حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

ملف

"خارج عن القانون" يضع فرنسا والجزائر أمام ماضيهما المشترك

رشيد بوشارب لا يخاف ويقول: أنا لست مؤرخاً، بل مخرج!

هوفيك حبشيان

بسبب الحملة التي قادها اليمين المتطرف وبعض حراس التاريخ ضد فيلم "خارج عن القانون" لرشيد بوشارب، عاش مهرجان كانّ في دورته الأخيرة لحظات توتر سرعان ما تبددت لدى الكشف عن مضمون الفيلم. مندوبة التلفزيون الجزائري، التي كانت قد توقفت عن تغطية المهرجان لسنوات خلت، انتقلت من الجزائر الى الكروازيت عشية العرض العالمي الأول. أما الأمن فتوزع في أرجاء القصر، وكالعادة بالغ في التفتيش والتدقيق تماماً كالحال في المطارات. حتى قناني المياه انتُزعت من أيدي الداخلين الى الصالات. ساد الانطباع بأننا صاعدون على متن طائرة.

المعترضون على الفيلم نظموا تظاهرة سلمية وحملوا لافتات كُتب عليها ما كُتب. آخرون أختاروا أن يستغلوا هذه اللحظة للتجمع أمام نصب تذكاري وتوجيه تحية الى ضحايا حرب الجزائر. الشرطة قالت ان التجمع اقتصر على 1200 مواطن، معظمهم من الجبهة الشعبية الفرنسية. الرجل الذي خلف هذه الضجة: ليونيل لوكا. لم يكن هذا النائب في البرلمان الفرنسي قد شاهد الفيلم بعد، حين اتهم مخرجه بتشويه الحقائق التاريخية. سُرّبت اليه نسخة من السيناريو، فتبيّن له ان النصّ يجسد مجزرة صطيف، التي راح ضحيتها مئات الجزائريين عام 1945، بطريقة مسيئة للفرنسيين. وراحت الموجة الهادفة الى محاكمة بوشارب "على الورق" تتصاعد لتأخذ منعطفات غير مقبولة في بلد مثل فرنسا، تاريخه الحديث قائم على نضال عريق من أجل الحريات!

سرعان ما وصلت أصداء الحكاية الى نيكولا ساركوزي الذي أراد مشاهدة الفيلم قبل أن يُعرَض في كانّ، لكن طلبه لم يُستجب. مورست ضغوط على المدير الفني للمهرجان تييري فريمو كي يسحبه من المسابقة لكنه لم يرضخ لها. في النهاية، صعد فريق الفيلم الأدراج الحمراء بكل سلام ووئام، بعدما استطاع بوشارب وجمال دبوز استيعاب القضية في المؤتمر الصحافي وامتنعا عن اطلاق التصريحات الطنانة، مستفيدين في خاتمة المطاف، من الحملة الدعائية المجانية التي وفرها لهما ليونيل لوكا وزمرته.

•••

أغضب الفيلم الغوغاء. لكن الصحافة المتخصصة لم تكترث له كثيراً، لأسباب بعضها سينمائي وبعضها الآخر ايديولوجي من النوع الذي يخيف الغرب. فما يريده بوشارب من فيلم عن الثورة الجزائرية ليس واضحاً بالنسبة الى الأوروبيين. ولم يشفع بالمخرج قوله إن الفيلم في موقع الدفاع عن الذات وليس الاعتداء. ناقد عربي خرج من الفيلم قائلاً انه دعوة الى الإرهاب. آخر وجده يعكس موقف الحكومة الجزائرية. في حين أن صحافية من الجزائر جعلت الفيلم في مقال لها أهلاً لـ"السعفة الذهب".

هذا يقول الكثير عن الكيفيات المختلفة التي قد يُقرأ الفيلم من خلالها. "بلديون"، عام 2004، كان أشد وطأة على النقاد. وكان اقل امعاناً في اللبس. لمسوا فيه خطاباً صادقاً ووجهة نظر صريحة ومعالجة صارمة، لم يعثروا على مثيل لها في العمل الجديد. هنا ثمة اشكاليات كثيرة، معظمها يتعلق بنقل حقائق تلك الحقبة. لكن، ما أبدع فيه بوشارب هو ادخال نصه الى تلك المنطقة حيث يتنازع الحق والباطل. بوشارب حريص على صورة مواطنيه، لكنه في الحين نفسه لا يرحمهم. يُظهر كيف تتحول القضايا الوطنية المحقة وسيلة متاجرة أو وسيلة ابتزاز أو فرض سلطة. وكيف أن زمرة شباب يتركون بلادهم، يتحولون وحوشاً ويفقدون انسانيتهم شيئاً فشيئاً.

على كل حال، لعبته السينمائية لا ترضي لا الطرف الجزائري الباحث عن تمجيد مجاني للثورة ولا الطرف الفرنسي الذي لا يتقبل سبّة من شعب استعمره وتعالى عليه. لكن لعبة بوشارب وفسحته الخلاقة، هي ابراز وجه الشبه بين المستعمر والمناضل والقول ان الشخصية الجزائرية ليست الا خلاصة تاريخ طويل من الاستعمار الذي لم يولّد الا العنف والبؤس والضغينة والعلاقات المكلومة بين بلدين لم يتصارحا بعد تماماً. وما الحرب الخفية بين نائب ومخرج الا دليل على ذلك! فهذا الفيلم عن صفحة سوداء من التاريخ الحديث، يكشف الصعوبة التي تعيشها فرنسا في مواجهة ماضيها الاستعماري واصلاح ما كان يجب اصلاحه من تلك الحقبة الدامية التي سمّاها بعضهم قبل أعوام قليلة بـ"الاستعمار الايجابي"، في اشارة الى دورها في الجزائر.

•••

"خارج عن القانون" هو قبل كل شيء سيرة ثلاثة أخوة يتركون بلادهم بعد مجزرة صطيف: ينضم مسعود الى الجيش الفرنسي الذي قاتل في الهند الصينية، ويهاجر عبد القادر الى باريس حيث يترأس جبهة التحرير الوطني، في حين أن سعيد يركب موجة تجارة الرق الأبيض المهيمنة انذاك في شوراع بيغال. هؤلاء الثلاثة يلتفّون حول شخصية الأم التي تجسد الجزائر، البلد الذي استعمرته فرنسا طوال 132 عاماً.

ليس في الفيلم ادانة للشخوص. ما كان يهمّ بوشارب هو القصة الخاصة داخل الحكاية العامة. "كنت أريد أن أُري ردّ فعل كل واحد من هؤلاء الثلاثة ازاء الظلم. لكل واحد طريقته الخاصة في التعاطي مع الظلم الذي عانى منه. اثنان منهم يقرران الانضمام الى المقاومة ويختاران المجابهة، اما الثالث فيعتبر ان الصعود الاجتماعي والنجاح المادي سيتيحان له الفوز بحريته. هذا ردّه الخاص على الظلم. أعتقد أن ما يعيشه الأخوة الثلاثة في السياق الفرنسي - الجزائري هو شيء كوني. فما يعيشونه يمكن أن يُعاش ايضاً في ايرلندا أو تشيلي أو في جنوب الولايات المتحدة في مرحلة الحرب الأهلية. عدم قدرة عبد القادر على القتل، يحدّ من امكاناته كثائر: يجد في شقيقه العائد من حرب الهند الصينية نوعاً من وصلة. لكن حتى هذا الأخير مفجوع من الداخل جراء الجو السقيم الذي عاش فيه طوال سنوات. هكذا وُزعت الأدوار بين الأخوة الثلاثة. لكن لديهم مأساة عائلية تطاردهم وهي ما تجعلهم متحدين الى الأبد".

حرفة بوشارب لا تزال عالية. فالرجل في تصرفه امكانات كبيرة وصلت الى 20 مليون أورو. 60 في المئة من الموازنة أموال فرنسية، في حين لا تتعدى المساهمة الجزائرية في الانتاج الـ15 في المئة. واذا كان بوشارب المخرج العربي الاكثر قدرة اليوم على بلوغ لغة سينمائية كونية تدنو من المدارس الغربية (مراجعه "فيفا زاباتا" لإيليا كازان و"الرياح التي تداعب الشعير" لكين لوتش، الخ)، فهو أيضاً أكثرهم انتماء الى تلك الكلاسيكية المشبعة بنوع من أكاديمية كسولة.

تيمات مثل ثنائية الارهاب - المقاومة، الأخوة الأعداء، الشخصية الجزائرية والعلل التي تعتريها، هي تيمات لا تنفصل عن سيرة الجزائر، ولا تنفصل كذلك عن طموحات بوشارب، لكن ليس هذا ما يشغل عقله فقط. ففي مقابلة صرح بأنه كان ينوي ان يصنع فيلماً على نسق كذا وكذا وكذا. لكن النقاد شبّهوا طريقته بطريقة كوبولا، للجانب المتوتر الذي يهيمن على الاخراج. أما هو فاستند الى سينمائيين آخرين. "عندما التقيت في جزائر العاصمة عضواً سابقاً في الاتحاد الفرنسي لجبهة التحرير الوطني الذي كان يعدم خونة القضية، والذي لا يزال يتألم حتى اليوم جراء ذلك، خطر على بالي فيلم "جيش الظلال" لجان بيار ملفيل. طبعاً، فكرت بالمشهد حيث ينتحر المقاوم الذي يعتبرونه خائناً. هذا المشهد أثّر فيّ كثيراً. بضع سنوات بعد الاحتلال، كنت تجد نفسك في باريس في الأجواء نفسها لفيلم ملفيل (...). جزء من "خارج عن القانون" يدور في أوساط الملاكمة. "روكو وأخواته" لفيسكونتي ترك فيّ أثراً عميقاً. في الفيلم بُعد متوسطي أجد نفسي فيه. بالاضافة الى ضغط العائلة. أحب أيضاً "قبلة القاتل" لكوبريك و"السقوط سيكون أكثر قسوة" لمارك روبنسون".

•••

يقول بوشارب، في الملف الصحافي، إن المشروع فرض نفسه. ففي احدى نسخ سيناريو "بلديون"، كان يفترض بالفيلم أن ينتهي بمجزرة صطيف. ثم عدل عن الفكرة، معتبراً ان على المشهد الأخير من الفيلم أن يكون في فرنسا. لكن منذ المرحلة التي بدأ العمل فيها على "بلديون"، حين باشر مع شريكه في كتابة السيناريو أوليفييه لوريل، مقابلة محاربين قدامى من أفريقيا، لمس عند هؤلاء خيبة أمل عميقة ونوعاً من مرارة تجاه فرنسا. فجأة، نهاية الحرب والتحرير ساهما في اعطاء الدفع لحركة التصدي للاستعمار. في تلك اللحظة ولد "خارج عن القانون".

مع لوريل، أجرى بوشارب أبحاثاً كثيرة، في مكتبة باريس. شاهدا عدداً لا بأس من الأفلام الوثائقية والروائية. وألتقيا شهود تلك الحقبة، فبالنسبة اليهما، الذاكرة الحية مفيدة للروائي. "أنا لست مؤرخاً، بل مخرج"، يقول بوشارب راوياً بعض اللقاءات التي كانت حاسمة، منها لقاؤه مزوّر مستندات فرنسي، كان، خلال مرحلة الاحتلال النازي لفرنسا، يفبرك أوراقاً ثبوتية مزورة للمقاومين الفرنسيين، وظلّ يزاول نشاطه هذا بعد جلاء القوات الألمانية من فرنسا، خلال 1954 ــ 1955، لكن هذه المرة لمصلحة المقاومة الجزائرية. في كل مرة، كان يعتبر انه يخدم قضية محقة وعادلة. شأنه في ذلك شأن كل الفرنسيين الذين ساعدوا أو أخفوا مناضلين مناصرين للقضية الجزائرية، مثل حاملي الحقائب الشهيرين. هؤلاء هم الذين ألهموه كتابة نصّ الفيلم.

•••

أثناء تحضير "خارج عن القانون" الذي استغرق عاماً كاملاً، أدرك القائمون عليه، وفي مقدمهم المخرج، أن هذا الفيلم لا يمكنه الا ان يكون "فيلم استوديو"، مع خيارات جمالية محددة يفرضها مدير التصوير. بناء على ذلك، صوّر 90 في المئة من الفيلم في استوديوهات طارق بن عمار التونسية، حيث اعيد إحياء شوارع صطيف، وايضاً بيوت الصفيح، وكذلك بيغال وكل الأماكن الداخلية، من صالة الملاكمة الى الشقق.

أما الزمن الطويل الذي تطلبه التحضير، فيرى بوشارب ذلك ضرورياً كي يفهم الجميع في أي اتجاه فني يريدون الذهاب اليه. طوال هذا العام من العمل، تواصلت حلقات النقاش؛ كانت القرارات تُتخذ ثم يعودون عنها. بوشارب: "كان من المستحيل انجاز مثل هذا الفيلم بعشرة أسابيع. على مدار عام كامل من العمل، كان طموحنا جعل الجميع على موجة واحدة. فمثلاً تسنى لنا الوقت للذهاب الى صطيف للتدقيق: كيف كان يمكننا بناء "مقهى باريس" والشارع الرئيسي والتقاطعات في مكان آخر لو لم نذهب وندقق؟ أجرينا أيضاً ابحاثاً كثيرة عن بيغال الخمسينات".

لم يخف بوشارب من تناول وقائع لم يسبق للسينما الروائية أن تناولتها. "عندما ننجز فيلمين كـ"بلديون" و"خارج عن القانون" فممّ نخاف بعد، يقول سائلاً سائله في الملف الصحافي. "الفرنسيون والجزائريون والمغاربة والأفارقة، وخصوصاً الأجيال الجديدة منهم، ينبغي لهم أن يعرفوا الماضي الاستعماري. هذا جزء من دور السينما. لكن، لا يذهب المشاهد الى السينما من أجل أن يقرأ كتاب تاريخ. عليك أن تأتيه بقصة. ثم، اذا اراد، يستطيع أن يبحث عن مراجع تاريخية حول تلك المرحلة. يتيح الفيلم النقاش ويرحب بوجهات النظر المختلفة. من كان في وسط الحوادث أنذاك، عليه أن يقول كلمته. هؤلاء ذاكرتنا الحية.

علينا أن نجعل الذاكرات تتشابك مع احترام صاحب كل تجربة. الحوادث التاريخية قابلة لأن تُكتب باستمرار، اذ لا يزال هناك شهود أحياء يطالبون بأن تُروى قصتهم الصغيرة داخل القصة الكبيرة".

 ( hauvick.habechian@annahar.com.lb)

 

مهرجان
ثلاثة تكريمات مصرية وأربعة أفلام لبنانية في تشكيلة دورته السادسة عشرة

مــهـــــرجـــان الـــربـــــاط يـــطــــــرق بـــــاب الـمـــؤلـــــف

الرباط ـــ "النهار"

تنطلق غداً في عاصمة المغرب الدورة السادسة عشرة لمهرجان الرباط لسينما المؤلف (18- 26 الجاري). بعد تعيين الناقد السينمائي محمد باكريم مديراً فنياً لهذا المهرجان، ثمة خط تحريري جديد يلوح في الأفق. أو على الأقل، هناك ادراك مستجد بأن من غير الممكن الذهاب الى بعيد في مهرجان يرفع شعار سينما المؤلف ويحتفي في الحين نفسه بعادل امام كضيف شرف، كما كانت الحال في احدى الدورات الماضية! فمع تزايد عدد المهرجانات في المغرب، كان لا بد من ولادة ثانية لهذه التظاهرة الثقافية، ولا نعرف بعد ما اذا كانت هذه الدورة ستتيح ذلك.

اياً يكن، لا يزال هذا الموعد لسينما المؤلف يعاني من الهيمنة المصرية، وهو الشيء الذي قد يتطلب بعض الوقت للتخلص منه: فيلمان مصريان (لمجدي أحمد علي وأحمد ماهر) في المسابقة العربية، تكريمان موجهان الى كل من نبيلة عبيد ومحمد خان، وثالث على شكل تحية الى "سينما الشاهينيين"، أي تلامذة يوسف شاهين أو أنصاره. هذه الفكرة لافتة، وهي تقليد عريق عمّقه مفهوم سينما المؤلف، أي انتقال الارث السينمائي من معلّم الى تلميذ. في هذا الاطار ستُعرَض ثلاثة أفلام لرضوان الكاشف وأسماء البكري ويسري نصرالله. أما أبراهيم العريس، صاحب واحد من أهم الكتب عن شاهين، فسيأتي الى الرباط لترؤس ندوة حول شاهين والشاهينيين.

مقابل هذا الغزل للسينما المصرية، يأتي المهرجان بأفكار مبتكرة، كالالتفات الى سينما اريك رومير بعد بضعة أشهر على رحيله، من خلال عرض بعض أعماله الأساسية كـ"ليلتي عند مود" و"بولين في الشاطئ". هناك برنامج آخر ايضاً يقتصر على اعادة التفكير في المكانة التي تحتلها تحفة الموجة الجديدة "مخطوف النفس" لجان لوك غودار في عيده الخمسين. شارل تيسون وميشال سيركو سيلتقيان الجمهور المغربي في نقاش حول أحد الأفلام التي أسست الحركة السينمائية الأشهر. على هامش هذا كله، ينظم المهرجان محترفاً يمتد على ستة أيام هدفه التدريب على قراءة الفيلم يديره الناقد الفرنسي ("دفاتر السينما") ألان بيرغالا. من جملة الندوات، ثمة واحدة عن الموسيقى والسينما يديرها كمال كمال وأحمد عيدون ويونس مغري الذي عمل على موسقى عدد من الأفلام المغربية. ندوة نأمل أن يقال فيها بصراحة شيئاً عن سوء استخدام الموسيقى في 99.99 من الأفلام المغربية. الموسيقى تخرب لا بل تتلف الأفلام المغربية، بميلها الى تعظيم المواقف وتفخيم الأحاسيس، فهل من يملك الجرأة ليضع حداً لهذه الظاهرة؟

تكريم آخر أيضاً يوجهه المهرجان الى المخرج الجزائري أحمد راشدي، ويعرض له الفيلم الاشكالي "مصطفى بن بولعيد"، الذي يعاني من أزمة صنع حقيقية، أما مواطنه مرزاق علواش فيشارك في المسابقة الخاصة بالأفلام العربية مع فيلم "حراقة" الذي عُرض للمرة الأولى العام الماضي في البندقية. من ظاهرة الهجرة غير القانونية التي ضربت بلاده الجزائر بسبب الاهمال الرسمي للناس وهمومهم، في نظام فاسد يأخذ من الفقير ليعطي الغنيّ، يقتبس علواش فيلماً شاعرياً مرهفاً تدور حوادثه في مدينة مستغانم البعيدة نحو مئتي كلم من العاصمة. لا أبطال في نصّ علواش، سوى ضحايا لا يحلمون الا بالرحيل الى بلدان تفتح أمامهم الآفاق المسدودة، حتى لو دفعوا من اللحم الحيّ ثمن الرحيل هذا. الفيلم يقدم رؤية قاتمة جداً، لا متنفس فيها ولا أمل، عن المغرب العربي وظاهرة قوارب الموت التي تأخذ الجزائري اللامنتمي من منفى داخل الوطن الى منفى داخل العالم، وهو، اذاً، على رغم الخلل الذي اصاب بعض اطراف السيناريو (مشهد الحديث على الهاتف المحمول بعد عبور البحر سباحة)، فيلم قد يخطف قلوب أهل هذه المنطقة...

السينما اللبنانية تشارك بأربعة أفلام: "1958" لغسان سلهب و"حديث نسوان" لدانيال عربيد و"12 رجلاً غاضباً" لزينة دكاش و"كل يوم عيد" لديما الحرّ، الفيلمان الأخيران لم يعرضا بعد في بيروت. عنصر خامس يُحسَب على السينما اللبنانية: مشاركة دارينا الجندي في لجنة التحكيم التي يترأسها البريطاني روجر كريستيان.

تبقى ضربة المعلّم الكبرى: اشراك ثلاثة أفلام من ثلاث بقع جغرافية متقاربة جداً لثلاثة مخرجين يملكون نظرة مستهجنة لمحيطهم. الأول، "القطط الفارسية" أنجزه الايراني الكردي بهمان قبادي وكان حدث الدورة السابقة من مهرجان كانّ، فيلم عن الموسيقى صوّره قبادي من دون طلب اذن في مدينة طهران. الثاني، "ابن بابل" (يُعرَض افتتاحاً) لمخرج عراقي شاب اسمه محمد الدراجي استطاع اختصار المصيبة العراقية في فيلم يغلب فيه الاحساس على العقل. أما الثالث، فهو فيلم العراقي الكردي شوكت أمين كوركي المعنون "ضربة البداية" ويدور في مدينة كركوك التي تغرّب عنها كوركي لنحو 25 سنة من حياته قبل أن يعود اليها حاملاً معه موهبة صارخة سمحت له بالتقاط المساحة واللحظة والايقاع الحياتي وشخصيات تجسدت أمامنا بروعة وواقعية تترجحان بين حرفة ايرانية وتيار "الواقعية الايطالية الجديدة". فمن خلال تصويره ملعباً مدمراً لكرة القدم حيث تعيش 300 عائلة من اللاجئين، يقدم كوركي استعارة تصل الى أهدافها النبيلة.

 

خارج الكادر

النقد ودقات القلب!

في منتصف الشهر الرابع، طُلب مني أن أقدم مداخلة عن النقد السينمائي في مهرجان الخليج، فاستجبت الدعوة نظراً الى اهتمامي بهذا الشأن. قلت للمنسق بالحرف الواحد: أريد أن أقول كل ما يحبسه قلبي منذ زمن طويل. هل في إمكانكم تحمّل نبرتي العالية؟ فكان رده: طبعاً، لا مشكلة. أرفعها بقدر ما تريد!

منذ البداية كنت أريد أن أقول للنقاد العرب إن هناك بضعة اسماء كان اندره بازان وهنري لانغلوا وبولين كايل ليشرفوا بمعرفتهم، أما البقية فيرتزقون على النقد. لكن عندما وصلت الى المكان ورأيت بعض المشاركين في الجلسة، انتقلت مشكلتي من كونها مع النقد الى كونها مع النقاد! كيف كان في إمكاني أن أتكلم وأقول ما لديّ وبعض الذين اعتبرهم يرتزقون على النقد يجلسون على أمتار مني؟

مشكلة ثانية ظهرت عند علمي بأن محمود قاسم هو من سيتولى إدارة الجلسة. افتتح الرجل الحوار بمجموعة مغالطات، أبرزها قوله إن نقاد "الموجة الجديدة" جاؤوا من الأدب. فحيال تلك المعلومة، لم يعد في إمكاني تمالك نفسي وأردت تصويبها، فواجهني سلوك غريب فعلاً (كي لا نقول شيئاً آخر)، إذ قال لي: أسكت، أنا أعرف أفضل مما تعرفه! كوني تربيت على احترام الكبير (سناً)، لم أفعل سوى الابتسامة! اعتقدت ان ذلك كان كافياً...

أياً يكن، لم تكن المشكلة في هذا السلوك، إنما في الأفكار التي كان قد أرسلها النقاد بهدف مناقشتها. واحدة منها كانت تقول ان على النقد أن يكون موضوعياً. ما يسمّى النقد الموضوعي، وهمٌ خلفه وهم. ما يكتبه الناقد هو ذوقه وخلفيته وتجربته، لذلك لا يسعه أن يكون موضوعياً. الموضوعية أصلاً عكس النقد، ذلك أن السينما ليست علماً دقيقاً، والمقال النقدي ليس خبراً، لا حقيقة ثابتة، لا أسود أو أبيض. كم من النقاد يندمون على ما كتبوه ويعودون عن مواقفهم، سواء كان سلباً أو إيجاباً، بعد عقد أو عقدين أو ثلاثة! لكن بعض الحالمين لا يزالون يتحدثون عن الموضوعية في النقد. تكلمهم عن مورنو، يكلمونك عن الهنيدي. تقول "فنّ" فتسمع بياناً في الأخلاق الحميدة!

ثم، يضحكني النقد الموضوعي. ليس هناك ما يسمّى النقد الموضوعي. في اللحظة التي يقرر فيها المخرج، كل مخرج، ان يضع كاميراته في هذه الزاوية، فهو ينسف الموضوعية نسفاً إرادياً. الشيء ذاته ينسحب على النقد. فكم مرة كتبنا عن أنفسنا ونحن نكتب عن الآخرين، كم مرة ومرة تجلى ذوقنا وفكرنا ومعرفتنا ووعينا من خلال الكتابة عن ذوق الآخرين وفكرهم ومعرفتهم ووعيهم. وكم مرة كتبنا عن زماننا ومكاننا ونحن نكتب عن أزمنة وأمكنة أخرى.

لم أستطع في تلك الليلة أن أفرغ كل ما في جعبتي. بل في كل مرة أردت التكلم كان يجري قمعي. بيد اني تناولت جزءاً مما يثير غضبي، أهمه أن النقد العربي، في غالبه، قائم على ثرثرة ومطولات كلامية، ولا شك أنه ابن بيئته ويشبهها الى حد كبير. بينما على النقد أن يكون أرفع شأناً من المكان الذي يُكتب فيه وأن يقلب المفاهيم السائدة رأساً على عقب وأن يقفز بها من التخلف والعفن الى النور المشع للحداثة. وهذا ما لم يفعله تحديداً النقد، فغالى في مداعبة القيم المتخلفة للمجتمع. نتيجة هذا، كم من النقاد صارت أقلامهم تزايد على تخلف نظام بلدانهم.

ثم، قلت: عن أي نقاد نتكلم؟ هل يحق لمن لم يشاهد خمسة آلاف فيلماً أن يطرح نفسه ناقداً سينمائياً؟ السينما فن مركّب وخلاصة فنون متعددة، فهل يمكن ادعاء النقد إذا لم نكن على إطلاع ولو قليل على الفن التشكيلي والمسرح والفنون الاستعراضية والأدب؟

لا شيء عندي ضد المصادفة، لكن يبدو لي أن بعض النقاد صاروا نقاداً بالمصادفة! هم لم يرغبوا بهذه المهنة يوماً واحداً في حياتهم. لم يحلموا بها في صباهم. عندما تقرأ لهم، تشعر انهم لا يملكون أي حبّ أو شغفّ، تجاه السينما، اذ انهم يكتبون من دون دقات قلب، كمن ملّ وجوده على هذه الأرض!

طرحتُ أيضاً علاقة الناقد بالسينمائي، وكيف يملك الأخير الحق أحياناً في احتقار النقاد. فالمسترزق الآتي من الكلمة السهلة العابرة الانتقائية، لا يستطيع مزاحمة السينمائيين في مجال الصورة والصوت ولا مناقشتهم في أمور تتخطى أحياناً حسه ووعيه وادراكه. فعلاقة بعض النقاد بالسينما بقدر علاقة الأم تيريزا بوول ستريت. هذا لا يعني انني امنح السينمائيين صك براءة. قلة منهم يفضلون نقداً يتيح لهم الالتفات الى عنصر غير مظنون في عملهم، على مديح لا يأتيهم الا بالمزيد من العسل والبخور. في كل حال، السينمائيون في منطقتنا لا يخشون ان يصابوا بداء السكري!

طرح أحدهم موضوع سرقة المقالات المنتشرة بكثرة أخيراً في بعض الأوساط. أخبروني عن ناقد من بلد شقيق يواظب على سرقة مقالات من هنا وهناك، واذا ما تم كشفه فيعتذر من الناقد الذي سرق منه، وتلفلف القضية. في أواخر العام الماضي، اطلق كل من محمد رضا وصلاح سرميني وأمير العمري بياناً لحماية اخلاقيات النقد السينمائي، وقّعه كثر من أهل المهنة. حينها مازحت واحداً من هؤلاء الثلاثة قائلاً له: ماذا لو جاءكم واحد من لصوص النقد ليوقّع البيان؟

هـ. ح.

النهار اللبنانية في

17/06/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)