حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

في ذكرى رحيلها الثامنة

"سناء جميل" سيدة الهمس البليغ!!

طارق الشناوي

في الأدب شعر ونثر وفي الأداء الدرامي أيضاً شعر ونثر.. عدد محدود جداً من الممثلين هم الذين ينطبق عليهم تعبير شعراء التمثيل.. على رأس هذه المدرسة والتي تشغل مقعد الناظرة وتقف "سناء جميل" شامخة وهي أحد كوكبة قليلة جداً يملكون لحظات تجلي خاصة يلعب فيها اللاشعور دوراً أكبر من الشعور.. إنهم يلتصقون بالشخصية التي يلعبونها تتحول إلى نبضات في عروقهم ودقات في قلوبهم.. كانت "سناء" زعيمة في التحليق الفني وهي تبرع في أدوارها القليلة بمقياس العدد العميقة بمقياس الإحساس والتأثير.. حاصرت "سناء جميل" السينما المصرية بقواعدها التي توارثناها وهي الأغراء والجمال الصارخ وحاصر المسرح "سناء جميل" بقواعده التي تعلي من شأن الأداء الصارخ الجهوري.. الانفعال الزائد الذي ينتقل إلى جمهور الصالة من أجل أن يبكي مثل الأبطال أو يصفق أو يضحك بنفس درجة الصخب الزائد الذي يراه على خشبة المسرح.. أما في التليفزيون فإن "سناء جميل" وجدت فيه كل القواعد والتراث التقليدي للسينما والمسرح الذي لا يترك مجالاً للهامسين باللفتة والنظرة والإيماءة والتنهيدة وكان من المنطقي أن تستسلم "سناء جميل" وترفع الراية فلا يمكن لفنان أن يطبق قانونه الخاص على قانون سائد كان من الممكن أن تتحول من فنانة تعبيرية إلى فنانة خطابية من الهمس إلى الصراخ وما أسهل أن تكون صارخاً لكنها كانت ستصبح شيئاً آخر غير "سناء جميل" التي عشقناها.. كانت ستتحقق بمقياس العدد عشرات من الأدوار تنهال عليها ورصيد ضخم في البنك لكنها عاندت وسبحت ضد التيار ولهذا رآها "د. طه حسين" عميد الأدب العربي بإحساسه وتواصل معها وعندما شاهدها على المسرح قال كلمته الشهيرة "ليس لأحد على تمثيلها سبيل".. انتهت كلمة "طه حسين" التي تلخص بدقة مدرسة "سناء جميل" فهي صحيح ابنة المسرح بكل طقوسه وأساتذته وأساليبه الكلاسيكية ورغم ذلك عندما اعتلت خشبة المسرح كان لها أسلوبها المغاير لكل من سبقوها ولقنوها كما قال "طه حسين" بكل بلاغة وعمق ليس لأحد على تمثيلها سبيل.. هكذا تواصل معها "طه حسين" منذ قرابة نصف قرن رغم أنه يدين بإحساسه الدرامي إلى تراث أسبق بمنهج مختلف قدمه "جورج أبيض" ، "يوسف وهبي" ، "عزيز عيد" ، "فاطمة رشدي" وغيرهم لكنه لمحها وأمسك بهذه القدرة على التعبير.. لو حسبتها بالأرقام فلن تجد في رصيدها الفني الكثير إنها الأقل عدداً بين كل الفنانين من جيلها سواء في المسرح أو السينما أو التليفزيون.. لكن الفن لا يعترف أبداً بالمقياس الرقمي ومع سناء يصبح عمق الإبداع هو الفيصل وليس شيئاً آخر.  

وعندما تتأمل أفلامها لا شك أن "بداية ونهاية" سوف يبرق أمامك وعلى الفور يحتل مقدمة الكادر دور "نفيسة الذي صار عنواناً لها في السينما رغم أن لها العديد من العناوين الجذابة ولكننا تعودنا على سبيل الاستسهال أن نختصر الفنان في دور!!

حكى لي "صلاح أبو سيف" أنه رشح "فاتن حمامة" لأداء دور "نفيسة" في "بداية ونهاية" تحمست "فاتن" ثم عادت وتراجعت فهي لا تريد أن تؤدي دور فتاة تبيع نفسها رغم أنها لعبت هذا الدور من قبل في "طريق الأمل" لعز الدين ذو الفقار وقدمته بعد ذلك في "الخيط الرفيع" لهنري بركات.. أتصور أيضاً أن ملامح "نفيسة" ليست هي المرأة الجميلة ولكنها ذات حظ محدود جداً من الجمال أو بالأحرى تخاصم الجمال.. كانت "سناء" كما قال لي "أبو سيف" في خياله وهو يعيد تسكين الشخصيات لكنه أراد أن يبدأ بفاتن وعندما لم تتحمس على الفور كانت "سناء" هي "نفيسة" كانت أكبر تحية تلقاها "صلاح أبو سيف" أيضاً من "فاتن" عندما شاهدت الفيلم في أول عرض خاص حرص "أبو سيف" على دعوتها كانت تجلس بجواره وبعد العرض مباشرة قالت له كان عندك حق يا "صلاح".. وشارك هذا الفيلم في مهرجان "موسكو" وتذكر "أبو سيف" ملمحاً آخر لسناء جميل هي و"فاتن حمامة" التي شاركته أيضاً بالمهرجان حيث عرض لها "نهر الحب" اكتشف الأمن في الطائرة أن "صلاح" ليس لديه تأشيرة دخول للاتحاد السوفيتي – سابقاً – روسيا الآن قرر ضابط الأمن ترحيل "صلاح أبو سيف" ولكن "سناء جميل" ومعها "فاتن حمامة" قالتا إلى مصر نعود مع "صلاح" وأمام هذا الموقف تم دخول "صلاح" في سابقة كان الكل يعلم أنها مستحيلة التكرار في أي ظرف آخر.. وعلاقة "أبو سيف" بسناء جميل امتدت بعد ذلك مرتين في فيلم "الزوجة الثانية" عام 68 والثانية في آخر أفلامه "السيد كاف" عام 93.

في فيلم "بداية ونهاية" نتابع تلك العلاقة التي نسجها ببراعة "صلاح أبو سيف" وكتب لها السيناريو والحوار "صلاح عز الدين" و "أحمد شاكر" و "كامل عبد السلام".. كانت "سناء جميل" بملامحها هي عنوان تلك الطبقة الفقيرة المطحونة.. كيف تغيرت العلاقة مع البقال "صلاح منصور" من الندية والتحدي إلى الاستجداء بأن يتستر عليها بعد أن سلب منها شرفها براعة ممثلة تنتقل بأستاذية من موقف إلى آخر.. نظرة عينها وهي تترجى شقيقها "عمر الشريف" بعد ضبطها في قضية الآداب استطاعت في لمحة واحدة أن تجمع بين الضعف والإحساس بالذنب وهي لا تجد أمامها سوى الانتحار.. ويتكرر الأمر مرة أخرى مع "صلاح أبو سيف" في "الزوجة الثانية" كيف عبرت عن غيرة الزوجة فهي الزوجة الأولى العاقر وهي التي تختار المرأة الولود لكنها لا تطيق أن ترى زوجها وهو يلهث وراء امرأة أخرى الغيرة القاتلة المغلفة أيضاً برغبة لامتلاك طفل ليس لها.. قبل ذلك أعود بكم إلى سهرة تليفزيونية مع بدايات التليفزيون عام 60 مونودراما باسم "رنين" تلعب بطولتها "سناء جميل" من إخراج "حسين كمال.. هي فقط التي نراها في الكادر ثم كانت هي في أول فيلم روائي وقع اختيار "حسين كمال" عليها في أول أفلامه "المستحيل".. مع "أشرف فهمي" أكثر من لقاء أهمها "المجهول" المأخوذ عن مسرحية ألبير كامل "سوف تفاهم".. اعتمد أشرف على الاقتصاد الشديد في التعبير فكانت "سناء جميل" على القمة مع "عادل أدهم" و "نجلاء فتحي".. ثم مع المخرج عاطف الطيب "البدروم" إنها البوابة "أم الخير" انتقلت من واقعية "صلاح أبو سيف" إلى الواقعية السحرية التي يقدنها تلميذه النجيب "عاطف الطيب".. أتذكر في فيلمها "سواق الهانم" للمخرج "حسن إبراهيم" عام 94.. إنها الهانم التي تقرر أن تستعين بالسائق الشهم "أحمد زكي" ولكنها تعامله بقدر كبير من الصلف والغروب أبدعت "سناء جميل" في أداء الدور إلى درجة أن المركز الكاثوليكي المصري كان قد رشحها للتكريم عن مجمل أفلامها هي و "عادل أدهم" الذي لعب  دور زوجها المقهور في الفيلم.. في اللحظات الأخيرة تراجع رئيس المركز الأب "يوسف مظلوم" عن تكريمها.. كنت عضواً في لجنة تحكيم المهرجان وعندما علمت بقرار المركز الكاثوليكي تناقشت مع الأب "يوسف مظلوم" قال لي لقد كانت قاسية جداً على زوجها وعلى السائق وعلى ابنتها ونحن في المركز نكرم دائماً القيم النبيلة التي يدعو إليها الفنانين.. فأجبته قائلاً ولكن الفيلم نفسه يشجب هذا السلوك ولو لم تبرع "سناء جميل" في أداء دورها ما كان من الممكن أن نكره الغرور والصلف واقتنع الأب "مظلوم" عادت مرة أخرى "سناء جميل" لقائمة المكرمين بعد أن كانت مستبعدة بسبب صدق أداءها.. مع "شريف عرفة" و "وحيد حامد" جاء اللقاء في "اضحك الصورة تطلع حلوة".. تقدم "سناء جميل" دور أقرب لرمانة الميزان يحمل الفيلم الواقعي كل أحلام التصالح مع الحياة.. في التليفزيون أنت أمام قامة كبيرة فهي من الرعيل الأول وتظل "فضة المعداوي" في "الراية البيضاء" هو الدور الأثير لقد منحته "سناء" من مشاعرها الكثير وأضفت عليه ألق خاص وكانت هي السيدة التي تسيطر بنفوذها ومالها على الجميع لم تسقط في فخ المبالغة أو الجري وراء أيفيه الناس رددت وراءها حوارها.. صارت "فضة المعداوي" هي أفضل شخصية درامية نسجها "أسامة أنور عكاشة" صاحب النصيب الأكبر في كل الدراما العربية وأتذكر أنني سألت "أسامة" الذي قدم عشرات من الشخصيات الدرامية التي أطلت علينا من الدراما وكأنها آتية من عالم الكاتب لتعيش بيننا وتستقر في وجداننا سألته عن "فضة المعداوي" أجابني هي الأكثر اقتراباً وأن ما منحته "سناء جميل" للشخصية من حياة وروح فاق كل تصوراته على الورق!!

في المسرح لا أنسى لها "الحصان" مونودراما كتبها "كرم النجار" وأخرجها "أحمد زكي" وهو بالطبع غير "أحمد زكي" النجم السينمائي.. فهو واحد من أهم مخرجي المسرح وكان أستاذاً لأحمد زكي في معهد التمثيل.. أيضاً "زهرة الصبار" مع "عبد الرحمن أبو زهرة".. كان بين "سناء جمل" و "سميحة أيوب" نوع من المقارنة فرضتها الأحداث الاثنان من نفس الجيل وأستاذهما الأول هو "زكي طليمات" وكل منهما كانت تستحق لقب "سيدة المسرح".. سنوات الشباب حملت قدر من التنافس والصراع ولكن السنوات الأخيرة كان الحب هو الذي يسود والصداقة هي التي تعلن عن نفسها.. تستطيع أن تقول وأنت مطمئن أن سميحة أيوب "سيدة المسرح" وسناء جميل "سيدة الإحساس" في السينما والمسرح والتليفزيون فلقد كانت تقدم الهمس الفني البليغ الذي يقول الكثير بدون أن تسمع لها صوتاً!!

عاشت "سناء جميل" بوجه واحد فقط بينما الحياة الفنية تحتاج إلى أكثر من وجه أغلب الفنانين يقولون شيئاً ويمارسون شيء آخر.. عملهم بالتمثيل يجعلهم ينتقلون من الاستديو إلى بيوتهم بشخصيات أخرى ليست بالطبع من فرط معايشة الشخصية الدرامية التي يؤدونها ولكن لأن الوسط الفني يفضل النفاق والكذب والإطراء الزائد فهم يمثلون 24 ساعة يومياً داخل وخارج الاستديو.. غير مسموح بكلمة صادقة لا تضع اعتبارات المصلحة فوق أي اعتبار.. لم تكن "سناء جميل" تخجل من أن تذكر هذه الواقعة فلقد بدأت المشوار في القاهرة قادمة من الصعيد بلا أي سند سوى موهبتها ولكن كيف تستطيع أن تواجه الحياة بلا أموال ولو قليلة وفي البداية لم تجد سوى أن تبيع لأحد المحلات مفارش كانت تبرع في حياكتها وكان لديها اعتزاز خاص بما تنسجه فهي تعتبرها جزءاً عزيزاً منها ولهذا قبل أن تبيعه تكتب عليه أول حرفين من اسمها S.G وكانت يوماً هي وزوجها الأستاذ "لويس جريس" في زيارة لبيت الأستاذ "إحسان عبد القدوس" وأثناء تناول العشاء لاحظت "سناء جميل" أن مفرش المائدة يحمل توقيعها وروت الحكاية لإحسان عبد القدوس وللسيدة زوجته فما كان منهما سوى أن أصرا في نهاية الزيارة على أن تصطحب معها هذا المفرش!!

كانت "سناء" تعشق الصدق في الإبداع وفي الحياة فهي لا يمكن أن تقف أمام الكاميرا أو على المسرح لتعبر عن إحساسها ثم يتخلى عنها الصدق خارج حدود الاستديو أو خشبة المسرح ولهذا للمرة الثانية اصطدمت بقانون الوسط الفني الذي يضع خارج الخط أي فنان لا يجيد قواعد اللعب والتزويق والتجميل أغضبت آراؤها الكثيرين وجرحهم صدقها الذي يتجاوز المسموح والمباح لكنها أرادت أن تظل "سناء جميل".. عندما تنظر للمرأة تحترم تاريخها لا تشعر بلحظة أنها تنازلت صادرت كلمة الحق من أن تنطق بها وكأنها تردد مقولة جبران خليل جبران "للحق صوتان صوت يسمعه وصوت ينطق به".. لم تقيدها المصالح التي تتحول إلى معادلات دائمة في الوسط الفني.. من المؤكد أنها دفعت الثمن مرتين لأنها أرادت الصدق الفني والصدق الإنساني.. نعم كان يحاول صناع عدد من الأعمال الفنية إقصاء "سناء جميل" وكان بعض من النجوم والنجمات يفكرون ألف مرة قبل أن تشاركهم "سناء" البطولة لأنها سوف تسرق بدون أن تقصد إحساس الناس بمجرد أن تتواجد "سناء" فإن العين تتابعها ومن الصعب جداً أن ترى غيرها أما القلب فلا يسمح بالدخول لأحد سواها.. كانت بصدقها ستفضح زيفهم وبريقهم الكاذب وكثيراً ما كان يتردد اسمها في أعمال فنية ثم في اللحظات الأخيرة يرنوا الصمت وكأن شيئاً لم يكن ورغم ذلك كانت "سناء" قادرة على أن تبرق تدخل من هذا النفق الضيق الذي يشبه ثقب الإبرة وكان عليها أن تقتنص القليل المتاح أمامها لتشع من خلاله نوراً لا يخبو وميضه كنا نرى شعاع شمس يتم تكثيفه ليخرج من ثقب إبرة.. "سناء" شاعرة في أدائها تكتب أبياتاً وتؤدي أدواراً تسمو بالدور الدرامي فنجد أنفسنا وقد حلقنا معها.. لم تمارس الأمومة بالمعنى المباشر ولكنها كانت هي الأم في عطاءها أتذكر أننا في عيد الأم كنت أقدم حفل للعمال في "روز اليوسف" وتوزع شهادات محو الأمية ووجدنا أن الأم هي "سناء جميل" وجاءت للعمال.. واكتملت القصيدة قصيدة الحب.. كتبت البيت الأخير عندما ودعناها في الكنيسة المرقصية يوم 22/12/2002.. عشرات من فناني مصر ومئات من أفراد الشعب تواجدوا في ساحة الكنيسة وعندما ضاق بهم المكان وقفوا جميعاً في الشارع الرئيسي يودعونها.. كانت "سناء" لا تريد لا من الدولة أو الأفراد أن يتكبدوا مشقة العلاج ومصاريفه ولهذا كما قال لي أستاذي الكاتب الكبير "لويس جريس" أن "سناء" حرصت في آخر 20 عاماً من عمرها على أن تستقطع جزءاً من أجرها لتودعه في البنك تحت بند العلاج ولهذا عندما اشتد بها المرض لم تطلب شيئاً من أحد ولا من الدولة وكان حساب الوديعة هو بالضبط حساب المستشفى الخاص الذي عولجت فيه "سناء" على نفقة "سناء"!!

عندما زرت "سناء جميل" في المستشفى قبل أسبوع واحد من رحيلها وبعد أن قبلتها في جبينها وعلى يدها قالت لي "خللي أمك تدعيلي في كل صلاة".. وفي كل صلاة أستمع إلى صوت والدتي وهي تدعو إلى "سناء جميل" بالرحمة والمغفرة وأن يسكنها الله فسيح جناته!!

كانت وصيتها قبل وفاتها هي أن تكتب في نعيها في "الأهرام" قريبة ونسيبة كل المصريين.. وهكذا كتبت الأهرام في صفحة الوفيات "سناء جميل" قريبة ونسيبة كل المصريين ولم يتضمن النعي كلمة "وحبيبة كل المصريين" لأنها كانت تشعر في حياتها بكل هذا الحب!!

الدستور المصرية في

22/12/2010

 

متابعات

نعوم تشومسكي وتهميش المفكرين المعارضين

ناصر ونوس

تتناول السلسلة الوثائقية المعنونة "وحي القلم" التي تنتجها وتعرضها قناة الجزيرة سيرة عدد من أعلام الثقافة والفكر عرباً وأجانب. ومن بين ما عرض مؤخراً (16/ 12/2010) ضمن هذه السلسلة فيلم عن العالم اللغوي وأستاذ اللسانيات في معهد ماساتشوستس والمفكر الأمريكي المعارض للسياسة الأمريكية نعوم تشومسكي. كتب نص الفيلم معتز الخطيب وإخراجه منتصر مرعي، الذي حاور تشومسكي برفقة أسامة أبو رشيد.

يبني المخرج فيلمه هذا على مقابلات مع كل من تشومسكي وعدد ممن كتبوا عنه ومنهم ما هو معروف جيداً للقارئ العربي المتتبع لنتاجات تشومسكي، وهم نوربرت هورنستون محرر كتاب "تشومسكي ونقاده". ونورمان فنكلستين الذي اشتهر في العالم العربي بعدما ترجم كتابه البالغ الأهمية "صناعة الهولوكوست". وبيتر ويلكن مؤلف كتاب "تشومسكي: السلطة والمعرفة والطبيعة الإنسانية". وديفيد بارساميان المذيع ومؤلف لعدد من الكتب عن تشومسكي منها كتاب "ضبط الرعاع: مقابلات مع تشومسكي". وجوزيف مسعد أستاذ التاريخ العربي في جامعة كولومبيا. واليسون إيغلي مؤلفة كتاب "التفكير الاجتماعي والسياسي عند تشومسكي". ونيل سميث مؤلف كتاب "تشومسكي: الأفكار والمثل".

في وصفه لتشومسكي يقول ديفيد بارساميان: "إنه كاتب مبدع لا ينضب، قادر على الكتابة في علم اللغويات بنفس الجودة التي يكتب فيها عن القضايا السياسية، لديه الكثير ليقوله ويعرف الكثير وهو قادر على إنتاج العديد من الكتب والمقالات، قليلون فقط في العالم من يستطيعون منافسة مخرجات تشومسكي الفكرية".

ثم نرى بارساميان مختلفاً مع فنكلستين بشأن أسلوب تشومسكي في الكتابة، فبينما يقول الأول إن أسلوب كتاباته ليس سلساً، فجمله طويلة جداً، يقول الثاني إن كتبه بسيطة بشكل مضلل، وأن أحد أصدقائه أشار إلى مخزون تشومسكي المرعب من المعرفة، وإلى عقله الذي "يعمل مثل آلة تحليل أينما ذهب وأينما نظر، فهو حينما ينظر إلى أي شيء ينظر إليه ويحلله فكرياً".

يتحدث تشومسكي عن الحصار الذي يعيشه بوصفه مفكراً معارضاً ويقول إنه ينشر معظم مؤلفاته في دور نشر صغيرة. ويسوق مثالاً عن أول كتاب ألفه وكان عن القضية الفلسطينية، إلا أن الناشر لم يعجبه ما جاء فيه من أفكار فرفض نشره، لكن الكتاب صدر في فرنسا بترجمة فرنسية، وهنا وافق الناشر الأمريكي على نشره. أما كتابه الثاني فلم يجد له ناشراً، فنشرته مطبعة جديدة صغيرة، وهذا الأمر مازال يتكرر حتى الآن. وهذا من جملة القيود التي يتعرض لها الرأي المعارض. وهنا يكشف تشومسكي عن بيان مكتوب موجود لدى الإذاعة العامة مفاده أن تشومسكي هو الشخص الوحيد المحظور في الإذاعة. كما أن هناك مذكرة لمدير تحرير صحيفة نيويورك تايمز تحمل تعليمات للمراسلين والصحفيين بعدم ذكر اسم تشومسكي. في تلك النقطة كان يمكن للمحاور أن يسأل تشومسكي عن ما يسمى بـ "الديمقراطية الأمريكية"، وكيف تقلصت إلى حدودها الدنيا في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص (بعد الحادي عشر من سبتمبر والقانون الذي أصدره بوش تحت اسم باتريوت أكت)، لكن المحاور لم يفعل. يعلق نورمان فنكلسين على هذا الحصار المفروض على تشومسكي بالقول إنه في البداية لم يتم تجاهل تشومسكي، فقد كانت لديه سمعة حسنة من عمله في اللغويات ومن انتقاده لحرب فيتنام. وبالتالي كان من الصعب تجاهله بسبب مكانته، لكنهم بدءوا بتجاهله في بداية الثمانينات عندما أصدر كتاباً ممتازاً بعنوان "The Faithful Triangle". وهنا نجد تشومسكي متآلفاً مع هذا الحصار والتجاهل والتهميش، حيث يقول إن في الولايات المتحدة يتعرض المنشق للقذف والاستنكار والإبعاد عن الصحافة، وفي الإتحاد السوفيتي السابق كان ينتهي به الأمر في معتقلات الكولاغ. وإن كنت في دولة مثل السيلفادور ينتهي بك الأمر قتيلاً. وطالما أن المنشق يدين أنظمة السلطة فمن الطبيعي أن لا يلقي القبول. يعلق بارساميان، وخلال برنامج إذاعي، بالقول إن أي شخص يعيش في ظل الثقافة الأمريكية ويسبح ضد التيار فسيهمّش إلى حد معين لأن الحقائق التي يبينها تشومسكي غير مستحبة أبداً...

لقد تم تجاهل تحليلات تشومسكي السياسية وتهميشها بصورة كبيرة. بل كان هناك الكثير من الأعداء لأفكار تشومسكي. لكن على الرغم من المنع والتهميش، تقول أليسون إيغلي، أتيحت للناس فرصة سماع أفكاره، لأنه قادر على نشر كتبه وإلقاء خطابات والظهور عبر محطات إذاعية مستقلة، وأفكاره وجدت صدى لدى عامة الناس الذين يقدرون انتقاداته. فتشومسكي يقدم مصدراً تاريخياً مختلفاً للأحداث وليس المصدر المتعارف عليه للتاريخ، وبالتالي فهو يقدم نسخة مختلفة للتاريخ. يفسر المقابَلون في الفيلم سبب تعرض تشومسكي للتهميش، فنيل سميث يقول إن سبب هذا التهميش هو أن الناس يشعرون بالتهديد مما يفعله تشومسكي، فهو يتصرف كضمير الغرب الحي، ولهذا يصعب إخفاؤه، "وإذا لم تهمشه فسيصبح هناك عواقب من قبيل لابد من فعل شيء ما". ورغم أن تشومسكي اكتسب تقديراً أكاديمياً إلا أن الإعلام مازال يتجاهله. تقول أليسون إيغلي إن كتابه عن الحادي عشر من سبتمبر احتل المركز الثالث على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً رغم أن الإعلام لم يقدمه ككتاب تجدر قراءته، وهذا يعني أن عامة الشعب مهتمون جداً بأفكاره، ولكن الإعلام والأكاديميين والحكومة، أي جماعات النخبة الثلاث، لا يريدون النظر إلى أعماله.

إن تشومسكي بوصفه مفكراً لديه مخزون هائل من المعرفة قلما نجده لدى مفكر آخر نراه هنا وهو يقرأ أحداث الحادي عشر من سبتمبر قراءة تاريخية. فيقول إن هناك حادثتين للحادي عشر من سبتمبر إحداهما دخلت التاريخ والثانية لم تدخله. فالذي دخل التاريخ هو الحادي عشر من سبتمبر 2001، ونعرف ما حدث حينها وكيف غيّر ذلك العالم، لكن هناك حادي عشر من سبتمبر آخر حدث عام 1973، عندما دعمت الولايات المتحدة الانقلاب في تشيلي وأطاحت بحكومة الليندي المنتخبة ديموقراطياً، وهذا لم يدخل التاريخ، فالحدث يدخل التاريخ عندما يُرتكب ضد الولايات المتحدة وليس عندما ترتكبه الولايات المتحدة ضد الآخرين. كان للحادي عشر من سبتمبر الأول تأثير هائل على التاريخ، لكن قلة من الناس في الغرب تعرف ما هو. أما الحادي عشر من سبتمبر الثاني فكان موجهاً إلى الغرب ولذلك كان مهماً جداً، وأثار تعاطفاً ضخماً في أنحاء العالم.

لطالما يتساءل المرء: ما الذي يجعل من عالم لسانيات ينشغل بنقد السياسة الخارجية الأمريكية ويكرس جلّ وقته لمناهضتها؟ مثل هذا السؤال يجيب عنه كل من إيغلي وفنكلستين وويلكن وتشومسكي نفسه. الأمر ببساطة، وكما يقول تشومسكي بعبارة ترتقي إلى مرتبة الحكمة: "حقيقة أنك متخصص في الأدب الإنكليزي في القرن السابع عشر، أو تعمل في النظرية الكمية، لا يمنعك أن تكون إنساناً. ومادمت إنساناً فلابد أن تهتم بالقضايا التي تهم البشر (...) لكنني أرى أن السؤال الذي يجب أن يطرح هو لماذا لا يفعل الجميع هذا".

يتحدث الفيلم عن مواصلة تشومسكي لممارسة "النشاط الذي يجري في دمه منذ كان طفلاً جريان الأفكار في عقله الجبار" رغم تجاوزه الثمانين من عمره وفقدانه لرفيقة دربه. ويعرض للقطات من زيارته إلى معتقل الخيام الذي أقامته إسرائيل خلال احتلالها لجنوب لبنان. وذلك في إشارة لدعمه للمقاومة المشروعة ضد الاحتلال. تلك الزيارة التي أتت بعدما منعته إسرائيل من زيارة الضفة الغربية لإلقاء محاضرة في جامعة بير زيت، فألقى المحاضرة في الأردن ليتلقاها جمهوره في بير زيت عبر الفيديو كونفيرنس.

يواصل المتحدثون في الفيلم تحليل الجانب النضالي في فكر تشومسكي وشخصيته، فيتحدث بارساميان عن نوعين من المفكرين (أو المثقفين)، نوع يقوم بأبحاث ويدرِّس في الجامعة وليس مرتبطاً بأي حركة، ونوع آخر يمثلهم تشومسكي الذي طالما عرّف الحركات الشعبية والناشطين بأن المعرفة الجامدة لا تفيدهم بشيء، وهو يريد أن يكون متألقاً ومحفزاً. تصنيف بارساميان للمفكرين يذكرنا بتصنيف المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي للمثقفين، عندما يتحدث عن الفارق بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي. أما جوزيف مسعد فيتحدث عن الجبن السياسي لدى المؤسسة الأكاديمية الأمريكية ولدى أساتذة الجامعات الأمريكية وخوفهم من الانخراط في العمل السياسي خوفهم على سمعتهم الأكاديمية. لكن تشومسكي وعلى العكس من ذلك استطاع كسب احترام المؤسسة الأكاديمية وإن خسر احترام المؤسسات الرسمية الأمريكية نتيجة مواقفه المعادية لسياسة الولايات المتحدة. أما فنكلسين فيقول إن تشومسكي دائم الاتصال بالناشطين الذي يتحدث من أجلهم ويشجعهم في حياته السياسية... "إن هدفه الأول هو تشجيع الناشطين. هؤلاء الأشخاص الذين يودون تغيير العالم بصورة واقعية، وهذا ما يجعله مختلفاً تماماً عن معظم الأكاديميين اليساريين". يتحدث المحاوَرون عن يهودية تشومسكي، وعلاقته بالقضية الفلسطينية. نيل سميث مؤلف كتاب: "تشومسكي: الأفكار والمثُل" يقول عنه "إنه يمارس ما يعظ به، فهو يعظ بالمساواة وبأهمية أخذ الأمور بالنظر إلى أهميتها الواضحة أو عدالتها العالمية على الأقل". أما بارساميان فيقول إن يهودية تشومسكي أمر ثانوي، والأكثر أهمية هو عدالة القضية الفلسطينية. فتشومسكي كان منذ بداية نشاطه السياسي متحمساً ومهتماً بفلسطين. وهناك القليل في الولايات المتحدة من الذين ناصروا بشدة وصادقوا الشعب الفلسطيني مثل تشومسكي. وهو كتب عدداً من الكتب حول ذلك. وهنا يتحدث تشومسكي عن تأييده "قيام اتحاد ثنائي القومية في دولة واحدة". يذكّر نوربرت هورنستون محرر كتاب "تشومسكي ونقاده" أنه في كتابه "السلام في الشرق الأوسط" يشير تشومسكي إلى أن إسرائيل لديها خيار إما أن تبقى دولة ديموقراطية أو تبقى دولة محتلة، ولا يمكنها الحصول على الأمرين، وإن حاولت فستسير باتجاه ما يسمى بالدولة العنصرية. وهذا قيل في عام 1968 وكان تنبؤاً لا يصدق، وهذه هي الفكرة التي يناقشها الآن الجميع في الولايات المتحدة وفي إسرائيل.

إن تشومسكي، وفوق كل ما ذكر، هو مخترع لعلم اللغويات الحديثة ولولاه لما وجد هذا العلم. يقول هورنستون إن جميع العاملين في علم اللغويات المعاصرة يلعبون في ملعبه أو في صندوق الرمل الذي صنعه تشومسكي... إنه أساس علم اللغويات الحديثة. أما نيل سميث فيقول: "إن تشومسكي غيّر الطريقة التي ننظر فيها إلى أنفسنا. فنحن اعتدنا أن نكون لوحاً أبيض تسهل الكتابة عليه ويستطيع الأشخاص في السلطة أن يكتبوا عليه ما يريدون. لكن تشومسكي غيّر هذا كما غير داروين وجهة النظر حول مكانة البشر في التطور. لقد غير تشومسكي مفهومنا لمعنى أن نكون كائنات تمتلك عقلاً. نحن نمتلك طبيعة فطرية تتمثل في رغبتنا في الحرية".

لقد فاقت مؤلفات تشومسكي المئة كتاب، عدد كبير منها ترجم إلى العربية. وآخر ما ترجم كتاب بعنوان "الحرب على غزة ونهاية إسرائيل"، وهو عبارة عن ثلاث دراسات عن الحرب على غزة والوضع في الشرق الأوسط، ترجمها صاحب هذه السطور وجمعها في كتاب واحد صدر في دمشق. وبعد إنتاج هذا الفيلم، وربما خلال إنتاجه، صدر لتشومسكي كتابان باللغة الإنكليزية، واحد بعنوان "آمال وآفاق". والثاني بعنوان "أزمة غزة: تأملات في الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين" بالاشتراك مع الناشط من أجل السلام فرانك بارات، وإيلان بابّي أستاذ التاريخ في جامعة إكستر ومؤلف كتاب "التطهير العرقي في فلسطين". إن تشومسكي مفكر منقطع النظير، لا يهدأ ولا يكف عن نقد السياسة الأمريكية ودعم من يناهضها ومناصرة قضايا الشعوب المضطهدة. وكان من حسن الاختيار عمل فيلم عنه وتقديمه عبر أوسع الأبواب للمشاهد العربي الذي ما انقطع تشومسكي عن الدفاع عن قضاياه.

الجزيرة الوثائقية في

22/12/2010

 

متابعات

في مفهوم الممثل في السينما  

تختلف نماذج الأداء في الفيلم السينمائي من مدرسة إلى أخرى ومن رؤية جماليّة إلى أخرى. ولكن إجمالا يمكن أن نميّز بين نموذجين أولهما كلاسيكيّ متأثر بالأداء المسرحيّ، يضخّم من الإيماءات في مبالغة وتكلّف، ويجعل الشكل الخارجيّ للجسد سبيلا لإبراز ما ينطوي عليه المستوى الباطنيّ من عاطفة. وثانيهما حديث يستند إلى مصادرة ترى في التعبيرات الجاهزة للمواقف والوضعيات تقييدا للممثل وحدا من إبداعه. وبدلا من التركيز على المظهر الخارجي للممثّل وإعلاء قيمة جماله الجسدي يعوّل هذا النموذج على الجانب النفسانيّ الجسمانيّ بحثا عن رؤية الفكرة وهي تضيء الوجه. وضمن النموذج الواحد يمكننا أن نميّز بين أربعة أنماط من الممثّلين:

° ممثل الشخصيّة وهو ذلك الذي يتقمّص الدور وينخرط في عالمه حتى التوحّد به وانتزاع ذاته من "أناه" لتحل في "أنا" أخرى.

°ممثل الذات وهو ذلك الممثل الذي يعرض بشكل ما ذاته لا الشخصيّة الفيلميّة فلا يحتاج إلى قدر مهمّ من الإثارة في الدور أو مهارة في التوجيه والقيادة من قبل المخرج حتى يتحوّل إلى ممثل شخصيّة.

°الممثل الجسدي وهو ذلك الذي يعوّل على مواهبه في أداء الدور بقدر ما يعوّل على خصائصه الجسديّة المؤثرة من جمال أو قوّة جسديّة أو قبح أحيانا.

° الممثل الطبيعيّ: هو شخص يلتقط من الشارع لما له من مواصفات جسمانيّة توحي بمجمل من التجارب ويختزل حياة كاملة تتوافق مع حياة الشّخصية وتجربتها. فيمثل بفطرته وينجح متى توفق المخرج في إبقائه بعيدا عن مراقبة ذاته. نجد هذا النمط من الممثلين خاصّة في سينما المؤلف والسّينما غير الاستهلاكيّة عامة .

وعلى خلاف الشّخصيّة الأدبية التي توغل في التّجريد باعتبارها صرفما فارغا، ونظرا لسمة الوسيط السّينمائي الأيقونية، تولد الشّخصيّة الفيلميّة على هيئة صرفم مليء، بما أنها تتوسّل جسد الممثل سبيلا لتشكّلها البصري حتى تدرك عند المتلقّي، عيانا. فكان لهذه السمة الأثر البالغ في توجيه مقاربتها إلى البحث في أبعادها الملموسة وفي حضورها المادّي الفيزيائي.

ضمن هذه المقاربة يقارن يوري لوتمان بين الممثّل على الرّكح والممثّل في الشّاشة، مبيّنا أنّ المسرح يعرض علينا كائنا بشريّا، حين يعرض الشّخصيّة، ويرغمنا على تجاهل هذا البعد فيه وعلى الاقتصار منه على بعده السيميائي.ّ وعلى النّقيض من ذلك يعرض علينا الفيلم حزمة من الأضواء تُبسط على الشّاشة المسطّحة ولكن "هذا أيضا علينا أن ننساه لنتعامل مع شخصيات الشّاشة تعاملنا مع أناس يضجّون بالحياة.. في الحالة الأولى نستخدم الواقع على أنه علامات وفي الثانية العلامات على أنها الواقع"  

إنّ ازدواج هذا المكوّن بين شخصيّة هي محض افتراض وتصوّر، وجسد ممثل حامل لها متلبس بها ومتّحد معها، ما دفع لوتمان إلى دراسته من منطلق الإخراج. فالمخرج يتعامل مع لقطة صورة للشخصية/ الممثّل تعامله مع سائر المواضيع المصوّرة في الفيلم فيقطّعها بين لقطة قريبة وأخرى بعيدة وثالثة متوسّطة بما تقتضيه الرّؤية الإخراجيّة. وعليه يتمّ الإيماء في السّينما بكامل الجسد أحيانا وببعض منه أحيانا أخرى كأن تركّز الكاميرا في اللّقطة القريبة على اليد أو العين فـ"قدرة السّينما على تقسيم الصّورة البشريّة إلى قطع ومن ثمّ ترتيب هذه المقاطع في سلسلة تتتالى زمنيا تمكنها من تحويل الصّورة الخارجيّة للإنسان إلى نصّ سرديّ".   غير أنّ صورة الممثّل لا تستبدّ وحدها بالشّاشة عامة ولكنها تقتسمها مع وحدات أخرى ممّا يولّد لعبا علائقيّا، بين مختلف عناصر الصّورة، منتجًا للمعنى. ومن هنا مأتى القيمة الدّلالية المضافة حسب اصطلاح حمّادي كيروم  . لشرح الأمر يفترض الباحث صورة رجل يمشي وحيدا في فضاء صحراوي قاحل فيتآلف في اللّقطة محوران، محور يتعلّق بمسيرة الرّجل وآخر يتعلّق بالفضاء. وعن إسقاط الأول على الثاني تتولد هذه القيمة الدّلاليّة المضافة "فنلاحظ أن القساوة [كذا] التي تتجلىّ في المنظر القاحل سابقة لقدوم الرّجل لكن هذه المسيرة ستظهر أكثر صعوبة عندما تدخل مع قوّة أخرى مضادّة" .  

وعلى خلاف الشّخصيّة ذات البعد الواحد، في الأدب، تكون الشّخصيّة السّينمائية ثلاثيّة الأبعاد. فهي أوّلا دور مستقلّ عن النّصّ الفيلمي، وهي ثانيا شخصيّة تزرع في هذا الدّور الافتراضيّ العام حياة وهي أخيرا لممثّل يجسّد الشخصيّة أيقونيّا.

1) الدّور(Rôle):

يقتضي الدور جملة من الكفايات ويفرض جملة من الإكراهات منها الجسديّ ومنها الحركيّ ومنها النّفسيّ. من ذلك دور المغامر أو العاشق أو الخائن أو المناضل. واستقلاله عن النّصّ الفيلمي يجعلنا نحدّده بكونه "وجها بلاغيا ثابتا قابلا في نفس الوقت لبعض التّغييرات الممكنة" . 

2) الشّخصيّة (Personnage):

تمثّل الشّخصيّة تجسيدا للدور وانتقالا به من طور التّجريد والافتراض إلى عالم القصّ ممّا يكسبها هويّة ووظيفة ويؤهلها لعقد العلاقات المختلفة مع غيرها من الشّخصيات وللدفع بالحدث.

3) الممثل (Acteur):   

يعطي الممثل الشّخصيّة بعدها الماديّ فينقلها من مستوى العلامة اللّغويّة إلى علامة أيقونيّة تمثّل عنصر جذب في الفيلم. ورغم ما بين المفهومين من تمايز ـ نظريّا، يعسر الفصل بينهما على مستوى الأجراء. فدراسة البعد التّمثيلي تستدعي الشّخصيّة بالضرورة ودراسة الشّخصيّة الفيلميّة تظل منشدّة إلى شخص الممثّل. ويعود ذلك إلى خصوصيّة الفن السّينمائي ذاته بما أنه يقوم على تقطيع الموضوع إلى مجموعة من المشاهد أولا والتّأليف بينها عبر تقنية التوليف ثانيا مما يحوّل جسد الممثّل، على عبارة لوتمان، إلى نصّ سردي وتكاد تخرج عن الأثر لتشتغل مستقلة عن سياقه. فـ"الشّخصيّة المؤسطرة للممثّل في الفيلم السّينمائي لا تقلّ واقعيّة عن الشّخصيّة التي تؤديها... هذا السبب الذي يدفع مشاهدي السّينما غالبا إلى تصنيف الأفلام تبعا لاسم الممثّل، يربطون كل ممثل بسلسلة من الأفلام يعدونها بمثابة نصّ، بمثابة كلّ فنيّ. وذلك على الرّغم أحيانا من تنوّع مخرجيها وتفاوت مستوياتها الفنّية"  .

فالممثّل وهو يجسّد شخصيّة معيّنة في الفيلم إنما هو يجسّد – عند المتقبل - الشّخصيّة المذكورة وكلّ الشّخصيات التي أدّاها سابقا. وعلى خلاف العلامة المعبّرة عن الشّخصيّة الأدبية يكون جسده موطنا "لحركة قوية من التّناص". 

......

هوامش

 (1) لمزيد من التوسّع أنظر خاصّة: ماري إلين التمثيل أوبراين، التمثيل السينمائي، ترجمة عصمت رياض، سلسلة الفن السّابع، منشورات وزارة الثقافة، المؤسسة العامة للسينما، دمشق 2001. عامّة الأثر.

 ( 2 ) يوري لوتمان، قضايا علم الجمال السّينمائي، سلسلة الفن السّابع، منشورات وزارة الثقافة، المؤسسة العامة للسينما، دمشق 2001ص .139         

 (3 ) م ن، ص 141.

 (4 ) أنظر حمادي كيروم، الاقتباس من المحكي الروائيّ إلى المحكيّ الفيلمي، سلسلة الفن السّابع، منشورات وزارة الثقافة، المؤسسة العامة للسينما، دمشق 2001 ص .176

 ( 5 )  ن م، ص 176.

 (6 ) ن م، ص 172.

  (7 )  يوري لوتمان، قضايا علم الجمال السّينمائي،  ص ص 149/148.

  (8 ) حمادي كيروم، الاقتباس من المحكي الروائيّ إلى المحكيّ  الفيلمي، ص .173

الجزيرة الوثائقية في

22/12/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)