حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

خمسون عاماً على "سايكو" ألفريد هيتشكوك

من الإيحاء والموسيقى وكسر التوقعات يولد الرعب الخالص

ريما المسمار

"الشقراوات يشكلن أفضل الضحايا. إنهن مثل الثلج البكر الذي يفضح آثار الأقدام الدموية."

(هيتشكوك عن "سايكو")

الخميس 16 حزيران 1960. احتشد جمهور كبير من رواد السينما وصحافييها ونقادها أمام عدد من صالات مانهاتن السينمائية. المناسبة؟ العرض الأول لفيلم ألفريد هيتشكوك "سايكو" Psycho، حامل الرقم 48 في مسيرته (باستثناء فيلميه الأول والثاني غير المكتملين و/أو المفقودين) التي انطلقت في بريطانيا بأفلام صامتة (1925 -1929) ومن ثم ناطقة (1929-1939) قبل أن يهاجر الى أميركا ويحقق أبرز أفلامه هناك (1940-1969). شكل الفيلم منعطفاً في سينما هيتشكوك وثمة من يعتقد بوجود تسمية من نوع "هيتشكوك قبل سايكو" و"هيتشكوك بعد سايكو". بل ان هناك من يوسع المروحة لتشمل "السينما قبل سايكو وبعده". بعيداً من تلك الأحكام التي لا تخلو من عمومية وتبسيط أحياناً، كان "سايكو" حالة وصنع حالة. في ذلك اليوم الافتتاحي، كان الجو معدّاً سلفاً للترقّب والإنتظار. قام المخرج بالاعلان الترويجي لعمله، مانعاً ممثليه الأساسيين جنيت لي وأنتوني بيركينز من الإدلاء بأية تصريحات حول الفيلم خوفاً من كشف حيلته. بينما قام هو بتصوير الإعلان الترويجي داخل استديوات يونيفرسل، حيث شُيِّد "نزل بايتس" وقصر "نورمن بايتس" ( وهما للمناسبة مازالا قائمين حتى يومنا هذا قبلة لزوار الاستديو)، متجوّلاً بينهما معرّفاً ببعض الأمكنة التي تحمل أهمية إضافية داخل الأحداث (مثل الحمام)، ترافقه بالطبع موسيقى برنارد هيرمن التي تحوّلت أيقونة في حد ذاتها. واعتمد هيتشكوك في سياسته الترويجية تفصيلين آخرين مهمين. الأول اقتضى بإلغاء العروض الصحافية الخاصة بالنقاد والثاني يمنع اي مشاهد من دخول الصالة بعيد بداية الفيلم بنبرة لا تخلو من التهديد. لاحقاً، برر ذلك بالقول انه اذا دخل المشاهد صالة السينما متأخراً ولم تتسنَّ له رؤية بطلة الفيلم جانيت لي فسيظن انه خُدع. في مطلق الأحوال، كان لسياسة هيتشكوك تلك صدىً إيجابي بين الجمهور في مقابل الاثر المتذبذب على النقّاد. ذلك ان مشاهدة الفيلم وسط جمهور حر في التعبير عن انفعالاته من جهة وضرورة الكتابة الفورية من جهة ثانية، أوقعتا كثيرين في شرك الحكم المتعجّل مما أدى لاحقاً الى مراجعة صحف ومجلات كثيرة لموقفها النقدي من الفيلم. على صعيد الجمهور، كان هيتشكوك خبيراً، ذا حساسية من نوع خاص. فبعيداً من الأجواء الإنتاجية المتشنّجة التي سبقت صنع الفيلم ودفعته الى عصر النفقات ومن بينها تصوير الفيلم بالأبيض والاسود، اعتبر السينمائي ان الفيلم بالألوان سيكون "منفّراً" بكل تلك الدماء التي تهدر وتسيل. اما الأبيض والاسود فسيقول أكثر، كون الإيحاء أقوى من الحقيقة الفاقعة. ولم يكن بعيداً من حساباته أيضاً ان هذا الخيار، الى جانب كونه فنياً واقتصادياً، قد يسهّل مرور الفيلم عبر "قانون الإنتاج" (Production Code). وكما توقّع، واجه الفيلم بعض المشكلات مع مجلس الرقابة. يُفتتح الشريط بمشهد لموظفة شركة التأمين، "ماريون كراين" (جانيت لي)، جالسة على سرير في غرفة فندق، تثبّت حمالة الصدر. الإيحاء بالعملية الجنسية مع "سام لوميس" (جون غافن) المنتهية لتوها حاضر بقوة فيما منظومة هوليوود كانت تحرم وقتذاك ظهور رجل وامرأة غير متزوجين في سرير واحد. ثم هناك مشهد دفق الماء في المرحاض الذي لم يكن مسبوقاً في السينما. وإذا كان هيتشكوك قد استطاع أن يخفّف من وقع مشهد الدماء بواسطة الاسود والأبيض فإن "طعمه" لم يكن ليزول بتلك السهولة. فبعد مشاهدة أعضاء مجلس الرقابة الخمسة لمشهد الطعن في حوض الإستحمام، ساد الوجوم. فإن أحداً لم يكن قد شاهد مشهداً من هذا النوع وإن كان يصعب توصيفه بدقة على الفور. فالجزء الأكبر من "جنون" المشهد نابع من حقائقه التقنية: مشهد من ثلاث دقائق، مؤلّف من خمسين لقطة، جرى تصويرها من 77 زاوية كاميرا مختلفة. الصدمة التي خلفها المشهد دفعت بالمراقبين الى اعتماد معايير أخرى محسوسة. ثلاثة منهم أكّدوا وجود لقطات عارية للممثلة بينما نفى الإثنان الآخران رؤيتها. انطلاقاً من هذا، تلقى هيتشكوك تيليكس من مجلس الرقابة وردت فيه الجملة التالية: "الرجاء اقتطاع العري." ولكن في واقع الأمر لم يكن هنالك من عري وإنما فقط خدعة بصرية يقوم بموجبها ذهن المتفرج بملء الفراغات التي يفترض وجودها. هكذا أعاد هيتشكوك النسخة الى الرقابة من دون ان يلمسها. هذه المرة، الاثنان اللذان لم يشاهدا العري في المرة الأولى ادعا مشاهدته بينما نفى الثلاثة الآخرون الذين رأوه في المشاهدة الأولى وجوده. بهذا، حقق هيتشكوك هدفه ومرّ الفيلم من دون أي تعديل.

عندما عرضت مساعدة الإنتاج بيغي روبرتسن نسخة من رواية روبرت بلوتش "سايكو" على هيتشكوك، كان الأخير خارجاً لتوه من الانتاج الضخم لفيلمه North by Northwest ومن تجربة إجهاض اثنين من مشاريعه السينمائية في استديوات باراماونت، فضلاً عن ان محاكاة اسلوبه من قبل مخرجين كثيرين في ذلك الوقت كان تدفعه الى البحث عن مادة جديدة للتصوير. إزاء رفض "باراماونت" القاطع انتاج المشروع، قام هيتشكوك بشراء حقوق الرواية وقرر تصوير الفيلم على نفقته بموازنة صغيرة مستعيضاً عن أتعابه بامتلاك نسبة 60% من نيغاتيف الفيلم واستخدام استديوات بونيفرسل للتصوير على أن تتسلم "باراماونت" مهام التوزيع. وهكذا كان، إذ صور الفيلم بأقل من مليون دولار (نحو 800 الف دولار أميركي) بمساعدة الفريق التلفزيوني الذي كان يشرف على برنامج المخرج وقتذاك "ألفريد هيتشكوك يقدم". اما السيناريو فوقعه جوزيف ستيفانو الذب استطاع ان يحوز إعجاب المعلم -على الرغم من خبرته التي لم تتجاوز السيناريو الواحد- عندما قال له خلال اجتماعهما الأول انه يود لو يرى ماريون تمارس الجنس مع سام خلال استراحة الغداء.

من جهة أخرى، كانت رواية بلوتش من اولى الروايات التي ظهرت حيث مصدر الرعب واقع وليس فانتازيا او ماورائيات. فالمعروف ان أحداث الرواية مستوحاة من حكاية قاتل ويسكونسن المتسلسل "إد غاين". اما هيتشكوك، فأعجبه في الرواية "الخدعة" التي تسول للمشاهد خلال الاربعين دقيقة الأولى انه يشاهد فيلماً عن "ماريون كراين" التي اختلست الأموال من أجل الهرب مع حبيبها غير المخلص لها. ولكنها بعد مرور الاربعين دقيقة الخادعة تلك، تتوقف في نزل. وهنا يأتي دور التفصيل الآخر الذي أحبه هيتشكوك في الرواية: إرباك المشاهد بقتل البطلة من دون أي تمهيد وفي مشهد صادم. جانيت لاي كانت تدرك تماماً ما هو المطلوب لتقديم شخصية يدوم اثرها طويلاً بعد اختفائها. أما هيتشكوك فأحب التلاعب بفكرة انها نجمة سينمائية يمكن ان تموت قبل انتصاف الفيلم بما هو أمر كان بعيداً تماماً من تقاليد السينما حينذاك. "أراد الهشاشة والرقة" تقول لاي في إحدى مقابلاتها عن هيتشكوك. وكان هو ايضاً من اختار أن تكون الملابس الداخلية التي تظهر فيها في المشهد الافتتاحي بيضاء ومن ثم سوداء بعد اختلاسها المال. "ماريون" كانت في نظره متصدّعة ومنفصمة تماماً مثل "نورمن".

لم يكن انتوني بيركنز يتقاسم اي شبه مع صورة "نورمن بايتس" كما قدمها كاتب الرواية بلوتش. فالأخير تصوره بديناً وقبيحاً بعكس ملامح بيركنز الذي كانت مثليته الجنسية في وقت خروج الفيلم مثار نقاش في هوليوود وسراً معروفاً أضاف الى الشخصية بشكل او بآخر. أراد هيتشكوك جذب التعاطف مع "نورمن بايتس" فضلاً عن اللعب بفكرة ان اللياقة يمكن ان تخفي روح القاتل والتي كان قد استعرضها في فيلمه الاسبق "حبل" Rope. وإذا كان مشهد الطعن في حوض الإستحمام هو الأقوى والأبلغ تأثيراً، فثمة في نص ستيفانو مشاهد بديعة أخرى لاسيما مشهد العشاء بين "ماريون" و"نورمن" فيما طيور الأخير المحنّطة شاخصة اليهما. وتلك الطيور بكلمات هيتشكوك "تراقبه طوال الوقت، في عيونها ينعكس ذنبه". عذا ذلك، يتيح المشهد تحسس الصلة التي تنشأ بين الإثنين وبعض الإنذار بما سيأتي.

في مشهد الاستحمام، يصل "سايكو" الذروة، مخلّداً ذلك المشهد الأشهر بين مشاهد القتل في ذاكرة السينما. وهو مشهد قائم على ما لا يظهره أكثر مما هو قائم على ما يظهره. لا يظهر في هذا المشهد صدر "ماريون" العاري كما لا يظهر وجه القاتل فيما مشهد السكين يخترق بطن البطلة يظهر مرة واحدة فقط. ولكن التوليف المذهل للمشهد سوّل للمشاهد نسج رؤية مختلفة تماماً. ولا ننسى أبداً ان جزءاً أساسياً من هذا المشهد بالتحديد، ومن كل الفيلم عموماً، هي موسيقى برنارد هيرمن. والأخير الذي كان قد تعاون مع هيتشكوك على خمسة من أفلامه قبل "سايكو"، كان شديد الولع بسيناريو "سايكو". وبحسب رواية جاك ساليفن صاحب كتاب "موسيقى هيتشكوك"، فإن موسيقى هيرمن فعلت اكثر من "تعزيز" الفيلم؛ لقد أنقذته. ويزعم صاحب الكلمات ان هيتشكوك خلال تصوير الفيلم استشعر نقص شيء اساسي وكان على وشك أن يحوله الى التلفزيون عندما استمع الى موسيقى هيرمن. كان الأخير مقتنعاً بأن الفيلم لا تنقصه سوى الموسيقى. فقام بتأليف موسيقى مشهد الحمام في عنوان "القتل" سراً ذلك ان هيتشكوك- الذي كان معروفاً بإعطاء مؤلفيه الموسيقيين تفاصيل دقيقة حول الموسيقى- كان قد قرر ان يكون هذا المشهد خالياً من اي موسيقى. وفي حين كان ذلك التجاوز لأوامره بمثابة الانذار المبكر لحتمية تصادمه مع هيرمن (حدث ذلك بالفعل على مشروع Torn Curtain عام 1966 فكان نهاية التعاون بين الإثنين)، أُعجب هيتشكوك بالموسيقى واعترف بأن قراره الأولي بعدم استخدام موسيقى في ذلك المشهد كان "اقتراحاً غير ملائم". وبحسب كاتب السيناريو ستيفانو أخذ "بيرني (برنارد) الفيلم وحوله الى أوبرا". كذلك يستعيد ستيفانو (رحل عام 2006) في إحدى مقابلاته كيف انه شاهد الفيلم في عرض خاص مع أحد المؤلفين الموسيقيين الذين كان هيتشكوك يثق بآرائهم. بعيد العروض الثلاثة، تبادل الاثنان كلمات قليلة أولاً لأن "مشاهدة فيلم لهيتشكوك مع هيتشكوك كان بمثابة الذهاب الى الفاتيكان مع البابا" وثانياً لأن كلا الرجلين كان يشعر بشيء من النقص في مشروع تحمسا له كثيراً. خلال العرض الرابع، كانت موسيقى هيرمن مرافقة للفيلم. عندها قفز الرجلان من مقعديهما واعترف هيتشكوك ان الموسيقى رفعت الفيلم بنسبة 33% فيما بالنسبة الى ستيفانو رفعته بنسبة 66%! هكذا انتهى "سايكو" ليكون أكثر أفلام هيتشكوك موسيقية بعد "دوامة" Vertigo، فيما حازت موسيقى الفيلم، لاسيما في مشهد الحمام، شهرة توازي الفيلم والمشهد نفسيهما مع الإشارة الى ان هيرمن، وبسبب الموازنة الضئيلة وأجره القليل، اختار تأليف الموسيقى للآلات الوترية فقط التي كانت وقتذاك اشارة الى ضعف وميلودرامية. إلى كل ذلك، ادخر هيتشكوك مفاجأة إضافية بعد مشهد القتل في حوض الإستحمام. بخلاف ما يمكن توقعه، لم يبدأ الفيلم رحلة العودة الى الهدوء بعد مشهد القتل الصاخب. فهناك خدعة "الأم" التي ستنكشف في المشهد الأخير بينما صوتها يتردد الى ما بعد ظهور الجينيريك النهائي.

بعد "سايكو"، أنجز هيتشكوك ستة أفلام (حتى وفاته يوم 29 نيسان 1980 عن 80 عاماً) يمكن إطلاق وصف تحفة على واحد منها فقط هو "الطيور" The Birds. لم يتعافَ السينمائي تماماً من نجاح "سايكو" إذ انتقل بعده من "معلّم التشويق" الى "مخرج الرعب". لم ينكر السينمائي النقلة التي صنعها في "سايكو" من "التشويق" الى "الصدمة" واصفاً الفيلم بأنه أول فيلم صادم ينجزه. ولكن كما ذكرنا في البداية لم يأتِ "سايكو" من فراغ بل من إرث سينمائي كان قد وصل حينها الى أقل من خمسين فيلماً بقليل، حاملاً معه الكثير من التجديد والكسر للتقاليد. وعلى الرغم من الإضافات التي جاءت في أعقابه والإعادة الحرفية التي وقعها غاس فان سانت عام 1998، لم يصل اي منها الى ربع تأثير "سايكو" هيتشكوك الأمر الذي يبرهن أننا نعيش في عالم ما بعد سايكو الذي صنعه هيتشكوك ولا سبيل الى العودة الى ما قبله.

المستقبل اللبنانية في

18/06/2010

 

"تعليم" شريط لون شيرفيغ مع هورنينغ كاتباً وموليغن تمثيلاً

التأرجح بين ثقافة قديمة تأفل وأخرى قادمة

ريما المسمار 

من محاسن جوائز الأكاديمية (الأوسكار) وترشيحاتها إلقاء الضوء أحياناً على أفلام "صغيرة" قياساً على الإنتاجات "الكبيرة" (إما بموازناتها أو بمخرجيها ونجومها وإما بكل تلك العناصر) ومنحها ما يشبه "جواز المرور" الى أسواق سينمائية لا تتسع في العادة للتنوّع والإختلاف. هذا ما كسبه فيلم "تعليم" An Education- أو الأحرى ما كسبناه نحن كمشاهدين- من ترشّحه لثلاث جوائز أوسكار مطلع العام 2010 (لأفضل فيلم وأفضل سيناريو مقتبس وأفضل ممثلة هي كاري موليغن)، على الرغم من عدم فوزه بأيٍّ منها. الشريط الذي بدأت عروضه قبل اسبوع في الصالات اللبنانية كان قد حاز الكثير من الإعجاب والمديح في دائرة المهرجانات الفنية الصغيرة أولاً (صندانس حيث نال عرضه الأول العام الفائت) والتجارية الكبيرة تالياً (مهرجان تورونتو الدولي) إنطلاقاً من المواصفات عينها: الحميمية والدفء بموازاة الفطنة الحادة وخفة الظل والعمق. ولا يُخفى على أحد انه في عالم سينمائي تطغى فيه العلاقات الإنتاجية على حساب التحالفات الخلاّقة، فإنه من الممتع بمكان مشاهدة هذا التضافر بين مخرجة دانماركية وكاتبين بريطانيين وطاقم تمثيلي أميركي-بريطاني.

البداية من اسم المخرجة لون شيرفيغ (Lone Scherfig) التي تخوض بفيلم "تعليم" تجربتها السينمائية الأولى خارج بلادها (من إنتاج بريطاني أساسه "بي بي سي فيلمز") سائرة على خطى مواطنتها سوزان باير التي خاضت تجربة مماثلة، انما في الولايات المتحدة الأميركية، بفيلم "اشياء فقدناها في النار" Things We Lost in the Fire عام 2007. اشتهرت شيرفيغ بفيلمها الثاني "الإيطالية للمبتدئين" الذي أنجزته العام 2000 وفق معايير حركة "دوغما 95"، متميزة عن زملائها في الحركة بنزوعها الى الخفة والكوميديا بدلاً من القسوة والجدية. وهذا بشكل ما أصبح ميزتها في أفلامها التالية ومن ضمنها "تعليم"، اي تغليف الموضوعات الجادة بمقاربة تمتزج فيها الفطنة والذكاء بالعمق والفكاهة. والحال ان شيرفيغ صرّحت في هذا الشأن ومن باب الفكاهة ان عملها الطويل في المسلسلات التلفزيونية علّمها الوقوف عند الحد الفاصل بين "الدرامي" و"الفاجع".

ولكن السمة الأبرز لهذا العمل هو التعاون غير المتوقع بين المخرجة والكاتب البريطاني نيك هورنبي، صاحب العديد من الروايات التي تلقفتها السينما مثل High Fidelity (1995) وAbout a Boy (1998) وFever Pitch (1992) التي حولها بنفسه الى سيناريو أفلمه دايفيد غيفنز عام 1997 ومن ثم الأخوان بوب وبيتر فاريللي عام 2005. مع "تعليم"، خاض هورنبي تجربة السيناريو الثانية والأولى من حيث اقتباس نص لكاتب آخر هي في الواقع الكاتبة والصحافية البريطانية لين باربر. واللافت ان هورنبي كتب السيناريو انطلاقاً من مذكرات باربر المؤلفة من 12 صفحة بعنوان "تعليم"، تروي فيها تجربتها خلال المراهقة مع شاب محتال. النص الذي نشر بداية في المجلة الأدبية "غرانتا" تحوّل لاحقاً وبعد إنجاز الفيلم كتاباً كاملاً صدر في حزيران 2009. وإمعاناً في تعزيز طزاجة هذا التعاون، جاء اختيار الممثلة كاري موليغن في أول دور بطولة لها ليكون الضلع الثالث المحرّك لهذا المثلّث.

على الرغم من تداخل الجنسيات في "تعليم"، يبقى الأخير فيلماً بريطانياً خالصاً في العمق. وتلك نقطة تُحسب لمخرجته لتفاديها "النظرة الخارجية" في معاينة قصة إنسانية ذات خلفية تاريخية مهمة. الحكاية حكاية "جيني" (موليغن) والحقبة هي بريطانيا 1961. "جيني" ابنة الستة عشر ربيعاً تلميذة متفوقة تشع ذكاءً في مدرسة محافظة للبنات، تديرها "الآنسة والترز" (إيما تومبسن) في شخصية تبدو خارجة من العصر الفيكتوري. في المنزل، "جيني" هي الابنة الوحيدة لأبويها: "جاك" (ألفرد مولينا) المحافظ والبخيل انما غير الواثق من أفكاره و"مارجوري" (كارا سيمور) اللينة ضعيفة الشخصية. تتلخص أزمة "جيني" في تعطشها الى حياة راشدة التي هي مرادف للحرية المفقودة في المدرسة والبيت. فهي متمردة بطبيعتها وحادة في الدفاع عن آرائها. تدخّن في السر وتسمع الأغنيات الفرنسية وتتوق الى الذهاب الى باريس واكتشاف العالم خارج قوقعتها. لقاؤها "دايفيد" (بيتر سارسغارد) صدفة سيكون بمثابة الموعد الذي يدبّره القدر لفتاة من أجل تلمّس أحلامها. هكذا، تبدأ بين الإثنين علاقة قوامها الإفتتان: افتتان "جيني" بعالم "دايفيد" المتفتّح والحر بدون قيود ولا حواجز وافتتان الأخير بها كنموذج "اصلي" مقابل "الزيف" الذي يتلطّى هو خلفه. فـ"دايفيد" ليس سوى رجل ثلاثيني، يهودي (إمعاناً في تعزيز إحساسه بالنبذ والعزلة)، بلا تعليم سوى ما أنعمت به تجارب الحياة عليه، يتوق الى الرفعة والأناقة والمرتبة الاجتماعية من دون أن يتمكن من الخروج من ثوبه المتواضع اجتماعياً وثقافياً. لذلك يتحد مع "داني" (دومينيك كوبر) الآتي من خلفية اجتماعية مرموقة وموروثة ولكنّه يحافظ عليها من خلال قيامه مع "دايفيد" بعمليات احتيال في مجال العقارات والقطع الفنية. على الرغم من ذلك، يتمكن "دايفيد" بكياسته وأسلوبه المصطنع في الكلام والسلوك من كسب ثقة والدي "جيني" وإعجابهما. مرة أخرى، يبدو التوق الى المكانة الإجتماعية محرك هذه العلاقة. فالأب الذي كان يصرّ على ضرورة دخول ابنته جامعة "اوكسفورد" ويعترض على أي نشاط (موسيقى، سينما، علاقات اجتماعية) خارج المنهج الدراسي، يوافق على ذهابها مع "دايفيد" الى حفل موسيقي كلاسيكي اولاً ومن ثم الى أوكسفورد بحجة لقاء كاتب مرموق يدعي "دايفيد" معرفة وثيقة به وأخيراً الى باريس احتفالاً بعيد ميلاد "جيني" السابع عشر. وسرعان ما يتراجع الاب عن طموحه الأكاديمي لابنته بأن يشجعها على قبول عرض الزواج من "دايفيد" بحجة ان هناك من سيحميها. قبلها، يعلن بدون خجل ان معرفة امرىءٍ بكاتب مهم أرفع شأناً من أن يكون المرء نفسه كاتباً مهماً. إنها أذاً مسألة مظاهر لا أكثر ولا أقل مثلما هي المدرسة التي تطرد اي فتاة تفقد عذريتها.

ليس الإغواء والخداع ركيزة العلاقات بين الشخصيات فحسب بل انه الاساس الذي تقوم عليه علاقة المشاهد بالفيلم. فها هنا حكاية فيها من العناصر ما "يخدع" المشاهد ويغويه ويحمله في الوقت عينه على الإعتقاد بأنه شاهدها عشرات المرات في السينما. من حكاية المراهقة التي يتفتح وعيها الى تمرد الشباب مروراً بالمعلّمة الملهمة (اوليفيا ويليامز في دور "الآنسة ستابس") التي تستدعي علاقتها بـ"جيني" ملامح من علاقة جوليا روبرتس بتلميذاتها في "ابتسامة الموناليزا" The Mona Lisa Smile ووصولاً الى علاقة الغواية بين مراهقة ورجل ثلاثيني، كلها حكايات تناولتها كلاسيكيات السينما كما انتاجاتها العصرية. ولكن ما يميز شريط شيرفيغ An Education هو لطائفه وإحساسه العالي بالشخصيات والزمن. إنها دقائق الأمور التي تصنع التميّز ليس هنا فقط وانما في كل عمل فني. بهذا المعنى، يشكل الفيلم قفزة حقيقية لمخرجته من الدوغما الخشنة والخام الى العمل الكلاسيكي المصقول ومن حكايات موطنها الى حكاية بعيدة في الزمان والمكان.

المنحى الآخر للفيلم هو هدوءه الذي يعمل في اتجاهين ايضاً أحدهما مروَض والآخر لعوب. في الإنجاه الأول، تنأى المخرجة والكاتب قبلها بالفيلم عن العنف المصاحب في العادة لحكايات المراهقين وتمردهم. فها هنا شخصيات الأهل ومديرة المدرسة ليست عنيفة بالمعنى المتعارف عليه. مازال في استطاعة الشابة المتحدّثة الإدلاء برأيها والإعتراض والصراخ أحياناً وإن كان مصيرها النبذ في نهاية المطاف من المدرسة كنموذج لنظام اجتماعي وأخلاقي سائد. كذلك يبتعد من الهواجس التقليدية للمراهقين. فما يميز "جيني" عن شخصيات سينمائية كثيرة تشبهها هو طموحها المختلف. فهي لا تبحث عن الإعتراف ولا عن الحب انما عن المغامرة والتجربة، أي الحياة بمعناها المنفتح. من هنا يأتي عنوان الفيلم "تعليم" الذي كان يمكن ان يُترجم ايضاً "ثقافة" أو "معرفة" (كلها مرادفات عربية صحيحة للعنوان الأجنبي An Education) لولا ان السياق الذي تُستخدم فيه في الفيلم يضعها دائماً في مواجهة مع فكرة "الحياة" او "العيش" في وصفهما مصدراً أساسياً للثقافة. ومن هنا ايضاً ينبع المعنى الأبعد لشخصية "جيني" كإشراقة مبكرة او ربما اولى للستينيات الجامحة (Swinging Sixties). فالفيلم يشدد على أن أحداثه تجري قبل او ربما في المرحلة الانتقالية بين الخمسينات التي ناءت تحت ثقل نتائج الحرب العالمية الثانية والكساد الاقتصادي والستينات التي اشتعلت بالثورة والتمرد على غير صعيد. "جيني" هي بمعنى ما الروح الشبابية المتمردة التي كانت قد انطلقت في العالم وتستعد لاكتساح بريطانيا بعد الخطاب الشهير لرئيس وزرائها هارولد ماكميلن "رياح التغيير".

يجوز القول ان كل الشخصيات الأخرى في الفيلم، باستثناء "دايفيد" وصديقيه "داني" و"هيلين"، هي من فلول الحقبة المحافظة الآخذة في الإندثار. "دايفيد" يقف على الحد الفاصل لأنه في الواقع نتاج هجين بين ثقافة قديمة وأخرى قادمة. الهدوء على الجبهة الأخرى هو ذاك الذي يغلّف شخصية "دايفيد" وينطوي على شيء من الغموض والتهديد في آن. الفصام الذي يتحدث الفيلم عنه يجسده "دايفيد" بامتياز من خلال حياته وعمله وأفكاره. ثمة وجهان لهذه الشخصية أحدهما ظاهر والآخر خفي. الأول يهدد دوماً بسقوط القناع والثاني رابض على خطورة يؤثر الفيلم، بكثير من الذكاء، الا يفجرها. فحين تقول صديقة "داني" لـ"جيني" ان عمل الرجلين قد يصبح قذراً أحياناً، فإننا، كمشاهدين، لا نُمنح فرصة اختبار حدود تلك القذارة. وبالمعنى نفسه، حين يوافق "دايفيد" على شرط "جيني" بالحفاظ على عذريتها حتى بلوغها السابعة عشرة، لا نفهم تماماً ما إذا كان ذلك السلوك نابعاً عن دماثة او تربص رجل خبير بالايقاع بالبنات الصغيرات. صحيح ان النهاية تفصح عن هشاشة "دايفيد" إزاء "جيني"-وإزاء صديقه "داني" ايضاً الأكثر شباباً ووسامة وثراءً- إلا ان كل ما يسبق ذلك يدخل في نسيج الشخصية. فعلى الرغم من ان موليغن هي نجمة العرض بدون منازع من خلال أدائها الجواني وفطريتها إلا ان شخصية "دايفيد"- وأداء سارسغارد لها- هي الأكثر تركيباً.

في الشكل، تجسد المخرجة شيرفيغ ذلك التأرجح بين زمنين وثقافتين وفكرين. فالالوان الرمادية للمدرسة والبيت المحافظين، يكسرها شيء من الألوان النابضة في الحانة الليلية والأخرى المتفجرة في باريس التي كانت سباقة الى ستينياتها الجامحة. كذلك الأمر بالنسبة الى "جيني" في تدرجها من تلميذة المدرسة الى المرأة الناضجة فالتلميذة من جديد في مدرسة الحياة الرحبة. لعلّ من مغبات مقاربة المخرجة السلسة تلك النهاية المسطّحة بعض الشيء التي تنطوي على شيء من التقليد في مقابل القلق الذي رافق الشخصيات والأحداث قبلها.

المستقبل اللبنانية في

18/06/2010

 

 

مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف السادس عشر

علي العقباني 

يفتتح مساء اليوم الجمعة في مدينة الرباط المغربية وعلى مدرجات مسرح محمد الخامس فعاليات مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف في دورته السادسة عشرة من 18 إلى 26حزيران 2010، وتتميز دورة 2010 لمهرجان سينما المؤلف، الذي تنظمه جمعية مهرجان الرباط الدولي للثقافة والفنون برئاسة الأستاذ الجامعي عبد الحق منطرش ، ببرنامج غني ومكثف يعرض فيه ما لا يقل عن خمسين فيلماً بين روائي طويل ووثائقي وقصير.

البرنامج العام للدورة 16 لمهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف والتي ستحتضن نشاطاتها فضاء ات قاعة الفن السابع وسينما الملكي والمعهد الفرنسي(قاعة جيرار فيليب) ومسرح محمد الخامس(حفلي الإفتتاح والإختتام) والمكتبة الوطنية والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية(ورشة كتابة السيناريو) والقاعة الكبرى لمقر جهة الرباط سلا زمور زعير، أن هناك تغييرات شملت بعض فقرات هذه التظاهرة السينمائية السنوية وجوانب من محتوياتها، وهذه الفعاليات ستتم تحت إدارة الناقد السينمائي محمد باكريم المكلف بالتواصل داخل المركز السينمائي المغربي.

فبالإضافة إلى المسابقة الدولية لأفلام المؤلفين تم إحداث مسابقة جديدة خاصة بالأفلام العربية تحمل جوائزها إسم المخرج العربي الكبير الراحل يوسف شاهين ، يترأس لجنة تحكيمها أحد رواد سينما المؤلف بالمغرب المخرج الطنجاوي مومن السميحي ، الذي أصدر بالمناسبة كتابا حول السينما العربية يعتبر رابع إصدار له حتى الآن.

ومن الفقرات التقليدية لهذا المهرجان ، التي أدخل عليها المدير الجديد بعض التغييرات ، نذكر ورشات التكوين التي تم فيها الإكتفاء بورشتين الأولى حول كتابة السيناريو مدتها سبعة أيام من تأطير الكاتبة والسيناريست كلاديس مارسيانو من فرنسا والثانية عبارة عن مدخل لقراءة الفيلم مدتها ستة أيام تنطلق بدرس افتتاحي يلقيه الأستاذ ألان بيركالا ابتداء من العاشرة من صباح الأحد 20 يونيو بالقاعة الكبرى لمقر جهة الرباط ويؤطرها بعد ذلك الأستاذ الجامعي والناقد الفرنسي جاك كيرمايون.

التكريم

أما فقرة التكريمات هذه السنة فتتضمن أربعة أسماء عربية نصفها من مصر وهي الممثلة نبيلة عبيد والمخرج محمد خان والمخرجان المغاربيان أحمد راشدي من الجزائر وعبد الله المصباحي من المغرب، إضافة الى احتفاء تكريمي بالمخرج الفرنسي الراحل إريك رومير، أحد رواد الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، عبر عرض ستة من أفلامه بقاعة جيرار فيليب في الرابعة بعد الظهر من 19 إلى 25 حزيران.

في الشق الثقافي المرتبط بالسينما تمت برمجة الأنشطة التالية: لقاء مفتوح مع الوفد السينمائي المصري، حفل تقديم وتوقيع كتب سينمائية جديدة بمساهمة الجمعية المغربية لنقاد السينما، جلسة نقاش حول موضوع "الموسيقى والسينما "بمشاركة أحمد عيدون ويونس ميكري وكمال كمال، نصف قرن على إخراج كودار لأحد أفلامه الرائعة: لقاء مع الناقدين الفرنسيين ميشال سيرسو وشارل تيسون، مائدة مستديرة حول موضوع "صناعة الأفلام الوثائقية: تجارب متقاطعة"، مناظرة دولية حول راهن سينما المؤلف، محاضرة للناقد العربي إبراهيم العريس حول سينما الشاهينيين بعد عرض لثلاثة أفلام لمخرجين متأثرين بمدرسة يوسف شاهين هم: الراحل رضوان الكاشف وأسماء البكري ويسر ي نصر الله ، مائدة مستديرة حول "الجهات وصناعة السينما ".

المشاركة السورية

يشارك الفيلم السوري (الآخر المشتهى) للمخرجة السورية المقيمة في كندا علياء خاشوق في مهرجان الرباط لسينما المؤلف الذي سيقام في الفترة ما بين 18-26 حزيران الجاري.

(الآخر المشتهى) هو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرجة خاشوق بعد أن حققت أكثر من فيلم قصير أهمها فيلم (طريق باتجاه واحد) الذي شارك في تظاهرة الأفلام الكيبيكية العام الماضي. ولفت إليه أنظار النقاد والمشاركين في التظاهرة, يليه الفيلم التسجيلي (بدون استثناء) الذي يعالج هموم ومشاكل المهاجرين العرب في شمال أميركا..

فيلم (الآخر المشتهى), الذي سيعرض في مهرجان الرباط السينمائي ضمن تظاهرة أفلام شاهين لأفضل فيلم عربي هو باكورة الأفلام الروائية للمخرجة خاشوق تعتمد فيه الدراما النفسية لتحكي عبرها هواجس الشخصيات والدراما الداخلية للبشر في صراعهم نحو المطلق والمشتهى . وجدير بالذكر أن (الآخر المشتهى) تمت الموافقة على مشاركته في مهرجان أفلام العالم في مدينة مونتريال في كندا الذي سيقام في السادس والعشرين من شهر آب المقبل.

التكريم المصري في المهرجان

تشارك مصر بحضور متميز في فعاليات مهرجان الرباط السينمائي الدولي.

ويقول مدحت حسن منسق المشاركة المصرية في المهرجان: إنه سيتم تكريم الفنانة نبيلة عبيد والمخرج محمد خان وسيشارك كل من الكاتب مصطفى محرم والناقد علي أبو شادي في ورشة عمل حول سينما المؤلف، كما تشارك سهير عبد القادر نائب رئيس مهرجان القاهرة السينمائي ويشارك في المسابقة ايضا 3 أفلام مصرية هي المسافر بحضور مخرجه أحمد ماهر وخالد النبوي وشريف رمزي وسيرين عبدالنور و(عصافير النيل) بحضور فتحي عبدالوهاب وعبير صبري و(هليوبوليس) بحضور خالد أبو النجا، كما سيتم تنظيم مسابقة للأفلام العربية باسم(يوسف شاهين) تقديرا لدوره في إثراء السينما العربية.

وسيكون رهان هذه الدورة أن توقيت تنظيمه يتزامن مع العرس الكروي العالمي (كأس العالم المنظم لأول مرة في القارة الإفريقية) الذي يستحوذ على اهتمام العديد من عشاق السينما.

المستقبل اللبنانية في

18/06/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)