واقعة أم درمان بين فريقي الكرة في مصر والجزائر أن صدرت تعليمات من وزارة الإعلام المصرية بمنع أغاني وردة.. التعليمات بالطبع شفهية لكنها لم تؤثر على وردة وسقط بعد نحو شهر هذا القرار وكانت وردة منتشرة عبر كل الفضائيات والإنترنت فلم يشعر أحد بأنها ممنوعة سوى من أصدروا القرار!! أغلب النجوم الكبار الذين رأيناهم الآن وهم ينتقدون عصر مبارك كانوا يغنون باسمه، ولا أعني الغناء بمعناه المباشر، لكن أغلب نجوم التمثيل وشريحة لا بأس بها من المثقفين كانت لا تتوقف عن الإشادة بعصره وكانوا يدعمون توريث الحكم لابنه جمال ويقولون الآن عندما تسألهم عن هذا التناقض إنهم كانوا مضطرين ومجبرين على ذلك، ويضربون مثلا بأم كلثوم التي غنت للملك فاروق ثم غنت لعبد الناصر، على الرغم من أن الزمن تغير من زمن فاروق إلى زمن مبارك، لكن نفاق النجوم والمثقفين لم يتغير ولا يزال مستمرا.. نافقوا مبارك وعصره واستفادوا من اقترابهم من السلطة، والآن يحاولون نفاق واختراق ثورة شباب «25 يناير»!!

الشرق الأوسط في

25/02/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)