حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

صوفيا كوبولا لـ«الحياة»:

«ذبحني» النقاد بسبب والدي

باريس - نبيل مسعد

صوفيا كوبولا هي ابنة عملاق السينما فرانسيس فورد كوبولا مخرج «العراب» بأجزائه الثلاثة ثم «نهاية العالم الآن» وأفلام أخرى مرموقة. إلا ان هذا النسب قد لا يكون دائماً لمصلحتها باعتبار أن كثيرين يعتبرون أن والدها هو وراء نجاحها ولا شيء آخر. جاءت صوفيا الى باريس للترويج لفيلمها الجديد كمخرجة وعنوانه «في مكان ما» مثلما دأبت على عمله في الماضي عندما زارت باريس للترويج لأفلامها الثلاثة «انتحار العذارى» و «مفقود في الترجمة» و «ماري أنطوانيت» التي أكدت شخصيتها كمخرجة سينمائية أدركت مهنتها على أفضل وجه على رغم ما شاب أفلامها من عيوب صغيرة في الحبكة وفي تسلسل الأحداث خصوصاً من ناحية الإيقاع، إلا أن كوبولا تفضل ما تفعله الآن على الاكتفاء بالظهور كممثلة في أفلام والدها مثلما فعلت منذ صباها وحتى بعدما كبرت مع العلم أن آخر عمل لفرانسيس كوبولا مثّلت فيه هو «العراب رقم 3» حيث هاجمها الإعلام بشدة معتبراً إياها مجردة كلياً من أدنى موهبة درامية ومعيداً ظهورها السينمائي إلى كونها ابنة مخرج الفيلم فقط.

وإضافة الى الإخراج تصمم كوبولا أزياء تحمل اسم «ميلك فيد» موزعة في اليابان فقط، وتملك علامة من المكملات ومبتكرات التجميل وتحترف التصوير الفوتوغرافي فتشارك في معارض كبيرة في أميركا وأوروبا. على الصعيد الشخصي تزوجت كوبولا بالكاتب والمخرج الهوليوودي سبايك جونز في 1999 ثم انفصلت عنه وتزوجت بالمغني الفرنسي توماس مارس الذي أنجبت منه ابنتيها رومي (أربع سنوات) وكوزيما (ستة أشهر)، وهي عاشت بين الزواجين علاقة وطيدة مع السينمائي المعروف كوينتين تارانتينو. وهي تبلغ الآن من العمر 39 سنة.

يروي فيلم «في مكان ما» فترة من حياة ممثل شاب يعرف النجاح العالمي ويعيش بالتالي حياة البذخ والمغامرات العاطفية المتتالية والمجردة من أي معنى إلى أن يجد نفسه فجأة أمام مسؤولية الاهتمام بابنته المراهقة التي لا يراها عادة أكثر من مرة أو مرتين في كل عام فيضطر إلى تغيير نمط حياته وإلى اكتشاف سعادة من نوع جديد لا علاقة لها بإنفاق المال.

«الحياة» التقت كوبولا وحاورتها.

·         من الواضح عند مشاهدة «في مكان ما» أنك تعرفين جيداً وسط النجوم وأسلوبهم في قضاء أوقاتهم، فهل تميلين شخصياً إلى النمط المعيشي الذي تصفينه في فيلمك؟

- أعرف فعلاً هذا الوسط لأنني كبرت فيه بحكم كوني ابنة فرانسيس كوبولا ولأن جميع أصدقاء والدي هم من ألمع نجوم هوليوود. أما عن حكاية ميلي إلى هذا النمط المعيشي فهو غير وارد إطلاقاً والدليل على ذلك أنني أصف هذه الحياة في الفيلم بالفراغ الكامل وانها مجردة من أي معنى. إن بطل فيلمي الذي يؤديه ببراعة الممثل ستيفن دورف، يكتشف الضياع الذي يحيط به فور أن يجد نفسه أمام مسؤولية تربية ابنته.

·         لماذا تدور أفلامك عموماً حول حياة الأثرياء؟

- لأنني أجيد معالجة هذا الموضوع، فهو يمسني من قرب، ولأن الأثرياء والمشاهير يستحقون الاهتمام الفني، حالهم حال المحرومين، وإن كانت مشاكلهم من نوع مختلف.

·         تخرجين للسينما وتبتكرين للموضة وتحترفين التصوير الفوتوغرافي، فما الذي يدفعك إلى ممارسة كل هذه النشاطات؟

- أميل الى التنويع منذ سن المراهقة، فلا أحب التخصص في عمل واحد دون سواه، وحتى إذا فعلت فلا بد من أن أكون ملمة بنشاطات كثيرة أخرى وأختار في ما بعد ذلك الذي أراه يجذبني أكثر من غيره إلى درجة أن أجعله مهنتي الرسمية على المدى الطويل. وانطلاقاً من هذا التفكير قررت تعلم فن التصوير وأيضاً رسم الأزياء وتفصيلها، اضافة الى اشتراكي في مدرسة للسينما بطبيعة الحال، ثم سافرت وصورت كل ما أثار انتباهي بآلتي الصغيرة وشاركت في معارض صغيرة وكبيرة في كل مكان بأوروبا وأميركا. وفي يوم ما طلبت أن ألتقي عملاق الموضة كارل لاغرفيلد الذي أبديت له إعجابي الشديد بمبتكراته التي يرسمها لحساب ماركة «شانيل» وقلت له إنني أحلم بالعمل معه أو تحت إشرافه بالتحديد نظراً الى كونه في رأيي خير مدرسة لكل من يرغب في احتراف الموضة، وأعترف لك بأنني لم أتوقع أي رد فعل من جانبه لكنني فوجئت بموافقته على منحي فرصة لإثبات قدراتي كتلميذة عنده إذ فتح لي باب «شانيل» ووظفني كمساعدة لأصغر مساعد تحت أوامره. أنا تعلمت تقريباً كل شيء عن الموضة خلال هذه الفترة ثم أسست داري الشخصية للأزياء وتعرفت إلى البير الباز مصمم دار لانفان الذي أفادني بدوره وأكمل تعليمي كمبتكرة، وعندما اعتبرت نفسي ملمة بأمور الأناقة والتصوير قررت العمل رسمياً كمخرجة سينمائية وتسخير كل ما اكتسبته من خبرات في خدمة أفلامي.

·         ماذا تقولين للذين يؤكدون أن نسبك هو صاحب الفضل في نجاحك؟

- دعني أؤكد لك أن وراثتي اسم كوبولا في حد ذاتها لا تسهل علي الموضوع، لأنها من أخطر مطبات مهنة السينما. أذكّرك بأن الإعلام هاجمني إثر ظهوري كممثلة في فيلم «العراب رقم 3» في أسلوب لا يحدث إطلاقاً لأي ممثلة ناشئة عادية مهما كانت متوسطة أو حتى رديئة في مستوى تمثيلها. لقد ذبحوني لأنني ابنة والدي المعروف. وأفلامي كمخرجة لم تنجح كلها، فأنا بدأت أحصل على الاعتراف بعملي بعد تنفيذي فيلمي الثاني «مفقود في الترجمة»، ثم تلقّى الفيلم الثالث «ماري أنطوانيت» بدوره الكثير من الانتقادات السلبية إلى جانب الإيجابية. وهناك الكثير من التأثيرات السلبية في الفنانين الذين ينجحون فجأة بفضل علاقاتهم أو عائلاتهم، فهم غالباً ما يختفون بسرعة البرق. لست غاضبة من الذين كتبوا أنني نجحت أو أنني سأنجح لأنني ابنة فلان، فهذا هو رد الفعل الطبيعي وكان علي أن أقدم الدليل للعالم بأنني أتمتع بموهبة شخصية.

·         هل تسعين وراء النجومية؟

- لا، فالمهم أن أعمل وأحقق طموحاتي، أما الشهرة فتفيد في الحصول على ظروف عمل جيدة فقط، ولذلك، لا أرفضها وفي الوقت ذاته لا أسعى وراءها بطريقة محددة.

·         هل تفكرين في العودة إلى التمثيل؟

- أعترف بمنتهى البساطة بأنني لست ممثلة جيدة وإذا عملت في التمثيل فسيكون الأمر حقاً لأن والدي اسمه فرانسيس كوبولا، بينما أنا تجاوزت هذه المرحلة كمخرجة وأطير الآن بجناحي لأنني موهوبة في هذا الميدان. وأنا مستمرة أيضاً في ممارسة التصوير الفوتوغرافي وفي رسم الأزياء والاهتمام بابتكار المكملات ومنتجات تجميل أيضاً لأنني أجيد كل هذه النشاطات إلى درجة تجعلني لا أخجل من التصاق اسمي بأي منها، وهذا ليس الحال إطلاقاً في التمثيل.

·         هل تألمت بسبب النقد السلبي الذي وجه إليك كممثلة في فيلم «العراب رقم؟

- طبعاً خصوصاً لأنه فاق حد المعقول، ثم لأنني مثلما ذكرته تواً ممثلة غير جيدة، بينما عثرت في النقد السلبي الخاص بعملي كمخرجة على حافز للاستمرار والتحسن لأنني في قرارة نفسي أعرف مدى ملاءمتي أو قلة ملاءمتي لمهنة ما. إن النقد السلبي لا يغضب من يتلقاه في حد ذاته بل فقط لأنه يأتي بمثابة مرآة يرى فيها الفنان نفسه إذا كان في النقد بعض الصحة.

·         منحتِ بطولة فيلمك الجديد للممثل ستيفن دورف الذي عرف أوج نجوميته في التسعينات من القرن العشرين ثم اختفى بعض الشيء عن الشاشة الفضية لمصلحة المسلسلات التلفزيونية. فما الذي دفع بك إلى اختياره؟

- أعرف دورف منذ سنوات طويلة ولا أبالي بكونه مثّل للسينما أو للتلفزيون أو لم يمثل على الإطلاق لأن النجاح قد هجره، فكل هذه الاعتبارات بلا قيمة حقيقية في نظري بينما الشيء المهم هو أنه كان يصلح تماماً للشخصية التي كتبتها في السيناريو. كنت أتخيله في الدور أثناء الكتابة وبالتالي عرضت عليه المشاركة في الفيلم فوافق فور أن قرأ النص غير أنه اشترط من قبلي بعض التوضيحات غير المدونة فوق الورق بهدف إتقان دوره أكثر وأكثر. وأنا سعيدة جداً بكونه قد رد علي بنعم وأعتبر النتيجة النهائية فوق الشاشة مجزية إلى أبعد حد. ثم إن علاقته بالممثلة المراهقة إيل فانينغ التي مثلت دور ابنته في الفيلم، كانت ممتازة طوال فترة التصوير وإن جاءت خارج الشاشة أشبه بعلاقة أخوية أكثر من علاقة أب بابنته وذلك ربما لأن دورف لم يعش حتى الآن في حياته الشخصية تجربة الزواج وتربية الأولاد.

·         تميلين بوضوح إلى تعيين ممثلات شقراوات في أفلامك، من كيرست دانست إلى إيل فانينغ مروراً بسكارليت جوهانسون، فما هو سبب هذا الخيار الدائم؟

- ربما لأنني شخصياً سمراء أو لأنني أحمل في قلبي جميع بطلات أفلام ألفريد هيتشكوك وهن شقراوات مثل غريس كيلي وكيم نوفاك وإيفا ماري سانت وتيبي هيدرن. أنا أعثر عند الشقراوات على نعومة تنقص السمراوات، على الأقل في نظري، مع أنني ناعمة جداً في نهاية الأمر. أعجز عن الرد في شكل جدي ومفيد على هذا السؤال.

الحياة اللندنية في

07/01/2011

 

وجهة نظر

السينما العراقية كيف تستحق اسمها؟

ستوكهولم – قيس قاسم 

بين «إبن الشرق»، (1946) لإبراهيم حلمي، والذي أرخ كأول فيلم روائي عراقي، و«غير صالح للعرض»، (2005) لعدي رشيد مرّ قرابة ستين عاماً، أنتج العراق خلالها 100 فيلم روائي، بمعدل أقل من فيلمين سنوياً. ضآلة العدد وحدها تمنعنا من قبول تسمية «سينما عراقية»، خصوصاً أن دولاً عربية كثيرة، تنتج أكثر من هذا الكم، ناهيك عن النوعية، التي قد لا يُقبل بإطلاق تسمية «سينما» على منتجها البصري، كما هو الحال في بعض دول المغرب العربي. ومع هذا سنظل نستخدم كلمة «سينما» مجازاً وتعبيراً عن الأفلام، وليس عن السينما كصناعة.

بالوصول الى الرقم «مئة» تغير المشهد السينمائي العراقي كثيراً، ودخلت عناصر جديدة عليه لم يعرفها من قبل. فمع سقوط نظام صدام حسين انفتحت أبواب العراق على الخارج، وتمتعت وسائل الإعلام والإبداع فيه بحرية تعبير أكبر، وكانت السينما من بين أكثرها تأثراً بهذا التغيير الجديد. لقد أتاح، هذا الوضع، للمشتغلين في الحقل فرص عمل وإنتاج لم تكن متوافرة لهم في السابق، ومنها إمكانية دخول العراق والخروج منه، فذهب عدد من السينمائيين الى الخارج بحثاً عن تمويل ومشاركات في مهرجانات عربية وعالمية وسمح الوضع الناشئ، بعد عام 2003، بعودة من كان محروماً من العمل في وطنه للاشتغال فيه والتفاعل مع أحداثه. وقسم كبير من هؤلاء جاء ومعه مشروع سينمائي كامل. لقد تجاوز السينمائيون بهذا عقدة «الخارج والداخل» في شكل لافت، ساعدت عليه المواقف المشجعة لمؤسسات سينمائية غربية ومهرجانات عربية وعالمية، حين قدمت لهم مساعداتها، من دون اعتبارات كثيرة، للمكان الذي يقيمون فيه. فتحرروا، نسبياً، من حاجة الذهاب الى المؤسسات الرسمية، مع ان الكثير منهم يشعر بضرورة ان تفي الدولة بالتزاماتها معهم، كجزء من التزامها بتطوير الحياة الثقافية. هذا الى جانب، طبيعة السينما نفسها، بصفتها فناً عابراً للحدود، مقارنة مع بقية الفنون. ومن مفارقات المشهد انه يبدو وكأنه آخذ بالتشكل للتو، على رغم عقوده الستة، فالبعض يميل الى خلق انطباع بأن المنجز السينمائي العراقي قد انطلق بعد عام 2003، وقد تكون فترات انقطاع الإنتاج الطويلة، قد ساهمت في ترسيخ هذا الانطباع، فالعراق توقف عن الإنتاج منذ بدايات التسعينات من القرن الماضي، ولهذا نرى اليوم ظاهرة نادرة تكمن في أن ينطلق مخرجون ومن أجيال مختلفة في «بداية جديدة» يصطف فيها بعض من الجيل الأول مع الأصغر منهم، سوية، مع جيل جديد من الشباب.

أما الوثائقي فشهد تغّيراً ملحوظاً، اقترن بدرجة كبيرة بالمتغير السياسي، فلم يعد مكرساً للتطبيل والدعاية للسلطة، بل راح يأخذ بعداً إعلامياً ويستجيب متطلبات السوق، أكثر منه فناً سينمائياً، إلا ما قلّ، وفيلم قاسم عبد «ما بعد السقوط» من هذه القلة الجيدة.

لقد تحول العراق بعد الاحتلال الأميركي له، الى مركز اهتمام عالمي، سياسي وإعلامي، بالدرجة الأساس، فزاد الطلب على صحافييه للمساعدة في تغطية ما يجري فيه لمصلحة القنوات التلفزيونية وبقية وسائل الإعلام، وراح لهذا السبب عدد كبير من الشباب يعمل في حقل التصوير، فاستسهلوا هذا العمل وجربوا خوض تجربة العمل السينمائي الوثائقي، ولهذا فغالبية الأفلام التي تسمى وثائقية، جزافاً، هي تلفزيونية (فيديو) في الأساس وأحياناً كثيرة تخلو من شروط العمل التلفزيوني الصحيح، نعرف ان المهرجانات الخليجية السينمائية تعرض الكثير منها، لحاجتها الى رفع عدد الأفلام المشاركة فيها.

هذا المد الجواري مفيد لكونه يوفر فرص احتكاك وعرض للمنتج العراقي ولكنه خطر في الوقت ذاته على بعض الشباب الذين قد يعتبرون حصولهم على غالبية الجوائز تكريساً لسينمائيتهم! أما سمات المنتج السينمائي، عموماً، فما زال قليلاً، لم يتجاوز الروائي منه أصابع اليدين، وهاجسه سياسي، يكرس نفسه لتعرية وإدانة ممارسات سلطة صدام الدموية وحروبه الكارثية، مفتقراً الى النظرة النقدية، التي أنتهجها السينمائيون الغربيون بعد الحرب العالمية الثانية، حين حللوا أسباب ظهور الفاشية، لا من أجل إدانتها فحسب، بل ومن أجل منع عودتها ثانية. والسينما العراقية بحاجة الى مثل هذه النظرة النقدية التحليلية لتاريخنا المعاصر، فمن غير المنطقي البقاء في دائرة سياسية ضيقة، والحياة، في النهاية، أوسع وأرحب بكثير، والسينما كفن معنية بتفاصيلها وأبعادها الإنسانية. وللحق فبضعهم قد تراجع خطوتين، متيحاً لنفسه فرصة مراقبة الواقع في شكل أفضل وأقل انفعالاً، وتجربة عدي رشيد الثانية في «كرنتينة» فيها شيء من هذا التروي، كما ان محمد الدراجي تجاوز في «إبن بابل» ضعف فنية فيلمه الأول «أحلام»، وفرص بقية السينمائيين ما زالت قائمة، فالكثير منهم لم يقل كلمته بعد، لكن، المؤكد ان عجلة السينما العراقية قد تحركت نحو الأمام وبقيت أمامها محطات كثيرة، عليها عبورها، حتى تستحق تسمية «سينما» بمعناها الدقيق!

الحياة اللندنية في

07/01/2011

 

عندما يصبح التحرش الجنسي سلوكاً مجتمعياً

أمل الجمل 

لسنوات طويلة ظلت المجتمعات الشرقية، وفي مقدمها مصر، غير قادرة على مناقشة قضية التحرش الجنسي بالإناث علناً، بوضوح وموضوعية، من دون توجيه الاتهامات المُعدّة سلفاً الى المرأة باعتبارها المسؤول الأول عن وقائع التحرش، ناهيك بأن الإعلان عما وقع لها يُحط من شأنها ويُسيء إلى سمعتها. هذا ما يلمسه فيلم «678» لـ «محمد دياب» في أولى تجاربه الإخراجية، بعدما خاض تجربة الكتابة للسينما فقدم سيناريوات «الجزيرة»، و«أحلام حقيقية»، و«ألف مبروك». الفيلم من بطولة نيللي كريم، ناهد السباعي، باسم السمرة، أحمد الفيشاوي، ونال بطلاه بشرى وماجد الكدواني جائزتي أحسن ممثلة وأحسن ممثل في مهرجان دبي السينمائي الأخير.

يُحاول الشريط السينمائي بخيوطه الدرامية المتشابكة وبشخصياته النسائية المتقاطعة في مصائرها، المتوحدة مع مخاوفها، طرح تلك القضية الضاربة بجذورها في المجتمع باعتبارها إشكالية مُلحّة تحمل تبعات نفسية ومجتمعية خطيرة تزلزل حياة النساء وتعصف بهن. ومن ثم تلحق تبعاتها بالرجال والأطفال، كما لو كانت تلك الظاهرة القميئة معول هدم ينسف، بتهديد خفي وبتواطؤ مجتمعي، الكيان الأسري الذي ينهض عليه بنيان هذا المجتمع. فالتحرش الجنسي ظاهرة تتجرع مراراتها النساء، وتدفع ثمنها فادحاً من أعصابها، من سلامتها النفسية والعقلية، الجسدية والمهنية. ولا أحد ينكر أن التحرش ظاهرة عالمية تتفاوت في حجمها وأشكالها ومستويات خطورتها من مجتمع الى آخر. لكنها، وعلى رغم رائحتها النفاذة المحاطة بالسرية في البيوت وبين الأسر والعائلات، ظلت لعقود طويلة من الأمور المسكوت عنها في المجتمع المصري، إلى جانب أنها لم تكن بارزة ومنتشرة في شكلها الحالي الفج في الطريق العام وفي شتى وسائل المواصلات.

عوائق

طوال السنوات الثلاث الأخيرة أصبح التحرش الجنسي بالإناث في مصر أحد أكثر الملفات والقضايا حساسية وسخونة. أضحى هاجساً مفزعاً يُؤرق الفتاة والمرأة الشابة وكثيراً من الأسر على حد سواء... على الأخص في أعقاب الكشف عن عدد من حوادث التحرش الجماعي، إلى جانب حوادث فردية أشهرها السفّاح الذي تخصص في تمزيق سراويل النساء في شوارع بعض الضواحي. وللإحصاءات والدراسات نصيب من هذا الأمر، فأحد التقارير الصادرة عن المجلس القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية أكد وجود 20 ألف حالة اغتصاب وتحرش جنسي تُرتكب في مصر سنوياً، أي أن هناك حالتي اغتصاب وربما ثلاث حالات كل ساعة تقريباً، في حين كشفت دراسة أخرى أن 98 في المئة من السائحات يتعرضن للتحرش. يضاف إلى ذلك ما نشرته «واشنطن بوست» في تقريرها عن التحرش الجنسي في مصر؛ حيث جاءت مصر في المرتبة الثانية في نسبة التحرش بالنساء في الشوارع والأماكن العامة.

وعلى رغم كل ما سبق وعلى رغم تكرار ظاهرة التحرش الجماعي في وسط البلد، وفي حي المهندسين، لم تُسجل محاضر الشرطة أي بلاغ رسمي حتى قبل منتصف عام 2008. قطعاً كان هناك فتيات يرغبن في تحرير محاضر ضد من تحرشوا بهن، لكن من المؤكد أن عوائق أسرية ومجتمعية وأمنية حالت دون ذلك. ظل الوضع إذاً هكذا حتى ظهرت قضية نهى رشدي التي ساندتها مراكز حقوقية عدة وسلّطت عليها وسائل الإعلام بؤرة الضوء فأخذت قضية التحرش الجنسي مساراً آخر مغايراً تماماً، وسرعان ما توالت الأنشطة المتنوعة المناهضة للتحرش ومنها إنشاء الكثير من المجموعات على موقع «الفيسبوك»، وإقامة وقفات احتجاجية في الشوارع مطالبة بإخصاء المتحرشين(!) إلى جانب تأسيس خريطة التحرش الجنسي الإلكترونية بواسطة ناشطات في مجال حقوق المرأة، ثم بدأت دورات الدفاع عن النفس للسيدات التي أقامتها ساقية الصاوي في السنوات الثلاث الأخيرة.

استناداً إلى الكثير مما سبق من حقائق ووقائع، استمد محمد دياب أحداث فيلمه «678»، والعنوان يُقصد به رقم الأتوبيس الذي يشهد مسرح الجريمة. يُقدم الفيلم ثلاثة نماذج من النساء المصريات، متباينات على كل المستويات، اجتماعياً واقتصادياً وفكرياً، وحتى على مستوى قوة الشخصية. الأولى «فايزة» امرأة من الطبقة الكادحة، المطحونة، فاقدة الثقة في نفسها، تعمل موظفة في الشهر العقاري، متزوجة ولديها طفلان. تظل «فايزة» ترتدي طبقات من الملابس الفضفاضة، والحجاب الطويل، متخيلة أن ذلك سيحميها من التحرش والنظرات الحيوانية للرجال، لكنها ومع ذلك تتعرض لانتهاك جسدها يومياً في الأتوبيس.

مع تكرار التحرش المهين للنفس والبدن، مع عدم قدرتها على رد الفعل، مع عجزها عن الإفصاح عن مخاوفها وهواجسها الشبحية الملازمة لها كظلها، تُصاب «فايزة» بالنفور الفظيع من الجنس وبالتالي من زوجها وتهجر مضجعه، إضافة إلى ذلك تنتابها حالة من الهلع الشديد من أي رجل تراه يقترب منها أو يمر إلى جوارها في الشارع، وتتحول إلى كائن زائغ النظرات، خائف فاقد الثقة تماماً في نفسه وفي الآخرين. تلجأ «فايزة» إلى سيارات التاكسي هرباً من جحيم التحرش، لكن موازنة أسرتها بمواردها الضئيلة لا تحتمل هذا الترف، وتنوء سريعاً تحت أثقال مصاريف المدارس والأطفال وأعباء الحياة مما يُعجّل بعودة تلك الزوجة صاغرة إلى زحمة الأتوبيسات، مضطرة أن تبتلع في صمت غصاتها الحارقة مع كل لمسة جديدة تخترق حرمة جسدها وتعبث به.

انفجار مكتوم

في أحد الأيام تلتقط أذن «فايزة» حديث امرأة شابة في برنامج تلفزيوني تُعلم فيه النساء كيفية الدفاع عن أنفسهن ضد التحرش. تكتب عنوانها وتذهب إليها. هناك نلتقي الشخصية الثانية «صبا» (تجسدها نيللي كريم). في نهاية «الدرس» تطلب «صبا» من الحاضرات الإجابة عن ثلاثة أسئلة: هل تعرضت للتحرش الجنسي؟ كم مرة؟ بماذا شعرت وكيف كان رد فعلك؟ في كل مرة تكون إجابة «فايزة» مثل جميع الأخريات: لا... لم أتعرض للتحرش، فتُحاصرها «صبا» وتسألها عن سبب حضورها كل هذا العدد من المرات إذا لم تكن قد تعرضت للتحرش، وفي لحظة انفعال غاضب تنتزع مشبك الإبرة (الدبوس) الخاص بطرحة «فايزة»، مشيرة إليه قائلة: «لو عايزة بصحيح ممكن تدافعي عن نفسك حتى لو بده».

بعقل مشوّش، وبيد مرتعشة، متوترة تقبض «فايزة» على الدبوس، وفي الشارع الواسع عندما تتعرض للتحرش تلتفت بغتة وتغرس الدبوس في العضو الذكري للمتحرش بها فيسقط متألماً بينما تفر هي هاربة. تلك اللحظة الهجومية الناجحة، بما لها من تأثير نفسي خطير في معنويات «فايزة»، تكسر لديها حاجز الخوف قليلاً، وتُفجر في أعماقها رغبتها الانتقامية، فيتطور الدبوس إلى مطواة صغيرة تغرس طرفها المدبب في المكان ذاته لرجل آخر حاول أن يتحرش بها في الأتوبيس. عندما يصرخ الرجل تتخيل أن الناس سيقفون معها أو يعتبرونها بطلة، لكنها تُفاجأ بهجوم الناس عليها واتهامها بالجنون فتهبط من الأتوبيس بسرعة كالتائهة المضطربة المطرودة حتى تكاد تصدمها سيارة تعبر الميدان الواسع بشوارعه المتقاطعة فيتعالى صوت آلة التنبيه.

عند تلك النقطة تحديداً ينكسر الزمن وتعود بنا الأحداث عبر «الفلاش باك» إلى عام سابق. في إحدى مباريات كرة القدم نرى «صبا»، المرأة الشابة وهي تتعرض للتحرش الجماعي أمام عيني زوجها الطبيب العاجز عن إنقاذها. تنتاب الزوج حالة من النفور من زوجته فيهجرها. «صبا» الشخصية القوية الثرية، صاحبة الغاليري، المتحررة فكرياً، وفي ملابسها، تُصاب بصدمة عنيفة تزداد حدّتها بعد موقف شريك حياتها بعدم مساندته لها في أزمتها النفسية وتخليه عنها. تُفكر في تقديم بلاغ ضد من تحرشوا بها، لكن أسرتها تمنعها خوفاً من الفضيحة... فتُقرر الانفصال عن الزوج الذي تُحبه بعدما أُصيبت بالإجهاض تحت وطأة أزمتها السيكولوجية وخيانة الجميع لها. تتحول إلى ناشطة للدفاع عن حقوق النساء المتحرش بهن وتبدأ في عقد دورات تدريبية لتعليمهن كيفية الدفاع عن أنفسهن. تزورها «فايزة»، ومن هنا يسرد الفيلم من خلال هذا «الفلاش باك» تفاصيل جديدة عن لقاءاتهما حتى نصل إلى المشهد نفسه الذي يتكرر نحو أربع مرات ونقصد به لحظة هبوط «فايزة» مطرودة من الأتوبيس في الميدان حيث نرى في كل مرة تفصيلة جديدة تتعلق بإحدى الشخصيات لتتقاطع مع بعضها بعضاً زمانياً ومكانياً ودرامياً.

استوحى محمد دياب شخصياته النسائية من الواقع، وهو ما يتضح بقوة مع الشخصية الثالثة «نيللي رشدي» التي لعبت دورها بإجادة وصدقية الممثلة الشابة ناهد السباعي التي سبق لها تقديم دور بارز في «احكي يا شهرزاد» ليسري نصرالله. شخصية «نيللي رشدي» في «678» تُعيد إلى الأذهان كثيراً من تفاصيل ما حدث مع مخرجة الأفلام التسجيلية نهى رشدي صاحبة القضية الشهيرة والتي تحرش بها سائق سيارة نقل وجرَّها أثناء قيادة سيارته عشرات الأمتار ممسكاً بأجزاء حساسة في جسدها. وقتها أصرت نهى على أن ينال المتحرش عقابه فشهدت مصر أول دعوى قضائية ترفعها فتاة ضد رجل يتحرش بها، وتناولت المحاكم قضيتها منتصف عام 2008، حيث عُوقب الشاب بالسجن لمدة ثلاث سنوات في أول حكم قضائي من نوعه في مصر. كل ذلك نجده في «678» مُجسداً في شكل جيد باستثناء النهاية المفتعلة والمبالغ فيها أثناء مشهد المحاكمة.

في شريط محمد دياب يتحول عمل «صبا» إلى مبرر درامي قوي يُتيح لقاء البطلات الثلاث ليتطور سلوكهن، ما يدفع بالحوار إلى تساؤلات تُؤرقهن: هل يواصلن طعن المتحرشين بهن؟ هل يستسلمن؟ هل يقمن بتحرير محاضر ضدهم؟ لكن مع ذلك، وعلى رغم ما قد يبدو من بعض المشاهد أنها تنطوي على نبرة تحريضية للفتيات يقول الواقع إن كل ما جاء من أفعال دفاعية، سواء كانت مشروعة أم غير مشروعة، لم يبتكرها مؤلف العمل لأن كثيراً من الفتيات يلجأن إليها منذ زمن طويل في صمت، ويتبادلن تلك الخبرات بينهن.

للفيلم مزايا عدة، أولاها أنه يُمثل سابقة في تاريخ السينما المصرية الروائية (الطويلة فقط، لأن هناك فيلماً روائياً قصيراً قُدم منذ عامين وناقش تلك القضية). يتميز «678» بتناول موضوعه الشائك المثير والمُؤلم برقي وفنية فيها ملمح كوميدي، غير مفتعل، في بعض المشاهد. يُحسب لمؤلفه اهتمامه الشديد بأن يعكس التأثير النفسي والمخاوف والهواجس التي تصاحب الضحية في ظل صمت المجتمع بل وإدانته للمرأة. كذلك أنه يكشف بما لا يدع مجالاً للشك أن التحرش لم يعد قاصراً على الشباب العاجز عن الزواج بسبب ظروفه المادية، لأن هناك متحرشين على قدر من الثراء، تماماً مثلما هناك أطفال في الثامنة من العمر يتحرشون بالنساء، وكأن التحرش أصبح سلوكاً مجتمعياً، ومن هنا تأتي أهمية الفيلم وخطورته.

لكن من بين نقاط الضعف الأساسية في السيناريو أنه أخذ يلف ويدور حول الأسباب الكامنة وراء استفحال ظاهرة التحرش الجنسي، من دون أن يجرؤ على مس عصب أو جوهر المشكلة.

بقي أن نُشير إلى جرأة الفنانة بشرى وإقدامها على إنتاج هذا الفيلم، وإلى تألق أدائها اللافت في تجسيد دور المرأة المصرية المطحونة المغلوبة على أمرها بحساسية ومهارة فائقة. أما دور رجل الشرطة الذي جسده الفنان ماجد الكدواني بعفويته وخفة ظله وحزمه المتقن، فسيظل مع المتلقي طويلاً بعد خروجه من دار العرض السينمائي.

الحياة اللندنية في

07/01/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)