حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

المخرج العراقي خالد زهراو في «هذه الليلة، الأسبوع القادم»:

تاريخ العراق في صالة عرض سينمائي

بشار إبراهيم

هذه المرة، يحيد المخرج العراقي خالد زهراو عن القول السياسي المباشر، والخطاب والشعار، كما يحيد عن رصد الانقلابات العسكرية، وما شابهها. إنه يبتعد عن شؤون الحروب والمعارك، من بناتها إلى أمهاتها، وعن العنيف والدامي، والحاضر، في الوقائع.. ليقول شيئاً في التاريخ العراقي الحديث، منذ ما قبل تأسيس الدولة العراقية، مع مطالع القرن العشرين، وحتى وقوفها في مهب الرياح العاصفة بها، عند مطالع القرن الحادي والعشرين!..

سيخوض خالد زهراو في مغامرة ارتضاها مختاراً. ولعله رهن حياته، وجهده، وأفلامه التسجيلية، في سبيلها!.. إنه يريد محاولة جادة وجديدة في رؤية تاريخ بلده العراق، ومسيرته، وتلمس تضاريسها، ومتغيراتها، وتحولاتها على الصعد كافة.. ولكن الرؤية ستأتي هذه المرة من بوابة الثقافة والفنون والإبداع، لا من بوابة الجنرالات، العسكريين والمدنيين، الذين أعلوا الشعارات فأخفضوا الأحلام، والذين رفعوا الرايات فأنزلوا الشعب في مهاوي المنزلقات!..

مع فيلمه الجديد «هذه الليلة، الأسبوع القادم»، الفيلم التسجيلي المتوسط الطول (مدته 42 دقيقة)، سينهض سؤال: هل يمكن كتابة تاريخ بلد من خلال صالة سينما؟.. أمام المخرج خالد زهراو، وأمامنا، على السواء، فنندفع لقراءة هذا الفيلم مثخنين بالذاكرة الجارحة التي لا تكاد تختلف في ملامحها بين هذا البلد العربي أو ذاك. صحيح أنه العراق في هذا الفيلم. ولكن ألا يمكن أن تكون أي دولة عربية في الموقع ذاته، وإن اختلفت التسميات، وتغيرت التفاصيل؟!..

يدرك المخرج خالد زهراو صعوبة هذه المهمة، ودقتها، وحذرها. وهو الذي نعلم أنه يشتغل منذ زمن على كتابة «دفاتر السينما العراقية» سينمائياً، حتى نكاد نظن أن هذا الفيلم ما هو إلا محاولة أولى، أو جزءاً فاتحاً لقراءة تاريخ بلد عُرف عنه أنه أحد أهم المراكز في البلدان العربية، طيلة القرن العشرين. ففي العراق كان ثمة تجربة سياسية طويلة، وتجربة حزبية عريقة، وتجربة ليبرالية لا تُنكر، ومساهمة ثقافية فنية وإبداعية متقدمة.. انتهت على كل ما فيها من غنى وتنوع إلى مأساة لا تضاهى!..

«هذه الليلة، الأسبوع القادم»، فيلم ذريعة، بصورة أو أخرى، ولو لم يرد قول ذاك. إنه ينطوي على رصد ذكي للتحولات العاصفة التي شهدها العراق، طيلة القرن العشرين، من خلال صالة السينما. وإلا فهل هو بلا معنى ذاك التمهيد (برولوغ) الذي انطلق منه الفيلم. هنا ثمة رجل عجوز يستذكر أيام السينما في العراق، أيام كان يذهب الناس لمشاهدة السينما، في بغداد ربما. ويقول إنها تمر عليه في الأحلام حتى، وتأتيه، وهو لا ينسى تفاصيلها: كان السلام الملكي، يومها، ينطلق في فضاء صالة السينما. جمهور الصالة وقوفاً يرقبون السلام الملكي، صوتاً وصورة، وربما كانوا يرددونه مع الشاشة. وما أن ينتهي السلام الملكي، حتى يجلسون جميعاً. ويبدأ الفيلم. ويدخلون عالم الأحلام!..

أي سيناريو جميل هذا الذي تحتفي به الذاكرة!.. صالة السينما التي طالما اعتادت أن تبدأ عروضها بالنشيد الوطني، والأفلام التسجيلية القصيرة، العلمية أو التاريخية، قبل أن تزجّ بجمهورها في عالم الدهشة والمتعة؛ عالم حكايات السينما وأبطالها وفاتناتها، في فيض من التشويق والاثارة والحركة.

من بغداد إلى دمشق وبيروت، فالقاهرة وعمان والقدس، وسائر العواصم والمدن العربية، ربما، كان طقساً خارج العاديّ من الأيام، ومتجاوزاً التفاصيل المعيشية، ترهن له العائلات العربية وقتاً خاصاً، أسبوعياً على الأقل، تتوافد إليه زرافات ووحدانا، في أبهى حللها، وأجمل استعداداتها، متأهبة للقفز في فيض عوالم الخيال، مندغمة في شاشات من حلم.

كان زمناً جميلاً، ومضى.. واليوم هوذا العراق في وهدة الأيام. يعرف الفيلم ذاك، ويدركه المخرج، تماماً، فيطلق كاميرته تتأمل في شوارع بغداد، كأنما تلوب باحثة عن شيء ما. تستعرض بقايا أبنية متهالكة، ويافطات امّحت أجزاء منها، أو علاها غبار الإهمال والنسيان. يافطات مهترئة تعلن المكان للايجار.. وأخرى تعلن عن افتتاح صالة أفراح، فيه.. واجهات باتت معتقلة خلف قضبان، وأسوار، تعلن عن إغلاق المكان «حتى إشعار آخر».. ثمة ما يشي بأن هنا مستودع، أو ورشة، أو كاراج!..

التفاصيل المكانية ما هي إلا تجليات، أو انعكاسات، أو ربما منتج خفي للنظرة الاجتماعية التي تكونت في غفلة من الزمن تجاه السينما!.. هل من الضروري التردد أو التهيب ونحن نتطرق إلى الرفض الاجتماعي، الذي يبدو شبه عام تجاه السينما؟.. هل من حيف إذا ما تبينا نظرة الخفض الاجتماعي للسينما، حتى بات من الممكن لصق أشنع الصفات برواد صالاتها؟..

من تراه يتهيب من القول إن رواد صالات السينما، الراهنة/ اليوم، في مدينة عريقة من طراز بغداد، باتوا من حثالة المجتمع؟.. من تراه يلوم من يقول إن رواد صالات السينما، في الوضع المأزقي الذي وصلت إليه، بعد شوط من التدمير السياسي والاجتماعي والثقافي الفكري، باتوا من العاطلين عن العمل، الهاربين من المدارس، الجنود في إجازاتهم، السكارى، الحشاشين، وممارسي الشذوذ الجنسي والذهني؟!..

هل كان هذا قدر صالات السينما ذاتها؟.. أم أنه كان نتاج مسيرة طويلة من التدمير المنظم، أو شبه المنظم، الذي طال مختلف صنوف طرز الإبداع والثقافة والفكر والفنون والمناشط الاجتماعية، في بلد كان له نصيب وافر من كل ما هو مأسوي ومفجع؟!.. أليس هو نتاج التحولات المدمرة التي شهدها العراق، عقداً بعد عقد، وجيلاً بعد جيل؟.. هذه التحولات التي نسفت تجربته الاجتماعية والحزبية والثقافية الليبرالية، المديدة، وذات التراث العريق، وأعادته إلى المربع الأول، أي إلى ما قبل الدولة، وقبل السياسية، والتجربة الحزبية الليبرالية، وأعادته بالتالي إلى الطائفية والمذهبية؟!..

في واقع راهن، من هذا الطراز، يتوقف الفيلم أمام تلك المقولات التي تصل إلى حد الفتوى الدينية، التي لا تتوانى عن القول إن «السينما حرام»!.. وسيستعين الفيلم بمجموعة من عارضي الأفلام السينمائية المحترفين، في صالات بغداد، وعدد من النقاد السينمائيين، وبعض العاملين في السينما، وجمهورها، لوضع اليد على خطورة ما وصل إليه الوضع في العراق الراهن، وقد أصابه منذ العام 2003، ما بات العالم يعرف، بصورة أو بأخرى!..

لن يقترب الفيلم أبداً من أحاديث السياسة، وسيبقى وفياً لبؤرته: صالات السينما في العراق. ومع ذلك فإن الأحاديث بعموميتها سوف تلقي ظلالها، بل أنوارها الكاشفة والفاضحة لما جرى في العراق. سيقول أحدهم، بكل الحذر: «بعد التغيير، انتقلت السينما من سيف السلطة السياسية إلى سلطة الرقابة الدينية». ويستغرب أولئك الذين أمضوا حيواتهم وراء آلات العرض السينمائي، في حجراتها الصغيرة، كيف أن في إيران ثمة سينما.. فلماذا عندنا من يعتبرها «وكر الشيطان»؟..

السينما صناعة. السينما ثقافة. وهناك من يرى أن بين رجال الدين من يميز بين الاستخدام الصالح، أو الاستخدام السيء للسينما. وينتهي النقاش إلى أن «السينما لا تكتفي بأن تمنح المتعة، بل إنها تصنع التاريخ». فهي بالنهاية «كالبندقية، الشرطي يحمي الناس، والمجرم يقتل الناس»!..

هل كان العراق يحتاج لمحاججة من هذا النوع، بعد مرور مئة عام على ولادة السينما، ومعرفته للعروض السينمائية؟..

لعل المخرج خالد زهراو اختار متقصداً أن يضع أكثر من تمهيد، قبل الولوج إلى جوهر موضوعه، وهو الحديث عن تاريخ صالات السينما في العراق، ومن خلاله تبيان تاريخ العراق نفسه، على الصعد كافة. فمع صالات السينما سنكتشف أننا نتمكن من الاطلاع على التاريخ السياسي، عهداً إثر عهد، ومحنة تلو أخرى. كما سنرى أشياء من جوانب التاريخ الاجتماعي الاقتصادي، بل والثقافي والفكري والنفسي للعراق.

سيعقد الفيلم لقاءات عديدة مع مجموعة من عارضي الأفلام في صالات السينما العراقية، ومنهم من أمضى أكثر من ستين عاماً. إذا يذكر عارض سينما أنه يعمل في السينما منذ العام 1947، ويذكر أن أقدم ماكينة سينما في العراق امتلكها «حمادة علي»، الذي تعلم من «مستر سليمان»، وكان هذا يعمل مع الهنود والبريطانيين.

كما سيدخل الفيلم غرف العرض، لنرى آخر ما تبقى من ماكينات عرض أفلام العصر الذهبي للسينما في العراق. وسيجوس الفيلم في الصالات، يمر على بوابتها، وواجهاتها، ويتأمل مبانيها، ويستعرض روايات متعددة من تاريخ صالات العرض السينمائي في العراق.

تقول رواية، لأحدهم، إنه في عام 1911 شهدت بغداد أول عرض سينمائي. كان ذاك في «بستان حافظ القاضي»، وكان العرض لأفلام قصيرة. وأن لا أحد يعرف بالضبط من أتى بهذا الجهاز العجيب.

وسيؤكد العارضون جميعهم أن أهل بغداد يحبون السينما. كانوا ينتهون من أشغالهم، يتأنقون، ويذهبون إليها، يمتعون أنفسهم بأفلامها. وكان للصالات السينمائية أن تنتشر بتواتر من الأعظمية إلى الكرادة.

للذاكرة نصيبها، في هذا الفيلم، وهي تستذكر أنه، في بداية الستينات، وعلى أدنى تقدير من أحدهم، كان في بغداد ثمة 76 صالة عرض سينمائي. حينها كانت صالات السينما البغدادية تعرض مختلف أنواع الأفلام: فصالة سينما «سميراميس» كانت صالة سينما العائلة؛ سينما واسعة، وراقية، بتعبير تلك الأيام. وصالة «سندباد» كانت تعرض الأفلام الهندية. وصالة «النصر»، تعرض أفلام الأكشن، والأفلام العربية. وصالات «باب الشرقي«، تعرض أفلام الكاوبوي، والأفلام التاريخية.

كما كان في بغداد صالات السينما الصيفية، التي من دون سقف، بينما كان في الكرخ أربع صالات سينما هي: زبيدة، الأندلس، بغداد، اليرموك. وكان في قاعة المأمون، صالة سينما، ولكنها لم تستمر طويلاً. أما بالنسبة للرصافة، ففي شارع الرشيد كان يوجد ست صالات سينمائية، هي: الرشيد، الوطني، الشعب، علاء الدين، كولومبيا، روكسي. وفي باب الشرقي: حديقة الأمة، كان خمس صالات سينمائية: غازي، ميامي، شهرزاد، الحمراء، الرصافي، غرناطة. واشتهر شارع السعدون، بصالات: سندباد، النجوم، أطلس، سميراميس، النصر، بابل. فضلاً عن ملهى الكروان الذي أصبح سينما السعدون.

يقول أحدهم إنه كان في بغداد الخمسينيات والستينيات 26 صالة سينما، بينما الآن لا يوجد سوى ثلاث صالات. غالبيتها تحولت إلى معامل نجارة، أو محلات بيع مشروبات روحية.. بينما يقول آخر إنه يوجد الآن ست صالات، في بغداد، يستذكر منها: سميراميس، السعدون، أطلس، غرناطة، النجاح، الرصافي. وسيتفق المتحدثون على أن الكادر العامل في هذه الصالات بات ضعيفاً، غير مؤهل. وأن المحافظات العراقية الأخرى لا يوجد فيها صالات سينما، ليس في الكوت، الحلة، الناصرية.. اللهم سوى في الموصل، حيث يوجد قليل من الصالات. دون أن نتحقق من ذلك!..

وبالاضافة إلى جغرافية توزيع الصالات، يذكر أحد أصحاب الصالات أنه في الخمسينات كان في بغداد صالة سينما روكسي التي تحتوي 1700 مقعد، وتعرض أفلاماً أجنبية ضخمة. من طراز سبارتاكوس، هرقل، سانغام. وصالة سينما ريكس التي كانت تحتوي 600 مقعد، وتتخصص بعرض أفلام أجنبية ناعمة، خفيفة. فضلاً عن صالة سينما روكسي الصيفية، التي عرضت بعض الأفلام العربية، منها للمطرب فريد الأطرش، خاصة فيلمه «تعال سلم».

ولا ينسى المتحدث ذكر صالة سينما الخيام، وعرضها فيلم «أم الهند»، الذي حضره عبد الكريم قاسم. وصالة سينما الشعب، في شارع الرشيد. التي كان اسمها سينما غازي، لأنه كان يدخلها الملك غازي. ويذكر أن الناس كانوا يسلمون الملك أوراقاً عليها أرقامهم الهاتفية، عند مغادرته الصالة. وينتبه إلى أنه بعد العام 2003، أصبحت واحدة من هذه الصالات معمل نجارة، والأخرى حماماً، والثالثة معرض أثاث!..

هل هذا مؤشر كاف للانهيار؟.. لا تكاد الروايات تتناقض، وإن اختلفت في بعض تفاصيلها، أو ذهبت نحو أشياء من التدقيق والتفاصيل: سينما سميراميس تحولت إلى محلات لعرض الموزاييك. سينما بابل أضحت مقسمة إلى عدد من محلات بيع مشروبات روحية. وبعض الصالات تحولت إلى مواخير.

انهيار التاريخ الأنيق لصالات السينما العراقية، يغدو المعادل لانهيار التاريخ العراقي ذاته. الصورة تتكسر وتتهدم تحت وقع التحولات التي جرت، وفي وقت نجد، الآن، أن شارع السعدون، مثلاً، والمعروف بوجود صالات العرض السينمائي فيه، قد استنكفت العائلات حتى عن المرور فيه، مجرد المرور!.. إذ أصبح الشارع موبوءاً بسبب وجود صالات السينما فيه. وفي وقت أصبحت صالة العرض السينمائي «شبهة»، لأن منها ما بات يعرض أفلاماً سخيفة وإباحية.. سنتذكر أنه في وقت مضى كانت السينما ثقافة. وكان الجمهور مثقفاً. ولكن مع انهيار العراق انتهى الجمهور، وفرغت الصالات للحثالات.

في زمن غير هذا. في عراق مضى. كانت صالات السينما ذات طقوس وعادات قد تبدو اليوم أقرب إلى الحلم. كراس مرقمة. اللباس المناسب. الاستعداد العائلي لقضاء سهرة. اللوج المخصص للعائلة. تقديم الخدمات. توفير المرافق. يومها كانت حتى باصات المصلحة تنتظر الخارجين من السينما، بعد منتصف الليل، لإيصالهم إلى وجهاتهم. كان ثمة أمن وأمان، وراحة واستقرار..

في زمن غير هذا، في عراق مضى. كانت صالات السينما تعرض خمسة أدوار: دور العاشرة للشباب، دور الواحدة للطلبة، دور الأربعة للعوائل، دور السبعة للعوائل، ودور التاسعة للعوائل الراغبين في السهرة مع السينما.

كانت الصالات مزدحمة. وكان الكثيرون يكسبون أرزاقهم على أبواب صالات السينما: سائق التاكسي، بائع السندويش، بائع المثلجات، بائع المشروبات الغازية..

يومها كانت العائلات. الوزراء، والمدراء العامون، ووجهاء البلد، يأتون الى صالات السينما، هم وعائلاتهم. السينما كانت لها مكانتها، ولم يغب عنها حتى الرؤساء والملوك. الملك غازي/ الملك فيصل الثاني، عبد الكريم قاسم، عبد السلام عارف.

وستختلف الروايات بصدد الأزمة التي طالت صالات السينما العراقية، وبداياتها، خاصة وأنها تترافق مع الانكسار الكبير الذي بدأ العراق يشهده، فثمة من يرى أنها بدأت في السبعينات، ومنهم من يعيدها إلى أواخر الخمسينات، لافتاً النظر إلى أن أصحاب بعض الصالات السينمائية كانوا من العراقيين اليهود، مستذكراً صالات سينما النجوم، سينما الحمراء، وسينما دار السلام التي أصبحت سينما غرناطة.

المثير أن هذه الصالة الأخيرة؛ غرناطة، ستشعل ذكريات مثيرة، فثمة من يقول إنها كانت الأكثر أناقة وإثارة ونظافة وجمالاً. كان اسمها «ريو»، وبعد إصابة عبد الكريم قاسم سميت دار السلام، وافتتحها عبد السلام عارف بفيلم «مدافع نافارون». وتخصصت بالأفلام الجميلة البوليسية، والحركة، وأفلام آلان ديلون.

واليوم سنرى إطلالة فاجعة لصالة غرناطة هذه؛ صالة الأفلام الجميلة، وصالة الذكريات الحميمة، وصالة التاريخ السياسي. الكاميرا ترينا بناءً متداعي الأركان، متهالك العنوان، متساقطه. أمامه أكوام من القمامة. متسولون بؤساء يفترشون الأرض، أين منهم الجمهور الذي سمعنا عنه طيلة الفيلم. هل من المبالغة القول إن هذا المشهد يكاد يلخص تاريخ العراق، بين ما كان، وما هو كائن الآن؟!..

لن يلملم الفيلم تفاصيله قبل أن يشير بغموض إلى مصير الأرشيف السينمائي العراقي، الأبيض وأسود، قبل الملون، متسائلاً: أين هو الآن؟.. لن يجيب الفيلم حاسماً، بل سيكتفي بإيراد روايات وافتراضات وآراء تزيد الموضوع غموضاً.

بعد العام 2003، جرت عمليات واسعة من النهب والسرقة شملت الذاكرة العراقية، كلها، ومنها الأفلام العراقية. دائرة السينما والمسرح، يبدو أن لا علاقة لها بالموضوع. وثمة عارض سينمائي يتجاسر فيتهم نفراً من أهل الاختصاص، أولئك الذين باعوا الأفلام فصلاً فصلاً، بألف وألفين.. مؤكداً أن الأفلام العراقية لا تقل أهمية عن المسلة العراقية.

أفلام عراقية من طراز: الحارس، الجابي، الأسوار، النهر.. ضاعت إبان السقوط. احترقت. سُرقت.. هناك من يقول إن ثمة من ذوبوها، وأخذوا منها نترات الفضة، ورموا تاريخ السينما العراقية في القمامة!.. آخر يجزم بأنه لم يتم حرقها، فعلاً، بل هناك من أخذها، استولى عليها، ويجزم بأنهم محترفون، يعرفون أهميتها!..

يبقى من الأهمية بمكان التأكيد على أن أول صالة سينما في العراق؛ صالة «أولمبيا»، قد تأسست عام 1918، أي قبل تأسيس الدولة العراقية ذاتها عام 1921. وكذا التأمل فيمن يقول: الآن= لا صالات عرض سينمائية. لا سينما عراقية. لا صناعة سينما عراقية. ولا أمل في الأفق لقيام صناعة سينما عراقية..

ومع ذلك، فلا بد من الانتباه إلى صاحب صالة سينما عراقي، ذاك الذي يضع حياته كلها مقابل الرهان على قدرته لاستعادة الجمهور العراقي إلى الصالات مجدداً.. ويقول: «إعدموني إن لم أنجح»!.. وإلى ذاك العارض السينمائي العراقي الذي يقول إنه لو جُرح فسيخرج من وريده شريط سينمائي.. لنؤمن أنه يمكن للعراق أن يوقد ناراً تحت موقد الأمل. مرة أخرى، ومن جديد.

لن تعجبنا نبرة الإعدام، التي يقولها صاحب صالة سينما.. ولن نرضى بها.. فنحن نؤمن بأنها باتت تنتمي لأزمان مضت، أو ينبغي أن تنتهي، لأنها تنتمي إلى زمن كان الأساس في كل ما رأيناه من انهيار.. ولكننا سننوه بهذا الجهد الكبير، والاشتغال البارع الذي حققه المخرج العراقي خالد زهراو في فيلم تسجيلي رائق فعلاً، واستثنائي عملاً.

المستقبل اللبنانية في

13/06/2010

 

أبو حالوب: محنة المزاج البغدادي الذي لا يسأم

فجر يعقوب 

ليس لبيد اختصاراً لاسم عراقي عاش المنفى وتذوّب فيه بطريقته. إنه تحول في المعطى الإنساني الذي حاق بكل هذه المخلوقات الآدمية، وهي تجرب العذاب، وتتقلب على جمر الغياب المهلك فرادى وجماعات. بما يخص لبيد الذي جرب حمل اسمه رغماً عنه، يمكن أن نقول إن صاحبه متواطئ مع الغربة الى درجة أنه مستعد كما يقول لشرائها بمبلغ مليون دولار على أن يعود للعراق صراحة بعد أن غادره متخفيا منذ أكثر من ثلاثة عقود. لبيد يعرف دلالة اسمه، ويشاركه العراقيون هذه الدلالة. هم وحدهم متيقظون عند الحروف الأبجدية التي يتكون منها اسم أبو حالوب، بعد أن ضاع لبيد في زحمة الكون، وتشتت بعد أن غادر وطنه نهاية منتصف سبيعنيات القرن الماضي، وأصبح على ماأصبح عليه: أبو حالوب الذي لايمتلك من قوة الأسد شيئا، بعد أن جرب القعود ثلاثين عاما على كرسي من الخيزران، وبمحاذاة طاولتين، واحدة للصباح، وواحدة للمساء في مقهى الروضة الدمشقي، بعد أن قسّم غربته إلى فترتين، وهو لابد متمسكا بالقطار الذي سيمر سريعاً ذات يوم من دون أن يراه.

يضحك في عرينه المفتوح على الخيبات، ويظل لابداً لا يعرف فريسة من أي نوع، وهو لا يعرف من قوة الاسد سوى ما قرأه عن ثمانين معنى يحملها ملك الغابة في القاموس المحيط. «أعرف أن أظل لابداً في مكاني..هذا ما استسقيته من الوحش الضاري في منامي وصحوي».

ليس للمواطن لبيد (أبو حالوب)، الذي قدّر للشاعر العراقي الراحل محمد مهدي الجواهري أن يكتب بضعة أبيات فيه، صنفت في باب الإخوانيات فيما بعد، أن يتحول إلى مرجعية عراقية في المنفى دون أدنى سلطة سياسية أو اقتصادية أو روحية، لولا تحوله إلى اسم كوني طافح بالدلالات لرجل أضاع اسمه الحقيقي في زحمة الأسماء الكثيرة التي أتقن العراقيون التفلت منها بحكم مراسهم الطويل الصعب في المنفى المركب بجهوزية دائمة للنيل من المبحرين فيه، وهم الذين أتقنوا أيضا السباحة الحرة في محنة الأسماء المستعارة المحيرة: أسماء كثيرة مرّت من فوق رؤوسنا ودارت على ألسنتنا ونسينا بعضاً منها. أسماء كثيرة لم تحظ بشرف المنافسة من أحد. حتى الفلسطينيون الذين تفننوا باختراع الأسماء الحركية والألقاب الثورية لم يقووا عليهم، فقد ظل العراقيون على عنادهم المحير بما يخص أسماءهم المستعارة التي كانت تستند إلى مرجعيات دينية ويسارية وقومية وثورية فائرة كانت تقوى وتشتد مع مغادرة كل عراقي للعراق الرازح تحت ديكتاتورية لا ترحم.

أبو حالوب ظاهرة فريدة بين كل هؤلاء. قنصل في المنفى وفي البيت الذي تمتد جذوره الآن إلى عشوائيات دمشق، واسمه لا يعبر عن كل هذه المرجعيات. إنه ببساطة كما يقول عنه الشاعر العراقي محمد مظلوم: «مزاج بغدادي لا يستند إلى احالة فئوية أو حزبية «. مزاج بغدادي يستمد قوته من تشرده في عواصم الدول الاشتراكية، وهو قد أصبح بعد هذا التشرد الفج رفيقاً برتبة عامل مطبعة. كان عليه أن يتخذ لنفسه اسماً يبعد عنه شبهة اللابد الأبدي في أمكنة متعددة. كان أبوحالوب في مقدمة هذه الأسماء، لأنه الاسم الأقرب المستخلص من التجربة السوفياتية الغامضة. ولم يكن الاسم إلا مفخرة عراقية خالصة، ف (الحالوب) هو البرد، أو حب العزيز، وهو مقترح الاسم المستعار الذي وجد فيه ملجأ اضافياً يعينه على البرد الموسكوفي، ويحمي «زئيره» الافتراضي في المنفى ليدافع عن نحولته ومساكنته الأبدية للضعف البشري، أو للتخلص ولو إلى حين من محنة الأسماء المستعارة التي أوغل العراقيون فيها دون رحمة.

بالتأكيد لا يمكن الآن العبور نحو أي من هذه السماء دون الاصطدام بلبيد في زاوية عراقية ما. هذا أمر مستحيل، فالرجل الذي قضى ثلاثة عقود من عمره في مقهى ليس غمامة على طاولتين، فهو أصبح ملماً بأسرار المنفى الجائر، لا يغيب عنه صاحب سر أو فضيلة أو خرافة متوقدة في ذهن عراقي، وهو قد تجاوز رتبة القنصل الفخري المقيم في المنفى. لم تعد هذه الجهة تثير فيه لحن الخوف والاستغراب، فمكانه قد تحدد على طاولتين لايغادرهما إلا باتجاه مصير الاسم نفسه الذي اقتبسه عن سابق تصور وتصميم من تلك البلاد السوفياتية الباردة، بعد أن قضى فترة طويلة هناك يسائل نفسه عن أسباب دهن الرفاق لجذوع الأشجار بالكلس البيض، دون أن يصل إلى اجابة شافية.

كانت بلاد ناتاشا وسفيتلانا مرحلة عابرة للتملص من حقبة الجواهري، وهو لم يعد يذكر من لبيد سوى أبيات الشاعر الكبير، فقد ضاعت ذكرياته الأخرى عنه، ومع ذلك يريد أبو حالوب أن يفلت من سطوة أبي فرات على اسمه وماضيه: «كنت في التاسعة من عمري عندما رآني الجواهري بصحبة والدي، وقال ماقاله».- يقولها وكأنه ارتكب جناية ما «أنا الآن أبو حالوب، وأعرف أن مكاني هنا، ولا أشتري عودتي للعراق. العراق لن يعود إلى سابق عهده، فهو بلد حروب وتصفيات، وانتهى عن بكرة أبيه.. سأنتظر خمسين عاما أخرى قبل أن أقرر عودتي».

يدرك أبو حالوب بصفاء سريرته المعدة للمزاح الأبدي إنه قطع مسافة كبيرة من عمره، وهو له طريقة في عدّ أيامه الباقية، تبدأ من تذويب السكر في «أستكان» الشاي، فيما هو يغمر الصحن بملاعق صغيرة من السائل الأحمر، بحجة انتزاع طبقة الدهن التي تتجمع فوق طبقة الشاي الساخن، ولا تنتهي بارتشافه ثانية في لحظة نشوة. ومن المؤكد أن هناك طريقة أسهل في عدّ أيامه على طاولتيه المفضلتين من خلال الأصدقاء الذين يتوافدون عليه يومياً لملاعبة المزاج البغدادي الوحيد، وهم يعودونه، كما لو أنه ماكيير حيواتهم الصعبة. يقصدونه سلماً وحرباً عبر رسائل الهواتف الجوالة، ويتخاطرونه عبر المسنجر، فيما هو سينتظرهم خمسين عاما أخرى في زحمة المنفى قبل أن يعود من ورائهم إلى العراق، ومعه شراب الساكي الذي وعده به صديقه الشاعر السوري المقيم في طوكيو محمد عضيمة. مع الشراب الياباني القوي ستصبح لعبة المنفى أشد طرواة، فهو حتى ذلك الحين لن يغير شيئاً من عاداته: «سأجيء كل يوم في الثامنة صباحاً، وسأغادر لتناول طعام الغداء في الثالثة وعشر دقائق، وأعود إلى تربتي الثانية في الرابعة إلا ربعاً، ولن أغادر المقهى إلا في العاشرة وخمس دقائق ليلاً«.

من المؤكد أن أبو حالوب يريد اليوم أن ينسى أبيات الجواهري التي تذكره بفروسية لبيد المضاعة. هو ليس سجل اختفاء. ليس أبو حالوب سجل اختفاء أبدا. إنه ظاهرة عراقية لا تتكرر، تتقن تركيب الأسماء بجدارة تدعو للعيش، وأبو حالوب عاش حياته في المنفى بجدارة كما ينبغي أن تعاش، وهو من بعد كل تلك الجسارة يتمتع بجدارتين: الطاولة الصباحية التي تعكس مزاجاً بغدادياً لا تستوطنه الفئويات الحزبية المهلكة، والطاولة الثانية التي تعكس مزاجاً دمشقياً متلوناً خالياً من تنغيصات حلم العودة إلى العراق. وبين الحالتين لايعود لبيد إلى مكانه، فما بقي من أبي حالوب يتعدى حبتين أو ثلاث حبات من آخر زخّة من زخّات حب العزيز (البرد)، وما قاله محمد مهدي الجواهري يشكل له ورطة كبرى يريد أن يتخلص منها بقدرة الرفاق الجدد في المنفى الطوعي، الرفاق اللامرئيون الذين يطعنون في السن وهم معلقون على أعمدة الكهرباء. ما قاله أبو فرات سجل اختفاء نادر:

ألبيد عشت الدهر عمر لبيد

غض الصبا، ألقاً، طري العود

أهديك من شعري أعز وليدة

زفت إليك، وأنت خير وليد

ألبيد نحن الأسبقون معابر

لممر جيل من ذويك جديد .

المستقبل اللبنانية في

13/06/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)