حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

يوميات جوزيف. م :

فيلمٌ روائيّ بمفردات التسجيلي

صلاح سرميني ـ باريس

بالنسبة لي، "جوزيف موردر" ليس مخرجاً، ولا سينمائياً، إنه يُصوّر مثل واحدٍ آخر يعوم، أو يكتب، إنه "مُؤفلمٌ"، وهناك عددٌ قليلٌ جداً من هؤلاء، سوف يزدادون مُستقبلاً من أجل سعادة، وتغيّير شكل السينما.

Alain Cavalierـ مخرج فرنسيّ

***

على الرغم من تهميشه عن دورات التوزيع السينمائية التقليدية، ولكنّ إصرار، وعناد السينمائيّ التجريبيّ الفرنسيّ "Gérard Courant"، وغزارة إنتاجاته، وأصالتها، أثارت اهتمام القنوات التلفزيونية، والمُؤسّسات الداعمة، وهكذا استطاع الخروج أحياناً من هامشيّته، واختراق النظام التمويليّ (وهو حلمُ أيّ مخرجٍ يعملُ في قلب السينما، أو هوامشها)، بدءاً من إقناع شركة إنتاج بمشروعٍ ما، أو طلباً منها، وإمكانية حصولها على دعم حكوميّ من طرف "المركز الوطنيّ للسينما"، مروراً بمُشاركةٍ مُسبقة، أو مُؤجلة من إحدى القنوات الأوروبية الكبرىCanal + الفرنسية، والبلجيكية، وRTBF البلجيكية، وحتى إصداره في اسطواناتٍ مُدمجة للمُشاهدة المنزلية.

وهذا ما حدث بالضبط مع أحد أفلامه "يوميات جوزيف. م"(59 دقيقة، إنتاج عام 1999) الذي كنتُ على وشك ارتكاب خطأ منهجيّ اصطلاحيّ، واعتباره فيلماً "تسجيلياً مروّياً" (Documentaire fictionné) قبل أن يؤكد لي المُخرج نفسه بأنه "روائيّ مُوّثق" (Fiction documentée).مع أنني في مُسودتي الأولى لم أبتعد كثيراً عن هذا المفهوم الهجين، حيث يرتكزُ الفيلم على مشاهد تمثيليّة مُغلفة بجانبٍ تسجيليّ، حتى وإن فقدت الصياغة الدرامية ملامح الحكاية.

كيف يكون الفيلم روائياً بدون حكاية، وهو في جوهره محاولةٌ مُغايرة للتعريف بالمُخرج الفرنسيّ " Joseph Morder"، ويومياته الفيلميّة الشهيرة التي بدأ تسجيلها منذ عام 1967 بكاميرا 8 مللي سوبر.

لقد وضع "جيرار كوران" نفسه في مُواجهة تحدياتٍ سينمائية، وفي المُقابل، قذفنا أمام "أُحجيّة تصنيفيّة" عندما اختطف في نفس الوقت بعض مفردات الروائيّ، والتسجيليّ، وأنجز مزيجاً سينمائيّاً لا ينفعُ معه تصنيفاً واضحاً، وهي إحدى الخصال الحميدة التي تتميّزُ بها أفلامه التسجيلية/الروائية (وسوف نضعُ التجريبية جانباً) التي تنحو في اتجاهٍ مُغايرٍ يكشفُ فوراً عن أسلوبٍ "كورانيّ" ـ نسبةً إلى "جيرار كوران" ـ .

في"يوميات جوزيف.م" لا يترك الكاميرا مُحايدة أبدا، ولا يتورّع عن التلاعب بالمشاهد التسجيلية، والتدّخل في صياغتها كي تصبح روائية، وبالعكس.

في لقاءٍ معه، نفى "كوران" تسجيليّة فيلمه، وشرح بأنه كتب سيناريو مُسبق باعتباره روائياً، وخلال التصوير لجأ إلى بعض الارتجال.

لا يخلو جانبه الروائيّ من المُبالغة إلى حدّ التصنع في أداء الشخصيات/المُمثلين الذين استعان بهم للتعريف بـ "جوزيف موردر"، وأتصورُ بأنه لا يقود ممثليه، بل يتركهم يمثلون كما يحلو لهم وُفقاً لأفكار، ومُمارسات مجموعة "مورلوك"* :

الروح الصبيانيّة، الطرافة، والسخرية (كما حال الدادائيين، والسورياليين).

من جهةٍ أخرى، كيف يكون الفيلم تسجيلياً وهو ينضحُ بمشاهد تمثيليّة لا يتجرأ على إنجازها غير سينمائيّ مجنون مثل "كوران" نفسه، وشخصياتٍ/ممثلين ليسوا أقلّ جنوناً منه.

في المشهد الافتتاحيّ (قبل العناوين) يمثلُ "جوزيف موردر"، والمُخرج الفرنسيّ "Luc Moullet" دور كلبين يتحاوران مع بعضهما البعض عواءً مع ترجمةٍ على الشريط نفسه :

جوزيف : صباح الخير عزيزي الكلب.

لوك : صباح الخير عزيزي الكلب الضخم ("جوزيف موردر" قصير القامة، ومُمتلئ الجسم) حدثني عن يومياتك الفيلميّة.

جوزيف : مثل الكُتاب الذين يكتبون مُذكراتهم الشخصية، منذ عام 1967 بدأت بإنجاز يومياتٍ فيلميّة.

لوك : فكرةٌ رائعة.

جوزيف : أصورُ الأحداث الصغيرة من حياتي.

لوك : حياة كلب (المقصود لعينة).

جوزيف : تستغرقُ يومياتي الفيلمية حوالي 50 ساعة (حتى تاريخ إنتاج الفيلم في عام 1999) .

وعلى الرغم من الصياغة السينمائية البسيطة لهذا المشهد "الكلبيّ"، إلاّ أنه يُجسّد فكرةً طريفة، مُبتكرة، وأصيلة تبتعدُ تماماً عن الأساليب التقريرية المُتعارف عليها في الأفلام التسجيلية النمطية.

إنه مشهدٌ تمثيليٌّ بامتيازٍ يقدم للمُتفرج معلوماتٍ تسجيليّة، وأعتقد بأنّ مخرجاً آخر فاقد الموهبة سوف يكتفي بتسجيلها كتابةً على الشاشة.

ترتكزُ المشاهد اللاحقة على فكرة تحويل مسار التسجيليّ نحو فضاءاتٍ روائية، ويختار "كوران" التصوير في أمكنةٍ يرتادها "جوزيف موردر"، أو ترتبط بروح، وذكريات "مجموعة مورلوك"، ولهذا السبب، يبدأ فيلمه أمام محطة القطار لمدينة " Romorantin" عاصمة المورلوكييّن (كما كانت "زيوريخ" في بداية العشرينيّات عاصمة الدادائيين، وبالتحديد "حانة فولتير") .

يُظهر المشهد الأول (بعد العناوين) ـ المُستوحى من مُمارسات الطوائف الدينية ـ واحداً من طقوسها الطريفة، وفيه تتحول كلّ الشخصيات، وفريق العمل إلى أطفالٍ كبار يلهون أمام الكاميرا.

وكما يتذوّق هؤلاء الحلوى المصنوعة من السمسم، يُطَعّمُ "جيرار كوران" فيلمه بمقاطع تسجيلية من اليوميات الفيلميّة الآنية التي يُصورها "جوزيف موردر" بطريقةٍ إرتجالية، حرّة، ومتحررة من كلّ القوالب السائدة في السينما التسجيلية، وبالآن ذاته، تختلفُ عن المُذكرات المكتوبة التي يسبقها لحظات تأمل، وإعادة كتابةٍ رُبما، بينما لا يسمحُ دوران الشريط في علبته فرصة التفكير التي يتمتعُ بها الكاتب.

يعيش "جوزيف موردر" حالةً لهوٍّ دائمة مع كاميرته مُعتمداً على إحساسه الداخلي، والظروف التي يُصوّر فيها، وحتى حالته النفسية.

وهكذا، يُصوّر بعض كادراتٍ لن تستغرق ثواني على الشاشة، وأخرى أكثر طولاً، وتفكيراً بمُحتوى اللقطة، ولكنها بشكلٍ عام قصيرة جداً تعكسُ إحدى العقبات الاقتصادية للسينما التجريبية المُنجزة بأشرطة سينمائية من مقاس 8 مللي سوبر، والتي تحولت تلقائياً إلى سمةٍ جمالية

بدايةً، فكرتُ بأن تطعيم "يوميات جوزيف .م" بتلك المُقتطفات التسجيلية طريقةٌ ذكيةٌ للعودة إلى الماضي بدون أيّ جملةٍ حوارية، ولكنها بالأحرى كانت رحلة إسترجاعية إلى أمكنةٍ يرتادها، ويصورها في يومياته.

"جوزيف موردر" شخصية رئيسية في الفيلم، ولكنّ الكاميرا التي يحملها دائماً تتقاسم البطولة معه، ونراها ملتصقةً به أكثر من زوجته (تُمثل الدور Françoise Michaud) التي يُعبّر لها في أحد المشاهد عن رغبته بإنجاب طفلٍ معها حتى وإن اضطر إلى التوقف عن تصوير يومياته الفيلمية لبعض الوقت.

تلتقي كاميرا "جوزيف موردر" مع كاميرا "جيرار كوران"، وسيلتا تعبيرٍ مختلفتان في تقنياتهما، شخصيتان رئيسيتان تتشاركان في مصالحةٍ إبداعية بين الصورة السينمائية، والفيديو، وتُجسدان علاقة صداقة فيلمية طويلة.

كان الفيلم فرصة عظيمةً لـ"جوزيف موردر" لتحقيق رغبته الواضحة بأن يكون ممثلاً يؤدي شخصية "جوزيف. م"، وليس دوره الحقيقي في الحياة، لم يعدّ الفيلم عن "جوزيف موردر" نفسه، أو بورتريه صادق له، ولكنه تحول إلى شخصيةٍ سينمائية حقيقية/مُتخيلة، تسجيلية/روائية .

"جوزيف موردر" الذي لم ينل حظه تمثيلاً في "السينما السائدة"، أصبح نجماً في "السينما المُوازية"، وبالتحديد في الكثير من أفلام "جيرار كوران"، وكشفت عن مواهبه التمثيلية التي تجسّدت أيضاً في البورتريهات التي أنجزها عنه (بورتريه رقم 21 عام 1978، بورتريه رقم 74 عام 1980، بورتريه رقم 323 عام 1984، بورتريه رقم 1686 عام 1999، بورتريه رقم 2219 عام 2006)، ويعتبرها "موردر" بمثابة جلسات تحليلٍ نفسيّ مجانية.

وكما أقنع "جيرار كوران" حتى اليوم 2291 شخصية في مشروعه الأعظم "Cinématon"، فقد ورّط في فيلمه "يوميات جوزيف.م" بعض أهمّ الشخصيات الفاعلة في السينما التجريبية، وحوّلهم إلى ممثلين كي يبتعد عن تقريرية التحقيقات التلفزيونية، ويُعرّفنا من خلالها على "جوزيف موردر" بطريقةٍ مُختلفة تماماً.

في ذلك المشهد التسجيليّ المُصطنع بالقرب من "فندق الشمال" بمُحاذاة قناة " Saint-Martin"(تحية لفيلمٍ من إنتاج عام 1938 لمُخرجه الفرنسيّ " Marcel Carné") يتحاور "جوزيف موردر" مع الروائي، والباحث الفرنسيّ " Dominique Noguez" وهما يتأرجحان فوق لعبة أطفالٍ تهزّهما يميناً، وشمالاً، وتكاد تفقدهما توازنهما، ونفهم بأنه حصل على كاميرا لأول مرةٍ في حياته هديةً من والدته بمُناسبة عيد ميلاده الثامن عشر، ومنذ ذلك اليوم بدأت مغامرة "يومياته الفيلميّة" التي أرادها أرشيفاً.

وفي حديقة "Butte de chaumont" يتحدث مع زوجته (تمثلُ الدور "Françoise Michaud") التي تُذكره بأنه صوّرها في مراتٍ عديدة، ولكنه لم يعرضها عليها أبداً.

وفي هذا المشهد الروائيّ المُصطنع أيضاً، يفسرُ "جوزيف" أسراره الفيلميّة :

ـ بعض المخرجين يصورون أفلاماً، ويستغرقون سنواتٍ طويلة في إنجازها، وهم عادةً من السينمائيين الكبار(لا يمكن إغفال الجانب النرجسيّ في شخصية "جوزيف. م" السينمائية، و"جوزيف موردر" المُؤفلم).

وفي مشهدٍ آخر، يسأله الناقد السينمائيّ الفرنسيّ "Alain Riou" :

ـ هل عُرضت يومياتك الفيلميّة كاملةً ؟.

يردّ "جوزيف" بأنها لم تُعرض بكاملها، وهو نفسه لم يشاهد بعضها.

ـ لا أريد أن تكون يومياتي فيلماً مثل الأفلام الأخرى، لقد رفضتُ دائماً بأن تُعرض مثل أيّ فيلم عاديّ، إنها يومياتٍ حميمة، عندما أصور لا أضع في ذهني فكرة عرضها يوماً.

مع ذلك، وبناءً على طلبٍ من الباحث السينمائيّ "Dominique Païni" اختار "جوزيف موردر" 13 ساعة منها، وعندما يعرضها ـ كما يقول ـ يستغرقُ المشاهدون تماماً، ويتفاعلون مع أحداثها اليومية البسيطة.

وفي حواره مع المخرج الفرنسيّ "Luc Moullet" (وهذه المرّة مُستلقيان فوق أعشاب حديقة في وضعيّن مُتعاكسين)، يعترفُ "جوزيف موردر" بأنه يتساءل أحياناً لماذا يُصور؟

ـ أحب أن أغفو في قيلولةٍ، وأنا أصور، التصوير يُريحني، أشعرُ بالتعب أحياناً، ولكنه تعبٌ لذيذ، عندما أصور أستعيدُ حيويتي، وطاقتي، وعندما أتوقف عن التصوير أحسُّ بأنني مريضٌ، وعجوزٌ جداً.

كنت أتمنى بأن أصل إلى غزارة أفلام السينمائيّ الفرنسيّ "Jean Rouch"، أو البرتغاليّ "Manoel de Oliveira" الذي يُصور فيلماً في العام حتى هذا العمر المُتقدم.

وفي مشهد تمثيليّ تمّ تحضيره كأيّ واحدٍ آخر في فيلم روائيّ، والمُفترض بأنه عرضٌ خاصّ في صالة "السينماتيك" الفرنسية لفيلمٍ صوّره "جوزيف موردر" خلال إحدى دورات مهرجان السينما المُستقلة في مدينة " Thonon-les-Bains" الفرنسية.

قبل العرض، يقدم الباحث الفرنسيّ "Dominique Païni" المخرج "جوزيف موردر"، ويُذكر الحاضرين بالحرفيّن الأولين من اسمه :

ـ "J.M  " مثل السينمائيّ التجريبيّ الأمريكيّ "Jonas Mekas" (الذي أنجز في عام 1969 يومياتٍ بعنوان Walden /Diaries, Notes, and Sketches)، وإذا نطقنا الحرفيّن متصليّن بلفظهما الصوتي الفرنسيّ، سوف تكون النتيجة " J'AIME"(أحبّ)، "جوزيف"، سينماك بمثابة تصريح حبّ.

مشهدٌ إحتفائيّ، وجملةٌ نموذجيةٌ لنهايةٍ سعيدة، ولكنّ "جيرار كوران" يتخير بناءً سردياً مختلفاً،
حيث يسافرُ "جوزيف موردر" إلى بروكسل بهدف اللقاء مع أحد المُنتجين، هكذا يقول لزوجته، وفيما بعد نكتشف بأنه يلتقي مع أصدقائه القدامى :

"Mara Pigeon"، وطفلتها  "Nele Pigeon"، السورياليّ الفوضويّ " Roland Lethem"، السينمائيّ الصعلوك "Boris Lehman"، والمُشاكس "Noël Godin" قاذف قطع الكاتو في وجوه الشخصيات العامة الشهيرة،..

وفي أحد أسواق الخضار، تسأله الطفلة الصغيرة بفضولٍ (لقد عرفت ما يدور في ذهن المتفرج):

ـ لماذا تُصور دائماً ؟

ـ أطرحُ على نفسي هذا السؤال باستمرار .

يعتمدُ الفيلم على تتابع سرديّ متشظيّ، وترتكز الصياغة الدرامية على خطٍ حكائيّ هش، حيث تربط الانتقالات المُرتبة من شخصيةٍ إلى أخرى بين المشاهد، وتلعب حلقة الوصل الدرامية.

ولهذا يعود مرة أخرى إلى "دومينيك نوغيز" بدون أيّ مبررٍ سرديّ.

ولكنّ مشهد اللقاء مع السينمائيّ الفرنسيّ "Marcel Hanoun" يحطم الحدود الفاصلة بين روائيّة الفيلم، وتسجيليّته، ويكشفُ عن لعبة السينما داخل السينما .

يصيحُ "جيرار كوران" من خارج الكادر تصوير(Action)، يدخلُ "جوزيف"، و"مارسيل" إلى الصورة عكس ما حدث في المشاهد السابقة حيث الشخصيات حاضرة مُسبقاً في حقل الرؤية .

مارسيل : هل تعتقد بأنه يجب النظر إلى الكاميرا ؟

جوزيف : لا أعرف، عندما نُنجز فيلماً تسجيلياً لا يجب النظر إلى الكاميرا.

مارسيل: آه، هذا فيلم تسجيليّ ؟

جوزيف : نعم.

مارسيل: ما رأيك بأن نخرج من إطار الصورة ؟

وينسحبان فعلاً، بينما تستمرُ الكاميرا في تصوير حقول الذرة الصفراء المُمتدة في العمق.

اللقطة الأخيرة من ذلك المشهد دالة، ورومانسية بما يكفي، يُودّع السينمائيّان بعضهما، ويمشي "جوزيف" في طريقٍ زاحفةٍ، ومُتعرّجة، تُصوره الكاميرا من الخلف متأبطاً حقيبة كاميرته، يصفرُ سعيداً، ومُبتهجاً، وفجأةً يلتفُ حول نفسه في حركةٍ راقصة، في الوقت الذي تطغى زقزقة عصافيرٍ على شريط الصوت.

هوامش:

*"مجموعة مورلوك"(Les Morlocks) فصيلةٌ من السينمائيين المُختلفين الذين يعيشون حياتهم مُنفصلين عن "السينما السائدة"، يعشقون الكلاب الأليفة، ويُفضلون العتمة على الضوء، الكهوف عن السطح، والسخرية عن الجدّية

بدأت المُغامرة بتأثيراتٍ من روايات البريطانيّ " Herbert George Wells"، الممثل الفرنسيّ " Francis Blanche"، والمخرج الفرنسيّ " Jean-Pierre Mocky".

ويعتبر " Joseph Morder" قاتل (يتشابه اسمه العائلي صوتياً مع Murder باللغة الإنكليزية)، ومُكتشف القبيلة (مع " Guy Pezzetta"، و" Jean-claude Reminiac")، ومن ثمّ "أكاديمية مورلوك" مع ("Vincent Tolédano"، والسينمائي الهوليووديّ الأعظم "Gérard Courant").

ـ ترجمة من ملخص فيلم "COCKTAIL MORLOCK" ـ 25 دقيقة من إنتاج عام 1980ـ للسينمائيّ "جيرار كوران" ـ

ـ " Guy Pezzetta"، " Jean-claude Reminiac، و"Vincent Tolédano" سينمائيّون قدامى تخلوا عن السينما لصالح مهنٍ أخرى.

الجزيرة الوثائقية في

02/08/2010

 

«جنغا 48»: شجاعة الوقوف أمام المرآة!..

بشار إبراهيم 

لعل من أسوأ عاداتنا، على المستوى الفكري على الأقل، أننا نتكئ على اعتقاد بأن الأجيال الناشئة فاقدة للثقافة، خالية من شوق التساؤل، وحب المعرفة.. بل إن الكثيرين من أجيال متقدمة في العمر، تنظر بعين الأسى، إن لم نقل بعين السخط، إلى الأجيال اللاحقة، على اعتبار أن جيل اليوم لا همَّ له سوى السطحي من الاهتمامات، والمرذول من الانشغالات، والتافه من المتابعات!..

يعتزّ أفراد ممن ينتمون إلى الأجيال المتقدمة في العمر، أنهم من أجيال خاضت التجارب، وامتلكت الخبرات، وعاشت العصور الذهبية للفكر والثقافة والسياسة والنضال.. أيام كان ثمة أحزاب وقوى وفصائل، واتجاهات سياسية وفكرية وأيديولوجية.. أيام صعود الثورات، والمد الفكري الأيديولوجي، وأيام التوعدات ضد الامبريالية والاستعمار والصهيونية والرجعية، وتبشيرها بمصيرها المحتوم، بالتحطم على صخرة النضال الثوري!..

ولعل من أسوأ نظراتنا، تلك التي نصوبها تجاه عالم الطفولة، فلا نرى في أفيائه إلا البراءة التي تغدو صنو السذاجة، وعدم المقدرة على رؤية العالم، وبالتالي افتقاد ميزة امتلاك الدوافع للتعرف عليه، وتفسيره، وفهمه، والبحث فيه جوانب المحيرة.

لن تأبه المخرجة الفلسطينية علا طبري لهذا كله، بل إنها ستمضي، هذه المرة، مدعومة بموقف مضيء من قبل «قناة الجزيرة أطفال»، آخذة من عالم الطفولة مفتاحاً باهراً، وضوءاً كاشفاً، يمكن له أن يضع أعقد التفاصيل على مشرحة السؤال، والبحث والتقصي، ويقدم للكبار قبل الصغار رؤية نادرة، قوامها المكاشفة والتساؤل، مهما بلغ به الحرج، أو الجرأة، واستدعى الاعتراف!..

وإذا كان للمخرجة علا طبري، مشروعها السينمائي الذي بدأته منذ عقد من الزمن، متكئة على تداخل وتكامل الذاتي والموضوعي؛ الشخصي والإبداعي، لديها، لتنتج لنا سياقاً خاصاً في السينما الفلسطينية، يمكن أن تكون هي أحد أبرز علاماته، بحضورها ونكهنها الخاصة.. فإن «قناة الجزيرة أطفال»، ستضيف نقطة مضيئة تُحسب لها، بإقدامها على إنتاج عمل وثائقي، يغوص عميقاً في الواقع الفلسطيني، بتناقضاته الحادة جداً.

وبالنظر إلى المشروع البصري التي تشتغل عليه المخرجة علا طبري، فإننا يمكن في النهاية أن نصل إلى نتيجة حاسمة، مفادها أن هذا العمل، ما هو إلا خطوة أخرى على الطريق ذاتها، وبالاتجاه نفسه، ذاك الذي كانت قد بدأته بفيلمها الوثائقي الطويل «خلقنا وعلقنا»، عام 2002، وهاهي تستكمله الآن، ومع بعض الشخصيات ذاتها، التي رأينا ظهورات لها هناك، ونستمر معها هنا، وقد تطورت ونضجت مع الأيام، وباتت أكثر قدرة على حمل الفيلم كله، والنهوض به، حاملاً درامياً، وضوءاً معرفياً، ومستكشفاً متسائلاً..

هنا، ومع فيلم «جنغا 48»؛ الفيلم الوثائقي الطويل (مدته 77 دقيقة)، بإنتاج الجزيرة للأطفال عام 2008، سنعود لرحلة المخرجة علا طبري السينمائية في البحث والتقصي، وهاجس المعرفة: كيف، لماذا؟.. في موضوع محدد تماماً، يتعلق بواقع العرب الفلسطينيين الباقين على أراضيهم المحتلة عام 1948، أولئك العرب الفلسطينيين الذين نجوا من قبضة الشتات والمنفى، والوقوع في ذل المخيمات، ليتواجهوا مع قدر البقاء بين أيدي الدولة، التي قامت على أنقاض دولتهم، وهويتهم، ووجودهم وحضورهم الوطني والقومي التاريخي..

لا تريد المخرجة طبري تكرار ما ذهبتْ إليه في فيلمها الأول «خلقنا وعلقنا». بل من الواضح أنها تريد الذهاب إلى التكامل معه، ربما في مسعى لاستكمال جوانب أخرى، من الصورة البانورامية، على تعقيداتها. هنا سنجد أن الموضوع الرئيس إنما هو محاولات الأسرلة، التي تقوم بها الحكومة الإسرائيلية، بمؤسساتها، على الصعد كافة، تجاه العرب الفلسطينيين.

كالعادة، ستنطلق المخرجة علا طبري من بيتها الباريسي البعيد.. هناك حيث تبدأ مستعينة بأدوات الاتصال الحديثة: (اللابتوب.. الأنسر ماشين.. شبكة الانترنت.. الدردشة الإلكترونية)، للتواصل مع فلسطينها.. فتتلقى الأخبار، والنكات، وتتابع صور ومشاهد من تاريخنا القريب.. لنرى معها جنود الاحتلال الإسرائيلي.. مظاهرات المدنيين الفلسطينيين.. وليقودنا إلى مانشيت يؤكد أن هذه مشاهد من «يوم الأرض» عام 1976.

هذه المرة، ستركب المخرجة علا طبري، طائرة، إلى حيت تستقبلها عبارة «أهلاً وسهلاً بكم في إسرائيل». لن تمخر عباب الأزرق الافتراضي، كما رأينا في فيلمها «خلقنا وعلقنا»، ولن تقفز مونتاجياً لتطلَّ على فضاءات الناصرة!.. إنها بتؤدة، تنتقل عبر الأجواء الفسيحة، سابحة عبر الغيوم وفوقها، إلى المكان الذي بات يضيق بأبنائه، حيث ثمة من يضيّقون العيش عليهم، حتى حدود الاختناق.

أن تعود إلى فلسطين، فتستقبلك يافطة تقول لك «أهلاً وسهلاً بكم في إسرائيل»، هي فاتحة المأساة، وذروة الكارثة، ومكمن الجرح!.. لم تعد فلسطين فلسطيناً، ولم يعد الفلسطينيون كذلك!.. ثمة من يعدُّ العدة لتدمير ما تبقى، وهدم ما كان، والقضاء على ما هو آت؛ على المستقبل الذي ينتظره الناس، على شيء من أمل.

منذ اللحظات الأولى، يؤشر الفيلم إلى مظاهر الأسرلة، وبعض نتائجها.. ولعل لهذا ليس عبثاً أن تمرّ على أسماعنا أصوات إذاعة عربية، أنشأها اثنان من شباب فلسطينيين.. تلك الإذاعة التي تأتي على هيئة طراز (دي جي إزرايل)!..

تعود المخرجة علا طبري إلى أصل الحكاية؛ حكاية المحاولات الدؤوبة لأسرلة العرب الفلسطينيين، ليس بقصد ضمهم إلى المجتمع الإسرائيلي، مواطنيين على القدم ذاته من المساواة في الواجبات والحقوق.. بل فقط بهدف خلعهم من انتماءاتهم الثقافية، والاجتماعية، وصولاً إلى خلخلة الانتماء الوطني والقومي، وقطع الصلة مع مقومات الهوية الفلسطينية، ومعطياتها الغنية على المستويات القومية والدينية.

ستتخد المخرجة من قرار وزارة المعارف الإسرائيلية الشروع بتعليم العرب أشياء عن «يوم الأرض» ذريعة لرحلة الكشف والاستقصاء.. ولن تقوم هي بذاتها بالأمر، بل ستعتمد على فتاتين يافعتين، سبق أن رأيناهما طفلتين، قبل خمس سنوات، في فيلم «خلقنا وعلقنا».

كبرت الصبيتان، ونضجتا، وباتتا قادرتين، وهما في مقتبل الصبا، على القيام بمهمة، تحتاج لوعي ودأب وجرأة وثقافة وقوة شخصية.. ستقوم المخرجة بمرافقة هاتين الفتاتين، وستمضي معهما، حيثما تمضيان. تغيب عنهما أحياناً، وتحضر في أحايين أخرى. ولكنها لن تلعب أكثر من دور الدليل، أو المشرف، أو المراقب.

البطولة المطلقة، هي لتينك الفتاتين (ورد وعدن ضاهر)، اللتين تبدوان على قدر مشجع، ومثير للدهشة والأمل، في أن أجيالاً فلسطينية تنشأ رغم أنف الاحتلال، والدولة ذات الستين عاماً، والسلاح النووي، والانتصارات المتكررة على العرب، وذات المؤسسة الحكومية المدججة بكل محاولات التدجين والطمس والمحو والتذويب.. والأسرلة.

ستحمل الفتاتان كتاباً نموذجياً في فضح اللعبة الإسرائيلية. كتاب على هيئة قصة قصيرة تتوجه إلى الأطفال الفلسطينيين، في مرحلة الدراسة الأولى؛ كتاب يحكي قصة الأطفال الفلسطينيين الفرحين بقدوم «عيد الاستقلال»، فيفرح الأطفال للحلوى والهدايا، ويلبون دعوة «رئيس الدولة» لزيارته في بيته في القدس.. ويحملون أعلام الدولة، ويذهبون، فما يكون من رئيس الدولة إلا الترحيب بهم، وتنتهي القصة على النحو التالي: «هيفاء ونور وبادرة ومعين يحملون علم البلاد.. قال الرئيس: الحمد لله!.. أولاد لطفاء، من جميع الأرجاء».

وإذا كان هذا بعض من نصيب الأطفال، في مرحلة الدراسة الأولى، فإن وزارة المعارف الإسرائيلية قررت في العام 2006، البدء بمشروع تعليم الطلاب العرب أشياء عن يوم الأرض.. ومن الطبيعي أن نكتشف، مع الفيلم، أن الموضوع إنما هو في النهاية إفراغ «يوم الأرض» من جوهره الحقيقي، ومن معناه، ومن سياقه، مقدماته ونتائجه، ومن ارتباطه بالقضية الفلسطينية، ونضال الفلسطينيين للتمسك بأراضيهم.. تماماً، إلى درجة تحويله إلى مجرد «عيد غرس الأشجار»!..

من معرفة بواقع الحال العربي الفلسطيني، على أرض فلسطين التاريخية.. ومن ألم ما يقدمه الواقع من تفاصيل، أيضاً.. تنطلق الفتاتان في بحث طويل، جريء، وشجاع.. إنهما تدركان أن كثيراً من أبناء «جيل اليوم»، لا يعرف شيئاً عن «يوم الأرض».. ولا عن موضوع «شهاب الدين»!.. ولكنهما تدركان أن ذلك، إنما هو نتاج سياسة تعليمية إسرائيلية، مقصودة، بخبث، تبدأ منذ الصغر، وترافق مراحل التعليم، للوصول إلى هذه النتيجة؛ قطيعة فلسطينيين 48 مع تاريخهم وهويتهم وانتماءاتهم..

ومن أجل فض هذا الاشتباك، وفك ملابساته، وتوضيحه، وفهمه، ستقوم الفتاتان بمقابلة العديد من الشخصيات الفلسطينية، وعلى جانبي الموقف تماماً، بتناقضهما الحاد والعميق الكارثة!.. هكذا سيحضر محمد بركة ورائد صلاح وأخرون، من الناحية المتمسكة بفلسطينيتها وعروبيتها.. فيما يحضر كمال عطيلة، وآخرون، ممن يعتبرون إسرائيل دولتهم، وممثلتهم!..

ليس ثمة أكثر بؤساً وفجيعة من أن تشاهد رجلاً عربياً فلسطينياً عاقلاً، لا يتوانى عن القول إنه من دولة إسرائيل، وإنها تمثله، وهو ينتمي إليها، وإنها دولة ديمقراطية.. إلا أن تشاهد طفلاً عربياً فلسطينياً يقول إنه مستعد للدخول في الجيش الإسرائيلي، وقتل الفلسطينيين!.. وليس أقل من هذا وذاك بؤساً فجيعة، أن ننتبه إلى حقيقة أنه لا العرب ولا الفلسطينيين يهتمون بهذا السياق المدمر، الذي تمارسه الحكومة الإسرائيلية.. وأن العرب والفلسطينيين، على السواء، لا يدركون أنه أكثر خطورة من السلاح النووي الإسرائيلي ذاته.

يغتني فيلم «جينغا 48»، بالكثير من التفاصيل، ويقدم العديد من الأطروحات السياسية الوطنية والتربوية والثقافية والقانونية الحقوقية.. ويقدم صوراً متنوعة لنماذج من الفلسطينيين الباقين على أرض فلسطين المحتلة عام 1948، ويعتمد على الوثائق الأرشيفية والصحفية، والمقابلات والزيارات واللقاءات والحوارات، والحالات، المعبرة كل عن تجربتها..

سيقول محمد بركة، بوضوح: «نحن لا نستطيع توريث الأرض.. لقد صادروا الأرض.. لكن يمكننا توريث الذاكرة»!.. وسيبدو تماماً أن الذاكرة الفلسطينية هي المستهدفة أولاً، ولهذا فهو يستذكر المشروع الإسرائيلي الذي تمَّ طرحه عام 1951، والذي تضمن اقتراح تعليم اللغة العربية، بأحرف عامية، على أن تكتب بالعبرية!.. وذلك لقطع الصلة بين الفلسطينيين الباقيين على أراضيهم عام 1948، من جهة أولى، مع العالم العربي، من جهة أخرى..

صادروا الأراضي.. ويريدون مصادرة الفكر والثقافة والمخيلة.. ويعملون على تزييف مفهوم الهوية، بين هوية مهنية، وهوية شخصية، سابقة ومتفوقة على الهوية الوطنية والقومية.

وما بين ثنائية مصادرة الأراضي، من جهة، ومصادرة الهوية والثقافة والانتماء، من جهة أخرى، يتحرك الفيلم بمهارة ليكتشف في لقاء مع أحد الناشطين الفلسطينيين في «لجنة الدفاع عن الأراضي»، أنه جرت محاولات من أجل مصادرة قرابة 40% من الأراضي العربية الفلسطينية، بحجة «الخريطة الهيكيلية».. هذه التي يراها ليست إلا أسلوباً آخر، وحيلة ماكرة، لمصادرة المزيد من الأراضي العربية الفلسطينية..

يغوص الفيلم، الذي تصدق إحدى بطلتيه عندما تسميه «بحث عن يوم الأرض، والهوية، والعرب الموجودين داخل هاي الدولة»، في الكثير من التفاصيل، ويقدم بجرأة نادرة جوانب خفية ومؤلمة من نتاجات عملية الأسرلة المستمرة بأشكال وعناوين مختلفة..

ولن ننسى مرور الفيلم الطريف، على انتشار رياضة «الكابويرا»، في أوساط الشباب الفلسطينيين، موضحاً أن هذا الطراز من فن القتال، وهو برازيلي أفريقي الأصل، إنما نشأ وانتشر باعتباره فن المستعبدين والفقراء.. وطريقتهم في الحلم بالحرية، وربما الهروب إليها.

«جنغا 48» الفيلم الوثائقي الطويل، للمخرجة علا طبري، المُنتج للأطفال أصلاً، في إطار «قناة الجزيرة أطفال».. ليس من المغالاة في شيء القول إنه فيلم لنا جميعاً.. الكبار قبل الصغار.. وفي الشتات قبل الداخل.. نشاهده، مرة تلو أخرى.. نتعلم منه الكثير.. نتملاه ونتأمله.. لعلنا نكتشف ذواتنا.. والتخريب الذي يصيبنا.. والعطب الذي يطالنا..

ولعلنا نتشبث بالأمل، الذي يعلنه الفيلم، على لسان أحد الفلسطينيين، عندما يقول: «يمكن ليوم الأرض أن يرجع بأشكال مختلفة».. بإيمان أن «هذا الجيل سيناضل من أجل حقوقه».. ولعلنا نعمل جميعاً من أجل هذا الأمل، بشجاعة الوقوف أمام المرآة.

الجزيرة الوثائقية في

02/08/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)