حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

(فيلم اشتراكية)

جان لوك غودار..بدون تعليق

صلاح سرميني ـ باريس

يبدأ "فيلم اشتراكية" جان لوك غودار بلقطةٍ سريعة جداً لببغاويّن.

تظهر العناوين، وتتوالى على الشاشة بسرعةٍ لا تمنحُ المُتفرج إمكانية قراءتها.

لقطةٌ لمياه البحر ليلاً.

(من خارج الكادر) حوارٌ مُتبادلٌ بين شابٍ، وفتاةٍ أقرب إلى الإلقاء المسرحيّ المُفتعل.

الشاب: المال مُمتلكات عامّة /  L’argent est un bien public

الفتاة: مثل الماء إذاً /  Comme l’eau alors

الشاب: بالضبط /  Exactement

وينتهي الفيلم بجملةٍ مكتوبة على الشاشة :

Quand la loi n'est pas juste, la justice passe avant la loi

عندما لا يكون القانون عادلاً، فإنّ العدالة تتخطى القانون.

ومابين هاتين الفكرتيّن، تتدفقُ المَشاهد مشحونة بكمٍّ من اللقطات التمثيلية، التسجيلية، والأرشيفية، تُجسّدُ ذاكرةً صوتية، وبصرية لأحداثٍ من الماضي، والحاضر، مبعثرةً في إطار الصورة، وخارجها، وشخصيات تجتمعُ في باخرةٍ تشقّ مياه المُتوسط، أو تستقرّ في محطة بنزين على جانب طريقٍ في عمق الريف الفرنسيّ، تتباعدُ، تتقارب، تظهر، تختفي، تحبّ، تكره، وتُمثل بتصنعٍ واضحٍ أدواراً حقيقية، أو مُتخيلة وُفق معالجةٍ سينمائية نحيفة، وأسلوباً في التصوير يعتمدُ في معظمه على الارتجال، كي يصبح العمل في  محصلته "كتابةً مونتاجية".

***

بدون معرفةٍ مُعمّقة بتاريخ السينما الطليعية، ومتابعة مسيرتها منذ العشرينيّات، وحتى اليوم، سوف يُواجه الناقد السينمائيّ العربيّ (قبل المُتفرج) صعوبةً كبيرةً في تحليل، وتفكيك الفيلم، ورُبما فهمه.

ببساطةٍ، لا يمكن لثقافةٍ سينمائية تُواكب السينما السائدة (المُصطلح ليس تحقيراً)، وتتجاهلُ ما يحدث بالتوازي معها إلاّ الإعجاب المُصطنع بالفيلم، والانبهار بتجريبيّته (المألوفة)، وذلك فقط، لأنه من صُنع واحدٍ من أقطاب "الموجة الفرنسية الجديدة" المُخلصين لها شكلا، ومضموناً، ونالَ شرف العرض في قسم "نظرة خاصة" للمهرجان الأشهر على الإطلاق.

لو افترضتُ عرض الفيلم نفسه على مجموعةٍ من النقاد بدون معرفتهم اسم صانعه، رُبما ينتفضُ البعض منهم استياءً، تذمراً، مللاً، وحتى الخروج من صالة العرض "الافتراضية"، وذلك، لأنّ اهتمامات هؤلاء، ومنذ زمنٍ بعيد، توجهت نحو السينما السائدة، وتمحورت حول الأفلام التي تُعرض في الصالات، ومهرجانات الأفلام الروائية الطويلة، وهو السبب الذي يجعلهم يتوجهون إلى مهرجان كان بالتحديد، وليس إلى عشرات المهرجانات المُتخصصة بسينماتٍ، وتيماتٍ أخرى.

بفخرٍ، يُسجل تاريخ الثقافة السينمائية العربية، بأنني بدأتُ الكتابة عن "السينما التجريبيّة" منذ بداية الثمانينيّات، ولكن، المُفارقة، بأنّ إدارة "المهرجان الدولي للأفلام التسجيلية، والقصيرة" في الإسماعيلية، تذكرت فقط في عام2005  (أو 2006) إدراج مسابقةٍ خاصة للأفلام التجريبية.

في تلك الفترة، التقيتُ في باريس بأحد المخرجين الفرنسيين الذين شاركوا بفيلمه، فقال لي:

ـ فيلمي ليس تجريبياً، ولا أعرف لماذا تمّ اختياره في هذه المُسابقة.

وعندما شاهدتُه، وجدتُ بأنه يحكي حكايته بطريقةٍ مختلفة عن المألوف، وهي خاصيةٌ لا تستدعي أبداً وصفه "تجريبياً"، وتعكسُ مفهوماً قاصراً عن "التجريب في السينما".

وعندما قمتُ بتنظيم برنامج للأفلام التجريبيّة في الدورة الثانية لمهرجان الشاشة العربية المُستقلة في الدوحة/قطر (17 -23 مارس 2001)، كانت القاعة فارغة تماماً من المُتفرجين المُحترفين (الجمهور الوحيد للمهرجان).

وفي مناسبةٍ أخرى، ليست أقلّ دلالةً، أتذكرُ جيداً ردود أفعال جمهورٍ من المُبتدئين، والمُحترفين تساءلوا بدهشةٍ عارمة عن هدف تنظيم برنامجٍ للأفلام التجريبية الفرنسية في الدورة الثانية لمُسابقة أفلام من الإمارات/أبو ظبي (5 -10 مارس2003)، وكيف كانوا يخرجون من الصالة واحداً بعد الآخر، يعبرون عن امتعاضهم بتنويعاتٍ من الأسئلة :

ـ ما هذه الأفلام التي جلبتها يا صلاح ؟

ومع ذلك، كانت مفاجأة الدورة التالية، مشاركة دزينة من الأفلام الخليجية الطامحة للتجريب، وفي السنوات اللاحقة، أصبح المخرجون، وبعض المتفرجين المُتنوّرين يبحثون عن الأفلام التجريبية في برامج القسم الدوليّ المُوازي للمُسابقة.

وحتى وقتٍ قريب، كان بعض النقاد من الوسط السينمائيّ العربيّ يجهلون تماماً معنى "التجريب في السينما"، ويعتبرون حركة كاميرا عشوائية "لعباً صبيانياً"، قبل أن يدركوا بأنّ "غودار" نفسه يفعلها منذ نهاية الخمسينيّات.

في صيف عام 2004، وفي مقصورة قطارٍ عائد من كان إلى باريس، تصادف مقعدي بجانب الناقد السينمائي اللبناني "إبراهيم العريس"، كانت فرصةً نادرةً، بالنسبة لي على الأقلّ، للحديث معه، بدون إحساسي بأنه مُرهقٌ، مهمومٌ، ومشغولٌ، وبدون سماع عباراته الجارحة بأنه لا يتذكرني، ولم يقرأ لي في حياته، وسألته :

ـ هل تصفحتَ الكتابيّن عن "السينما التجريبية" اللذين قدمتهما لكَ ؟

 بقرفٍ واضح، وغرورٍ فاضح، قال لي بالحرف الواحد:

ـ لا، ولا أعتقدُ بأنني سوف أتصفحهما، هذا الموضوع لا يهمّني، أنا رجلٌ أعيش في الماضي، ...

كيف لهذا الناقد الكبير(وهي صفةٌ ليست من اختراعي)، أو غيره من الصغار، الإعجاب/أو الاستياء من فيلمٍ تجريبيّ، وهو الذي ترك الكتابيّن ـ رُبما ـ في غرفة الفندق التي كان يقطن فيها، إن لم يضعهما في المزبلة.

فيلم "غودار" تجريبيّ تماماً، ويُعتبر امتداداً لحركات، اتجاهاتٍ، ومُمارساتٍ بدأت في العشرينيّات (الماضي) في فرنسا، والولايات المُتحدة بشكلٍ خاصّ، و(سينما الماضي) هذه مهدت لكلّ الموجات السينمائية المعروفة، والتي يتباهى بها الكثيرون في كتاباتهم، وخاصة "الموجة الفرنسية الجديدة" التي تجلى إخلاص "غودار" لها على طول مسيرته السينمائية، ويُعتبر "فيلم اشتراكية" أكثرها راديكالية .

الذين أُعجبوا كثيراً بأفلامه الأولى المُنجزة في (الماضي): على آخر نفس، المرأة هي المرأة، الاحتقار، اسمي كارمن، وموسيقانا، ....وقفوا اليوم حيارى في مُواجهة الفيلم "الأحجية".

بنباهةٍ، وضعهم "غودار" في حالةٍ من الاٍرتباك، ورُبما أثار تساؤلاتٍ (لا يتجرأ أحدٌ على طرحها) حول صلابة ثقافتهم السينمائية، واقتصارها على السينما السائدة، وحتى عجزها عن فهم فيلمٍ، أو تصنّع الإعجاب به، هو الذي قدم لهم رسالة تحدي، وأنجز فيلماً مُغايراً، مختلفاً، موازياً، بديلأ،....وحتى خداع المهرجان الأكبر، والأشهر بفيلمٍ، يُدركُ العارفون بالسينما التجريبية، بأنهم يشاهدون المئات من الأفلام التي تشبهه، وتتفوّق عليه تجريبياً .

المهرجان الذي يُساهم في ترويج السينما السائدة، وتعليب الذوق العام، اختار "غودار" قبل أن يختار "فيلم إشتراكية".

في نهاية الخمسينيّات، وبداية الستينيّات، هذا الثمانينيّ الذي (أصاب الشيّب شعره فقط، ومازال لمّاعاً فريداً) ـ على حدّ قول الشاعرة السينمائية السورية "هالة العبد الله"ـ هزّ بعنفٍ (سينما الماضي)، واليوم، بحنكة الفيلسوف السينمائيّ، يهزّها اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى بفيلمٍ يحظى على مكانةٍ مُعتبرة في (سينما الحداثة) مُستعيناً بمفرداتٍ جمالية مُستخلصةً من تاريخٍ حافلٍ بالتطوّرات التقنية، والهزّات السينمائية التي تجعل السينما تتخطى الأزمنة الثلاثة : الماضي، الحاضر، والمُستقبل.

هامش

الجزء الأول من دراسةٍ مُطوّلة حول (فيلم اشتراكية) جان لوك غودار.

الجزيرة الوثائقية في

30/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)