حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«اشتباك الجبابرة»..السينما الأمريكية تعيد نفسها

بقلم : محمود قاسم

للأساطير في حياة البشر سحرها ورونقها، صنعها الإنسان بما يتفق مع عاداته وتقاليده وتفكيره طوال العصور البشرية وآمن بها واعتنقها وصارت أهم ما في حياته، ورغم التطور التقني والحضاري لدي كل الأمم فإن للأساطير قوتها- لم تفقد قط رغم اندثار من صنعوها.

وأهم ما في الأساطير أنها تناقش العلاقات بين المطلق والإنسان في أجواء الفانتازيا والقدرات الخارقة ومن خلالها يمكن للبشر أن يقولوا كل ما هو مباح، وغير مباح وقد صنعت كل الشعوب أساطيرها المتشابهة لكن الأوروبيين خاصة الإغريق هم من سجلوها ووضعوها في وثائق ولحسن الحظ، فإن الذي فعل ذلك هم المفكرون والأدباء وتناثرت الحضارات وبقيت الأساطير..

ومن أجل أن نفهم عالم الفيلم الأمريكي «اشتباك الجبابرة» إخراج لويس ليتريبه 2010، لابد من قراءة الكثير من الكتب باللغة العربية سواء المترجم أو المؤلف منها كتاب «الله» لعباس العقاد ومؤلفات جيمس فريزر خاصة الفولكلور في العهد القديم ومؤلفات أخري عديدة أذكر منها ما قاله العقاد في كتابه إن اليهود نظروا إلي المطلق علي أنه يحمل سمات إنسانية وأنه يغار ويتخفي وما إلي ذلك وهذه السمات موجودة أيضا في كتاب فريزر.. وهذا المطلق موجود في الميثولوجيا الإغريقية والفرعونية بالسمات نفسها فقد قسم الشعبان ذوا الثقافات المتقاربة التوحيد إلي عدة أقسام وتعددت أسماء وشخصيات المطلق.

أساطير ومغامرات

وحتي لا تشدنا الكتابة إلي ما هو بعيد عن الفيلم فإننا نؤكد أن من قرأ بعمق عن الأساطير سوف يكون أكثر تفهما للفيلم الذي أنتج للمرة الأولي عام 1981 من إخراج ديزموند دافيز وبطولة هاري هاملين ولورانس أوليفييه وكلير بلوم وارسولا اندريس وكان من أهم سماته أن لورانس كاسدان شارك في تأليفه وهو كاتب السيناريو الذي صار مخرجا مهما للغاية.. وهو أيضا الفيلم نفسه الذي نراه الآن بنجوم أغلبهم جدد عدا ليام نبسون والفافينيس.

بالنسبة للمتفرج العادي فنحن أمام فيلم فانتازيا مليء بالمغامرات والخدع وينتمي إلي نوعية الإنتاج الضخم لكنه لن يرقي أبدا إلي مستوي الفيلم الأسبق والجدير بالذكر أن السيناريو القديم نفسه وعليه اسم كاسدان هو الذي تم إنتاجه من جديد مثلما فعل صلاح أبوسيف حين أخرج فيلم «المجرم» 1977 عن السيناريو القديم لفيلمه «لك يوم يا ظالم» بمعني أن السينما الأمريكية تعيد السيناريو نفسه ببريق أقل لكن الفيلم يمكن مشاهدته والغريب أن هناك مشهدا في الفيلم تكرر تجسيده هذا العام بنفس الآلية بما يؤكد تناسخ الإبداع، أو أن المبدعين نفسهم لم يعد لديهم الجديد ليقدمونه، نشاهد امتطاء الحصان المجنح بيجاسوس وترويضه وأيضا ترويض البطل كلها سبق أن رأيناها بالآلية نفسها في أفلام هذا العام مثل «آفاتار» و«كيف تروض تنينك» وقد سبق أن رأيناها في أفلام الوسترن مرارا.

أي أنه لا جديد في هذه الأجواء ولا في الحدوتة ولا في الأفكار لكن الفيلم بلا شك سوف يثير الجدل لدي الكثيرين حول العلاقة بين الإنسان والكون من حوله.. والمسألة التي يرددها برسيوس دوماً والتي تخلي عنها بعد أن قضي علي التنين البحري كراكن، تري هل الإنسان بكل ما يتسم به أفضل من الأجواء العليا التي يعيش فيها المطلق.. أم أن الأجواء المقدسة لهذا المطلق تجعله أفضل من الإنسان وذلك باعتبار أن برسيوس نفسه نصف مطلق ونصف إنسان وهو يعيش كي يأكل ويفكر ويجرح وينجب ويحب ويموت ويندثر في مقابل البقاء الأبدي للمطلق.

ومثلما تحدث العقاد عن الصفات الآدمية للمطلق في كتابه فإن الميثولوجيا اليونانية والفيلم بالطبع قد أعطيا للمطلق هنا نفس الصفات ورأينا العديد من المطلق في صورة زيوس وأخيه هيراس وإن كان دور هيرا زوجة زيوس قد تقلص بشكل ملحوظ وصار الصراع أو المواجهة بين المطلق هنا يحمل سمات التذكير حول الابن برسيوس الذي ولد فوق الأرض نصفه آدمي ونصفه سماوي.

دائرة الخلود

المطلق هنا صارت له محدودية فهو آدمي الصورة والشكل له مكان محدد يجادل ويناقش وينتظر ويتصرف كأب له عاطفة، ويطلب من ولده أن يصعد إليه، وأن يدخل دائرة الخلود وقد تتبع الفيلم رحلة الابن منذ ميلاده، إلي أن اقتنع أن الأجواء العالية أفضل من بقائه كإنسان محدود نسبي.

ويعتمد الفيلم علي موضوع «اعلم أن لديك أسئلة» ومن هنا يأتي الجدل في صورة حدوتة هذه الحدوتة مرتبطة بمكان يسمي أراجوس حيث يقع تمثال زيوس الهائل أحد أعاجيب العالم القديم السبع وقد صارت هذه الجزيرة مسرحا للصراع حين ينزل هيراس ليهدد ابن أخيه أن عليه أن يقتل الوحش الأسطوري «كراكن» وإلا ماتت الأميرة الجميلة العذراء اندروميرا وأن أمامه عشرة أيام علي التخلص من التنين المائي.

وهناك اختلاف بين التيتان «الجبابرة» هنا وبين مثيلهم في فيلم «التيتان» أو «الجبابرة» إخراج دوتشيو تشاري وبطولة جوليا نوجيما عام 1964 فنحن هنا في «اشتباك الجبابرة» نراهم وقد صاروا شخصيات ثانوية بلا قوة أو أهمية ورأينا واحدا منهم آليا علي طريقة الروبوتات بينما صار برسيوس الذي يجمع بين البشر والمطلق هو الشخصية الرئيسية يتعلم فنون القتال علي أيدي الجبابرة ثم هو الذي يقود الفريق الصغير وهو الوحيد الذي سيبقي منهم بعد أن تمكن من جز رأس الميروزا وركب البيجاسوس ثم وجه رأس الميروزا نحو الوحش كراكن فجلعه يتحول إلي حجر ثم تراب وبذلك حقق النبوءة أنه هو الذي سوف يقضي علي التنين العملاق.

إنها الأشكال المألوفة القديمة والجديدة في السينما، لكن أهميتها تكمن في أنه بعيد عن المغامرات والإبهار البصري الخارق فإن المشاهد سيجد نفسه في حالة جدل حول هذه العلاقة الأزلية بين البشر في كل الأمم والعصور وبين معتقداتهم فالمطلق هنا يتكلم عن البشر بالكثير من الفخر «أنا من صنعهم» ثم وهو يرد علي أخيه من سنوات أرقب هذا العالم السفلي رأيتك كيف تحبهم فيقول له «لقد أحببتهم وصاروا في أحسن حال»، ثم ما يقوله أبولو أيضا أبنائي يحتاجون إلي ما يذكرونه عنا إلي أن يعودوا إلينا في السماء.

آلهة الإغريق

وفي أفلام كثيرة مأخوذة عن الأساطير مثل «أرهونو» اكتفي السيناريو بالمغامرات ومساندة الآلهة الإغريقية لأبنائها المحاربين من الأبطال لكن في فيلم «اشتباك الجبابرة» زادت جرعة الجدل كثيرا حول المسائل الميتافيزيقية من خلال حوارات رددها الأبطال مثل قول أحدهم: أنتم رجال تتحدون الآلهة. ثم رد أحدهم في موضع آخر بعد أن مات المئات من الرجال ينبغي ألا نتحدي الآلهة وقول هيراس لمجموعة من البشر في الجزيرة أنتم مجرد حفنة من التراب لا قيمة لها.. ثم يكمل متحدثا في تعال: أنفاسكم نعمة من الأوليمب.. اركعوا ثم ما يردده أحد البشر أن الموت هو ما علينا أن نخافه.. ثم الجملة التي يرددها برسيوس في فخر البشر أفضل من المطلق.. فنحن نقتل نحن نموت ولن أعيش مخلدا.. ويردد واحد من التيتان موجز كلامه إلي البطل أنت الذي أنقذتني وليس المطلق.

وإلي جوار الجدل تعمد السيناريو الحديث عن الكائنات الأسطورية التي تواجدت في الفيلم خاصة حكاية تحول الميروزا وإن كانت هذه الحكايات تمس الجانب الحسي من بعض آلهة الإغريق حين يحكي لنا الفيلم عن ميروزا الحسناء الجميلة التي نامت في أحضان بوزيدون «آله البحار» ثم هربت من بوزيدون إلي معبد أثينا ظنا منها أن اثينا سوف تحميها وصلت لها كي تعفو عنها إلا أنها حولتها إلي مخلوق ممسوخ نظرة واحدة منها وإلي أي كائن حي خاصة الرجال تحوله إلي كتلة من الحجر.

وقد استفاد الفيلم من أجواء الأسطورة بأن جعل الجبابرة يقاتلون الميروزا فحولت أغلبهم إلي أحجار لكن برسيوس تمكن من قطع رأسها وأخذ الرأس كي يواجه كراكن ويحول هذا التنين إلي حجر..

حاول الفيلم أن يستجمع أشهر شخصيات الميثولوجيا الإغريقية في عمل واحد.. وهي الشخصيات التي شغفت بها السينما دون غيرها خاصة عشرات الأفلام التي أنتجتها السينما الإيطالية بشكل تجاري زاعق في السنوات الأخيرة من خمسينات القرن الماضي والثلاث سنوات الأولي من الستينات قبل أن تغرقنا أفلام الويسترن الاسباجيتني لكنها كلها أفلام سخيفة تخلو من الجدل ورغم أن ثقافة الأساطير أوروبية فإن الأمريكيين هم الذين حولوا هذه الشخصيات والحكايات إلي جدل حقيقي يثار في داخل أي متفرج مهما كانت ضخامة الإنتاج ودقة التنفيذ وذلك بفضل سينايوهات يكتبها أو يشارك فيها أمثال لورانس كاسدان.

جريدةا لقاهرة في

11/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)