حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الـ"موسترا 67" مشغولة بالحداد والكانيبالية  والمظالم من صحراء غوبي الى سانتياغو

مـــــوت فــــي الـــبـــنـــــدقـــيــة

البندقية ـــ من هوفيك حبشيان

لم تكن السينما مشغولة بالحداد الى هذا الحدّ: الدورة 67 لـ"موسترا" البندقية ستظل ماثلة في الاذهان كدورة المواضيع السقيمة والمشهديات المثيرة للتقزز. من سانتياغو السبعينات الى أفغانستان تحت سيطرة "طالبان" مروراً بالصين أيام ماو، تضعنا اربعة من الأفلام (على الأقل) هي الأرفع قيمة حتى هذه اللحظة، أمام محطات بارزة مما أستطاعت أن ترتكبه أيادي البشر من فظاعات خدمةً لاقتناعات ايديولوجية ودينية وسياسية. هذه المحطات التي ترى فيها ادارة المهرجان مرآة لواقعنا الآني، نوّمت السينما والسينمائيين مغناطيسياً لتنتزع منهم جملة اعترافات وضعت الوافدين الى الجزيرة الايطالية المغلقة، جمهوراً ونقاداً ومهمومين بفنّ الفنون، في حالة انزعاج وحيرة، جراء تلقيهم جرعة واحدة من هذا الكمّ من الانتهاكات والتواريخ التي جرحت الضمير الجماعي.

مفاجأة المهرجان المتمثلة في فيلم يُكشف عن هويته في منتصف الدورة، لم تكن مفاجأة سارة، أي من النوع الذي يثير الغبطة. ففي ختام عرض هذه الرائعة التي جاءنا بها ماركو موللر من الصين وبعض فصول تاريخها المخجل، كان يبدو على وجوه المشاهدين الذابلة نفور صريح بددته قليلاً قليلاً دقائق التصفيق الطويلة تحية وتقديراً. الى جانبي، ناقد فذّ مطلع على كل شاردة وواردة في دنيا السينما، لم يكن يصدّق أن يُسمح لمثل هذا الفيلم بأن يخرج من الاراضي الصينية. أما موللر الذي كان يرافق المخرج وفريق العمل، فكان يبدو من أشد الداعمين لهذا الفيلم الذي تشاركت في انتاجه الصين وفرنسا وبلجيكا، بعدما غامر فيه المنتج فيليب أفريل، الذي سبق أن أطلق باكورة فيموختي جاياسوندارا "الأرض المهملة".

هذه المفاجأة الفيلمية حملت عنوان "الحفرة" (مسابقة). أنجز وانغ بينغ (1967) واحداً من تلك الأعمال التي لا يسع المرء أن يحتضنها بذراعيه الاثنتين. ثمة الكثير من النفور يحلّ عائقاً بين المشاهد والحالات الانسانية المهينة التي نراها تباعاً. انها رحلة أخرى الى أقاصي الجحيم، والى أواخر خمسينات القرن الماضي، يلتقطها بينغ بعدسة لا تتوانى عن كشف الأفظع. بعد مرور أكثر من نصف قرن على معاناة "يمينيي الثورة"، لا تزال الجراح غير مندملة والشعور بالزمان والمكان طازجاً. الجحيم هنا هي صحراء في الصين. تشرين الأول 1960 ترسل الحكومة الصينية كل الذين تعتبرهم أعداء الحزب الشيوعي العتيد، الى معتقل جيابيانغو في منطقة غوبي الصحراوية الواقعة غرب الصين، لاعادة تأهيلهم.

طوباوية صينية

من اعادة التأهيل هذه لن نرى شيئاً، لأنها تقتصر على الحفر. فالمنفيون الى ذلك المكان ملزمون الحفر لترتيب أماكن تحت الأرض ينامون فيها. بمعنى آخر، يُطلَب منهم أن يحفروا قبورهم. نحو ثلاثة الآف من نخبة المثقفين كان مصيرهم الموت في ظروف محقرة للكرامة الانسانية. في الصقيع واللامبالاة سينطفئ نورهم الخفي، واحداً تلو الآخر، فتُرمى أجسادهم في اي مكان بعد أن تُلَفّ بشراشف. نتيجة الأشغال الشاقة وغير الانسانية التي قاموا بها، كثر سيموتون جوعاً وعطشاً وألماً وتسمماً. نصّ بينغ، اعادة اعتبار الى عذابات ضحايا الطوباوية الصينية. لا توفير يُذكر في بناء التفاصيل: معتقل يقتل جرذاً ويطبخ منه حساء. سجين آخر يأكل حبات قمح ثم يتقيأ ليتحول القيء طعاماً لمعتقل آخر.

هذا يكفي لقول كل شيء عن ثورة انجرّت الى الكانيبالية (موضوع يعالجه ايضاً كشاش على نحو استعاري). هذا مثال صغير من ضمن عشرات التجارب القاسية التي يعاينها الفيلم بعين مريرة وغير مساومة. استند بينغ، صاحب وثائقي من اربع عشرة ساعة عن محطة نفط، الى عنصرين لإعادة إحياء يوميات المعتقل في الاشهر الثلاثة الأخيرة من وجوده: أحاديث طويلة له مع معتقلين سابقين، ورواية ليانغ زيانهيو عنوانها "وداعاً، جيابيانغو". اسلوب بينغ يضفي واقعية شديدة الحساسية على تشكيل المشهد؛ مقلّ كلاماً ومكثّف أحداثاً. يصوّر بينغ أجساداً في لحظات فقدانها الروح، من دون تعظيم للمواقف التراجيدية. شغله الشاغل هو الاقتصاد في سبر أغوار الدراما، مع بعض اللحظات التي لم تفلح في تجنب فخّ التلصص. له أيضاً حكمة تلتصق بوجدانه وضميره.

الجسد الذي يتحول أمامنا جثة، هو طعم لذيذ للايديولوجيات المتشددة. ما من أحد يسأل عن الضحايا في عزلتهم وصمتهم وألمهم سوى زوجة أحد المعتقلين التي ستأتي كسراب من بعيد. العنصر النسائي هذا سينفخ في الفيلم روح التمرد: تمرد على الخضوع الانساني الذي، اذا ما رمينا نظرة خاطفة على ما يجري اليوم في العالم، نرى انه في طريقه الى التكاثر بدلاً من الانحسار. التاريخ يتكرر؟ لا، بل يعود ويولد أكثر وحشية مما كان

يقرّ بينغ في الملف الصحافي أن هذا هو أول فيلم يتعاطى مع مسألة لا تزال من التابوهات مع التأكيد ان السينما الصينية المستقلة اكتفت على مدار عقد أو عقدين بتناول المشكلات الاجتماعية للطبقة الكادحة في الصين المعاصرة. لم تكن تجربة استقصاء الحقائق سهلة، وهذا العمل على الارض جعل بينغ يتنقل من منطقة الى أخرى، محاولاً محاورة هذا أو ذاك من الناجين. أما التصوير، الذي استغرق من تشرين الثاني 2008 حتى كانون الثاني 2009، فجرى في المكان الذي وقعت فيه الحوادث الحقيقية (صحراء غوبي). انجز الفيلم في السرّ، وسط خوف الفريق من أن تتوقف عملية التقاط المشاهد بين لحظة وأخرى.

حمل بينغ 130 ساعة من الـ"راشز" (مادة مصورة) وانتقل الى فرنسا، حيث قبع في احدى ضواحي عاصمتها ودخل عملية المونتاج المضنية. على مدى سبعة أشهر شاهد واعاد مشاهدة المادة لمئات المرات طارحاً الأسئلة على نفسه وآخذا المسافة اللازمة مما صوّره. بمادة قوية يزور بينغ الأحياء الأموات الذين صنعوا التاريخ الصيني، على أمل أن لا ينال مصير سينمائيين تعرضوا لعقاب السلطة، اذ كل ما يريده هذا الفنان هو التفكير في حاضر ومستقبل يقيم فيهما الجميع.

صياد وطريدة

مسألة الأحياء الأموات، واحتلال الواحد مساحة الآخر وصولاً الى دمجهما في جسد واحد، هي ايضاً، والى حدّ كبير، ما تتطرق اليه ثلاثة أفلام ضمن المسابقة: "قتل أساسي" ليرزي سكوليموفسكي؛ "تشريح جثة" لبابلو لاراين؛ "وعود مكتوبة بالماء" لفنسنت غالو. في الفيلم الأول، يعود سكوليموفسكي، أحد رواد السينما البولونية، الى موضوع قد يبدو للوهلة الأولى انه لا يشبه ما يطمح اليه عادة صاحب "اربع ليالٍ مع آنا". لكن شيئاً فشيئاً يرفع فكرته الى مصاف أعلى لينتهي بشغل سينمائي ضخم رشّحه كثر الى "الأسد الذهبي". سكوليموفسكي يجسد الارهاب، بالمعنى الفعلي لكلمة تجسيد، أي انه يمنح الارهاب لحماً ودماً (وخصوصاً الدم) وصوتاً وأقداماً، يتنقل من مكان الى آخر، لكن يمنع عنه الصوت، لأن الصوت هو فقط وسيلة المخرج، وهو شيء لا يستعمله في كل حال.

انه الأرهاب اذاً، مجسد في عنصر "طالباني" (فينسنت غالو) يرمي جنوداً أميركيين بقذيفة صاروخية فيصبح على مدار ساعة ونصف الساعة طريدة الجيش الأميركي، من صحراء الى غابة، في عراء عالم يبدو انه بلا حدود واضحة، بل هي حدود مغبشة، تماماً كالخطاب الذي يأتينا به سكوليموفسكي عن الجريمة والعقاب، حيث لا حدّ فاصلاً بينهما. بعد القاء القبض عليه والاستجواب الذي يخضع له، يستطيع "الطالباني" الفرار خلال حادث طريق تتعرض له الشاحنة التي تقلّه، فيرتمي مجدداً في حضن الطبيعة. مشاهد استعادية لامرأة ترتدي البرقع على خلفية انشاد قرآني تزور مخيلته بين فترة وفترة، لتنعش ذاكرته التي بدا انه فقدها. لكن هل هو في حاجة الى ذاكرة؟

مثل المعتقلين في فيلم بينغ، هذا "الطالباني" ميت مع وقف التنفيذ. أو ان مسأله أن يكون حياّ ليست مرتبطة الا بضرورات سينمائية. عن هذا العنصر (رقم اضافي لا غير)، لن نعرف الكثير. أما عن النزاع الدائر بين الاميركيين والأفغان، فلا يفيد الفيلم في شيء. حتى اللحظات القليلة التي سيمضيها "الطالباني" في المعتقل بعد قتله الجنود، لن تكون حاسمة لجهة اطلاعنا على خلفية الحوادث. يأتي الفيلم من مجهول ليذهب الى فراغ وعدم وتيه. هذا العدم نكتشفه لقطة بعد لقطة في عيني انسان يبحث عن موت، موته وموت الآخرين، وليس موته هو الا مسألة دقائق وساعات وأيام.

يبتعد الفيلم عن منطق التعليق على حدث (حرب أفغانستان) بات اليوم الحافز لعدد لامتناهٍ من الأفلام. انه نظرة مخرج يتخذ من صمت البطل والطبيعة حجة للتأمل في عالم ليس في حاجة الينا ليكون. هذا ما تظهره الطبيعة الخلابة التي لا يحتل فيها "الطالباني" الا بقعة صغيرة لأن الانسان ليس الا جزءاً من هذه الطبيعة القاسية والعنيفة. نحن أمام فيلم كبير عن تحدي البقاء. فكرته تتجسد في جعل "الطالباني" طريدة وصياداً في آن واحد، وتصنع منه استعارة تقول عالمنا من دون كلام، وتقول الطبيعة البشرية من دون اللجوء الى ثنائية الخير والشرّ المستهلكة. مرة أخرى، بعد "الحفرة"، أؤكد انه كلما قلّ الكلام، زادت حمولة الفيلم في المعنى والنيات. السجادة البيضاء التي تغطي المساحات والتي يصورها سكوليموفسكي، تشرع أمام الفيلم آفاقاً شاسعة. وليس المشهد الأخير، على حصان لا يعرف أين يذهب، الا موتاً لجسمانية بطل، ذنبه وجوده المفاجئ في بيئة تجعله يبدو كسمكة خارج المياه. فيلم قاتل في الحزن الذي يوحي به، وبالغ القيمة بالمعاني التي تعتمل فيه. يذكّرنا سكوليموفسكي بحقيقة لا يمكن اغفالها: الانسان حليف الطبيعة في خيرها وشرّها.

دفّان ووعوده

فنسنت غالو في دور "الطالباني" في فيلم "قتل أساسي"، هو أيضاً مخرج الفيلم الثالث (مسابقة) الذي يطرح موضوع الموت، وإن من زاوية أكثر ضيقاً وسوريالة. غالو، الفنان ذو الايغو المتضخم، أثار تسلية الكثيرين حين ظهر اسمه في جنريك فيلمه التجريبي ذي الدقائق الـ75، بصفته ملحن الموسيقى، والمونتير، والمنتج وكاتب السيناريو والمخرج والممثل الرئيسي، علماً انه جاء الى البندقية من دون الاستعانة بخدمات ملحق صحافي، موكلاً هذا المهام الى نفسه. لا قصة لما يجيء به غالو، ما يبرر عدم نشر موقع المهرجان أي معلومة عن هذا الفيلم التجريدي. انه، كما يشير اليه العنوان، وعود مكتوبة بالمياه. وقد يمكن أن تكون مكتوبة أيضاً بالزمن الذي تتطاير أجزاؤه من يد غالو. كل ما نعرفه عن الشخصية التي يلعبها، هو انه يعمل دفّاناً في احدى شركات دفن الموتى. في أحد المشاهد، نراه يجول في المساحات الضيقة لشقته، والكاميرا تلتقط حركاته الجسمانية عن كثب. مشهد في منتهى الغرابة...

ثم يلتقي بفتاة ويحادثها عن فتاة أخرى وكيف انها تركته لتذهب الى تايلاند مع رجل في الـ55 من العمر. في هذا المشهد سيكرر غالوا عشرات المرات الجملة ذاتها. سيحرق كرونولوجية الزمن ليتداخل الماضي بالحاضر و"يضيع الشنكاش". نوع من هزء من السينما يكرره غالو حالما تتاح له الفرصة. لهذا الدفّان موهبة التصوير الفوتوغرافي. في خلال عمله ستتاح له الفرصة أن يصوّر جثة فتاة. رائحة موت غريبة تفوح من الفيلم، لا ندري ما اذا كان مصدرها جثة الفتاة، أم الشخصية التي يلعبها غالو، وهو ميت، لكن لم تحن بعد ساعة الدفن!

الموت والأجساد التي فارقتها الروح هما أيضاً ما نراه في الفيلم التشيلياني، "تشريح جثة"، الذي يضعنا في قلب مشرحة، خلال الانقلاب الذي حصل عام 1973 في تشيلي. المخرج بابلو لاراين يملك مفاتيح القلق في أفلمة مرعبة وقاسية لموظف يصبح فجأة بطلاً لحكاية كافكوية. غرام، جرائم، ديكتاتورية، ومعاينة دقيقة ومختبرية للفزّاعة البشرية بكاميرا مخرج لم يبلغ منتصف الثلاثينات بعد، لكن موهبته تناديه الى السينما الكبيرة.  

 

كشاش يصدم بيد ويكشف بيد أخرى في "فينوس سوداء"

جــــســد امــــــــرأة بــحـــجـــــم قــــــــارة!

عبد اللطيف كشاش اسم ارتبط بمهرجان البندقية مذ عرض فيه قبل ثلاث سنوات رائعته "البذرة والبغل". مساء الثلثاء كان موعد الصحافة مع جديد هذا المخرج التونسي الاصل الفرنسي المشغل والاقامة: "فينوس سوداء". الفيلم يمكن اعتباره صدمة المهرجان وفضيحته، في آن واحد. كشاش يصدم بيد ويكشف بالأخرى. هذه تقنيته واسلوبه الباهر الذي كرسه منذ فيلمين ولا يرتقي اليه أحد. في دورة تحفل بعدد لا بأس به من الأعمال المهمة، أطلّ كشاش بخطاب مغاير صفع به الجميع، منطلقاً في مسيرة نأمل أن تكون بداية مهمة لفتح نقاش جديّ حول هذا الموضوع (علاقة الغرب بافريقيا) الذي يحكي عنه الكثيرون بشطارة وبراعة شفهية، لكن قلة يعرفون كيف يصورونه.

بعد مدينة سيت التي كان وضع فيها حوادث فيلمه السابق، يعود كشاش الى أحد الفصول المعيبة من تاريخ القارة القديمة ليقدّم مرافعة، لا تحمل ملامح مرافعة، ضد المهانة التي مارسها الانكليز والفرنسيون في حق صبية جنوب أفريقية من جماعة الهوتنتوت كانت تشكو عيباً جسدياً، ما جعل ولي أمرها يستعرضها كحيوان في المسارح الشعبية الانكليزية والفرنسية قبل أن تلفت انتباه علماء فرنسيين قرروا نهش جسدها إرباً إرباً باسم الطب والتطور والعلم.

انها سيرة تحمل كل عناصر الاسى والتراجيديا الاغريقية يقاربها كشاش بذكاء حاد. بفضل هذا الذكاء يجعل جسد سارتي المهانة والمعذبة والمستغَلة (والمقدسة اذاً) يمتد على مساحة قارة بأكملها هي القارة الافريقية التي سلبت ثرواتها ومواردها الطبيعية واغتصبت واحتلت وحوربت. يصبح جسد سارتي بحجم قارة، ومعاناتها بحجم الكرة الأرضية، وتتجاوز رمزيتها جنسيتها الافريقية. سيرة الفينوس الهوتنتوت المؤلمة تروي كيف جاءت نهضة الرجل الأبيض على حساب جهل الشعوب النامية، لا سيما الافريقية منها. يبقى كشاش مخلصاً لأسلوبه الذي يضمر كمية هائلة من العنف النفسي والاجتماعي. عظمة الفيلم انه لا يلفظ كلمة واحدة عن كل الموضوعات الضخمة والسجالية التي يأتي على ذكرها. لا شيء مباشراً في عمل كشاش الذي يبلغ هنا مرتبة عالية من الواقعية الوجدانية ويحل معلماً تنويرياً في هذا المجال، حدّ انه يصعب مقارنته مع أي مخرج آخر.

السينمائي الذي بدأ مسيرته في ضواحي باريس، صار اليوم يخوض غمار السينما التي تبقى، تلك التي تنطلق من همّ كبير، تلك التي تستجوب العصور السابقة لتصل الى اقتناعات هي ابنة الحاضر. ما يفعله كشاش في "فينوس سوداء" هو استعراء النية الاوروبية التي كانت سائدة عند الطبقة البورجوازية في أوائل القرن التاسع عشر. المصيبة أن هذه الطبقة التي ستنهش لحم سارتي، هي التي سترسم صورتها النهائية في مخيلة الناس، هي التي ستقيمها، هي التي تطلب منها أن تكون ما لا تطمح اليه. مثال بسيط: في مقابلة معها، يدرك الصحافي أن لا شيء لافتاً في قصتها ومعاناتها، فيسألها: هل يمكنني القول في تقريري إنك أميرة؟ أفريقيا مادة للهو. هذا ليس بجديد. القاصي والداني يعلمان ذلك. لكن كشاش يقول ذلك من خلال جسد امرأة وفرجها وتحولها وحشاً بشرياً، فغانية عليها أن تفتح فخذيها للاسترزاق. هذا الموضوع يتيح ايضاً لكشاش أن يذهب أبعد من مجرد الحكاية، فتبدأ عملية النقاش بين الواقع والصورة المعكوسة عنه.

يعمل كشاش وفق منطق التراكم والتعبئة والضغط على الزمن وتسارع الوتيرة والتشويق تصاعدياً. بنية الفيلم مطابقة الى حدّ بعيد لبنية "البذرة والبغل": مشاهد مدتها بين خمس دقائق وعشرين دقيقة وربما أكثر في بعض الأحيان. مشاهد جافة، قاسية. نظرته باردة كالعادة. هذه البرودة تتحول عنده قنبلة موقوتة. لقطاته متزمتة وخبيثة، وإن كانت تبدو بريئة وعاقلة. الحوارات وظيفية ولا تحمل أفكاراً الا بقدر ما تتيح للمشاهد أن يربطها بمعطيات أخرى. الفيلم برمته عبارة عن استعارة. لكنها استعارة تحريضية.

الكلام لا يقول بل يشير. انه سينما مناخ في المرتبة الاولى. لكن هذا المناخ لا يتشكل من تلقاء ذاته، وهو أيضاً لا يتشكل لذاته. هذا كله يساهم في جعل سينما كشاش تنتمي الى فئة السينما "أ". تصنيف قد يبدو بديهياً لكن ينبغي الاصرار عليه لأسباب مختلفة قد لا يكون هذا المقال المكان المناسب لشرحها.

ألمعي أيضاً، شغل الكاميرا. اثنان تشاركا في تشكيل الصورة التي لا همّ جمالياً فيها، وهذا يتماشى مع سقامة الموضوع. آلة تصوير محمولة تنقل بالضبط ما يجب نقله، لا أقل ولا أكثر. كيف يقطع وأين، هذه مسألة جمالية أخرى قد تحتاج الى مشاهدة الفيلم مرة ومرتين وثلاثاً. لماذا بعض لقطاته تبدو تمهيدية فيما أخرى تبدو حاسمة؟ هذا سؤال آخر يحتاج الى غوص معمق في قلب فكر المخرج الذي يدخل مع هذا الفيلم دائرة السينمائيين الذين لا الشك في موهبتهم في طرح قضايا كبيرة ومعالجتها من دون جعجعة وتسجيل مواقف بليدة من نوع "مع او ضد".

نحن هنا أمام أفلمة بديعة لحكاية حدثت ذات يوم وطواها الزمن قبل أن يستعيدها كشاش في عمل سيزعج بالتأكيد المعتزّين بتاريخ الاستعمار الأوروبي والذين لا يزالون يؤمنون بتفوق العرق الأبيض على سائر الاعراق. نعم، من نام أمس على "البذرة والبغل" سيستفيق اليوم على عمل يفكك التاريخ الاوروبي من خلال قصة. ما يصر عليه كشاش في "فينوس سوداء"، هو أن النظام والرقي والرفاهية التي تتيح لأوروبا أن تبدو حضارية ومتمدنة اليوم، جذورها في مكان آخر: في الاستغلال والبطش واغتصاب الجسد. هذا الانتهاك يبدو جلياً في المشهد الذي يبلغ معه الفيلم ذروة القسوة والسادية، مشهد حفل الجنس الجماعي، حيث يُمنح جسد سارتي الهش (على رغم حجمه) الى أسود فاحشين، لا حياء عندهم ولا كرامة.

هذا المشهد، وهو جوهرة سينمائية بذاتها، يقول كل شيء: علاقة المهيمِن والمهيمَن عليه، الاستعمار الذي لا يتوقف عند حدود الأرض والاحتلال، بل يشمل ايضاً القلب والقالب. سننتظر طويلاً، طوال ساعتين واربعين دقيقة، اللحظة التي ستطلق فيها الفينوس كلمة تجرح بها جلاّديها، وتعيد إحياء ضميرهم الميت، لكن، لنطمئن، هذه اللحظة لن تأتي أبداً. لا رقصها الجميل ولا اذنها الموسيقية سيسعفانها. كان الفن المتمثل في رقصة سريعة منقذ حرصي في "البغل". لكن هذا من زمن حديث اكتشف فيه الغرب كلمة عنصرية. أما هنا فالجثة تباع وتشترى، وجثة سارتي ثمينة لأنها حقل اختبار شائق لعلماء لاأخلاقيين سيكملون في ما تبقى من جسد سارتي، العمل المحقر الذي باشره السماسرة والقوادون، فيأكلون لحمها ويرمون عظامها. خلاصة القول: التاريخ الاوروبي كانيبالي بامتياز.

هـ. ح.

 

أفلام أخرى في الـ"موسترا"

يعود الفتى المدلل لمهرجان البندقية، البوسني دانيس تانوفيتش، الى انشغالاته المتمحورة على الحرب التي ضربت بلاده، هذه الحرب التي لا تزال تؤلمه وتلهمه، وهي في كل حال سبب وجود سينماه... حتى اشعار آخر. جديده اسمه "سيرك كولومبيا" (قسم "أيام البندقية"). لا يبحث مخرج "أرض محايدة" (2001) في أسباب واحد من أكثر النزاعات تعقيداً، انما يكتفي بوضع كاميراته أمام يوميات سكان بلدة، هي في الآخر صورة مصغرة عن البوسنة والهرسك. تبدأ الحوادث عام 1991 مع سقوط الشيوعيين: ديفكو بونتيتش (الكاريزماتي ميكي مانوغلوفيتش) يعود الى مسقطه، بعدما أمضى 20 عاماً في المنفى الألماني، لتتعاقب على اثر تلك العودة سلسلة من المواقف التراجيكوميدية محورها دائماً هاجس الحرب المقبلة من بعيد. بصدق كبير يصوّر تانوفيتش بزوغ تلك الحرب التي عرف كوستوريتسا كيف يجعلها ملهاة. مخرجنا هنا يقف على مسافة معينة من الأشياء، وهذا ما يجعله يبدو حنينياً وناقداً وفناناً في آن واحد. يقول في ملفّ الفيلم: "لطالما، انتمت حقبة ما قبل الحرب الى حياة لم أعد أتذكرها. كانت هناك فجوة عندما أفكر في حياتي ما قبل الحرب. فشعرت ان ثمة مرحلة برمتها سقطت من حياتي. ثم، فجأة، ولسبب ما، رحت أتذكر. أحياناً كان السبب رائحة، وأحياناً أخرى وجه أحدهم أعتدت لقاءه أو مشهداً ذا أهمية معينة. في هذا الفيلم، حاولت التقاط هذه اللحظات، وربطها بذكريات أخرى، لكنها هربت في السرعة التي جاءت فيها، تاركة أياي في عزلة وحرمان".

لا شيء كان يوازي مساء الأحد الماضي متعة مشاهدة أيشواريا راي في "رافانان" وهي ترقص وتغنّي، وتمرّ عبر كل الحالات الانسانية الممكنة من الغضب الى الخوف فالرغبة، وصولاً الى وقوعها في ختام ساعتين وسبع عشرة دقيقة في غرام خاطفها الفحل، بحيث يجد المُشاهد ما يكفي من الوقت ليبدل موقفه ازاء هذا الفحل وينتصر لقضيته. كثر من الصحافيين خرجوا من الصالة قبل النهاية، صالة كانت أصلاً فارغة. الفيلم يحمل علامة "صُنع في بوليوود" وهي سبب كافٍ لتهرب منه الانتليجنسيا التي تأتي الى البندقية حاملة تحت ابطها أفكارها الجاهزة. لا ادعاءات عند المخرج ماني راتمان سوى التسلية العالية الجودة. وهذه عنده سبب كاف وجوهري. استيتيكية متقنة، كوريغرافيا تبعث على الحلم، مواقع تصوير فردوسية، ...الخ. يأخذنا راتمان في رحلة الى أقاصي الشرق وسحره وأساطيره وحكاياته التي تنتهي دائماً بالدم والثأر، لكن يعرف كيف يعطل، هنا وهناك، ثوابت السينما البوليوودية، فاتحاً اياها على اثارات ذكية.

(hauvick.habechian@annahar.com.lb)

النهار اللبنانية في

09/09/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)