حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

دراما الحرب من زاوية مصرية تسجيلية

خيرية البشلاوي

"احذر الوقوف متكرر عمل تسجيلي تتوفر له كل العناصر التي ينبغي توافرها في هذه النوعية من الأفلام التوثيقية .. وهذه العناصر تحديداً هي :

1-      الموضوع الجدير بالاهتمام ومن ثم التسجيل.

2-      التناول الذي يغطي الأوجه المختلفة المحيطة به.

3-      التوثيق البصري والنظري الدقيق (صوت وصورة).

4-      المعالجة الشيقة المشبعة التي تضيف إلى وعي المتفرج.

5-      الجوانب الفنية الجمالية التي تنقله من مجرد الرصد والمتابعة إلى تجربة فنية تعبر عن رؤية متكاملة.

الموضوع يلقي الضوء على مأساة الألغام القاتلة المدفونة في رمال الساحل الشمالي بالغرب من مرسى مطروح ومنطقة العلمين وهي مسافة كبيرة تعادل مساحة دولة من دول الخليج .. من يدوس على هذه الألغام أو يلمسها أو يلهو بها عن جهل أو طمع في تغنم وهمي قد يفقد حياته، أو أطرافه أو بصره ويصبح معوقاً حتى نهاية عمره.

هذه الألغام التي يصل عددها إلى عدة آلاف تركها المتحاربون في معركة العلمين إبان الحرب العالمية الثانية على أرض مصرية ولم يكن لمصر في هذه الحرب ناقة ولا جمل. وحين انتهت المعارك وسكنت المدافع راح من راح وتم أسر من أُسِر ومات من مات وبقيت الألغام كميراث قاتل مدفونة في الأرض تقتل أجيال وراء أجيال من سكان المنطقة ومعظمهم من قبائل البدو الذين يسكنون الصحراء ويقيمون حياتهم على أرض منذرة بالموت.

وبعد أكثر من ستين عاماً على انتهاء الحرب مازالت مشكلة تفكيك هذه الألغام وإزاحة اللعنة الكامنة تحت الرمال وتحرير الناس من شبح الموت والإعاقة وتحرير المنطقة التي ثبت أنها تطوي تحتها ثروات طبيعية، مازلت مشكلة حقيقية لا تستطيع مصر وحدها تحمل تبعاتها. والمشكلة ليست فقط مادية وإنما أيضاً أخلاقية يتحمل وزرها الدول المتحاربة، ألمانيا وانجلترا وإيطاليا.

المخرجان أيمن الجازوي والمخرجة الإيطالية كريستينا بوكيليني تصديا لهذا الموضوع بالغ الأهمية وقدما فيلماً وثيقة حية متكاملة عن هذه المأساة التي انتبهت لها مؤخراً الحكومة المصرية والهيئات الدولية، تحديداً الأمم المتحدة من خلال المشروع الإنمائي الذي يتم بالتعاون مع وزارة التعاون الدولي وبالتنسيق مع القوات المسلحة المصرية عبر مؤسساتها الصحية التأهيلية في القاهرة ومصنع الأطراف التكميلية الذي يوفر للمعاقين الأطراف الصناعية التي تتكلف مبالغ يعجز عن الوفاء بها الضحايا.

وعلى الصعيد السينمائي ساهمت قناة الجزيرة الوثائقية التي تعتبر النافذة المصرية العربية الأهم بالنسبة للفيلم التسجيلي، بإنتاج هذا الفيلم "احذر الوقوف متكرر" وبالطبع سوف يحظى بالعرض من خلالها بنسخة عربية وأخرى إنجليزية مما يفسح المجال لمشاهدته على نطاق واسع ومن ثم الوعي به والتنبيه لخطورته.

يعكس الفيلم مدى الإخلاص والدأب والمتابعة الدقيقة لأركان الموضوع، ويضع في المقدمة الضحايا الذين أصيبوا من الانفجارات المفاجئة لهذه الألغام وهم في عز الأمان يمارسون حياتهم المعتادة في المنطقة المزروعة بالألغام، يموت أطفالهم أو يتشوهون أو يفقدون أجزاء من أجسادهم وهم يلعبون ويمرحون ذلك أنهم يجهلون المختلفات القاتلة التي تركتها الحرب قبل أن يولدوا بحقب زمنية.

ولم يترك المخرجان طرفاً من الأطراف الضالعة في مهمة نزع الألغام إلا والتقى بهم، ولم يترك صورة أرشيفية تزيد من مدارك المتلقي إلا واستخدمها المخرجان.

تضمنت اللقاءات إلى جانب الضحايا، لقاءات مع اثنين من قدامى المحاربين الإيطاليين الذين شاركوا في الحرب على أرض العلمين، وكذلك لقاءاً مع أستاذة بريطانية للتاريخ الدولي، ومتخصصون في الشئون العسكرية والمؤسسات الاجتماعية بالإضافة إلى المسئولين في البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. يتضمن الفيلم كذلك رصداً إحصائياً لعدد ضحايا الألغام في مرسى مطروح والاستراتيجية القومية التي أعدت لنزع الألغام وتنبه الجماهير لمدى خطورتها وتوفير الرعاية الصحية للضحايا.

خطة وتخطيط فني :

ويهمنا في البداية كيف تعامل المخرجان مع هذه المادة الغزيرة التي تبدو لأول وهلة جافة وتعليمية وإعلامية موجهة وبداية أقرر أن ما شاهدته يعتبر تجربة جذابة بالفعل ومثيرة للفضول وللمشاعر والتفاعل معها مؤكد. فالفيلم يعتمد على "خطة" عمل تبدو واضحة وتصميم مدروس كإطار فني يضم هذه المعلومات والصور والنشاطات والمشروعات واللقاءات و..الخ في تنسيق وتسلسل معين يؤكد ما تنطوي عليه المادة من الآلام، وخسارة بشرية، وأداء رسمي وغير رسمي من المؤسسات الضالعة في مهمة نزع الألغام، ويضع المشاهد الأرشيفية في موضعها الذي يكرس المادة الحية المصورة.

في مقدمة أدوات التعبير في هذا الفيلم، ضحايا الألغام أنفسهم سكان الساحل المبعثرين فوق الرمال المسكونة بالموت والشريط يبدأ باستعراض سريع وخاطف لصور وأسماء المواطنين في المنطقة الذين سوف نراهم في لحظات مشحونة بالمشاعر وهم يروون شهادتهم، بعضهم طاعن في السن عاصر الحرب، وشاهد عيان على ما جرى .. بعد ذلك يتوقف أمام وجه طفل جميل جداً، مبتسم ومرح، يتعامل بالإشارة لأنه أخرس، ولكنه حاد الذكاء إنه الطفل عبد الفتاح فتحي الذي يهديه المخرجان هذا العمل هو وضحايا الألغام .. وعبد الفتاح ليس هو الطفل الوحيد وإنما هناك "مروة" الصبية الجميلة التي لا تعرف الحرب ولم تعاصر أي من الحروب ولكنها عانت وسوف تعاني من جرائمها.

عبد الفتاح يبدأ به الفيلم وينتهي نهاية سعيدة، ولكن على استحياء شديد فقد أصبح للطفل ساقاً صناعية يتدرب على المشي بها، وكذلك "مروة" والأطفال القاطنين فوق الرمال أصبح لديهم أمل لم نلمح من دموعهم سوى الطفل الذي تشوهت ملامحه واحترق جلده ولا يملك سوى البكاء من فرط الألم. هذه الصورة الصادمة التي ظهرت في الدقائق الأولى من الفيلم.

وبين البداية مع عبد الفتاح الصغير والنهاية يمر المتابع بمرحلة طويلة من مرسى مطروح وحتى القاهرة ويتوقف أمام شهادات الرجال الذين عاصروا العمليات العسكرية وشهدوا بعض ما جرى فوق هذه المنطقة من أرض مصر إبان المعارك، وحكوا كيف كانت جثث الجنود ملقاة بالآلاف فوق الرمال تلتهمها الذئاب وكيف كان يسلك المتحاربون ومعظمهم من الشباب الذي كان حلم حياته أن يعودوا ويدفنوا في وطنهم التي.

ويشهد شريط الفيلم على مهارة الاختيار للشخصيات التي شكلت بورتريهات مدهشة للمواطنين المحليين اقتربت من وجوههم الكاميرا جداً وكشفت عن فرط تحيزها حتى بات الفيلم صالحاً كوثيقة أنثروبولوجية أيضاً عن سكان هذه المنطقة.

وبنفس الحاسة البصرية النافذة والحس السينمائي اختيرت الشخصيات النسائية، واذكر شخصية المرأة العجوز "عساكر" بقسمات وجهها وألوان ملابسها وبلاغتها الفطرية وهي تروي تداعيات الألغام على حياتهم وجهل الناس بها .. أيضاً شخصيات أمهات الضحايا من الرجال وتعبيرهن عن المصيبة التي حلت عليهم  بعد أن فقد الابن بصره.

واللافت أن جميع الضحايا قادرون على التعبير رغم بدائية الحياة التي يحيوها، وكل منهم لديه منظوره الواعي لما جرى، ماعدا الأطفال الذين لا يدركون حجم الخطر. وأمام العنصر الإنساني الحي وخلفهم وعلى مرمى البصر تمتد الرمال بلونها الأصفر الكابي ورؤوس الألغام المدفونة تطل على سطحها الذي أزاحته الرياح فالمشهد الطبيعي للصحراء برمالها الملعونة مشهد عام يولد مشاعر ويحض على التفكير في فداحة الحرب وتداعياتها ويجعل لكلمة أستاذة التاريخ البريطانية التي قالتها قرب نهاية الفيلم معنى أكثر عمقاً، فقد قالت أن ما نراه يؤكد بأننا كبشر لسنا طيبين ولا صالحين لصنع السلام. وما يثير السخرية فعلاً أن الطرفين المتحاربين كانوا يقولون إنها "حرب بلا كراهية" (!!) وكما لو كانت مباراة على أرض مصر في فنون الحرب (!!).

ويتضمن الفيلم الذي يقدم استعراضاً وافياً لجوانب هذه القضية العامة التي بدأت الحكومة المصرية توليها مؤخراً قدراً أكبر من الأهمية، مشاهد ساخرة مرحة تزخر بألوان من المفارقات، وأتوقف أمام مشاهد الشباب الصغير من أبناء المنطقة وهم يلهون بخوذة جندي من مخلفات الحرب ويتبادلونها فوق رؤوسهم في مرح وأحدهم يتطلع إلى الكاميرا ويقول ضاحكاً "لن نستسلم أبداً".

وأثناء اللقاءات المباشرة يقطع المخرجان على مشاهد تسجيلية أرشيفية للحرب وفي المقابل لقطات مقززة لجيوش الذباب التي تهاجم بقايا عضوية بالقرب من منزل "عساكر" أو صور يستحضرها الجندي الإيطالي العجوز من الأطفال وقتئذ الذين كانوا يأكلون "البيتزا"  ـ على حد قوله ـ بالذباب، ويروي الإيطالي عن حالات الفقر التي كان يعيش فيها "العرب" في الصحراء التي دفعت بعض رجال البدو لاصطياد الأسرى الهاربين مقابل خمسين قرشاً للواحد.

بعض الرجال استفادوا من هذه الكارثة مثل "حجاب بك" الاسكندراني الذي جاء إلى المنطقة واستولى على بعض الأسلاك الشائكة، وبقايا الرصاص والأسلحة القديمة والحديد الصلب المتخلف عن أدوات الحرب المُدَمَرة للاتجار فيها، وبعض النسوة البؤساء استخدمن عن جهل بعض المواسير كأدوات منزلية، وبعض السكان أقام سوراً لمزرعته من قطع الحديد التي كانت تملأ المنطقة من مخلفات الحرب.

الفيلم بينما يناقش القضية يستعرض مظاهر الجهل الذي يعتبر من وجهة نظر المسؤول المصري في مشروع الإنماء التابع للأمم المتحدة تحدياً خطيراً يستدعي وضع خطة للتوعية بمخاطر الألغام .. كذلك يستعرض بعض المعوقات البيروقراطية التي جعلت العلاقة بين أهل المنطقة والمؤسسات الحكومية علاقة متوترة .. ويستعرض الفارق الحضاري المهول بين المقابر التي بناها الإيطاليون لجمع رفات جنودهم وأصبحت مزاراً في العلمين، وبين مقابر الأهالي أو مقبرة "المرحوم الحاج محمد عبده".

الفيلم يمتد نحو ساعة لكنه يطرح في هذا الزمن المحدود مشكلة امتدت أكثر من ستين سنة ومازالت قائمة، ويقلب كافة الجوانب ويستعين بأدوات التعبير السينمائي بإلقاء الضوء على تفاصيل لا يعرفها الشخص العادي، ويضمن رؤيته دون خطاب مباشر وإنما باستخدام عنصر التصوير اليقظ الذي يغطي كل الجوانب وبإحساس جمالي أبعد ما يكون عن الجفاف، وكذلك يوظف عنصر التوليف المتقابل والمتعارض الذي ينبه الحواس إلى المفارقات بين الثقافة الأصيلة للسكان المحليين وتلك التي اكتسبوها من جراء تجاربهم الخاصة وتجربة معايشتهم للألغام ووجودها فوق الرمال المتربصة وبين ثقافة الأوربيين الوافدين الذين ينظرون للمأساة بعيون محايدة وأحياناً لائمة مثل الألماني (أولريش).

ومن خلال عنصر المونتاج الحاذق يمزج صانعا الفيلم بين عدة وسائط للمعرفة في توقيت سليم ومحسوب جداً، وباستخدام الموسيقى التي تعتبر ضمن العناصر اللافتة جداً، والمؤثرة بالفعل في هذا العمل، ولو أضفنا ما سبق الإشارة إليه من الحضور القوى لعمل الكاميرا والثراء البادي للمادة الموضوعية إلى جانب الأهمية البالغة للموضوع على المستوى الإنساني والتاريخي والحضاري .. سوف نجد أن فيلم ""احذر الوقوف متكرر" "نِعمة" للمتفرج تضيف إليه المتعة والمعرفة والوعي.

الجزيرة الوثائقية في

25/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)