حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

شاعر السينما الروسية وصديق بوتين يتحدث الى "النهار" بعد الاحتجاجات التي أثارتها رؤيته لتاريخ بلاده

نيكيتا ميخالكوف: أسأل دائماً أين يكون الله خلال الحروب؟

هوفيك حبشيان/ كارلو في فاري

نيكيتا ميخالكوف واحد من قلائل في كوكب الفنّ السابع يستطيعون إثارة جدل بيزنطي حول أفكارهم في السينما والسياسة، وفي العلاقة الصعبة التي تربط الواحدة بالأخرى. كل جديد له، مهما يكن حجم مساهمته في الإضاءة على أسرار الوجود، سواء أكان هجاء أم رثاء أم انشودة لبلده الحبيب روسيا، يثير ردود الأفعال العنيفة، الناجمة، في كثير من الأحيان، عن كره البعض لشخصيته الحادة والمتسلطة واللئيمة ولذاته المتضخمة. اليوم، بعد 40 سنة من السينما و14 فيلماً روائياً طويلاً، كثر، خصوصاً الأوروبيين، لم يعودوا يفرّقون بين المخرج الروسي، صاحب الروائع من مثل "لحن غير مكتمل على بيانو ميكانيكي" (1976) و"العيون السود" (1987)، و"أورغا" (1991)، والرجل الذي وجد لنفسه حضناً دافئاً في السنوات الأخيرة، هو حضن الكرملين، وله فيه صديق حميم اسمه فلاديمير بوتين، يعتبره ميخالكوف "منقذ كرامة الشعب الروسي" التي داستها تجربة الشيوعية المؤلمة. هؤلاء الذين يجمعون بين الفنان والرجل في صورة واحدة محددة الأطراف، ربما هم على حقّ، لأن لا حدود فاصلة بينهما، كما أكدت لنا أفلامه الأخيرة المرتدة عن مبادئ المخرج الاولى، وزادته تأكيداً تجربة محاورته في المدينة التشيكية كارلوفي فاري، حيث جرى تكريمه.

لكن اذا عدنا سنوات الى الوراء، لرأينا ان هذا التملق للسلطة عند آل ميخالكوف ليس وليد اليوم. فالسينمائي الكبير، الذي يبلغ اليوم الخامسة والستين من العمر، ابن عائلة من المثقفين بلغوا اعلى المناصب في زمن الاتحاد السوفياتي، واستطاعوا التأقلم مع حقبات عدة مرت بها روسيا بدءاً من الستالينية الى اليلتسينية مروراً بالخروتشيفية. بالاضافة الى انه حفيد التشكيلي بيوتر كونتشالوفسكي، وإبن الشاعر سيرغي ميخالكوف، الذي وضع كلمات النشيد الوطني السوفياتي، وهو كان شاعر ما عُرف سابقاً بـ"النومونكلاتورا"، أي نخبة المثقفين في الحزب الشيوعي، وحائز بركة ستالين، حدّ أن كل الأطفال الذين ولدوا في تلك المرحلة حفظوا قصائده عن ظهر قلب. أما شقيقه البكر، فهو المخرج اندره كونتشالوفسكي، الذي عاصر كبار الشاشة السوفياتية وشارك في كتابة سيناريوات لتاركوفسكي، ثم ذهب الى الولايات المتحدة حيث أنجز أفلاماً قطعت مع تاريخه، قبل أن ينطلق في العقدين الأخيرين الى امتهان مهنة جديدة: نعي السينما! ميخالكوف، الأكثر جرأة واستفزازاً وحضوراً في المشهد السينمائي الروسي من كل معاصريه، لم يذهب بعد الى حدّ نعي السينما، لكن كثراً نعوه ونعوا السينمائي الكبير الذي كانه في مقالاتهم النقدية، غداة صدور فيلمه الجديد، "حرقتهم الشمس 2: النزوح"، وهو تتمة لملحمة أسرية على خلفية تاريخية كان باشر جزءها الأول عام 1994، ونال عنه "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي وجائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان كانّ. هذا الجزء الجديد الذي عُرض في مسابقة الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ، أثار زوبعة في أوساط المثقفين والنقاد لدى عرضه في موسكو في مناسبة الذكرى الـ65 لنهاية الحرب العالمية الثانية. وسارع نحو مئة من اعضاء اتحاد السينمائيين الروس، في مقدمهم ألكسي غيرمان وألكسندر سوخوروف، الى سحب عضويتهم من الاتحاد، بعدما وقّعوا عريضة تحت عنوان "لا نحبه"، مستائين "من السلوك التوتاليتاري" الذي يمارسه ميخالكوف عليهم، ومنددين بأجواء الوطنية الزائفة التي يفرضها وجود ميخالكوف على رأس الاتحاد. لكن اعتراضهم الأكبر كان على استغلال ميخالكوف منصبه لاستخدام 80 في المئة من الأموال العامة المخصصة لدعم السينما الروسية لإنجاز مشاريع خاصة له وللناس الذين ينتمون الى دائرته المغلقة. من هذه المشاريع "حرقتهم الشمس 2" الذي بلغت موازنته 50 مليون دولار، وبات الفيلم الأكثر تكلفة في تاريخ السينما الروسية بعد "الحرب والسلم" لسيرغي بوندارتشوك (1967).

طبعاً، أصداء هذه "الفضيحة" وصلت الى كانّ. لكن، في حين كانت الصحف الروسية تبتهج بسبب لامبالاة الجمهور الروسي حيال الفيلم، كان ميخالكوف يلجأ الى حيله الكلامية المعهودة، فراح يعلن في تصريحاته الصحافية أنه لا يبالي بالعدد بقدر ما يبالي بنوعية المشاهدين! ولم يسعف الموقف اتهام بعضهم له بأنه يمدح ستالين (يبدأ الفيلم بمشهد يغطس فيه ميخالكوف رأس ستالين في قالب حلوى) على رغم تأكيد المخرج المتكرر أنه ليس مع الطاغية الروسي ولا ضدّه. اليوم، وبعدما هدأ قليلاً هذا النقاش حول ثنائية الفنّ والسياسة عند ميخالكوف، تُفرض علينا قراءة متأنية لـ"حرقتهم الشمس"، الذي، على رغم انه ليس أفضل ما أنجزه مخرجه، الا انه يشير الى موهبة فنان يأتي دائماً بقراءات خاصة ومزعجة للتاريخ، غير مبالٍ برأي الآخرين، ورافضاً الاذعان الى الابتزاز في ما يختص العلاقات بين أوروبا وروسيا. باختصار، ميخالكوف سينمائي يأتيك دائماً من حيث لا ننتظره.

في "حرقتهم الشمس 2"، نلتقي مجدداً الجنرال كوتوف (ميخالكوف)، بعد خمسة اعوام على تركنا اياه في الجزء الاول. وقتذاك كانت أوضاع روسيا المشقلبة فصلته عن ابنته ناديا الغالية على قلبه. على مدار أكثر من ساعتين ونصف الساعة (عُرض الفيلم في مونتاجات مختلفة تتغيّر فيها المدة)، ينتقل ميخالكوف بين واقع ومتخيل، بين سماء وأرض، بين مأساة ودعابة سوداء، من شخصية الجنرال الباسل الى الابنة التي لا تريد نسيان والدها، فالامّ المحطمة المنبوذة. كلٌّ من الثلاثة يعتقد أن الآخر مات. مأساة عائلة مشتتة في بلد غارق في الدم والنار، حيث البطل السابق للثورة البولشفية يصبح مجبراً بعد تخوين نظام ستالين له على ان يتحول جندياً عادياً يجد نفسه على الجبهة ضد القوات النازية.

كما كان متوقعاً، هناك مشاهد استعراضية بديعة في انتظار المُشاهد، يريد منها ميخالكوف أن تكون رداً على "انقاذ الجندي راين" لستيفن سبيلبرغ، وهو يبدو مرتاحاً الى حدّ بعيد في بث الادرينالين في النفوس، مع العلم أن الحبكة مفتعلة جداً ولا تخدم الا رؤية سينمائي ينجرّ سريعاً الى اسلوبه التفخيمي، طامحاً الى اعادة احياء الفيلم الروسي الاستعراضي الضخم، المتضمن حركات ترافيلينغ معقدة، الذي كان رائجاً في مرحلة سابقة. مشكلة الفيلم أيضاً ان ميخالكوف يطرح نفسه فيه قاصّاً ومهرّجاً وفيلسوفاً (طلب من المشاهدين في كارلوفي فاري أن يقرأوه قراءة ميتافيزيقية)، حاصراً الحكاية برمتها في اطار قصة الحبّ بين أب وابنته والايمان الذي يجمعهما، في حين أن الآخرين يطالبونه بفيلم سياسي يتخذ فيه موقفاً واضحاً من روسيا الأزمنة الغابرة.

السؤال الذي يشغل اليوم ميخالكوف هو الله و"أين يكون خلال الحروب؟"، أكثر من انشغاله باختيار أحجام كادراته. وهو لا يخفي البتة انه ينطلق من معتقدات أرثوذكسية. الايمان، هو الكلمة التي تتكرر على لسانه، والحديث معه يأخذ منعطف الجيوسياسة في أقل من دقيقة. في مقابلتنا معه، كان الرجل صارماً في أجوبته، ايمائياً وخطابياً بارعاً لا يتوانى عن تمثيل المشهد الذي يتكلم عليه أو الضرب بقبضته على الطاولة لإفهام ما يتوخى قوله. أكثر ما لفتني فيه، انه غير مؤمن بأهمية الإستماع الى رأي الآخر كونه "يعرف ماذا يريد"! وفي حين أن التقليد الروسي العريق قام على السؤال وتكرار السؤال، يأتي هو بأجوبة خالصة تكاد تكون نهائية، متسلحاً بفكر يقيني محافظ، حول الدين والوطنية. متمرد في اماكن وخاضع في أماكن أخرى، وفي استعداد دائم لخوض كل المعارك الممكنة، في آن واحد.

·     أثار فيلمك الجديد ردود فعل عنيفة في روسيا وشُنّت عليك حملة مسعورة مصدرها جمعية السينمائيين التي تترأسها، وأيضاً من نقاد كثر. هل تعتقد ان الغضب هذا يطاول الشخص المقرّب من الكرملين، الذي تمثله، أكثر مما يطاول فنّك؟

- بالتأكيد، ولهذا السبب تحديداً أعتبر ان النقد السينمائي الروسي لم يعد له وجود. لا شيء اليوم في روسيا اسمه نقد سينمائي. يمكنك حتى دفن هذا النقد في حفرة يجب أن يكون عمقها خمسة أمتار على الأقل، ووضع نصب تذكارية على قبور النقاد. النقد لم يعد منشغلاً بالعمل الذي أنجزه السينمائي بل بشؤونه الحياتية، ذاهباً احياناً الى انتقاد عائلة المخرج ووالديه، مثلاً. النقد الروسي اليوم هو نقد رأي. يقولون: "هذا هو رأيي في الموضوع". شيء سخيف لا معنى له. النقاد يتكلمون لكن لا يقولون اي شيء. مع هذا، أعتبر هذا النقد معياراً لي. بمعنى انني، اذا نلت "منهم" الانتقادات اللازعة، فهذا يعني أنني في الاتجاه الصحّ. أما اذا كنتُ مادة للاطراءات والمدائح، فهذا يعني أنني أخطأت وينبغي لي تالياً التفكير في اعتزال السينما.

·     أمس، خلال حفل تقديم الفيلم، تكلمت على الله. قلت: "أسأل دائماً أين يكون الله خلال الحروب؟". اذا اضفنا كلامك هذا الى العدد الكبير من الرموز الدينية التي يحفل بها الفيلم، وصلنا الى واقع جديد أريدك أن تشرحه لي: هل صحيح أن روسيا تتجه الى التدين؟

- سأشرح لك: في القرن العشرين، لا أحد تعرض الى الاذلال مثلما تعرضت الكنيسة: دُمّرت دور العبادة الارثوذكسية وأُحرق رجال دين وهم أحياء. اليوم أسأل لماذا حصل هذا كله؟ لأي سبب لم تكن الثورة البولشفية مهتمة الا بحرق الكنائس وتهميش الديانة التي ننتمي اليها. الجواب يكمن في أن هذا الايمان الارثوذكسي كان يحتضن الأمة الروسية بأكملها. منذ لحظة تدمير هذا الايمان، المتجذر في الكائن الروسي، بات كل شيء ممكناً. بات ممكناً قتل طفل باسم تلك الثورة. لست من دعاة الجمعيات السرية أو المغلقة. لا أحاول أن أجد تفسيراً لأسئلتي الكبرى في هذه الوقائع الأليمة التي مرّت بها روسيا العظمى. لكني أؤمن بأن مسألة روسيا مسألة "مختلفة" تماماً، لكونها لا تشبه أي مسألة أخرى؛ الناس في روسيا لا يحبون القوانين ولا يذعنون لها. هكذا كان الروس على مرّ تاريخهم. القوانين الحاكمة في روسيا هي المبادئ الأخلاقية التي تأسس عليها الايمان. في الكنيسة الكلّ متساوٍ: الأمبرطور والطالب الجامعي. بالنسبة اليَّ، المساواة غير ممكنة. في المقابل، الحقوق المتساوية ممكنة. المساواة غير ممكنة انطلاقاً من فكرة ان الناس طبائعهم مختلفة: شخص يدرس ويعمل ويدير شؤون حياته، وآخر يلهو ولا يجدي نفعاً. اعلانهما متساويين يعني تحويلهما عدوين. روسيا هي البلد التي حولت التطور ثورة (Russia turned evolution into revolution). وأدى هذا الى النتائج التي نعرفها جميعاً. اليوم، لا أرى حلاً آخر لروسيا الا في اعادة بناء ما تهدم من مبادئ أخلاقية. في بلد كفرنسا، القانون هو بمثابة الله. في روسيا، الله هو القانون. هذه هبتنا الوطنية (...). نحن فقدنا أشياء كثيرة في روسيا على مرّ السنين، وأنا أحاول أن أجد أجوبة لأسئلتي في هذه الأشياء المفقودة، في بلد ذي تركيبة معقدة، القوانين فيه بعدد سكانه. لكن، هناك أسئلة لا يمكنك ايجاد جواب منطقي لها. لماذا يُقتل فلان أثناء الحرب ويُنقذ آخر. هل لأن للأمر علاقة بأن الواحد خيّر والثاني شرير؟...

·     لكن، هل ثمة إمكان اليوم في روسيا لطرح الماضي على هذا النحو، لا سيما أن ثمة مخرجين آخرين مثل سوخوروف ولونغين، وأخيراً الاوكراني سيرغي لوزنيتسا، يأتون برؤية مختلفة تماماً لرؤيتك؟

- لا شأن لي بما يفعلونه. الوسط الغاطس في الغلامور في روسيا استاء مني لأنني أتكلم على أشياء لا يريدون تذكرها. هذا شيء خطر لأنه يجعلنا نفقد مناعتنا الانسانية. كان مهماً جداً بالنسبة اليَّ، أن ألمس ردّ فعل الجمهور الروسي حيال فيلمي. النقد السلبي لم ينل من عزيمتي. أحبّ أن أعرف في أي حال يكون الناس بعد مشاهدة هذا الفيلم. ذات يوم رأيت فتاة في السابعة عشرة كانت شاهدت الفيلم، ولدى خروجها ذهبت لشراء البوظة. أدخلت يدها الى محفظتها وأخرجت منها المال وراحت تأكل الايس كريم. كنت اتساءل: هل تكون قادرة على أكل تلك البوظة بعد ما شاهدته؟ هذا تفصيل، ربما يقول الكثير عن أحوال الروس اليوم، وهو تفصيل يبدو صغيراً وتافهاً في غمرة انشغالاتنا بقضايا كبرى. لدينا مواد للسينما كثيرة في روسيا. خذ مثلاً معاناة رجل يحمل أمعاءه في حقيبة ويمشي 4 كيلومترات، وكل ما يحلم به أثناء عبوره أرضاً قاحلة هو أن يكون في مقدوره الحصول على حبة ليمون ليأكلها. أما حلمه الأكبر فهو أن يأخذ أمعاءه الى المنزل. اذا نظرنا الى الحياة من هذه الزاوية، أصبح استبدال سيارة "بنتلي" زهرية بواحدة أخرى حمراء اللون أمراً جد ثانوي. لكن، اليوم، وللأسف، مجتمعنا الروسي، ولا سيما ما يسمّى النخبة، غير مهتم بسوى شراء سيارات "بنتلي". لذا، تراهم غير مهتمين بما اريهم. أما أنا فمصرّ على ان يشاهدوه. الآن، لو كرر التاريخ نفسه، وحصل ما حصل في حزيران 1941، لا أعرف كم يوماً نصمد قبل أن نستسلم. ربما ابدو قاسياً في حكمي على بلدي، لكن هناك سبب جوهري لذلك، هو حبي له.

هذا البلد أعرفه طولاً وعرضاً، وليس على طريقة بعض القادة الروس الذين يعتقدون انهم يعرفونه فقط لأنهم يذهبون من موسكو الى سان بطرسبرغ.

·     تتكلم على الروح الروسية التي جسدها بوشكين خير تجسيد، لكنك تعزلها عن المستجدات التي طرأت منذ سقوط الستار الحديد، وتختصرها في صراع مع العالم، لا سيما مع أوروبا التي لا تعترف بقيمها، مع أن نحواً 20 في المئة من روسيا يقع في الجانب الأوروبي...

ــ اعادة تشييد البنية الايمانية والروحية لروسيا تتطلب الكثير من الوقت. الالحاد، الذي انتصرت له الشيوعية، أخذ بالشعب الروسي الى العدم. من أجل أن نصل الى هدفنا، يجب أن نلمس مجدداً تلك الروح الروسية. المجازفة هي جزء من هذا المشروع. التغيير ليس شأنا صغيراً. انه مشروع وهمي لمغازلة الشعوب. عندما يُنتخب رئيس جديد للولايات المتحدة، كل ما يتغير هو صورة زوجة الرئيس على مكتبه. علماً ان هناك فروقاً شاسعة بين الولايات المتحدة وروسيا. أميركا بلد ينهض على الفكر التجاري. بلد يسلّع كل شيء. أما روسيا فأمة يصعب تحديدها وتوحيدها. لهذا، لها نظمها الخاصة، وكل تغيير في هذه النظم، يعود عليها بالويلات والحروب، لأن السلام فيها يأتي من هذا الاستقرار. من الفلسفة الى الادب مروراً بالموسيقى، وكل ما صنع مجد هذه الأمة، متأتٍّ من هذين الامتداد والعمق التاريخيين، ولولاهما لا اعتقد انه كان سيأتي خلاقون كرخمانينوف وتشيخوف.

ما يغضبني اليوم هو هذا التركيز المجاني على ما يسمونه "السلطة الروسية الأوتوكراتية ذات النزعة الى الديكتاتورية". فالآخرون لا يفهمون ان غياب السلطة الصارمة في بلادنا يعني العودة الى الدم. السلطة المستسهلة لا تنفع عندنا. نحن نتكلم على بلد هو ايضاً قارة بأكملها، حيث لا وجود للمسؤولية الفردية بل الجماعية فقط. هذا شيء فظيع بالنسبة الى الغرب، أليس كذلك؟ الناس الذين ألتقيهم خارج روسيا يسألونني دائماً "هل من ديموقراطية في روسيا أم لا؟". هذا سؤال لا معنى له. الديموقراطية ليست سترة ينزعها الآخر وتلبسها أنت. حتى لو كانت سترة، فعليك في الاقل اختيار السترة التي تناسب مقاسك. لا يستطيع اي بلد ان يلبس تلك السترة التي يسمّونها ديموقراطية.

العالم أجمع مهموم بسؤال واحد: كيف نعيش؟ أما الروس فيؤرقهم الآتي: لماذا نعيش؟ انطلاقاً من هذا، كيف تريد الا يكون هناك طلاق ايديولوجي كامل بيننا وبين الغرب. في الحقيقة، بعد تفكير، نحن لم نعد في حاجة الى هذا الغرب الذي يحتقرنا. الأوروبيون شعوب معظمها من العجزة، يجلسون بمؤخراتهم السمينة على مقاعد قديمة ويريدوننا أن نستمع الى نصائحهم الباهتة ويعتقدون انه يمكنهم استعادة هيبتهم وفرضها على الآخرين. يريدون أن يقرروا نيابة عن الشعب الروسي ما يناسبنا وما لا يناسبنا. لديهم مطبخ رائع طبعاً. لكن، لدينا اكتفاء ذاتي في كل شيء تقريباً. أوروبا عبارة عن متحف، فلتبقَ كذلك... مركز الثقل اليوم في أمكنة أخرى. في الصين مثلاً، وربما غداً في افريقيا. هؤلاء على الأقل لا يريدون فرض قيمهم علينا. الغرب يريدنا أن نتحول بلداً آخر، أي واحداً من تلك البلدان التي لا شأن لنا فيها. هذا عبث وغباء! الأوروبيون يكلموننا على الديموقراطية، وقد فاتهم أن الديموقراطية يسهل تطبيقها عندما يكون بلدك كله على التوقيت الزمني نفسه. أما نحن، فعندما تدق ساعة الغداء في موسكو، يجلس سكان كامتشاتكا [شبه جزيرة بركانية في الشرق الاقصى لروسيا] الى مائدة العشاء. روسيا ليست بلداً فحسب، انها أمة!

أما أولئك الذين ينتقدون انعدام حرية التعبير في روسيا، فأقول لهم: طالعوا ما يُكتَب كل يوم في الصحافة الروسية، وخصوصاً ما يُكتب عني. هل أحد منع الآخر من كتابة ما يشاء؟ في مقابل ذلك، كل حرية لا تساهم في بناء ثقافة للبلد فهي لا تعني شيئاً.

·     لماذا تعتقد ان ستالين لا يزال يملك شعبية قوية في روسيا علماً انك لا تعرف موقفك الصريح منه. هنا أيضاً نجد أنفسنا أمام تفاوت فظيع بين نظرتك الى الأشياء ونظرة زملائك والجمهور الى التاريخ الروسي...

- من السذاجة اختصار التجربة الروسية بالمعسكرات والقتل والرعب. من اللؤم أن تُعكس صورة أمة بأكملها في هذه الأشياء. ترى، ماذا يجد الشعب الروسي في ستالين؟ أعتقد انه يرى فيه الشخصية المواظبة والنظامية، والاحترام. لكن ما لا يفهمونه، أن ستالين حصل على هذا الاحترام من خلال الرعب. الشعب الروسي اليوم لا يهتم الا بالنتائج ولا يريد أن يعرف كيف تُصنع النتائج. سأروي لك واقعة حصلت خلال التصوير؛ شيء فاجأني كثيراً: الممثل الذي يلعب دور ستالين في الفيلم كان يجري عملية التبرج ويتحضر للتصوير. وكانت على مقربة من مكان التصوير مجموعة من الناس أعمارهم ما بين الـ25 والـ55 عاماً. كانوا يحتسون الخمر ويدخنون السيكارة ويتحدثون عن كرة القدم. كانوا نحو 40 شخصاً. عندما خرج ستالين الممثل من غرفة التبرج، بالزي الذي كان يلبسه دائماً، سارع الجميع الى الوقوف احتراماً له! هؤلاء الناس لا خوف عندهم من ستالين، معظمهم في العشرينات من أعمارهم. أشكر حظي انني كنت واقفاً في تلك اللحظة. رأيت هذا الذي حصل بأم عينيّ. شيء ما جعلهم يقفون. لا أعرف ما هو هذا الشيء. انه جزء من الطباع الوطنية. يصعب عليَّ ربط هذا الوقوف بحبّ ستالين أو بالرعب الذي كان يثيره عند الناس. هؤلاء ناس معاصرون ولدوا على الأقل بعد عقدين من وفاة ستالين. لكن السؤال أعمق من هذا. الناس في روسيا اليوم في حاجة الى سلطة احترام جديدة تفرض النظام وتؤمن الاستقرار. التحدي الأكبر أمام الحكومة هو تأمين هذا كله من دون اللجوء الى أساليب ستالين.

·         الفيلم مفتوح. هناك جزء ثالث على الطريق كما تشير الى ذلك في نهاية الفيلم. هل ستأخذ في الاعتبار الانتقادات؟

- اطلاقاً، لأنني أعلم تحديداً ما أريد. الردود السلبية أثبتت أنني على حقّ. أتجاهل النقد تماماً للأسباب التي ذكرتها لك. اذا اعجبت بسترة فلن أغيّرها لمجرد ان أحدهم قال لي إنها لا تعجبه. لي خطتي، وأنا جدّ متحمس لأرى كيف سيتعامل النقاد مع الجزء الثالث. نصيحتي لهم كانت: أحفظوا بعضاً من هرائكم للجزء الثالث.

المؤرخون السوفيات لم يكتبوا التاريخ كما يجب ان يُكتب، فأظهروا مثلاً ان الجنود الألمان كانوا أغبياء ومجموعة من الحثالة. الحقيقة أن "الفرماخت" كان جيشاً عظيماً. طبعاً، بعد هذا الكلام، أتوقع أن يتهمني الصحافيون بأنني فاشي، لكن هذا لن يمنعني من أن أكرر وأقول انه كان جيشاً جباراً. ثمة دول لم تقاوم أكثر من خمسة أيام. كل شيء في هذا الجيش كان لافتاً حتى لباس جنوده الذي صممه هوغو بوس. بعض المؤرخين يطرحون نظرية أن خمسين في المئة من عظمة هذا الجيش يأتي من اللباس (...).

·     إحدى التيمات الأساسية التي عملت عليها طويلاً هي الحبّ. يتجلى هذا في المشهد الأخير حيث تتجسد قدرة الإنسان على الحبّ، لكن قدرته على التدمير تبقى الأقوى دائماً. ما تعليقك؟

- جندي في التاسعة عشرة جاء من إحدى القرى الروسية، ساذج ويفتقر الى الشجاعة، على شفير الموت. شأنه شأن الشاب الذي حمل امعاءه، لا يطمح في لحظاته الأخيرة الا الى رؤية نهدَي الشابة التي أمامه. طبعاً، لا أعرف لماذا. اذ لم أر قطّ ما كان يريد رؤيته. هذا المشهد يتخطى المفهوم الروسي للخراب والحبّ: انها استعارة.

·         دائماً تعمل على الاستعارة مع اليقين بأهمية التفاصيل التي تخرجك أحياناً من السياق العام...

- من دونهما لا وجود لي كفنان. ليس في وسعي ان ارى الأمور الا على هذا النحو. أما بالنسبة الى سؤال كيف أجدها، فأعتقد أن لا كتاب أستطيع أن أستلهم منه هذه التفاصيل. إما تأتي وإما لا تأتي. اتساءل دائماً أين هي الحدود بين الأشياء. من سخرية القدر أن وفاة شخص هي تراجيديا، أما وفاة الملايين فعبارة عن احصاءات. هذه وجهة نظر ترعبني. في ستالينغراد لم يكن يوجد الخشب. كان العسكر يبنون الخنادق بالجثث المثلجة جراء بلوغ درجات الحرارة 40 تحت الصفر. اين الحدود؟ هذا ما أردت أن أعرفه دائماً. أين ينتهي الإنسان الذي خلقه الله، وأين يبدأ ذلك الآخر الذي يريد حمايتك من النار. الحروب تُزيل الإنسانية التي في داخلنا.

·         تقول ان التكنولوجيا اليوم تقود العالم وهذا شيء خطير...

- بفضل الحضور الطاغي للانترنت، أشياء عظيمة صارت تبدو تافهة. عالمنا اليوم أشبه بالسلطة. اشبه بما قاله وودي آلن ذات يوم: "اخذت درساً سريعاً في القراءة واستطعت ان اطالع "الحرب والسلم" بعشرين دقيقة: انه كتاب عن روسيا". (ضحك). بفضل هذه التكنولوجيا المخيفة، ترى طياراً في السلاح الجوي، أميركياً أو ألمانياً، يحتسي القهوة الساخنة، يكبس بضعة أزرار على الكومبيوتر الذي أمامه، يطلق بعض القذائف بدم بارد، ثم يعود الى احتساء القهوة وكأن شيئاً لم يكن. هذا الطيار لا يعرف حتى ماذا يوجد في الأماكن التي يقصفها. التجربة الانسانية دائماً معقدة لأنها تتضمن وجهتي نظر حول واقعة واحدة يتضارب الرأي في شأنها. فهناك الجندي الطيار الذي يقصف الناس، ويريد فيلماً له من هذا المنظار، وهناك، في المقابل، الناس الذين يقاومون ويموتون، وهؤلاء أيضاً يحقّ لهم أن يكونوا في فيلم. اذاً، نحن أمام فيلمين مختلفين. لكن، فقط مَن هم في الأسفل يعرفون معنى الحرب.

·         لا شعب في مقدوره فهم ما تعني الحرب اذا لم يحارب عدواً غريباً على أرضه...

- الأمر أشبه بأن ينام غريب في سريرك. في حالة مثل هذه، أنت لا تحارب جيشاً فحسب، بل السماء والأطفال والمواشي. هذه حرب تختلف تماماً عن حرب الأميركيين في أفغانستان أو العراق. في خمسينات القرن الماضي وستيناته، كان السوفيات يملكون سلوكاً لامبالياً في حياتهم. كانت الزبدة غير موجودة. لم يكن عندي منزل. آخرون كانوا يُطرَدون من عملهم. هذا كله لم نكن ننظر اليه كحالة مأسوية. كنا نقول: "هذا أفضل من الحرب". الجيل الذي انتمي اليه كانت حياته مقسومة بين ما قبل الحرب وما بعدها. الجميع، سواء أكانوا في السلطة أم خارجها، كانت لهم نقطة مشتركة واحدة هي الحرب. هذا شيء كان يوحّد أمتنا. ولو لم تنشب الحرب لكانت سقطت الستالينية قبل تاريخ سقوطها.

·         هل عثرت على المال الذي انت في حاجه اليه من أجل تصوير الجزء الثالث من الفيلم؟

- تمضي النصف الأول من حياتك لتجني المال الذي يتيح لك صناعة اسمك. لذا في النصف الثاني من حياتك، على هذا الاسم الذي صنعته أن يجلب لك المال.

 (•) العنوان مأخوذ من كلمة ميخالكوف أثناء تقديم فيلمه في كارلوفي فاري وليس من الحوار نفسه.

جمهورية تشيكيا ـــ من هوفيك حبشيان     

(hauvick.habechian@annahar.com.lb)

النهار اللبنانية في

22/07/2010

أندره كونتشالوفسكي

·         ما رأيك بسينما شقيقك نيكيتا ميخالكوف؟

- انه لسينمائي كبير. كفيلسوف، لا اوافقه الرأي. لا اشاركه نظرته الرومنطيقية الى روسيا، لكوني أكثر تهكماً على أوضاع بلادي وتاريخها.

النهار اللبنانية في

19/11/2009

ألكسي بوبوغريبسكي

·         هل كنت حراً في انجاز ما تريده؟

- هذا العام تغير كل شيء. انتزعوا صندوق الدعم من يد الوزارة، واعطي الى سبع شركات خاصة كي تنجز أفلاماً "وطنية" تجارية الهوى. مثلاً، أفلام عن الحرب العالمية الثانية من وجهة نظر روسية. ولرجل الذي خلف هذه المبادرة ليس الا نيكيتا ميخالكوف وهو أقنع بوتين بفكرته. هناك جدل واسع في روسيا اليوم حول هذا الموضوع. لا نعرف الى ما تؤول حال سينمانا في ظل هذا القرار الجديد. (...) سنكتب رسالة جماعية الى بوتين لتسجيل موقف مبدئي من هذا القرار.

النهار اللبنانية في

20/03/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)