حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

وائل حمدي يكتب: وجع دماغ

فيلم «الطوفان»

هو ليس من الأفلام الشهيرة، لا أصادفه علي الفضائيات، ونادراً ما أجد شخصاً يعرفه.. لا أملك تفسيراً لكونه فيلماً منسياً، ربما مسائل لها علاقة بحقوق إنتاجه وتوزيعه، لكنني بمنتهي الثقة، أدعو من لم يشاهده بالبحث عنه فوراً والاستمتاع به.. أتحدث عن فيلم «الطوفان»، الذي كتبه وأخرجه «بشير الديك» عام 1985.

دعني أحاول إثارة شهيتك قليلاً، أنت هنا أمام طاقم تمثيل فريد في تنوعه وإمكاناته.. الراحلون الرائعون «أمينة رزق»، «إبراهيم الشامي» و«حسين الشربيني».. النجوم - أقصد نجوم فترة إنتاج الفيلم - «محمود عبدالعزيز»، «سمية الألفي»، «محمود الجندي» و«فاروق الفيشاوي»، والأخير يقدم هنا أفضل أداء سينمائي له علي الإطلاق.. «سناء يونس»، «كمال أبورية»، «محمد متولي» و«هالة صدقي» يشاركون بأدوار شديدة التميز، الشاب الصاعد «شريف منير» في دور مساعد، و... «عبلة كامل» في ظهورها السينمائي الأول، تؤكد أنها منذ بدأت كانت قنبلة تمثيلية موقوتة.

الأداء التمثيلي إذن، كغيره من العناصر الفنية لهذا الفيلم، يقتربون جميعاً من درجة الامتياز.. لكن الإنجاز الأضخم والأبرز والأكثر إمتاعاً هنا، هو السيناريو.. فنحن أمام العمل الوحيد في السينما المصرية، الذي تجرأ فيه الأبناء علي قتل أمهم.. فعلوا ذلك بعد تفكير طويل، فعلوه بهدوء، فعلوه عامدين متعمدين.. والأهم من كل ذلك، وياللدهشة.. أنهم فعلوا ذلك وأنت لا تملك أن تكرههم، رغم محبتك العظيمة لأمهم القتيلة.. كيف استطاع الفيلم، أن يوزع مشاعرك بالتساوي بين الضحية والجناة في جريمة استثنائية من هذا النوع؟ الإجابة الكاملة لن تجدها إلا بمشاهدته.. لكن حتي يتاح لك ذلك، اسمح لي أن أحاول الإجابة علي قدر إمكاناتي.

الأبناء في فيلم «الطوفان»، هم نحن.. هكذا رسمهم «بشير الديك» ونفخ فيهم من روح كل المصريين.. طموحات مكبوتة، مشاعر مضغوطة، يأس متشبث بالنفوس، تأجيل مستديم للأحلام، والبحث عن معجزة تنتشلهم من كل ما سبق.. ربما تري هذا الصدق في رسم شخصيات مصرية في أفلام عديدة، لكن الجديد هنا، أن «الديك» حقق لأبطاله المعجزة.. الأرض الزراعية محدودة المساحة التي ورثها الأبناء عن أبيهم، يقفز ثمنها من مجرد بضع عشرات من الآلاف، إلي مليون جنيه كاملة.. مليون جنيه، كفيلة تماماً بحل المشاكل وتحقيق الطموحات.. مليون جنيه شرعية المصدر، لا تضطر أحدهم للخروج عما تربي عليه من خلق قويم... لكن «الديك» كان قاسياً، فجعل معجزته مشروطة، وكأنه يوجه ضربة نافذة في صميم الشخصية المصرية، حيث ربط حصول الأبناء علي المبلغ الموعود، بضرورة أن تشهد أمهم العجوز شهادة زور في المحكمة، مع الوضع في الاعتبار أن هذه الشهادة لن تسلب الحق من أحد، بل هي إجراء اضطراري لإثبات حقهم الأصيل في الأرض.

عند هذا المحك شديد الدقة، ستجد نفسك مذهولاً من ترددك كمتفرج بين المواقف المختلفة.. فالفيلم بهذه الصدمة المزدوجة - صدمة حدوث المعجزة، ثم صدمة ربط تنفيذها بشهادة الأم زوراً - يعري جانباً مفزعاً من الشخصية المصرية، جانباً هشاً رقيقاً ضعيفاً، وهو الجانب الأخلاقي.. في لحظة ما، وقد يختلف موقع هذه اللحظة من متفرج لآخر، ستضبط نفسك متمنياً أن توافق الأم علي طلب الأبناء، حيث إن القيمة الأخلاقية أصبحت شديدة الالتباس في أذهاننا جميعاً.. والخلاصة، أن «الديك» أثبت لنا بالتجربة، أن أخلاقنا أصبحت من الوهن، لدرجة أن نتفهم طلب الأبناء من أمهم أن تشهد زوراً، بل لدرجة ألا نكره الأبناء بعدما قتلوها.. كان ذلك حالنا قبل خمسة وعشرين عاماً وقت صناعة الفيلم، فلك أن تتخيل حالنا الآن.

الدستور المصرية في

31/05/2010

 

وائل حمدي يكتب: وجع دماغ

فيلم حب في الزنزانة 

«إذا كنت أنت بعت نفسك بالفلوس.. مستغرب ليه إني أبيعك؟».. عندها تجمد «صلاح» ذاهلاً، وأفلت صديقه الخائن «فاروق»، بعد أن كان ينوي الفتك به.. لقد وضعه السؤال البسيط البديهي القاسي، أمام أصل مأساته.. عن «حب في الزنزانة» نتحدث، الفيلم الذي كتبه «إبراهيم الموجي»، وأخرجه «محمد فاضل» عام 1983.

في التتابعات الأولي، نري حريقاً مدمراً في بضعة مساكن فقيرة بإحدي المناطق الشعبية، المساكن مملوكة لرجل أعمال كبير، كان يريد استثمارها بشكل أفضل، لكنه لم يستطع طرد السكان، فأمر رجاله بحرق المساكن حتي يتسني له ذلك، ولأنه المستفيد الأول من الحريق، كان في حاجة لإبعاد الشبهة الجنائية عن نفسه.. غالباً وقتها لم تكن حرائقنا قد تعرفت علي مصطلح «ماس كهربائي»، وهو المصطلح السحري للتخلص من الشبهات الجنائية.. كان الحل الأمثل هو ظهور فاعل للحريق، وهكذا.. قام رجل الأعمال بتقديم عرض لصلاح، شاب فقير عاطل من سكان المنطقة المحترقة.. العرض يتضمن اعتراف صلاح بأنه المتسبب في الحريق، مقابل بضعة آلاف من الجنيهات، وماكينة خراطة حديثة، تؤمن له القدرة علي فتح ورشة في مجال تخصصه، مع وعد بأن سير التحقيق سيؤدي إلي غرامة مالية علي أقصي تقدير.. وعندما استشعر صلاح أن التحقيقات تتجه به إلي عقوبة أكبر، جاءته التطمينات بأنه إذا سجن، فلن تتجاوز المدة بضعة أشهر.. وعندما نطق القاضي بحكم حبسه لسنوات، هاج وماج مهدداً بفضح اتفاقه مع الفاعل الحقيقي، لكن تم شراؤه من جديد، فهناك شقة خاصة باسمه، كثمن إضافي من رجل الأعمال، نظير قضائه لفترة العقوبة.

لن تجد فارقاً كبيراً بين «صلاح»، ومن يبيعون أصواتهم الانتخابية علي سبيل المثال.. لن تجد فارقاً بينه وبين من يرضون بمكتسبات مادية آنية، نظير سكوتهم أو تواطئهم أو تبريرهم للكثير من الجرائم في محيطهم العملي والاجتماعي.. هل نتمادي ونقول، أنه لا فارق بين «صلاح»، وملايين المهللين الشاكرين لعلاوة ببضع عشرات من الجنيهات؟ المأزق نفسه يتكرر دائماً بأشكال مختلفة، حيث البائع غارق في حاضر مظلم، ولا يري بقعة ضوء واحدة في مستقبله، فيستسلم لكونه رخيصاً، بلا قيمة تقريباً، وبالتالي يقبل في نفسه ومستقبله ورأيه وصوته أول سعر يعرض عليه.

من الصعب بعد صفقة بيع من هذا النوع، أن تلوم من يتعامل مع «صلاح» وأمثاله باعتبارهم رقماً خارج المعادلة.. مهما كان حبك لهم، أو تعاطفك معهم، ستجد في وقت ما ثمناً مناسباً للتخلص من عبء حمايتك لهم.. هذا ما فعله «فاروق» مع «صلاح» في الفيلم، حاول جاهداً أن يساعده، وقدم الدعم له ولزوجته بأشكال مختلفة.. لكن في لحظة إغراء حاسمة، مؤلمة، بغيضة، وجد نفسه متمسكاً ببضاعة رخيصة، بضاعة باعها أصحابها الأصليون، بسعر أقل بكثير مما يعرض عليه.

ما يحدث حولنا الآن لا يختلف كثيراً عن منطق «فاروق».. وزير يقرر خصخصة مصنع، دون ضمانات واضحة لحقوق عماله.. أو قانون يقضي بالتقسيم الإداري لمنطقة سكنية واحدة، فتصبح تابعة لمحافظتين مختلفتين.. أو قرار بإلغاء دائرة انتخابية، وتوزيع ناخبيها علي دوائر أخري.. المتضررون من كل ما سبق، لا يحق لهم بالمنطق أن يعترضوا، لأنهم في وقت ما، قبضوا ثمن خروجهم من الحسابات.. فعلوا ذلك تحت ضغط رهيب، لا نشكك في الضغوط.. لكن النتيجة النهائية، أن عملية البيع تمت بالفعل.

عندما أضاء عقل «صلاح» بالحقيقة المرة، قرر أن يسترد بضاعته المباعة.. لم يجد أمامه سبيلاً إلا أن يتخلص من المشتري، وفعل ذلك بعزم وشراسة ودموية.. فليحذر كل السادة المشترين، من لحظة استرداد البائعين لبضائعهم.

الدستور المصرية في

24/05/2010

 

وائل حمدي يكتب : وجع دماغ

سواق الأتوبيس 

في المشهد الأخير من «سواق الأوتوبيس»، ثاني أفلام المخرج الراحل «عاطف الطيب»، يمسك البطل بنشال هارب ويكيل له اللكمات بسخط وغضب صارخاً «يا ولاد الكلب».. البطل نفسه في بداية الفيلم، آثر السلامة والبعد عن المشاكل عندما تعرض أحد الركاب لعملية نشل مماثلة.. لكن تجربته المريرة علي مدار أحداث الفيلم، ساعدته علي اكتشاف ما ألم بمجتمعه من تغيرات سيئة، أصابت النفوس بالعطب، وأصابت المشاعر بالتبلد، فكان قراره في النهاية أن يتخلي عن سلبيته، لأنه إن لم يفعل ذلك، ستسير الأمور من سيئ إلي أسوأ... بهذا المضمون، قدم «الطيب» رؤيته لحال مصر مع مطلع الثمانينيات، ورؤيته لما يمكن أن يكون حلاً لمشاكلنا.. علينا أن نكون أكثر إيجابية، إذا كانت عندنا الرغبة في مجتمع أفضل.

كل أبطال «الطيب» فيما بعد، وجدوا أنفسهم في صراع مع الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتردية.. انتصاراتهم كانت نادرة جداً، بينما انتهت أغلب المواجهات إلي خسائر واضحة.. الطبيبة التي وقعت ضحية للإجراءات القانونية الغبية في «التخشيبة»، تحولت إلي قاتلة في سبيل إثبات عفتها.. وكذلك انتهي الحال بالأخيار في «كتيبة الإعدام»، حيث اضطروا إلي ممارسة دور القاضي والجلاد، ونفذوا حكم الإعدام بأيديهم في الخائن، بعد أن استحال أمامهم أن يلقي عقابه تحت مظلة النظام القائم.. وكثير من أبطال «الطيب»، أوصلتهم مواجهاتهم مع الأوضاع المتردية إلي مثواهم الأخير، قتلي بلا دية.. المثقف الثائر في «الزمار»، الطالب الجامعي الناشط سياسياً في «البريء»، الضابط الشريف في «الهروب»، عميلة المخابرات المعتزلة في «كشف المستور»، وطبعاً رسام الكاريكاتير الفلسطيني «ناجي العلي»، الذي كان يحاول مواجهة التردي علي المستوي العربي بأكمله، مات مقتولاً بدوره.

ربما يري البعض أن النهايات السابقة، تحمل جميعاً شرف المواجهة.. قاتلين كانوا أو مقتولين، في النهاية لم ينكسروا في مواجهاتهم.. هم أفضل حالاً إذن من أبطال آخرين في أفلام «الطيب»، مثل مجموعة الموظفات اللاتي اتهمن ظلماً بالدعارة في «ملف في الآداب»، فالحكم ببراءتهن في النهاية، لن يمحو وصمة العار الاجتماعية التي لا ترحم.. الهزيمة ذاتها ستجدها عند الحبيبين الشابين، اللذين لم يطلبا أكثر من حقهما الطبيعي في الزواج في «الحب فوق هضبة الهرم»، فانتهي بهما الحال في عربة ترحيلات، بتهمة ممارسة الفعل الفاضح في مكان عام.. وستجد الهزيمة أيضاً في حالة بطل «دماء علي الأسفلت»، الذي تصور أن اتهام والده بالاختلاس أمراً مشيناً، ليفاجأ في نهاية المواجهة، أن ما خفي من أمور مشينة في حدود أسرته، كان أعظم بكثير.. هل تعتبر نهاية «ضد الحكومة» انتصاراً؟ حسناً، لقد اختار الطيب مكان نزول التترات في المنطقة الوحيدة التي «بدا» فيها البطل منتصراً، عندما سمحت المحكمة أخيراً باستدعاء الوزراء لسماع أقوالهم في حادث قطار.. لكن، كيف تتصور سير المحاكمة لو قرر صناع الفيلم متابعتها للنهاية؟

«ليلة ساخنة»، هو الفيلم قبل الأخير للطيب، أنجزه بعد 15 سنة من «سواق الأوتوبيس»، وللمفارقة، هو مع نفس الكاتب «بشير الديك»، ونفس الممثل «نور الشريف»، الذي قدم نفس المهنة «سائق».. الآن، وبعد الهزائم المتتالية لأبطاله في مواجهة التردي، قرر «الطيب» أن يدلهم علي طريق الانتصار في ظل هذا النظام.. الإيجابية والأمانة والمبادئ والقيم العليا والضمير اليقظ، كلها أسلحة أثبتت فشلها وارتدت رصاصاتها إلي نحور أصحابها.. في نهاية الفيلم قرر البطلان الاستيلاء علي حقيبة متروسة بأموال المخدرات، والمدهش أن قرارهما هذا، كان كفيلاً بخروجهما سالمين غانمين من براثن مديرية الأمن.. وكأن «الطيب» بعد 15 عاماً من المواجهة، اكتشف عدم جدواها، أو علي الأقل، اكتشف أن وتيرة الانهيار، أصبحت أسرع كثيراً من محاولات الإنقاذ، فقرر ألا يحمل أبطاله ما لا يطيقون.

الدستور المصرية في

17/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)