حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

تجربة مختلفة لبيدرو ألمودوفار في "عناقات متكسّرة":

الفيلم مسرح الحكاية والسينما موطن الأحاسيس

ريما المسمار

للمرة الأولى، يعجز فيلم لبيدرو ألمودوفار عن تطويق مشاهده بذلك السّحر الذي لا يُفسّر من دون أن يفقد تماماً قدرته على إدهاشه. ولكن السينمائي الاسباني بدأ منذ عمله السابق "عودة" Volver (2007) الإبتعاد من منمنمات عالمه السينمائي الداخلي الحميم والخاص الى عالم خارجي، يحيط بشخصياته وحكاياتهم. وفي "عناقات متكسّرة" Broken Embraces (2009) الذي بدأت عروضه في الصالات المحلية، يكاد الفيلم يكون حجة لفيلم آخر، يولد من رحم الأول او من بذرته، ولكنّه يتّخذ مساراً منفصلاً كأنه انعكاس للأول او نسخة منه (كما هي حال الفيلم بنسختيه السالبة والموجبة) او شبحه الأكثر حضوراً والأبلغ تأثيراً. وفي تلك معادلة لصيقة بالشخصية الاساسية في الفيلم، المخرج السينمائي "ماتيو" (لويس أومار) الذي يقرر، على أثر حادث تراجيدي، أن يكمل حياته باسم مستعار، "هاري كاين"، وأن يتحوّل كاتب سيناريوات تجارية. فهل كان المودوفار يلعب لعبة مشابهة إنما معكوسة في "عناقات متكسّرة"؟ يقدم فيلماً جماهيرياً عادياً لعشّاقه بينما يخوض بموازاته، في الظلام، تجربة سينمائية تعبّر عن شغفه؟

لعلّه من غير المنصف القول ان "عناقات متكسّرة"، بنسخته الموجبة النهائية، فيلم عادي. ولكن المؤكد انه يفتقد الى السحر والتركيب واللمسة الخاصة التي ميّزت أعمال المودوفار السابقة لاسيما "تحدّث إليها" Talk to her (2002) و"تعليم سيء" Bad Education (2004). التفرّد يحقّقه من خارج عالم الفيلم، من خلال عالم السينما نفسه. كأن المخرج، بلفتة حادة خارقة الذكاء، يقول ان هناك "فيلم" وهناك "سينما" وأن الفارق بينهما شاسع. هكذا يصير الفيلم مطية السينما، تستخدمه، تستغله، تعلي من شأنه لغاياتها الخاصة أو تهمله فيسقط في كليشيهاته. ولكن ثمة فيلم آخر هو ذاك الذي يتشكل من مزيج العالمين: الفيلم (الحكاية والسرد) والسينما (الخط الموازي). وهنا ربّما يصبح السؤال مشروعاً حول مدى نجاح التجربة، أي صهر العالمين في بوتقة عمل سينمائي كامل. الأمر شبيه الى حد ما بانفصال الوسيلة عن الغاية، من مثل "استغلال" الصورة او السينما لخدمة غاية اجتماعية او سياسية او انسانية. في هذه الحالة، ينتفي الحديث عن السينما والفن. في حالة ألمودوفار، المسألة مختلفة قليلاً، إذ ان الغاية والوسيلة تصبان في السينما مع فوارق اللغة واللمسة والأسلوب والبعد. ولكن الشبه بين النوعين، شريط ألمودوفار وأفلام القضايا أياً كانت، هي المقارنة التي نجد أنفسنا مدفوعين إليها، بين ما هو على المحك وما هو خفي. وتلك المقارنة هي وليدة "فجوة" ما او، بلغة السينما، ثمرة خلل في الـ"سينك" (sync) أو "المزامنة" بين بناءين او بنيتين او عالمين او فيلمين، كما هي الحال مع شريط ألمودوفار. إنها في المحصلة مسألة تواؤم وانسجام بين "القول" من جهة وبين ما يُراد من ذلك القول من جهة ثانية.

الفيلم

تنطلق الحكاية من زمن حاضر غير محدد، تسبقها في خلفية المقدمة، صور صامتة مولفة لشخصيات الفيلم في وضعية تبدو غير سينمائية، سننساها الى حين بداية تشكّل عالم الفيلم الآخر، أي السينما. "هاري كاين" كاتب سيناريوات أعمى، يعيش في مدريد، يخبرنا منذ اللقطة الأولى ان اسمه مستعار وانه كان في الماضي مخرج أفلام. ولكن بوحه هذا لن يكون مكاشفة شفافة بل مدخل الى الغموض المتعمّد الذي تدلّل عليه كذبته غير المواربة، بأنه اختار التنكّر تلبية لرغبته الدائمة في أن يكون شخصاً آخر. في الظلمة، يحيا "هاري"، يكتب سيناريوات رائجة لأفلام تجارية، تسوّقها وكيلة أعماله ومديرة الإنتاج "جوديت" (بلانكا بورتيو)، ويساعده في كتابتها ابن الأخيرة "دييغو" (تمار نوفاس). يعترض هذا العالم "المفبرك" والمشيّد على كذبة يتواطأ عليها الثلاثة، خبر في صحيفة عن وفاة قطب الأعمال والتجارة "إرنستو مارتل" (خوسيه لويس غوميز)، متبوعاً بزيارة من شاب غامض، يطلق على نفسه اسم "راي أكس" (روبن اوشانديانو)، ويقدم نفسه الى "هاري" مخرجاً يود كتابة سيناريو فيلمه الروائي الاول بمساعدته. تستدعي الحادثتان، خبر الصحيفة وزيارة المخرج، ذكريات قديمة، تعود الى العام 1994. في الذكرى الاولى المستعادة، نتعرّف بـ"إرنستو" رجل الأعمال الستيني الثري وسكرتيرته "لينا" (بينيلوبي كروز). ومن خلال سلسلة مشاهد، نرى كيف ان الفتاة الفقيرة التي عملت في الماضي "فتاة على الطلب"، تستسلم لـ"إرنستو" بعيد مرض والدها وتكفل مديرها بمعالجته، ليس من موقع إنساني بحت، وانما استغلالاً للحظة كان ينتظرها لعلمه بماضي "لينا". الذكرى الثانية ينبشها "دييغو" بتوجيهات "هاري" من خلال صورة فوتوغرافية تعود الى العام 1994 أيضاً، يظهر فيها "راي أكس" بكاميرا الفيديو في موقع تصوير فيلم لـ"هاري" حين كان معروفاً باسم "ماتيو" المخرج. يدب القلق في "جوديت" عندما تكتشف هوية "راي أكس" الحقيقية (الإبن المثلي لإرنستو) فتطالبه بالابتعاد عن "هاري" وتترك الأخير في عهدة ابنها "دييغو" خلال سفرها في رحلة عمل خارج مدريد. هكذا، يجد الماضي الذي حرّكه نبأ الوفاة وظهور "راي أكس" غير المتوقّع طريقه الى البوح على شكل حكاية يرويها "هاري" لـ"دييغو". تعود الأحداث مجدداً الى العام 1994 لتكشف عن حكاية حب وغيرة قاتلة وهوس بين الثلاثي "ماتيو" و"لينا" و"إرنستو"، تدور أحداثها في كواليس تصوير فيلم "فتيات وحقائب" الذي يخرجه ماتيو، تلعب بطولته لينا وينتجه إرنستو إرضاءً لعشيقته التي تبحث هي الأخرى من خلال السينما عن هوية جديدة تنسيها الماضي المخزي والحاضر الأليم. ولكن اشتعال فتيل الحب بين "ماتيو" و"لينا" سيقلب المعادلة ليختنق الحب بحقد العشيق الغيّور وصاحب السلطة على الفيلم وعلى الحبيبين.

السينما

قبل القصة، تولد السينما في فيلم ألمودوفار كما لو انه يصوّب التاريخ القائل بولادة القصة/الأحداث قبل السينما/الفن (انطلاقاً من الحقيقة الموثّقة حول خروج السينما من رحم الواقع كما تخبرنا تجربة أبوي السينما الأخوين لوميير). خلال المقدّمة (تقديم اسماء العاملين في الفيلم) التي هي من خارج عالم الحكاية او الفيلم، يمرّر ألمودوفار صوراً غريبة البنية، تبدو هي الأخرى من عالم آخر خاص بها. اللقطات مسروقة لرجل وامرأة أمام الكاميرا، بينما أشخاص مجهولون يروحون ويجيئون في إطار الصورة. كلاهما صامت، هي بمواجهة الكاميرا بينما هو يدير ظهره لها. يغادران الكادر ليحل مكانهما بينيلوبي كروز ولويس أومار. لاحقاً في الفيلم، نكتشف ان تلك اللقطات مأخوذة من كواليس تصوير فيلم "ماتيو" "فتيات وحقائب" او من شريط الـ"مايكينغ-أوف" (Making-of) وان الرجل والمرأة اللذين ظهرا في البداية ليسا إلا بديلي كروز والمخرج. اللافت في هذه المقدمة انها تقوم على دلالات عدة، متناقضة أحياناً. "ماتيو" و"لينا" يبدوان غريبين تماماً عن بعضهما البعض بينما هما في الواقع غير ذلك. حزن "لينا" حالة ذهنية ضرورية للمشهد الذي ستصوره ولكنه أيضاً مفتاح لمخزون الألم الحقيقي داخلها. تسريحة شعرها انبعاث لهيئة أودري هيبورن. الصور مجتمعة إعلان حضور السينما ليس كحرفة وفن فقط انما ايضاً كمسرح لأحداث الفيلم. كما انها في الوقت عينه إبراز لبعد آخر للفيلم، البعد الغامض، "الشبحي" إذا جاز التعبير. في ختام تلك المقدمة، يقف المصور أمام عدسة كاميرا الكواليس، حاجباً الرؤية برأسه بما يجعل الصورة تتلاشى الى سواد.

على هذا النحو، يؤسس ألمودوفار للعالم السينمائي الموازي لعالم الفيلم او الأحداث الحكائية. ولمرة أولى وأخيرة، سيفعل ذلك بشكل منفصل عن سياق الحكاية. ذلك ان محاولاته التالية ستنبع من الأحداث نفسها، حيث سيحيل تفصيل في المشهد الروائي الى تفصيل سينمائي.

يهرب العاشقان "ماتيو" و"لينا" من قبضة "إرنستو" ويختبئان في "لانزاروت" الساحلية. في الكوخ البحري، يشاهدان التلفزيون متعانقين بينما تمر على شاشته مشاهد من فيلم روبرتو روسيلليني "رحلة الى إيطاليا" Voyage to Italy. يختار المودوفار المشهد الذي يجمع بطلي روسيلليني إنغريد بيرغمن وجورج ساندرز أمام حفريات أثرية. يشهد الزوجان الأميركيان على عثور فريق المنقبين على هيكلي امرأة ورجل متعانقين. يخمّن عالم الآثار انهما زوجان، خلّدتهما حمم البركان اثناء نومهما. يصعق المشهد بيرغمن فتبتعد خطوتين، تقارن في دواخلها بين حب مخلد منذ آلاف السنين وعلاقتها الزوجية المتداعية. تنتابها موجة بكاء هي اشبه برثاء على حالها. "لينا" أمام الشاشة تتفاعل بشكل مختلف. بعكس بيرغمن، حبها لماتيو كبير وجارف. تدفن رأسها في صدره متأثرة كأنها تتمنى أن تكون نهايتها، مثل ذلك الهيكل العظمي، بين يدي حبيبها. يستشعر "ماتيو" رغبة "لينا، فيقفز من مكانها الى حيث الكاميرا الفوتوغرافية، يضبطها على النظام الأوتوماتيكي، ويعود الى الكنبة معانقاً "لينا" بينما تخلّد الكاميرا عناقهما بصورة. هل الصورة قادرة على ذلك؟ يحملنا ألودوفار على الإيمان بقدراتها انما فقط لبعض الوقت. ذلك ان أحداً سيمزّق الصورة لاحقاً بما يمنح الفيلم عنوانه "عناقات متكسّرة"، مفتتاً اللحظة المخلّدة، ومعلناً هشاشة الصورة، من دون الإنتقاص من تأثيرها.

في مكانٍ آخر، تكتسب الصورة صلابة. في "لانزاروت" أيضاً، يوقف "ماتيو" سيارته مأخوذاً بجمال المنظر: البحر بزرقته والشاطئ برماله البنية والجبال الرمادية المحيطة بالمكان تضفي عليه الرهبة والعزلة. يلتقط صورة فوتوغرافية ويمضيان. عندما يظهّر الصورة، يكتشف وجود شخصين متعانقين عند الشاطئ لم يكن قد انتبه اليهما في وقتها. المتعانقان هنا دليل على قدرة الصورة على الرؤية ابعد من العين واختزال لحال "ماتيو" و"لينا" اللاجئين والوحيدين في لجة الجزيرة البركانية، يذوب أحدهما في الآخر ويمتزجان بالطبيعة تماماً كالعاشقين في الصورة. وثمة دلالة ابعد للصورة، سينمائية خالصة، في ما تبعثه من ذكرى فيلم مايكلأنجيلو أنتونيوني Blow Up. فكما تكشف الصورة الفوتوغرافية في الاخير عن سر (جريمة قتل)، كذلك تنطوي عند المودوفار على لغز سينتهي ايضاً بجريمة قتل.

ثم يستعين المخرج بمشهد سينمائي ايقوني عندما يجعل "لينا" تسقط على الدرج (بعد أن يدفعها إرنستو غيظاً وانتقاماً) في لقطة واحدة واسعة تستجمع ما قدّمته السينما من مشاهد مشابهة في تاريخها (أيزنشتاين في "المدرّعة بوتمبكن" وبراين دو بالما في The Untouchables كمثالين بارزين) من دون أن تفقد بعدها الدرامي والمفصلي في الفيلم كلحظة تعلن عن انقلاب الفيلم الى سوداوية مرة وتكشف الشر الكامن في النفس البشرية.

السينما في "عناقات متكسّرة" حاضرة ليس فقط من خلال الإيحاء وانما ايضاً كعنصر محسوس مثل "التوليف" (المونتاج) بمستوياته المختلفة. فهناك التوليف الذي يمارسه المخرج على الحكاية من خلال تأرجحها بين ماضٍ وحاضر. وهناك "فكرة" المونتاج وعلاقتها العضوية بالفيلم والمخرج. فحين يقرر "إرنستو" الإنتقام من "ماتيو"، يفسد فيلمه عن طريق توليف لقطاته بدون انسجام. وفي مشهد آخر مباشر، يصور ألمودوفار ماكينة التوليف الكلاسيكية "مافيولا" على الرغم من انه يصور بواسطة الكاميرا الرقمية. انها لحظة نوستاليجا عابرة او تحية الى أدواته السينمائية المحسوسة في عصر صارت علاقة المخرج بالصورة افتراضية في غياب الخام وشريط الصوت المغناطيسي.

تجتمع كل تلك العناصر في خطٍّ موازٍ للفيلم، مشيدة عالماً في السينما وعنها قوامه فكرة "النسخ" او الشيء "البديل" أو "المحاذي". الاشارات هنا واضحة من "لينا" التي تملك اسمين اي حياتين الى "ماتيو/هاري" مروراً بالابن راي أكس الذي يستنسخ اسلوب والده على الرغم من كرهه الشديد له. ثم هناك الفيلم نفسه والـmaking of والتشابه بين الفيلم داخل الفيلم، اي "فتيات وحقائب"، وبين فيلم سابق لألمودوفار "نساء على حافة الإنهيار العصبي" (1988). ولكن لحظة الذروة في لعبة المرايا تلك تتلخص في مشهد ترك "لينا" لـ"إرنستو". بينما يشاهد الأخير فيلم الكواليس الصامت الذي كلف ابنه تصويره بهدف مراقبة "لينا" عن كثب، تهاجم الأخيرة الابن وكاميراه ثم تقف في مواجهة العدسة كأنها توجه رسالة. في تلك اللحظة، تدخل "لينا" الغرفة من الخلف، وتقوم بدبلجة صوتها بشكل حي وهي تعترف لإرنستو، على الشاشة بداية، بحبها لماتيو وبرغبتها تركه الى الأبد. انه بمثابة الهجر المزدوج، على الشاشة وفي الواقع.

الخلاصة

في أفلام ألمودوفار السابقة ايضاً لعبت السينما دوراً محورياً. وفي حين تبدو محاولاته تلك ظاهرياً تحية الى افلام او مخرجين او فن يعشقه، إلا انها في العمق أبعد من ذلك. انها تطبيق لإيمانه بقدرة السينما على إرشادنا كبشر كأنه يقول لنا ان السينما سابقة للإنسان وأحاسيسها سابقة لعواطفه. هكذا حين نسترجع اللحظات السينمائية في أفلامه، ندرك انه أراد من خلالها أن ينهل من الأصل ليبث إحساساً ما أو فكرة. التقارب في عرف ألمودوفار أبسط وأبلغ تاثيراُ من الشرح. في "نساء على حافة الإنهيار العصبي"، تقوم بطلته كارمن ماورا بدبلجة حوارات فيلم "جوني غيتار" لنيكولاس راي مع حبيبها "إيفان". بعد إنصالهما، يسجل كل منهما جمله منفرداً. في المشهد الذي تصل فيه كارمن لتسجيل حوارها بعد انتهاء علاقتهما، يختار المودوفار الحوار التالي: "اكذبي علي وقولي لي انك مازلت تحبينني كما أحبك". تستمع كارمن الى الجملة مسجّلة بصوت حبيبها السابق. في تلك اللحظة، تدرك انه لم يعد في إمكانها سماع كلمات حب منه الا من خلال التسجيل. إنها تلك اللحظة السينمائية التي تساعد على بلورة حالة كارمن أكثر من اي شرح او كلام. بتواضع، يستعين المخرج بكلمات سينمائي آخر سبقه الى الإحاطة بتلك المشاعر لايصال أحاسيس بطلته، معلناً التواصل العاطفي الرابط الاقوى بالسينما، قبل الفهم والتحليل أو حتى بدونهما.

في "عناقات متكسّرة"، ذهب الى تخوم متطرّفة في جعل السينما اللغة والرابط او القاموس الذي يخرج من بين دفتيه كل إحساس أو تعبير. وقام لأجل ذلك بتطويع الحكاية او الفيلم برمته لتلك الغاية. هل يغفر له ذلك ضعف التمثيل في القصة الاساسية؟ هل نستسلم لغواية التفلّت من عالم الحكاية المحبوك والطيران في فضاء السينما غير المحدود؟ هل نكتفي بالقول ان للفيلم أكثر من طبقة ونذهب الى التنقيب عن الخافي منها؟ هل نحاكمه بتهمة التورّط في التنظير السينمائي على حساب الخروج بعمل أكثر انسجاماً وانصهاراً؟ التجربة فريدة في كل الأحوال ومغامرة. لعل المسألة تحتاج الى انفتاح وقبول وثقة بالأحاسيس التي يعتبرها ألمودوفار نسيج السينما. وربما تحتاج قبل كل ذلك الى مشاهدة الفيلم مرة ثانية...

المستقبل اللبنانية في

16/07/2010

 

احتفالية في نيويورك بأفلام السيرة

البحث عن السيرة المضادة خارج القيود

ريما المسمار 

تنعقد الإحتفالات السينمائية في العالم تحت العناوين الشتى: مهرجانات، استعادات، تكريمات، موضوعات... بعضها ملفّق ومفتعل وبعضها الآخر يبحث خلف الواجهة عن صلة او زاوية نظر جديدة. غالباً ما يفرح محبو السينما بتلك الاحتفالات لأنها في نهاية المطاف مناسبة لاكتشاف جديد مهما كان بسيطاً. ولكن كما في السينما، كذلك في المهرجانات والاحتفالات، ثمة ما هو سائد وما هو عكس التيار. تحت العنوان الأخير، يحتفل مركز "أنثولوجي فيلم أركايفز" (Anthology Film Archives) في إيست فيلدج في نيويورك المعروف باهتمامه بالسينما الأميركية المستقلة والطليعية، بأفلام السيرة (Biography Films أو Biopics) إنما من موقع آخر، مطلقاً على برنامجه (14 تموز الى 1 آب) المؤلف من عشرين فيلماً صفة/عنوان "السيرة المضادة" Anti-Biopics. ما يعنينا من هذه التظاهرة البعيدة جغرافياً إضاءتها على أفلام من خارج الماينستريم، معظمها غير متوفّر على "دي.في.دي" ولم يسمع به رواد السينما وهواتها.

"أفلام السيرة" ليست نوعاً في حد ذاتها. شرطها الاساسي أن تتمحور حول شخصية حقيقية. أما المقاربة فهي التي تحدد النوع الذي قد يتراوح بين الملحمي او التاريخي او الموسيقي او المزاوجة بين أكثر من نوع. وأحياناً تتقاطع أفلام السيرة مع الأفلام المقتبسة عن مصدر أدبي، اي انها تتناول سيرة شخصية من خلال السيرة الأدبية المكتوبة. في مطلق الأحوال، تشكل هذه الأفلام حالة شعبية واسعة وتخضع أكثر من غيرها للنقد والجدل. فكلّما كانت الشخصية التي يتناولها الفيلم معروفة وشعبية، أصبح الفيلم عرضة للنقد والمساءلة. وذلك ليس دائماً نابعاً من مسألة الدقة التاريخية بل هو خاضع لعوامل كثيرة أبرزها علاقة المتلقي بالشخصية محور العمل. هنا يصبح المعيار عاطفياً تماماً إذ ينتظر المشاهد رؤية شخصيته العامة التي يحب بما يتلاءم مع نظرته عنها. أما إذا كانت تلك الشخصية أقل شعبية و/أو أكثر جدلية، فإن المتفرج عينه يطالب صانع العمل بالكشف عن جوانب لا يعرفها وإلا اعتبر الفيلم ساقطاً في نظره. حسابات كثيرة تعترض صناع هذه الأفلام: موقع الشخصية الذي يحدّد مدى القدرة على كسر هالتها، الرأي العام، ورثة الشخصية العامة، حسابات المنتج التي تدور في فلك تحقيق الأرباح وجذب الناس... في المقابل، هناك المخرج وقدرته على فرض رؤيته الخاصة وهناك المجتمع وهامش الحرية والاختلاف الذي يتيحه. تقودنا هذه العوامل مجتمعة الى فهم أسباب فشل أفلام السيرة في السينما العربية، إلا إذا كانت أفلام سيرة ذاتية حيث يتحدث السينمائي عن نفسه بما يقلل من تأثير العوامل الخارجية على حرية العمل ويحصرها في قدرة المخرج وقراره الذهاب بعيداً أو لا في بوحه وتشريع خصوصياته. ولأن أفلام السيرة تتطلّب قسطاً من الحرية في التعاطي مع التاريخ وأحداثه ورموزه ومساحة من التأويل الحر، فشلت السينما العربية عموماً في انتاج أفلام جدلية ومثيرة عن شخصيات حقيقية لحساب أعمال تكرّس الصورة السائدة وتصادق على تقديسها، مع العلم ان المجتمعات العربية، تحتاج أكثر من غيرها، الى نبش الماضي وإعادة تقويمه ونقده.

بعيداً من المشكلات العامة، ثمة تفاصيل واعتبارات فنية خاصة بأفلام السيرة مردّها الى المساحة الزمنية ومخاطبة الجمهور العريض. فإذا كان الكتاب لصفحاته التي تتجاوز المئات أحياناً يعجز عن الإحاطة الكاملة بحياة فرد او بجزء منها، فكيف بالفيلم الذي لا يتجاوز في أحسن الأحوال الساعتين او الثلاث على الشاشة؟ عند هذا الحد، تتعرّض هذه الأفلام لنوع من الإختزال الذي يهدّد بإفراغها من الروح والتفاصيل، فيقف صانع الفيلم عند مفترق طرق في ما يخص ما هو مهم: المعلومات أم التفاصيل الحميمة؟ ولكن السينما في نهاية المطاف رؤية ووجهة نظر خاصة. وإلا فكيف نفسّر إعادة تقديم الشخصيات التاريخية نفسها في أفلام جديدة من كليوبترا الى الإسكندر مروراً بترومن كابوتي وسواهم؟

شهدت السينما العالمية انتاج أفلام السيرة منذ مطلع القرن العشرين، وكان محورها الملوك والرؤساء والقادة وحتى الفنانون والكتّاب. ولكن الإزدهار الكمي بدأ منذ تسعينات القرن الماضي مع تطور التقنيات والموازنات التي تتيح إعادة خلق المراحل التاريخية. ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين يمكننا إحصاء مئات الأفلام في هذا المجال مع ملاحظة دخول السينما الالمانية على الخط فاتحة دفاتر النازية (أكثر من فيلم أُنجز عن أدولف هتلر خلال العقد الأخير) وسينما افريقيا الجنوبية مستعيدة فصولاً من تواريخها الدامية (هاييتي عن فترة حكم لومومبا وأوغاندا عن عيدي أمين). كما ان التاريخ الحديث لهذه الأفلام يشهد على تحوّلها من الشخصيات المحبوبة وذات الانجازات الكبيرة الى الأخرى الجدلية والمنبوذة بنظر الأعراف الاجتماعية السائدة (The People vs. Larry Flynt، Blow، Monster، Public Enemies...).

لعلّ من أفلام السيرة التي تبقى حيّة في الذاكرة مقاربة ميلوش فورمن لحياة الموسيقي موزار في فيلمه Amadius بمزيج من الوقائع والحبكة المتخيّلة وتناول تود هاينز لحياة بوب ديلن باسلوب متفرّد يقوم على اختيار عدد كبير من الممثلين لتقديم شخصيته في مراحل مختلفة. كما يبرز Che لستيفن سودربيرغ ليس يما يحمله من تجديد وانما لجهة ملحميته، فضلاً عن تجربة المخرج الروسي الكسندر سوكوروف المميزة في ثلاثيته السينمائية عن رجال السلطة (Moloch وTaurus وThe Sun). في معظم تلك الأفلام، يلعب الممثل دوراً رئيسياً في إنجاح الفيلم. وغالباً ما يُقال ان افلام السيرة الذاتية هي بمثابة الكنز بالنسبة الى الممثلين وجواز مرورهم الى الجوائز والمجد. على هذا النحو تألقت نيكول كيدمن في The Hours (2002) ودنزل واشنطن في Malcolm X (1992) وThe Hurricane (1999) وويل سميث في Ali (2001) وماريون كوتيار في La Vie en Rose (2007) وجوليا روبرتس في Erin Brokovich (2000). في أفلام أخرى، حاز المخرجون النصيب الأكبر من النجومية كما هي حال اوليفر ستون في JFK (1991) وNixon (1995) والبرازيلي والتر سالز في The Motorcycle Diaries (2004) وجوليان شنابل في The Diving Bell and the Butterfly (2007) ورومان بولانسكي في The Pianist (2002)، بينما تقاسم النجومية في The Queen (2001) المخرج ستيفن فريرز والممثلة هيلين ميرين. الأمثلة لا تحصى في هذا السياق ولكن حتى هذه المتميزة في عرفنا عن "القطيع" لا تقع في حسابات مركز "أنثولوجي فيلم أركايفز" حيث لا وجود لأي منها في برنامج "السيرة المضادة".

في برمجة المركز أفلام محورها شخصيات ليست جديدة على أفلام البيوغرافيا مثل الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسن والامبراطور الصيني هيروهيتو والرسامة فريدا كالو وسواهم. ولكن المقاربة هي التي تختلف عن السائد وإن كان من الاسهل وصف تلك الأفلام بما لا تتضمنه من أن نصف ما هي عليه.

من أفلام البرنامج، عملان محورهما موسيقي: Chronicle of Anna Magdalena Bach (1968) لجان-ماري ستروب ودانييل هوييه عن باخ وLisztomania (1975) لكين راسل عن فرانز ليست. كلا الفيلمين يقوم على تصوره لشخصيته من خلال الموسيقى. يعتمد الأول على أكثر من 20 مقطوعة لباخ، تلعبها فرقة موسيقية بملابس تعود الى حقبته التاريخية بينما تروي شخصية زوجته وقائع من حياته بشكل مباشر ومستقطع بين معزوفة وأخرى. أما روبرت آلتمن فيقدم في فيلمه المستقل Secret Honor (1984) مونودراما مع فيليب بايكر هول في دور نيكسن، في حين يتخذ فيلم المكسيكي بول ليدوك Frida (1986) دور سرير الموت الذي يروي ذكرياتها. في From the Journals of Jean Seberg (1995)، يقدم المخرج مارك رابابورت سيرة الممثلة كما ترويها هي بعد موتها. وتصل السيرة المضادة ذروتها مع سيرغي بارادجانوف في Color of Pomegranates (1968)، متفادياً أية محاولة سردية في تقديم حياة سايات نوفا، مكتفياً بأشعاره، يعيد إحياءها من خلال لوحات فولكلورية. ويحضر السينمائي الإيطالي روبرتو روسيلليني بفيلمين، Blaise Pascal (1972) وCartesius (1974)، حول التاريخ. تتسع التظاهرة في الطرف الآخر لآندي وارهول بفيلمه Lupe (1966) الذي يقوم على إعادة تمثيل انتحار الممثلة لوب فيليز من أفلام الفئة الثانية (b movies).

المستقبل اللبنانية في

16/07/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)