حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان طريفة:

السينما الأثيوبية تحصد الجوائز

محمد سعيد محفوظ - طريفة

بإعلان جوائز مهرجان السينما الأفريقية في طريفة، تنتهي واحدة من أقوى دوراته منذ تأسيسه عام 2003، عرض فيها أكثر من مائة وثلاثين فيلماً أنتج أو تدور قصته حول أفريقيا، واستضافت العشرات من نجوم وصناع الفيلم الأفريقي أو المهتمين به، وصارت طريفة ـ تلك المدينة الواقعة في إسبانيا على بعد كيلومترات من المغرب ـ ملتقى للقارتين الأوروبية والأفريقية، ليس في السينما فحسب، ولكن في الاستعراض والموسيقى والتصوير الفوتوغرافي، وغيرها مما انعكس على أنشطة المهرجان..

جاءت الجوائز مرضية للمشاركين ومطابقة لتوقعات الجمهور والنقاد، حيث نالت أغلب الأفلام الفائزة استحسان من شاهدها، ودارت في أروقة المهرجان توقعات بالأفلام الفائزة منذ الأيام الأولى، لم تبتعد عنها النتائج كثيراً..

حصلت إثيوبيا على عدد كبير من الجوائز، فقد فازت بالجائزة الأولى في مسابقة الحلم ا المُخرج الوثائقي الفرنسي "كريس ماركر" (Chris Marker) الذي ولد في فرنسا سنة 1921 هو دون منازع شاعر السّينما الوثائقيّةلأفريقي للأفلام الروائية الطويلة، وقيمتها خمسة عشر ألف يورو  وفازت بها هيل جيرما (طراوة الصباح)، وهو إنتاج مشترك مع ألمانيا وفرنسا، ومنحت له الجائزة لقدرته على تجسيد تاريخ القارة بأكملها عبر سيناريو محكم، وأداء استثنائي للبطل، والإخراج المدروس، والفيلم يتناول اغتراب الأفارقة المثقفين داخل وخارج أوطانهم، من خلال قصة الطبيب الإثيوبي أنبربر مننذ السبعينات وحتى الآن، خلال رحلة اغترابه في ألمانيا، وحتى عودته لقريته واصطدامه بالواقع الجديد.

أما جائزة أحسن مخرج لفيلم روائي طويل وتبلغ عشرة آلاف يورو فنالتها المخرجة الأوغندية كارولين كاميا عن فيلمها (إيماني)، وبررت لجنة التحكيم قرارها بأن الفيلم يظهر قدرة الجيل الجديد من المخرجين الأفارقة على التعبير عن رؤيتهم للعالم، كما فازت رحيمة نانفوكا بجائزة أفضل ممثلة عن دورها (ماري) في هذا الفيلم، وقيمة الجائزة ألفان وخمسمائة يورو تبرعت بها شركة خدمة العبارات السريعة في مضيق جبل طارق، بينما حصل على جائزة أفضل ممثل وتبلغ نفس القيمة كل من كين أمباني، وأبو بكر مويند، وجودفري أودهيامبو عن أدوارهم في الفيلم الكيني (الهمس).

جائزة الجمهور الخاصة في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة وتبلغ خمسة آلاف يورو والكأس، حصل عليها كل من الفيلم الإثيوبي (الرياضي) من إخراج راسيلاس لاكيو، وهذا الفيلم إنتاج مشترك مع الولايات المتحدة وألمانيا، كما فاز بالجائزة الفيلم المصري (احكي ياشهر زاد) من إخراج يسري نصر الله.

أما مسابقة (الجانب الآخر من المضيق) للأفلام الوثائقية، ففاز بجائزتها الأولى وتبلغ عشرة آلاف يورو، فيلم (دموع الهجرة) من إخراج ألاسان دياجو، كما نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة في هذه المسابقة فيلمان، هما الفيلم المغربي (لعنة البحر) من إخراج جواد رحاليب، وفيلم (زحام التل) من بوركينا فاسو إخراج بيرني جولدبلات.

وأخيرا، فاز بجائزة مسابقة (أفريقيا باختصار) للأفلام القصيرة، وقيمتها ألف وخمسمائة يورو، الفيلم التونسي (العيشة) إخراج وليد طايع، وتتضمن الجائزة شراء هيئة الإذاعة والتليفزيون الأندلسية حقوق بث الفيلم، أما جائزة الجمهور في هذه المسابقة وتبلغ ألفي يورو فمنحت للفيلم الإثيوبي (ليزار) من إخراج زيلاليم ولد مريم.

عروض المهرجان جرت في ثمانية أماكن بالمدينة، منها قلعة باتيو، وسوق طريفة، وميدان 28 فبراير، إضافة للعديد من القاعات التاريخية والحديثة، وأتت الأفلام من أكثر من عشرين دولة أفريقية، إلى جانب أفلام من دول أخرى تتناول قصصاً أفريقية، مثل الفيلم الوثائقي البرتغالي (باب سبتة)، والفرنسي (رحلة إلى مدغشقر) بالرسوم المتحركة، والفرنسي الألماني (مهرجان عموم أفريقيا) من إخراج وليم كلاين، وغيرهم..

وخارج المسابقات، تضمن المهرجان عروضاً قسمت إلى (أفلام الشاشة المفتوحة) في الهواء الطلق، والإيقاع الأفريقي، والرسوم المتحركة، كما عرضت أفلام في قسم الذكريات، تستعيد تجارب رواد السينما الكوبية، باعتبارها رافد هام تأثرت به السينما الأفريقية، ومن هؤلاء الرواد نيكولاس جولين لاندريان، سارة جوميه، جورج لويس سانشيه، خوسيه ماسيب، وغيرهم..

وعلى هامش المهرجان، نظمت أنشطة أخرى، مثل معارض للصور الفتوغرافية، ومؤتمرات تناقش آليان النهوض بالسينما الأفريقية، وورش للرقص الأفريقي وصناعة الأفلام..

وجدير بالذكر أن هناك العديد من المهرجانات التي تركز على السينما الافريقية في العالم، مثل مهرجان خريبكة في المغرب، ومهرجان الجزائر، ومهرجان الفيسباكو في أوجوادوجو، ولكن ما الذي يميز مهرجان طريفة عن هذه المهرجانات؟

مهرجان طريفة هو مهرجان إسباني يعبر عن الاحتفال الأوروبي بالقارة السمراء، ولا نجد في المهرجانات الأخرى سوى ما ينبغي فعله من صناع الفيلم الأفارقة تجاه إنتاجهم السينمائي المحلي.. ورغم أن للسينما الأفريقية أكثر من مهرجان في أوروبا، مثل مهرجان لندن للسينما الأفريقية، وقسم السينما الأفريقية الجديدة في مهرجان صن دانس، وغيرهما، إلا أن مهرجان طريفة يكتسب أهمية خاصة.. فإسبانيا على وجه الخصوص تحتاج إلى احتواء القارة السمراء، فقد بدأت مشكلة الهجرة غير الشرعية من أفريقيا إلى الأراضي الإسبانية عبر مضيق جبل طارق، تتخذ أبعاداً دراماتيكية في الفترة الأخيرة بحسب تعبير منظمات لحقوق الإنسان، ومع تفاقم هذه الظاهرة تضاعف حرص إسبانيا على إيجاد وسائل غير مباشرة لتشجيع الأفارقة على البقاء في بلدانهم، وكان تسليط الضوء على القضايا الأفريقية ودعم الموهوبين الأفارقة وإشعارهم أنهم ليسوا وحدهم في هذا العالم، برنامجاً أساسياً لدى إسبانيا، ترجم في عدة أنشطة، كان أبرزها مهرجان طريفة للسينما الأفريقية، من أجل أن ينمو الوعي الأفريقي، وتصبح القارة السمراء قادرة على حل مشاكلها..

وفريق مهرجان طريفة هو مجموعة من الشبان الإسبان وذوي الأصول الأفريقية، الذين يعشقون الفن السابع، ويؤمنون بالثقافة الأفريقية، ويرغبون لها في البقاء، تقود هذا الفريق ماني سيزنيروس مانريك مؤسسة المهرجان منذ سبع سنوات. وقد أجرت معها الجزيرة الوثائقية حوارا حينما حلت ضيفة على مهرجان الجزيرة الدولي للأفلام التسجيلية. وقد نُشر الحوار على الموقع الأسبوع الماضي.

ومن الملفت للنظر تضاعف اهتمام ضيوف المهرجان الغربيين بالسينما الأفريقية هذا العام بعد فوز المخرج التشادي محمد صالح هارون بجائزة لجنة التحكيم الخاصة من مهرجان كان قبل أيام عن فيلمه الروائي الرابع (رجل يصرخ)، والواقع أن هذه الجائزة لم تُدخل تشاد إلى تاريخ السجادة الحمراء فحسب، وإنما أمدت صناع الفيلم الأفريقي بالأمل، ولفتت انتباه العالم إلى التفرد السينمائي في القارة السمراء، والذي لم ينل حظه من الشهرة بعد، حتى مع نيل هارون هذه الجائزة الرفيعة..

فيلم (رجل يصرخ) يروي قصة منقذ مسن في حمام للسباحة بأحد الفنادق يتقاعد، فيعتبر ذلك انتقاصاً من خبرته، وعندما يعود لعمله يفقد ابنه في الحرب.. وكانت هذه هي المشاركة الثانية لهارون في مهرجان كان، حيث سبق له الاشتراك في المهرجان بفيلم (أبونا) عام 2002، وهو الفيلم البديع الذي ألهمني أنا شخصياً في فيلمي (أي كلام) الذي فاز بجائزة في مهرجان الجزيرة للأفلام الوثائقية العام الماضي.

وطريفة هي البوابة الجنوبية لأوروبا، وهي أقرب مدينة أوروبية لأفريقيا، حيث يفصلها عن المغرب مضيق جبل طارق.. حتى أنه بإمكاننا أن نرى البيوت المغربية من هنا على الجانب الآخر من المضيق..

ومن الملاحظ أن المدينة القديمة في طريفة ما زالت تتميز بالطراز المعماري الإسلامي، وإن كانت بعض المساجد قد هدمت وبنيت عليه كنائس، مثل كنيسة القديس متى، التي شيدت في القرن السادس عشر، وكذلك كنيسة القديسة مريم..

أما اسم المدينة فينسب إلى القائد الأمازيغي طريفة بن مالك، الذي قاد أول حملة إسلامية إلى الأندلس عام سبعمائة وعشرة ميلادية..

الجزيرة الوثائقية في

01/06/2010

 

رموز : الفرنسي "كريس مَارْكِر"

هادي خليل - تونس  

المُخرج الوثائقي الفرنسي "كريس ماركر" (Chris Marker) الذي ولد في فرنسا سنة 1921 هو دون منازع شاعر السّينما الوثائقيّة. قَدِم إليها عبر بوّابة الصّورة الفوتوغرافيّة التي مارسها في بداياته، معتبرا إيّاها التّعبيرة الفنيّة المُثْلَى في تثبيت لحظات خالدة، منعتقة من فعل الزّمان والتّاريخ. تبرز هذه المسحة الفوتوغرافيّة الرّائقة للصّورة السّينمائيّة في فيلمه الشّهير "رصيف الميناء" (La Jetée) الذي صوّره عام 1962 والذي مثّل، بالنّسبة إلى النّقّاد وإلى المهتمّين بالشّأن السّينمائي، محطّة تأسيسيّة مضيئة وناصعة في مسار ما يُسَمَّى بـ"شاعريّة السّينما الوثائقيّة". هذا الشّريط التّجريبي بالأبيض والأسود هو عبارة عن وصل من القصائد عن جمال الطّبيعة وسحرها الأخّاذ وخاصّة في ثبوتيّتها وسكونها واسترخائها، مفتوح على قصّة حبّ شائكة.

ظهر "كريس ماركز" في فترة ما سمّي بفرنسا، في الخمسينات والستّينات، بِـ"الموجة الجديدة"، تحت قيادة سينمائيّين مرموقين مثل "إِيريك رُهْمر (Éric Rohmer) وجان لوك غودار (Jean-Luc Godard) و"فرانسوا تروفو" (François Truffaut) و"جاك ريفات" (Jacques Rivette) وغيرهم، قوّضت أنماط السّرد التّقليدي واعتمدت شخصيات جديدة خارجة عن السّرب وعن قواعد المجتمع ووظّفت في السّياق الرّوائي، بين الحين والآخر، مشاهد وثائقيّة مأخوذة من وقائع الحياة اليوميّة العابرة والعرضيّة وكأنّ الخيال في تجاذب مستمرّ مع الواقع. كان "مَارْكِر"، روحا وتوجّها، رمزا من رموز "الموجة الجديدة"، لكنّه كان ميدانه المفضّل السّينما الوثائقيّة التي حرص بواسطتها على مساءلة اللغة السّينمائيّة وعلى كشف الخدع والأكاذيب التي تكرّسها وتروّجها الصّور المهيمنة الطّاغية.

كان لا بدّ إذن "لكريس ماركر" من أن يهتمّ بصور الماضي وخاصّة تلك التي طبعت رؤيتنا للتّاريخ وأن يعيد النّظر، حسب تَمَشٍّ منهجي صارم، في ادّعاءاتها ومسلّماتها. فما يشتمل عليه أرشيف الوقائع المصوّرة ليس فقط الأحداث التّاريخيّة التي بَصَمَت الذّاكرة الجماعيّة وإنّما أيضا تصوّرات وتمثّلات عدّة. إنّ نظرتنا للتاريخ تُهَيْكِلُهَا صور واضحة لا هي واضحة ولا هي قابلة لأيّ نقاش. هنا تحديدا، يَكْمُنُ إسهام "ماركر" الحاسم في تاريخ السّينما الوثائقيّة، فهو أوّل مخرج نَقَدَ نقدا جذريّا الرّؤى التّاريخيّة المتداولة والمكرّسة، من داخل السّينما نفسها، كما يبيّنه فيلمه "ضريح اسكندر" (1993) وهو بمثابة إعادة قراءة لرؤيتنا للثّورة السّوفياتيّة البولشيفيّة من خلال تسليط الأضواء على مسيرة "اسكندر مِدْفِدْكِين" (Alexandre Medvedkine)، المخرج السّينمائي الذي اشتهر بفضل فيلمه السّاحر "السّعادة" (1934).

وبتركيزه على تقارب اللّقطات والمقارنة بينها، يبرز "ماركر"، في هذا الفيلم، ليس فقط العلاقات بين بعض الأحداث التّاريخيّة وإنّما أيضا الغشّ والمغالطات التي تَكْتَنِف مَسَارَها. لا يكشف المخرج الخدعة الشّيوعيّة بقدر ما يحاول فهم آليّات تكوين المخيال أو المتخيل الثّوري في القرن العشرين. ويلعب التّعليق دورا مهمّا في كيفيّة استجلاء الحقيقة. وقع صيَاغَته على  طريقة الرّسائل، يتجوّل بين الصّور على إيقاع تفكير المتجوّل وخواطره.

صوت المعلّق الذي يصطحب الصّور هو معطى محوري في ممارسة "ماركر" السّينمائيّة، إذ يتمتّع المتفرّج بحريّته كاملة، أي بتلك القدرة على أن يستعيد التّملّك في أحلامه. كان للتّعليق دور فاعل وحيويّ منذ أولى أفلام "ماركر" الوثائقيّة، على غرار خاصّة رائعته "رسالة من سيبيريا" الذي صوّره سنة 1957. ففي هذا الشّريط، يبيّن المخرج الوظائف المتعدّدة والملتوية التي يمكن أن يقوم بها الصّوت، جاعلا منه تمرينا أسلوبيّا الغاية منه التّدقيق في خدع ما سمّي بالرّؤية "الموضوعيّة" و"الحياديّة" في تصوير الواقع. سنة 1966، ذهب "ماركر" بعيدا في استنطاق العلاقة المُلْتَبِسَة والمعقّدة بين الصّورة والصّوت بإنجازه لفيلم متجذّر في التّجريبيّة بعنوان "لو كان لديّ أربع جمال" وهو عبارة عن رحلة بلا حدود في أكثر من عشرين بلد، من خلال الصّور الفوتوغرافيّة التي التقطها المخرج هنا وهناك.

السّينمائي الوثائقي هو رحّالة بالأساس. وما السّينما الوثائقيّة، أوّلا وأخيرا، سوى أُودِيسَا مفتوحة على بهاء العالم وعلى غرائبه المنطوية في ثنايا مشاهد الحياة اليوميّة. كان "ماركر" الكَاتب والمصوّر الفوتوغرافي والسّينمائي، تَوَّاقا إلى اكتشاف العالم بحسّه اليساري الملتزم لكن بعيدا عن كلّ دُغمائيّة إيديولوجيّة. في فيلمه "بلا شمس" (1983)، صوّر المسافرين في "ميترو" طوكيو، العاصمة اليابانيّة، في شتّى حركاتهم وتعبيراتهم وحتّى في نومهم، راصدا "وحشيّة" الحياة التّكنولوجيّة الحديثة والطّوبويّات التي تُدَغْدِغُ حَيَاة البشر.

كلّ سينمائي مهتمّ بصور الماضي بإمكانه أن يتّعض ويستفيد ممّا كان يردّده "كريس ماركر": "إنّنا لا نتذكّر وإنّه لا فائدة تُرْجَى من الذّكرى لغاية الذّكرى وإنّما نحن نعيد كتابة الذّاكرة مثلما نعيد كتابة التّاريخ".

الجزيرة الوثائقية في

01/06/2010

 

رُمُوز : المخرج الفرنسي "نيكولا فيليبار"

هادي خليل 

التّصوير السّينمائي يتطلّب الكثير من الوقت. الكاميرا هي آلة المعاينة ووسيلة للتّقارب. يعيش السّينمائيّون على وَقْعِ مَا يصوّرونه، مَانِحِين لأنفسهم المدّة الكافية والضّروريّة للبحث عن الخيوط الخفيّة في العلاقات بين الأفراد وبين لقطات الفيلم. غالبا ما تتّسم هذه الأفلام ببعد مأساويّ، كما نراه جليًّا في أشرطة المخرج الوثائقيّ الفرنسيّ "نيكولا فيليبار"  (Nicolas Philibert) الذي ولد سنة 1951.

فيلم "فيليبار" الشّهير، "الكينونة والمكسب" (Être et Avoir)، الذي رأى النّور سنة 2002، بعد عشر أسابيع من التّصوير في مدرسة فرنسيّة ريفيّة، هو حصيلة لما يفوق السّتّين ساعة من اللّقطات التي كان لا بدّ من تنظيمها وترتيبها حسب بِنْيَة منطقيّة. بَيْدَ أنّ المخرج، عِوَضَ أن يجعل من فيلمه مختارات لأحسن المشاهد المصوّرة، خيّر أن يَتَمَحْوَرَ شريطه، تلقائيّا كأنّه يتلمّس طريقة، حول رغبة الطّفولة الجامحة في أن تَكْبُرَ وتَتَعَلّم كلّ شيء في نفس الوقت. من خلال تواتر المشاهد، نتبيّن ما يميّز كلّ أفلامه ألا وهو الصّلة غير المعلنة التي يجب استنباطها كلّ يوم لكي تتمكّن مجموعة ظرفيّة من الأفراد أن تَصْمُدَ وأن تدوم.

فيما يفكّر السّينمائيّون؟ أو بالأحرى كيف يفكّرون؟ يجب الاستماع إليهم وهم يتحدّثون عن مُمَارَسَتِهم لكي نكتشف طُرق عملهم والأساليب التي يستعملونها لفكّ ألغاز مسائل تهمّهم. إنّ الفكر لا يتطوّر دوما بطريقة واضحة، إذ غالبا ما يسود في عمليّة التّصوير جانب من الغموض يجعل منه المبدع السّينمائي حافزا مهمّا في استقراء الواقع والنّفاذ إلى دلالاته المتشعّبة. ما يهمّ المخرج الوثائقيّ، أوّلا وقبل كلّ شيء، هو خلق علاقة بينه وبين شخوصه وما عمليّة الإخراج سوى تجسيدٍ حيٍّ لنبض هذه العلاقة التي يُوكَل لها تحديد إيقاع الفيلم وكلّ ما يفرزه، بين الحين والآخر من مفاجآت ومفارقات مُذْهِلَة.

عندما يصوّر "فيليبار" مؤسّسة ما، همّه الأساسي هو رصد ما يشوب أعمال الأفراد وحركاتهم وردود فعلهم من "تمثيل" و"مَسْرَحَة" وكأنّهم يُؤَدّون يوميّا دورا معيّنا حَفَظُوهُ عن ظهر قلب. ففي فيلم "المدينة – اللّوفر" الذي صوّره سنة 1990، ينفذ المخرج إلى كواليس هذه المؤسّسة المَتْحَفِّيّة الفرنسيّة العتيدة، بتأنّ وتمهّل وكأنّه زائر ينتظر ما سيجود عليه موظّفو ومسؤولو المتحف من لحظات طريفة معبّرة. في شريط آخر وَسَمَهُ بعنوان "حيوان، حيوانات" (1995)، يسعى المخرج إلى كشف بعض الأسرار الكامنة في أَرْوِقَة متحف تاريخ علوم الطَّبِيعَة، متطرّقًا إلى هذا الكائن الذي يصعب تطويعه إلى عمليّة تصوير وإخراج ألا وهو الحيوان. أمّا شريط "أبسط الأشياء" الذي يعود تاريخ إنجازه إلى سنة 1996، فهو عبارة عن متابعة دقيقة لإعداد عرض مسرحي في مصحّة للأمراض العقليّة.

في نصّ مهمّ بعنوان "برمجة الصّدفة" كتبه "فيليبار" بمناسبة تكريمه خلال شهر أكتوبر سنة 2001 من قبل خزينة أفلام مقاطعة "الكيبك" (Québec) بكندا، يقول المخرج: "في كلّ فيلم من أفلامي، أنا بصدد البحث عن حكاية وعن استعارة تتيح لي إمكانيّة تجاوز الواقع الآني المباشر. الرّهان الحيويّ بالنّسبة إليّ هو إنشاء مخيال انطلاقا من الأماكن التي أدخلها ومن الشّخصيّات والمواقف التي أصوّرها. أحاول، في كلّ مرّة، أن أنجز أفلاما ليس "على" بل "مع"، لذا فإنّها ليست بعيدة عن الأفلام الرّوائيّة".

فيما يخصّ علاقته بالمتلقّي، يضيف "فيليبار" قائلا: "لا أريد إنارة سبيل المشاهد بواسطة معرفة مُسبَقة ومسْقطة ولا من منطلق المختصّ. بالعكس، أعتقد بأنّه بقدر ما أكون غير مطّلع عن مسألة ما بقدر ما أشعر بأنّني في غبطة كبيرة. لموقفي هذا فضيلة أساسيّة وهي فسح المجال للذّاتيّة ولِلُّقْيَاتِ المُلْهِمَة وَللسّينما بصفة عامّة. إنّني دوما أحاول أن تولد أشياء داخل وضعيّة معيّنة. هذا الإطار الذي تنمو فيه الأشياء وتتبلور ليس فضاء فقط وإنّما أيضا كلّ المعطيات التي نوظّفها لكي يتوفّر مناخ وصلة مع الذين تصوّرهم ورغبة أخلاقيّة في التّعامل وأيضا جانب من التّمويه و"التّمثيل". لطبيب الأمراض النّفسيّة "جون أوري (Jean Oury) عبارة جميلة كان دوما يستعملها: "برمجة الصّدفة". بالنّسبة إليّ، أيّ فيلم هو هكذا: صدفة تتحوّل إلى قدريّة، أي يتطلّب منك الفيلم الوثائقي في كلّ مرّة القدرة على استقبال الصّدفة المباغتة واختطافها في إطار محدّد تحديدا مدروسا."

تقلَّصَ إنتاج "نيكولا فيليبار" قي المدّة الأخير. لكن بالنّسبة إلى الذين تابعوا مسيرته، فإنّهم يدركون جيّدا أنّ كلّ مشروع يخوضه يتطلّب منه كثيرا من الوقت ومن التّدقيق في بعض المعطيات قبل الانطلاق في التّصوير. منهجيّته في العمل هو معاينته للمكان الذي سيُصوّره، عن قرب كما عن بعد، كالسّائح المتجوّل، مانحا لنفسه شهورا وفي بعض الأحيان سنوات لتمثّل هذا المكان الذي يُحوّله إلى فضاء أي إلى مناخ روائيّ.

الجزيرة الوثائقية في

25/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)