حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

استوديو هاركور يودع أرشيفه شبكة الأنترنت

تلك الصور النصفيّة التي كرّست الممثلين نجوماً

جوزف الحاج

قرر منذ أيام أقدم الأستوديوهات في العالم، «هاركور» (HARCOURT) إيداع أرشيفه شبكة الإنترنت، والمؤلف من خمسة ملايين سلبية تعود لـ ثلاثمئة ألف فرد من بينها ألف وخمسمئة شخصية مشهورة عالمياً، يشكًل أضخم ذاكرة بصرية عن الوجوه. وحده هاركور حافظ على تقاليد تجذرت في الوعي الجمعي لأكثر من سبعين عاماً.

صور استوديو «هاركور» (HARCOURT) أيقونات زمن كرَّس عن حق عبادة غير مشروطة للصور، زمن حيث كان فيه النجوم ألغازاً وأساطير في نظر معجبيهم. إنه الزمن الأسطوري لـ»هاركور» الذي ما زال حتى اليوم يحافظ على تقاليده في صورة البورتريه. بصوره الناعمة المطلقة الكمال والجمال لنجوم السينما والمسرح والأغنية، حلمت أجيال عندما كانت السينما الفرنسية تعيش عصرها الذهبي. كان الفن السابع تسلية وهروباً من اليومي البائس. كان «هاركورت» في تلك الفترة السعيدة معادلاً للفيلم السينمائي الأسود والأبيض وللنجومية الأسطورية.

عندما أسس الإخوة لاكروا، في 1934، هذا الأستوديو، لم يكن في طموحهم بلوغ هذا الحد. بتوليهم فريقاً صحفياً شعروا بضرورة مثل هذه الخدمة لتلبية حاجاتهم المتزايدة من صور البورتريه لتزيين المقالات والمنشورات التي كانوا يصدرونها. شهد الأستوديو في سنواته الأولى توافد شخصيات المجتمع والسياسة نفسها التي خالطت استوديوهات القرن التاسع عشر عندما كانت صورة الوجه ظاهرة إجتماعية تحوّلت فيما بعد إلى موضة.

بعد سنوات، وبتأثير من كوزيت هاركورت، المالكة الجديدة التي جذبت الأريستوقراطية إلى الأستوديو الذي نقلته في 1938 إلى أحد أرقى شوارع باريس آنذاك، مبتكرة مفهوماً سابقاً لعصره: يقدّم النجوم وجوههم إلى الأستوديو لقاء صور مجانية تروّج للعمل الذي يشاركون فيه. باتحاد الأستوديو مع «وكالة الصحافة الفرنسية« التي وزعت صوره وأخبار نجومها، أدركت كوزيت هاركورت أن الفوتوغرافيا، بورقها المصقول اللماع، مهيأة لنقل جزء من الحلم والخيال الذي كانت تضخه السينما.

إلى النجوم، أصبح الناس العاديون مصدر دخل آخر لهذا الأستوديو بعدما تدافعوا للوقوف أمام كاميراته. لأجل إرضاء هؤلاء، لم يلزمهم «هاركورت» لأخذ صورهم دفع ثمنها إن شاؤوا. بلغ عدد الصور المحققة في اليوم الواحد أكثر من أربعين.

قبل ظهور التلفزيون، لعبت الفوتوغرافيا دوراً أساسياً يفسر في جزء منه النجاح السريع للأستوديو. كانت وسيطاً بين الجمهور والفنان، فقدّم «هاركور» الصور مجاناً إلى صالات السينما والمسارح لجذب الجماهير. كحلقة من سلسلة تقود إلى النجاح التجاري للأفلام، كانت «هاركورت» على أتم الإنسجام مع عصرها. كانت للفوتوغرافيا كامل قدراتها وكان تأثيرها يجعلنا غير مدركين لإحتمالية كذبها وتلاعبها وإمكانية تقديم ما هو مغاير للواقع وللحقيقة. أسهمت تصاوير «هاركورت» في الكشف عن الجمال وإظهار مكامنه أكان جسداً لرياضي أم لعامل أمام آلته. كثر تنوع الأساليب المتميّزة والتفنن في الإضاءة لنحت الشكل ضوئياً مع همّ جمالي وتوثيقي. اعتبرت جمالية «هاركور» خير ممثل لأساليب زمنها. تقبّلت كلّ جديد مريب كما حدث عندما استقدمت إضاءة الـ»تانغستان» المبتكرة حديثاً في الأوساط السينمائية. سعت «هاركور» دائماً إلى إنتاج صورة نمطية للفنان: لعبة الظل والضوء، الإفراط في الماكياج والرتوش واستعمال الفلترات المخفّفة وغياب الديكور والأكسسوارات، والتأطير والوضعيات المتكررة. لم يؤثر هذا المسار الصارم المتكرر على استمرارية النجاح الذي أصبح شرطاً ومعبراً لكل فنان طامح إلى النجومية: «لسنا ممثلين إذا لم نتصوّر عند هاركور.» كتب رولان بارت. لم يكن مهماً إذا أُنكرت شخصية الممثل وفرديته أو ما يشكّل خصوصيته الجسدية والنفسية على حساب توحيد الوجوه والوضعيات. كانت السينما هي أيضاً كاريكاتورية، حيث أدوار الرجال والنساء محدودة، والممثل سجين دائم لأدوار نمطية.

شهدت الستينات قطيعة بين الأستوديو السينمائي والفوتوغرافي عكسته سينما «الموجة الجديدة» الفرنسية التي أعادت توزيع الأدوار. لم يعد للأستوديو أهمية كمكان. همدت هالة هاركور وتراجع رواجها. كانت نهاية حقيقية، لكن مؤقتة، لأسطورة لم تنطفئ شعلتها تماماً. صمد الأستوديو بفعل توالي إداراته النشطة المجدّدة، فعاد النجوم إلى أضوائه مطالبين بإحياء تقاليده وعادت ماكينة الأحلام إلى العمل من جديد. تصالح هاركور هذه المرة مع حاضره، تجرّأ على التصوير بالألوان، ووجد من الضروري الخروج من بين الجدران المخملية إلى مناخات وبيئات زبائنه من النجوم وسواهم، معتمداً سيارات- أستوديو مجهزة لهذه الإستعمالات. لم تعد إبداعاته مقتصرة على الوجوه فقط، إنما شملت الطبيعة الصامتة والحملات الإعلانية لطناجر الضغط والنظّارات ودمى الأطفال ولعبهم. هذا الإنفتاح على المستقبل وجد بذوره في القيمة العاطفية التي تركتها صوره في ذروة صعوده. لازمنيتها هي التي شكّلت جماليته وجعلتها مع السنين توقيعاً وماركة أو نمطاً معيارياً و ختماً لم يتغيّر منذ التأسيس ظهر عند زوايا الصور التي شكّلت مصنفاً لشخصيات القرن العشرين.

بعد حقب عديدة مضطربة، كان هاركور يجد نفساً متجدداً، يجعل جماليته مستمرة في تأثيرها مكررة قوانينها المتطورة باستمرار على مدى أكثر من سبعين عاماً لتبقى مرآة للحاضر أيضاً.

لهذا المكان مصوروه المحترفون المغمورون الذين لا مكان لتواقيعهم على الصور. يقول بيار- أنطوني ألارد المدير الفني الذي يحدد أسلوب ومنهاج هاركور اليوم: «منذ 2002 بعد انتقال الملكية إلى آن- ماري دو مونكالم وهدفنا أن لا نسمع كلاماً مثل «هل هذا لا يزال موجوداً اليوم؟» ونسعى إلى إعادة اكتشاف تخيلات السنوات الرائعة. هاركور كيان يطمس المصورين خلف توقيعه ليبقوا مجهولين، باستثناء ريمون فوانكيل الوحيد الذي لازم توقيعه إسم الأستوديو«.

«... كل شيء في المكان يوحي بالحلم. ماذا قدّم هذا المكان إلى النجوم والناس العاديين، هل قدّم لهم صورة أم ذكرى لحظات إستثنائية قضوها فيه؟ المكان حيوي، مرجعيته سينما الأمس واليوم: «الجميلة والوحش» لجان كوكتو وصولاً إلى أفلام دايفيد لينش. الداخل إليه يعبر مساراً شعائرياً في ديكورات صممها مهندس يعمل في السينما، يكتشف متعة التصوير عبر لحظات لا تنسى لأنه يبلغ رأساً قلب الصورة بدلاً من المصور». يتابع ألارد: «يقال أن البورتريه هي مواجهة بين المصور وموديله. للمصور خيارات: عليه تحديد ما إذا كان يريد من نظرة الموديل أن تشرد أو أن تواجه عدسته. من جهتي عدت إلى الوراء تجنباً للمبالغة. إذا نظر الموديل إلى مكان آخر لا يعود هناك من رهان للمصور. مع ذلك يجب عليه أن يُبقي في حسبانه أنه إذا أراد القبض على نظرة الموديل فعلى هذا أن يحدّق في ثقب العدسة، ما يزيد من الصعوبات. بالنسبة لي، أن نجاح البورتريه يكمن في نقاط ثلاث: الضوء، الموسيقى، والحوار بين المصور وموضوعه، هذا الحوار الذي يجب إطلاقه. أما الصورة الأروع فقد تكون تلك التي ألتقطت من دون معرفة الموديل».

مجددو أسلوب هاركورت أرادوا مخالفة مقولة رولان بارت الذي وصف الممثل السينمائي في صورهم بـ«إسترخاء، بالمدينة...» مع الأستوديو الجوّال لم يعد الإنسان هو الذي يأتي إلى الأستوديو، بل أصبح الأخير هو الذي يلاقيه ويدخل عالمه، حتى لو أدّى ذلك إلى نزع «القداسة» عن صور الأستوديو.

ألم تكن الصورة الملونة غير مجمع عليها كما كانت الصورة السوداء والبيضاء تزهو في الخيال الجمعي؟ في زمن الألوان بقيت الإضاءة المستوحاة من السينما تحافظ على ميزة الوجه النحتية وأوحى الإخراج الكلاسيكي للشخصيات في بيئاتها بصور البلاتوه في الأستوديوهات السينمائية. هكذا بقي هاركور في تواصل مع السينما، مزاوجاً الأمس باليوم. رغم تقاليده العريقة يبقى الحاضر بادياً في صور اليوم.

تقول ناتالي باي:»كانت هاركورت بالنسبة لي صورة النجوم الذي يثيرون الأحلام والصور الغامضة والصورة السوداء والبيضاء الرائعة المشغولة بحرفية متقنة. كانت جلسات التصوير مختلفة عن الجلسات المألوفة. نكون مجمدين، لا نتقمّص العفوية. تسليت كثيراً. لم أجد نفسي في صورة هاركور، كان انطباعي بأن لي وجهاً آخر، كنت مختلفة، رغم ذلك كنت أنا نفسي. ربما لا نجد بالضرورة ذواتنا دائماً في البورتريه. إنها نظرة مصوّر. في صورة هاركورت ما هو لازمني، إخراج وتصنّع، تلك هي بصمته».

كان رولان بارت في كتابه «ميتولوجيات» الصادر في 1957 هو الأول في تحليل آلية أسطورة «هاركور» ومنتقدها. كتَب: «لا يمكن لأحد أن يصبح ممثلاً إذا لم تلتقط صورته في هاركور. الممثل هنا أشبه بآله، لا يقوم بأي عناء، إنه ملتـَقط في لحظة استرخاء.»

«...تبين التورية هذه الوضعية: يفترض وجود هذا الممثل في «المدينة»، المدينة النموذجية، مدينة الممثلين حيث لا شيء سوى الإحتفال والغرام، بينما يكون النشاط والعمل على البلاتوه. نقلق لرؤيتنا عند مداخل الصالات الشبيهة بالمعابد حيث تنتصب تماثيل أبي الهول. الصور الأولمبية لممثل خلع عنه جلد الوحش. إنسان عثر أخيراً على جوهره.»

«يثأر الممثل؛ مجبر هو بسبب وظيفته الكهنوتية على تقمّص أدوار العجوز أو القبيح. الخلي عن الذات يؤدي إلى إيجاد وجه مثالي، منتزع من خطأ لغوي. بعد المشهد في «المدينة»، لا يغادر ممثل هاركور «الحلم» إلى «الواقع». على الخشبة يكون قوي البنية، شهوانياً، تغطي بشرته طبقات سميكة من مساحيق التجميل؛ في المدينة المسطّحة، يبدو الوجه مصقولاً بفعل هذا التأثير، يلفحه الضوء الناعم لأستوديو هاركور. يبدو على المسرح متقدماً في السن؛ في المدينة شاب مثبت أبداً في قمة الجمال. يخونه على الخشبة صوت ضخم أشبه بعضلات راقصة؛ صامت في «المدينة»، غامض، سره دفين، لدرجة يبدو فيها بالغ الجمال. يؤدي على الخشبة إيماءات مبتذلة أو بطولية لكن مؤثرة؛ يصبح وجهه في «المدينة» مطهراً من كل حركة.»

«...كما لو أن كاميرا هاركور هي الوحيدة المخولة تصوير هذا الجمال اللاأرضي. لا يمكن لهذا الوجه المحلّق بين أرض المسرح الخشنة وبين سماء «المدينة» المتلألئة إلاّ أن يبدو كمفاجأة قصيرة مختطفة من لازمنيته... يبدو وجه الممثل كأنه يبلغ مسكنه السماوي في صعود بطيء من دون أي جهد. بخلاف الإنسانية المتفرجة، التي بانتمائها إلى صنف أرضي مختلف وعدم أهليتها للتحرّك إلاّ بواسطة أقدامها، وليس بواسطة وجهها، عليها العودة إلى منازلها مشياً على القدمين. ... قد يكون المشي، ميتولوجياً، الحركة الأكثر ابتذالاً والأكثر إنسانية. كل حلم، كل صورة مثالية، كل ارتقاء إجتماعي يلغي الرجلين أولاً، أكان ذلك بواسطة البورتريه أو السيارة. تخلّد إيقونوغرافيا «هاركور» مادية وحقيقة الممثل الذي تلتقط صورته، إذ سرعان ما يغادر وضعه كإنسان ليتحول إلى نوع من آله تكرّم صورته... عبر وهم مريب لشريحة إجتماعية ضعيفة بفعل العقل وقدرة الأسطورة يعلن الجمهور القَرِف عند حلول الإستراحة أن هذه الوجوه اللاواقعية هي نفسها وجوه «المدينة وتفترض بعقلانية رجلاً خلف الممثل؛ لكن عند لحظة التعرية، يتدخل هاركور في الوقت المناسب فيُبرز إلهاً، وكل شيء لدى هذا الجمهور البورجوازي اللامبالي الذي يعيش على الكذب ينقلب إقتناعاً. صورة هاركور تكريس، وهوية إحترافية حقيقية، واحتفالية تقبّل المجتمع تجريده (الممثل) من خواصه المادية«.

يختم رولان بارت: «لأجل ميتولوجيا مختلّة بقدر إختلال وجوه الممثلين، القرار ثوري: عدم تعليق صور هاركور، الكلاسيكية المشغولة بعناية ودقة بملامحها الملائكية أو الرجولية أو الأنثوية، على مداخلها، فذلك تهور دفعت قلة من المسارح ثمنه الباهظ«.

كما لكل زمن فوتوغرافي تقنياته ومصوّروه كذلك لكل زمن أمكنته المكرّسة. فهل يسلَم هاركور في طوره الجديد هذا؟

المستقبل اللبنانية في

04/07/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)