حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«مملكة النساء» لدانا أبو رحمة في مهرجان «أيام بيروت السينمائية»

الماضي بقلم الرصاص.. والتحريك أضاء روح المخيّم

نديم جرجورة

يندرج الفيلم الوثائقي «مملكة النساء» لدانا أبو رحمة، الذي عُرض بعد ظهر الأحد الفائت في إطار اليوم الفلسطيني ضمن الدورة السادسة لـ«أيام بيروت السينمائية»، في خانة الشهادات الفردية الموثّقة بصرياً. هناك قصص عاشها أو صنعها أناس أقاموا في لحظات مصيرية، فكانوا الأسس التي جعلت اللحظة فاعلة في المشهد الإنساني. «مملكة النساء» منتم إلى فئة الأفلام الوثائقية المعنية بالحكايات الشفهية. إلى الأفلام الهادفة إلى توثيقها البصري، لمنع اندثارها في النسيان. الأفراد حاضرون. المواضيع مختلفة، وإن طغى الإنسانيّ البحت عليها. دانا أبو رحمة اختارت مجموعة من نساء مخيم عين الحلوة الفلسطيني، كي تعيد معهنّ رسم الصورة القديمة التي عاشها أبناء المخيم بين العامين 1982 و1984. إنها مرحلة الاجتياح الإسرائيلي وما بعده. إنها مرحلة قاسية وبشعة. باتت النساء مسوؤلات عن حماية المخيم وأبنائه من الموت والجوع، بعد غياب الرجال، المسجونين في سجون المحتلّ.

توثيق المحكيّ

غير أن «مملكة النساء» لم يأت من لاشيء. إنه تتمة لمشروع قام به «مركز الجنى» بهدف أرشفة الحكاية الشفهية: «أقيمت ورش عمل مع مجموعات شبابية في مخيمي البداوي ونهر البارد منذ وقت بعيد»، كما قالت أبو رحمة. أضافت ان «مركز الجنى» مهتمّ أساساً بالتاريخ الشفهي. منذ وقت طويل يعمل المركز في هذا الاتجاه: «أراد مسؤولوه تنفيذ مشروع ما في مخيم عين الحلوة»، فوجدوا في حكايات النساء عن تجاربهم الصعبة في تلك الفترة مادة خاما يُفترض بهم توثيقها: تجربة نساء واجهن أقسى التحديات، وكن قويات وشجاعات في أحلك الأزمنة: «من المهمّ خلق حوار مع الأجيال المقبلة، من خلال أرشفة هذه الحكايات. هناك أيضاً مسألة أخرى مهمّة للغاية: الصورة المتداولة للفلسطيني متمثّلة بكونه الضحية. يجب الخروج من هذه الصورة. لذا، اخترتُ هذه التجارب لما فيها من نفَس إنساني قوي، ومن اختبار الشجاعة وممارستها. في العام 2005، بدأ المشروع مع «مركز الجنى». النساء اجتمعن مع بعضهن البعض، وبدأن الاشتغال من دون أي دعم يُذكر. عاشت هؤلاء النساء التجارب القاسية كلّها. طرحن أسئلة عدّة، وابتكرن أساليب مختلفة للصمود. لم يكن هناك دعم. في البداية، تمّ تصوير حكاياتهنّ بتقنية الـ«فيديو». ثم توقّف كل شيء عند اندلاع حرب العام 2006. في العام 2009، عاد المركز إلى المشروع، بغية إكماله في مخيم عين الحلوة».

هنا، دخلت دانا أبو رحمة المشروع: «التقيتُ عدداً من النساء اللواتي اهتممن بالمسألة. أكملت معهنّ الحوار. كبر المشروع. حوارات مع ثلاثين امرأة من أحياء مختلفة وأعمار مختلفة وتجارب مختلفة. أي مع من دخلت السجن، أو التي كانت ناشطة سياسياً، أو عاملة في مجالات أخرى. هذه كانت طريقة الشغل. أنا كنتُ أصوّر. دخلت المخيم، وتعرّفت الى النساء. اكتملت الصورة لديّ. استمعت إليهن مباشرة. هذا كلّه حدث في صيف 2009. الفيلم طلع من هذا الشيء. المشروع جزآن: حوارات للأرشيف كي يكون مفتوحاً أمام المهتمّين، وتحقيق فيلم وثائقي أنجزته أنا».

لكن، لماذا مخيم عين الحلوة بالذات؟ «أنا جئت إلى مشروع بادر «مركز الجنى» إلى تنفيذه قبل وصولي. هم الذي اختاروه». العمل الأول اقتضى من المركز إقامة حوار مع النساء اللواتي حكين تجاربهنّ: «من الكلام والسرد الحكائي، إلى فكرة إنجاز فيلم وثائقي». هكذا بدأ مشروع «مملكة النساء». قالت أبو رحمة إنه لم تكن هناك صعوبات، لأن بعض العاملين في فريق التصوير منتم إلى المخيم نفسه: «محمد الخطيب، الذي اشتغل في مجال الصوت، ابن المخيم. كذلك ابتسام أبو سالم. هذا ساعد كثيراً. ثم لا تنسى أن علاقة الثقة التي نشأت بين النساء وبيننا، لعبت دوراً كبيراً في تسهيل الأمور. أما التمويل، فكان منذ البداية متواضعاً. مع هذا، اشتغلنا بحسب الأمر الواقع. هناك ضغوط في التمويل، وهناك صعوبة في الحصول على تمويل مريح. لكننا عملنا ضمن هذا الإطار، وسارت الأمور بخير».

شخصيات نسائية عديدة ظهرت أمام كاميرا طلال خوري، مُصوّر «مملكة النساء». قالت دانا أبو رحمة إن الثقة الموجودة بين النساء وبيننا، كانت أقوى بينهنّ وبين المصوّر خوري، الذي ساهم مساهمة فعّالة في إنجاز عمل تصويري مهمّ. هناك أم محمد وخديجة وأم عامر ونادية وحليمة وآمال وعبلة. هؤلاء ظهرن أمام الكاميرا. كل واحدة منهنّ روت قصّة أو أكثر. عن السجن ومآسيه. عن تحدّيات العيش في الحصار. عن مأزق غياب الرجل. كل واحدة منهنّ تحدّثت إما عن تجربة السجن بالنسبة إليها، وإما عن أزواجهن وأحبائهن المسجونين في سجون المحتلّ. لكن، في المقابل، يُظهر الفيلم قدرة كل واحدة منهنّ على تخطّي المأزق. على الخروج إلى الحياة أيضاً. على التمسّك بها أصلاً. وبين الحكايات المختلفة هذه، التقطت دانا أبو رحمة مسائل اجتماعية متنوّعة، هي التي درست السينما (أو ما يُسمّى «دراسات الميديا») في نيويورك، في «المدرسة الجديدة للأبحاث الاجتماعية». أي أنها جمعت، منذ البداية، بين الميديا ووسائط الإعلام المرئي والمسموع المختلفة، والتحليل الاجتماعي. في «مملكة النساء»، بدا واضحاً أن أبو رحمة مهتمّة بالجانب الاجتماعي، الذي مرّ من دون أدنى تصنّع، ومن دون تحليل تنظيري، بل بعفوية وسلاسة. فالمخيّم قادرٌ على الصمود أثناء غياب الرجال، لأن النساء عملن جاهدات لحمايته وحماية أبنائه/ أبنائهنّ من أي خطر داخلي أو خارجي: «لكن، عندما يستعيد المخيم سلامه وهدوءه، تغيب المرأة ودورها لحساب الرجل»، كما قالت إحدى شخصيات الفيلم. والتحليل الاجتماعي برز في ثنايا الحكايات: اشتغال المرأة. علاقتها بعائلتها وأقاربها. حضورها الفاعل في شتّى الأمور: التدريس. التطريز. الحياكة. تنظيم ألعاب للأولاد. القيام بشتّى أنواع الأعمال المنزلية واليومية. أما إذ كنّ في السجن، فإنهنّ استمررن بتنفيذ أعمال يدوية مختلفة، كالتطريز وكتابة الرسائل وغيرهما. وهذه كلّها ظهرت في «مملكة النساء».

قالت دانا أبو رحمة إنها اشتغلت في نيويورك لفترة طويلة في مجال «الوسائط الإعلامية الحديثة» مع الشباب: «هناك أمور كثيرة يُمكن الاشتغال فيها، منها استخدام تقنية الـ«فيديو»، التي تساعد المرء على التفكير والاشتغال في مسائل التغيير داخل المجتمع. عملت في مجالي التوليف والصوت في أفلام كثيرة». في «مملكة النساء»، طغت تقنية التحريك أيضاً، بالإضافة إلى الرسومات الكاريكاتورية لناجي العلي، التي قدّمت، مطلع الفيلم، صُوراً متفرّقة عما حدث في العام 1982. وهذا كان الأصعب: «أنجزنا مشاهد الرسوم الكاريكاتورية لناجي العلي في النهاية. أحببت التركيز على قصص النساء، وعلى ما فعلنه. مع الرسم الكاريكاتوري، أردتُ إيجاد خلفية للفيلم، لفهم ما جرى حينها، وللتوغّل في القصص بشكل سياسي واجتماعي خاصّ بتلك الفترة. الرسوم تلك أدّت واجبها: فهم ما جرى من دون الغرق في أي تحليل سياسي. أي تكوين خلفية مفهومة من دون الدخول عميقاً فيما جرى حينها».

التحريك

ثم جاء دور التحريك (لينا مرهج)، الذي احتلّ مساحة جيّدة داخل السرد الحكائي للنساء: «التحريك موجودٌ منذ البداية. أعرف لينا منذ زمن طويل. منذ أيام نيويورك. أحب شغلها. كبر تقديري للتحريك بفضلها وبفضل عملها. فكّرت بالتحريك منذ البداية. تحدّثنا مراراً، لينا وأنا، عما إذا كان سيأتي يوم ما ونعمل مع بعضنا البعض. لهذا، ما إن حصلتُ على المشروع، حتى اتصلت بها. هي أيضاً أحبّت الموضوع، وأحبت العمل فيه. لكن، بما أني أنجزت جزءاً كبيراً من المقابلات سابقاً بهدف أرشفتها، كانت لديّ فكرة عن المسائل الأساسية للفيلم، ما سمح لي بإعطائها فكرة عامة ووافية. أما هي، فكانت محتاجة إلى شيء مرئي كي تبني لغة الرسم عليه. قرّرنا لقاء النساء مرّتين تقريباً، للتحدّث إليهنّ بحضور لينا. وهذا جاء من المقابلات والرسائل التي تبادلتها النساء مع أقاربهن المسجونين، ومن الحلي المصنوعة في السجن. طلبنا منهنّ صُوراً ومقالات وأعمال تطريز. أي شيء له علاقة بتلك الفترة، وله قصّة تروى.

بالنسبة إلى لينا، كانت فترة بحث مهمّة، بدأت منها لتبني على أساسها لغة التحريك. أثناء التصوير والمونتاج، اشتغلت هي على التحريك».

في البداية، اختارت لينا مرهج الرسم بقلم الرصاص. هذا منح الصورة بعداً ما في نقل مضمون القصّة ومناخها. الرسم بقلم الرصاص دقيق، له علاقة بالماضي: «ثم تطوّر إلى شيء أكثر مباشرة»، كما قالت أبو رحمة، مضيفة ان الرسم بهذه الطريقة لم يعد قادراً على التعبير: «انتقلنا إلى مرحلة الرسم بالحبر على الورق. بهذه الطريقة، استطعنا نقل الإحساس الموجود على الورق إلى الشاشة. بهاتين التقنيتين، بدا أن التحريك ساهم بفعالية في إيصال الإحساس إلى المُشاهد. التحريك أدّى إلى إشاعة روح المخيم ونسائه وقصصه أيضاً. بدا أنه الأقدر على إيصال الروح المطلوبة للفيلم إلى المشاهدين».  

كلاكيت

الريبورتاج

نديم جرجورة

الأمر لافت للانتباه: بث تقرير تلفزيوني على شاشة «المستقبل» خاصّ بمسألة الإيجارات. أو بسؤال العقارات الجديدة، التي تلتهم كل شيء. المحطة المذكورة محسوبة على تيار سياسي منبثق من الحضور الفاعل لمن أنشأ، ذات يوم، شركة «سوليدير». السياسة الإعمارية لهذه الأخيرة أدت إلى غياب الطبقة الوسطى، وإنهاك الطبقة الفقيرة. والنتيجة مخيفة: إلغاء الطبقة الوسطى، ورفع عدد الفقراء المهمّشين. المثير للتساؤل كامنٌ في هذه الازدواجية المخادعة: المحطة المذكورة محسوبة على تيار وُلد من رحم سياسي قُتل غيلة، بعد أن لعب دوراً بارزاً في تثبيت ثقافة الإعمار على أسس عصرية، لا تتلاءم والمناخ اللبناني بمفرداته الاجتماعية والإنسانية والتربوية. فـ«سوليدير» معروفة بخططها الإعمارية، التي انتشرت سريعاً في أرجاء متفرّقة من بيروت وضواحيها: تدمير الأسس الخاصّة بالمدن العصرية المتلائمة والخصوصية المحلية.

شوّهت هذه الخطط معالم المدينة. حطّمت كل ما له علاقة بذاكرتها العمرانية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، لحساب لوبي عقاري أمعن فتكاً بالطبقتين الوسطى والفقيرة. زاد الثراء بشكل جنوني لدى قلة، في مقابل تدمير مقوّمات العيش العادي للفقراء. لم تعد بيروت صالحة للعيش، بالنسبة إلى أبنائها والمقيمين فيها. الإيجارات مرتفعة بشكل جنوني. أسعار الشقق أيضاً. لا مقاييس تضبط الأمور، وتسمح للجميع بالاستفادة من الانتشار الجنوني لإعمار قاتل. ذهبت السياسة الإعمارية الخاصّة بـ«سوليدير» إلى إلغاء المساحات الخضراء، التي يُفترض بكل سياسة إعمارية عصرية الاحتفاظ بها، بل تطويرها بجعلها جزءاً أساسياً من تلك السياسة.

اللافت للانتباه في الريبورتاج التلفزيوني الخاصّ بالمحطة اللبنانية «المستقبل» كامنٌ في أن الجهة الإعلامية المحسوبة على تيار «سوليدير» أرادت، بهذا الريبورتاج، أن تدّعي حرصاً ملتبساً على حقوق الناس «الغلابة»، فبثّت ريبورتاجاً عابراً، لا يؤثّر ولا يُخفّف من حدّة الغلاء الفاحش. أُريد لهذا الريبورتاج الادّعاء باهتمام غامض بالفقراء، في مقابل التغاضي المطلق عن صورة شركة عقارية إعمارية تعمل وفقاً لحاجات الأثرياء، اللبنانيين والخليجيين بصورة أساسية، من دون الالتفات إلى بقايا الطبقة الوسطى، أو إلى تنامي عدد الفقراء المنبوذين من سياستها الإعمارية. كأن الريبورتاج التلفزيوني مجرّد ضربة إعلامية سريعة، للقول إن المحطة المذكورة مهتمّة بشؤون الفرد اللبناني، تغطية للسياسات التدميرية التي تمارسها «سوليدير» بحق الغالبية الساحقة من اللبنانيين. ادّعت المحطة التلفزيونية حرصاً مشبوهاً على اللبنانيين، موهمة إياهم بالتزام مشاكلهم وقضاياهم الإنسانية، إخفاء لجريمة الإعمار المؤدّي إلى قتل هؤلاء اللبنانيين أنفسهم. بينما المطلوب حراك ميداني يواجه سلطة المال الذاهبة بالغالبية الساحقة من اللبنانيين إلى الموت والخراب.

لا يُفيد ريبورتاج تلفزيوني واحد المتأذين من السياسة الإعمارية لـ«سوليدير»: إفساح المجال أمام نماذج مستلّة عشوائياً من الشارع، للبوح بمكنونات النفس إزاء واقع مزر، وكفى. فالفحش الرأسمالي مستمر بتغييب الهامشيين. والهامشيون عاجزون، أو رافضون الانقلاب على أسيادهم الطائفيين، مع أن هؤلاء الأخيرين يمعنون فتكاً بهم.

أي مهزلة هذه؟  

كتــاب

مارسيل مارتان: اللغة السينمائية

اعتبر جان كوكتو أن الفيلم كتابة بالصوَر، بينما رأى ألكسندر آرنو أن السينما «لغة صُوَر لها مفرداتها وبديعها وبيانها وقواعد نحوها». أي ان السينما لغة، واللغة عبارة عن مجموعة مقوّمات تصنع النتاج السينمائي البصري، وتجعله متميّزاً عن اللغات الأخرى. ولأن للسينما لغة خاصّة بها، وجد الناقد مارسيل مارتان ضرورة ملحّة لوضع كتاب خاصّ بتحليل هذه المسألة، توفر من نقله إلى اللغة العربية بعنوان «اللغة السينمائية والكتابة بالصورة».

فعن «المؤسّسة العامة للسينما» و«وزارة الثقافة» السورية، صدرت الترجمة العربية لهذا الكتاب بقلم فريد المزاوي، الذي قدّم للقارئ العربي صورة تحليلية لمعنى اللغة التي تصنع فيلماً، وتجعله نصّا يُشاهد ويُقرأ بطريقة خاصّة. في حين أن الفصول الأربعة عشر التي شكّلت نصوص الكتاب، توزّعت على قواعد هذه اللغة، كالإضاءة والملابس والديكورات والتوليف والحوار والصوت وغيرها من المسلّمات الأساسية الظاهرة للعيان مباشرة، بالإضافة إلى المبطّن، كالرمز والاستعارة والظواهر الصوتية والزمان والمكان وغيرها.

كتاب تحليلي يشرّح الأسس الجوهرية لصناعة الأفلام السينمائية.

السفير اللبنانية في

30/09/2010

 

فيلم «فينوس سوداء» للتونسي عبد اللطيف كشيش

إجمــاع علــى مـؤخّــرة

زياد الخزاعي 

لن تكفي الدقائق المئة والستون لموهبة المخرج التونسي الأصل الفرنسي الإقامة والهَوَى عبد اللطيف كشيش، أن تتفجّر على النحو الأمثل، كي تسرد العَيْب الأوروبي الذي مسّ جسد الزنجية ساهرتشي (سارة الصغيرة) بارتمان، أو أن يُمسرح العارين البريطاني ولاحقاً الفرنسي، اللذين كاد فيهما وعبرهما يتحوّل فعل جَس عجيزتها العظيمة الحجم، الذي حرّض عليه سابيها الهولندي، متفرّجي حي «هاكني» شمال لندن في العام 1810، إلى طقوسية حضارية تمتحن الدنس العنصري الذي خَبَل عامة أوروبا وكشف عن دونيتهم أمام جثة امرأة، كانت تعمل خادمة لدى المستعمرين الهولنديين، ارتضت استعراضها من أجل مال يُثريها وينقل أفراد عائلتها من الفقر إلى التمكّن الحياتي الشريف، أو هذا ما أُقنعت به.

لن يُرتّب مخرج «كُسكُسي بالسمك» (2007، في تسميتين أخريين «البذرة والبغل» و«أسرار الكُسكُسي»، الفائز بجائزة «سيزار» الفرنسية كأفضل فيلم في العام 2008) حياة الأمة الأفريقية في منفاها الغربي، في جديده «فينوس سوداء»، بل يستعير الجوّ التاريخي الذي مهّد لفضيحتها الطبية. إن ذكاء كشيش تجلّى في المشهد الافتتاحي داخل «الأكاديمية الطبية الملكية» في باريس العام 1817، حيث ان ما يُفترض به القدرة على مقاربة الحقيقة الطبيعية وتنظيم تبريراتها العقلية، يتحوّل (العلم) إلى أداة فاشية عنصرية، يعتبر «فينوس هاتنتوت» أقرب إلى القرد منها إلى البشر. والإشارة هذه إلى حسبها العرقي الحيواني، يُبعدها عن إنسانيتها وانضمامها الى الاناسِي. من هنا، دخل كشيش عالم المتفرّجين المذهولين بوحشية السيدة، التي غُيّب اسمها وأصلها ومرجعيتها البشرية، بدءاً من جمهرة العلماء المخطوفين بحجم شُفْريّ عضوها التناسلي، وانتهاء بحفنة الأرستقراطيين من المُثليين والسحاقيات، الذين تمتدّ أكفهم إلى لمسهما بما يشبه الحجّة لإثارة فانتازيا شبقهم البهيمي، مروراً بغوغاء المسارح الشعبية، الذين يستمزجون هلعهم التهريجي عندما تؤدّي ساهرتشي فقرة «قفزة القرد».

مأساة

لا يلتفت نص كشيش، في مشهدياته المطوّلة الأخّاذة، إلى الإجابة عن سؤال: لماذا هي هنا؟ بل يطرح القناعة الذكية في: ماذا يصنع هذا الغربي بتحضّره عندما يُصّر على أن هذا الجسد البشري الأسود الجلد، صنو لحيوانية وافدة، هو متعة عابرة تستحق رمي فرنكات أو جنيهات مدنّسة بعنصرية بلهاء؟ ولعل مشهد التساؤلات التي تطرحها حلقة أهل المفسدة الأرستقراطية على فينوس أفريقيا، تُثبت دونيتهم المعرفية حول مأساتها الشخصية. فاستفساراتهم تنطلق أولاً من أمومتها الغائبة، وتنتهي بالتهكّم على قدرتها السحرية على امتاع شبقها الجنسي، قبل أن يُسحروا بدورهم بحجم شُفْري فرجها الشبيهين بورقتي تبغ خضراوين، ويضجون بمرح عندما تكشف لهم أنها تفضّل باريس على لندن، وتحاكي بنجاح عزف النوطة الموسيقية على آلة كمان أفريقية، وتكشف عن آدمية لا يريد أحد تصديقها، حتى وإن ارتدت الملابس الغربية، واعتمرت قبعات النبيلات، وتهادت برفقة خادمين زنجيين.

في مشاهد لندن، نتعرّف الى المُستعرضة السوداء (الممثلة الكوبية الأصل ياهيما توريس)، التي تداري وحدتها بالخمر والتدخين. قليلة الكلام. نارية الطباع. نعرف لاحقاً أن صفقتها الخفية مع مستعبدها الهولندي هندريك سيزار (أندره جاكوب) وسوطه، بحسب رؤية كشيش والحوار الذي كتبه مع غالية لاكرو، تدور حول خدعة استعراضها. يصرخ في وجهها، عندما تتهاون في أداء وصلتها: «لقد اتفقنا منذ البداية على أنك ممثلة». يتأكّد ذلك عندما تصر أمام محكمة على أنها جاءت مع سابيها بإرادتها التامة، على الرغم من اعتراض ناشطي المساواة العرقية، الذين عرفوا لاحقاً أنها خانتهم وخذلتهم. ويتحوّل مشاهدو الصالة وقضاتها إلى مهزلة حضرية أخرى، لا يعدمون قرار استمرار رقّها القانوني. إن العلاقة الثنائية بين ساهرتشي وسيزار تُطرَح كمبدأ عرض وطلب تسويقي، لا يخرج عن أخلاقية مدير ومستخدم تتحكّم فيه رعاية مالك متسلط وحمايته. إن المستعبَدة توافق على عرض مؤخّرتها الهائلة الحجم كبضاعة مدهشة للعامة. بيد أن قدرها لن يتوقّف عند الحي الشعبي اللندني، بل تتمّ مأساة تحوّلها إلى عاهرة في عاصمة النور، وعلى يدي الحاوي الفرنسي الجشع (الممثل البلجيكي أوليفيه غورمي، افضل ممثل عن «الابن» للأخوين داردين في «كان» 2002) بعد مقايضة في حانة، ووسط عوالم راقية المقام والطبقة. لا تختلف وصلتها التمثيلية فيها، بل طبيعة استقبالها للمسات حضور حفلاتها الماجنة، باعتبارها تكميلات للعرض وليس للمهانة.

إن قبول الشابة القادمة من الكاب (التسمية الاستعمارية لجنوب أفريقيا) إلى أعراف الاستعراض الجديدة: أولاً، صداقاتها مع السحاقيات ومجالستهن. ثانياً، إذعانها لإغواء مرافقة الحاوي رو، التي تقدّمها إلى المهنة الأقدم أي الدعارة، حيث تجد أن تحَسّس الزبون عضوها سعياً إلى المزيد من هياجه الفحولي، وسيلة للاقتراب من الجسد المُهين الأبيض، الأمر الذي تصل إليه لاحقاً مع العابرين، الذين يحوّلهم المخرج كشيش إلى كائنات لا تعاف أنفسها بائعة هوى زنجية ذات عجيزة تشبه العالم. يمثّل الانقلاب الكبير في عبوديتها، التي توصلها في ما بعد إلى لجنة علماء «الأكاديمية الطبية الملكية» بقيادة البارون جورج كوفييه الجرّاح الخاص بنابليون بونابرت، حيث يؤرّخ رحمها ودماغها وقلبها، ويحنّطها كآثار لأحشاء طوطم يمثل خرافة عالم غفل عنه الزمن والتحضّر والتوثيق البشري.

اشتغال فاضح

تموت ساهرتشي في غرفة حقيرة في حي باريسي أحقر، وتتحوّل في ما بعد إلى رمز لقارة وسحنة وحقبة ولعنة غربية. تموت جسداً، بيد أن قومها يتوّلون تأليهها، فيما تنتظر السينما ابن تونس العاصمة كي يطوبها ويرفع من مقامها إلى أفريقية صافية، ذات مسوح استشهادية، تملك روحاً قداسية، باعتبارها ممثلة للعَنْوة البيضاء على أهل السفانات السُّمْر، الذي (التطويب) لن تكفيه الدقائق المئة والستون التي شعّ بها اشتغال كشيش الصاعق والفاضح. ما يدافع عنه صاحب «غلطة فولتير» (2001) جليّ في اتهامه، على الرغم من انتصاره الواضح لحقّها في ذكرى كريمة: إن فينوس هاتنتوت هادَنت مستعبديها، وتمادت في هوانها، وارتضت ذُلهّا لتنال في نهاية مطاف حياتها المزيد من الخِزْي الذاتي. من هنا، يستزيد كشيش من عرض تصْميتها ولقطات بكائها ودموعها، التي تسحر ذلك الصحافي الباريسي، قبل أن يكتشف أن حكايتها باهتة، لا تملك ما يمكن تسليعه في أسطورة كاذبة. وعليه، لا يجد حرجاً في الاستفسار عن معارضتها إن كتب «انها أميرة» خطفها مستعبدون، والتهكّم واضح، فلص الأوادِم الهولندي يعرضها بين الانكليز، قبل أن يبيعها إلى قوّاد فرنسي يقبض ثمن جثمانها لاحقاً من وسيط الأكاديمية، التي لن تتوانى عن استخدام المال العام لرشْوة مضارب عديم الذمّة. فمَنْ كان يكترث حقاً في أوروبا القرن التاسع عشر لأصول ابنة أفريقيا، غير الذين من تابعيتها في الوقت المعاصر، من أمثال كشيش المهووس بذلك الخيط التاريخي بين فرنساه وأفريقاه؟

في «فينوس سوداء»، لا يخشى المخرج الشاب (1960) من تماديه في المشهديات الطويلة الساحرة والمبالغ أحيانا في زمنها. ذلك أنها لعبة العرض الإقناعي بحقيقة لقطته ومدّتها. فعندما رقصت حفصية حرصي في نهاية شريط «البذرة والبغل»، فإنها أدّت وصلة كاملة واقعية الوقت. وفي رقصة فينوس السوداء أمام ارستقراطي باريس، تقوم البطلة باحترام ميقاتها المضروب للفعل والموضع معاً، وهو الاحترام نفسه الذي نقابله في المشهد المتوهّج لنساء «البورديل»، ونزع الشعر واستعراضهن أمام الزبائن الرجال. إن سعي كشيش إلى إراحة مشهدياته وإشباعها، أدّى إلى جعل حوارياته أقرب إلى التوصيات الدرامية، التي لا تُفسِّر كثيراً ولا تفي بكشوفها اللازمة. ففي مشهد اللقاء الفريد بين ساهرتشي ومساعد كوفييه في حديقة الأكاديمية، وبعد رفضها نزع الحزام حول مكان عفتها، لا يتبادلان غير جملتين عامتين حول الرسمة التي أنجزها لها، فيما عكست الجلسة الطويلة إلى حميمية مغمطة لسلوكين طبيعيين بين شابين نما بينهما إعجاب موؤود وثقة قصيرة. أحياناً، يصل الحوار إلى النقطة الإيضاحية البحتة، كما في شرح كوفييه الطبي (المشهد الافتتاحي)، أو إلى أقصى الفجاجة (هراء الرجل الذي يضاجع مومساً بحضور فينوس) أو التفخيم الخطابي (مداخلة سيزار أمام المحكمة دفاعاً لعِتْق ساهرتشي).

تبنّى فيلم كشيش تسييس حقبة العبودية، ليس تاريخاً بل سلوكاً لا يزال ساريا، يتخفّى بلبوسات جديدة. من هنا، يُفهم أن إنجازه يأتي كاستكمال للفعل الأفريقي الرسمي، الذي أعاد رفاتها إلى قريتها في العام 2002، وهو ما يختتم به فيلمه. كما أنه بقي أميناً لأجواء المذلة وديكوراتها، التي حوَّلت مشاهد النصف الأول إلى كَرْب مظهري، مليء بالعفونة والفقر والاستغلال والسوقية. وهي الأجواء نفسها التي تعود ثانية في المقطع الأخير، حين تنزلق ساهرتشي في زلّتها، وتُحاصر بالكآبة والعزلة والمكابدة قبل ميتتها الحزينة. والبطلة هنا ضحية عالمين: الأول أبيض، أساء إليها، معتبراً أن قطع النقود كافية للكشف عن تضاريس خلقتها، متجاوزاً أعرافها الشخصية وحصانتها وأخلاقياتها، ولم ينل من أحشائها إلاّ بعد أن أصبحت جثة هامدة. وآخر أسود، تنكّر لها وخان إنقاذها، وانتظر 187 عاماً بعد وفاتها كي يكافئ رميمها بالعودة إلى تراب مثواها الحق.

(البندقية(

السفير اللبنانية في

30/09/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)