حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

من «إبن بابل» إلى «ضربة البداية»

«الموضوع الكردي» في السينما العراقية الجديدة

بشار إبراهيم

لو كان للسينما أن تنتسب إلى مخرجيها، أو موضوعها، لكان بالإمكان نشر السينما الكردية على بلدان عدة، حتى يكاد لها أن تتباهى وتفيض بأعلامها السينمائية على المنطقة، من العراق إلى إيران، فتركيا وسوريا. فإن بدأنا بالحديث من الكبير يلماز غوني، فلن نتوقف عند المبدع بهمن قوبادي، وما بينهما من مسيرة أعلام سينمائيين كبار!

ولو كنا نريد الحديث عن السينما الكردية؛ نشأة وتطوراً ومنجزاً، لكان علينا التردد أكثر من مرة، وربما الفرار من هذه المهمة الشائكة، والمعقدة، بما يوازي، أو لا يقل، عن تعقيد المسألة الكردية ذاتها، بما فيها من أبعاد قومية وطنية، وسياسية اجتماعية، وثقافية فكرية، وحكاية في التاريخ تعود إلى ما قبل الميلاد، منذ أن أوقد «كاوا« شعلة الحدّاد، وحكاية في الجغرافيا تفيض عن بضعة بلدان تتقاسم «الكرد«؛ الشعب والأرض!

ولكن، لا السينما تنتمي إلى مخرجها، أو موضوعها.. ولا نحن نريد الحديث عن السينما الكردية، نشأة وتطوراً!.. جلّ ما سنحاوله، هو البحث في حضور «الموضوع الكردي»، في السينما العراقية، من خلال نموذجين اثنين، خاصة تلك السينما التي بدأنا نشاهد أفلامها اعتباراً من العام 2003، الفاصل بين زمنين، أبرز ما في تاليهما، أنه أمكن للسينما العراقية الحديث دون «ماء في الفم«، وأتاح لها الدخول فيما كان محظوراً، أو «ممنوع الاقتراب منه«.. فبات متاحاً باتساع، في أكثر من جانب، وعلى أكثر من صعيد.

ننتبه، فنجد أن «مهرجان دبي السينمائي الدولي« السادس 2009، منح الموضوع الكردي حضوراً سينمائياً كبيراً متنوعاً (بحضور كل من المخرجين العراقيين: شوكت أمين كوركي، وهونر سليم، وحسين حسن.. والإيراني الكردي شهرام عليدي، وفيلم «أهلاً« للفرنسي فيليب لوريت)، ربما لم يتفوق عليه إلا الحضور الفلسطيني (القضية المركزية في المهرجان)!.. فيما لم يتخلف «مهرجان الخليج السينمائي« الثالث 2010، عن ذلك، متمثلاً بحضور المزيد من المخرجين العراقيين الأكراد الشباب، أو الأفلام التي كان الموضوع الكردي أساساً فيها.

يحضر العراق في الفضاء الخليجي، سينمائياً، حاملاً قضاياه وهمومه، وربما جراحه.. ويحطّ السينمائيون العراقيون رحالهم، في الخليج العربي، قادمين من تجارب حياتية وسينمائية تتمايز عن السينمائيين الخليجيين إلى حدّ كبير، حتى باتت هذه خصوصية السينمائيين العراقيين؛ سماتهم، وعلاماتهم الفارقة.

ضربة البداية

لا أدري إلى مدى يمكن للمخرج شوكت أمين كوركي تصديق أنه «خليجي» فعلاً، وهو الذي ربما تحتاج الى مساجلته بشأن «عراقيته«، أصلاً!.. فهذا «الطفل« (مواليد عام 1973) الذي طُرد، وهو ابن عامين، من العراق، في واحدة من حملات الترحيل والطرد الجماعي، الكريهة، التي لاقاها الأكراد، ليعيش لاجئاً في إيران قرابة ربع قرن، ويجول بعدها أنحاء العالم، قبل أن يعود إليناً مخرجاً بارعاً في فيلمين روائيين طويلين كبيرين: «عبور الغبار« 2006، «ضربة البداية« 2009، لا يعرف حتى النطق باللغة العربية، ويحاول جاهداً تعلمها، للتخلص من الحاجة إلى مترجم، في مهرجان «عربي اليد والوجه واللسان«!
سينال المخرج شوكت أمين كوركي الجائزة الكبرى في مهرجان الخليج السينمائي، عن فيلمه «ضربة البداية«، وقد حاز عنه، قبل ذلك بأشهر قليلة، على تنويه خاص من لجنة تحكيم «مسابقة المهر العربي«، في مهرجان دبي السينمائي.. وكأنما السينما، هنا، تريد إصلاح ما أمكن مما ارتكبته حماقات السياسة العربية!.. كأنما السينما تعمل، جادة، على استعادة أبناء وضعتهم أقدارهم الدامية على حافة المأساة، إن لم نقل في قلبها.

يعود شوكت أمين كوركي إلى «عراقيته«، رغم الألم الكامن خلف ملامحه الممتلئة هدوءاً، ويقدم للسينما العراقية فيلمين عظيمين حقاً، دون أن يفلت قضيته الأساس، وهمّه الأول. الموضوع الكردي، متشابكاً مع الشأن العراقي خاصة، ومن ثم العربي عموماً، على ما في هذا التشابك من تعقيد، يمكن أن يقود إلى حافة النفور التام.

لا يجري كوركي تصفية حساب مع ما جرى، ولا يستخدم كاميرا السياسة أداة للثأر أو الانتقام، بل مبضع جراح يغوص في الجرح عميقاً، دون تردد.. وفي الوقت الذي يحرص على تقديم شخصياته باعتبارهم «كرداً«، لا ينطقون العربية، وينفرون، كما ظهر في فيلم «عبور الغبار«، فإنه في فيلمه الثاني «ضربة البداية« يوسع انتماءه «الكردي«، إلى دائرة أكبر، هي «العراق«، حتى ولو كان ذلك عبر «منتخب كرة القدم«، الذي سيفوز بكأس أبطال آسيا.

كوركي، يصنع سينما حقيقية. سينما تنتمي إلى ما هو أرقى في عالم هذا الفن، وعلى مستوى يضارع كبار المخرجين في العالم. سينما فيها شيء من الواقعية الإيطالية، وأشياء من سينما «كوستوريتسا«. شخصياته دافقة بالبساطة والعفوية، قادمة من عمق الواقع. ممثلوه هواة على هيئة محترفين.. ومحترفون في إهاب هواة. الأمكنة حقيقية، والكاميرا تحسن تلمس ثناياها. الأحداث ذات غواية كبيرة، تجعل المشاهد يعتقد أنه أمام فيلم وثائقي، لقوتها، ومصداقيتها، وحيويتها، والرؤية السينمائية الحاذقة للمخرج.

يتجاوز شوكت أمين كوركي نفسه، ويتقدم جيلاً من السينمائيين بقدرته على صناعة فيلم سينمائي متماسك، متمكن، أصيل.. عمق في التناول، وجرأة في الطرح، وأسئلة لا تكفّ عن تناول المستقبل، تماماً كما الحاضر والماضي.. ترى ما السينما إلا ذاك؟

ابن بابل

من جهته، سيكون للمخرج العراقي محمد الدراجي حضوره، ضيفاً، خارج المسابقة الرسمية لمهرجان الخليج السينمائي، وذلك عبر فيلمه الجديد «ابن بابل«، الذي كان قد عُرض أول مرة في مهرجان أبو ظبي السينمائي، ففقد الشرط اللازم لدخول المسابقة الرسمية في مهرجان الخليج السينمائي.

بعد فيلمه «أحلام« 2006، الذي جعله واحداً من السينمائيين العراقيين في فترة ما بعد الحرب، يعود محمد الدراجي بفيلم روائي طويل؛ «ابن بابل« 2009، يثبت فيه مدى القدرة الكبيرة التي امتلكها هذا المخرج الشاب على تطوير إمكانياته، وقدراته السينمائية، خلال فترة قصيرة جداً.

وفي الوقت الذي بدا فيلمه الروائي الطويل الأول؛ «أحلام«، بمثابة تمرين أوّلي على إمكانية صناعة فيلم عراقي تدور أحداثه في العام 2003، وما جرّته على الشعب من ويلات، وما قادتهم إليه من مصائر دامية، ليس أقلها «الجنون«، فإن المخرج العراقي محمد الدراجي، مدعوماً بإنتاج المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي (وتمويل متعدد من 7 دول)، يذهب في فيلمه «ابن بابل« نحو صناعة فيلم سينمائي، يتجاوز فيلمه الأول تماماً.

ربما هي الصدفة وحدها التي جعلت هذا الفيلم يقوم على حضور الموضوع الكردي في المشهد العراقي. وربما ضرورات منهج «فيلم الطريق« الذي ينتسب إليه الفيلم، هو الذي قاد الحكاية لأن تنبني على شخصيتين من «الكرد«. سيدة كردية عجوز، برفقة حفيدها، تنطلق حال سقوط النظام عام 2003، في رحلة للبحث عن ابنها المجند المفقود في البصرة، منذ أحداث العام 1991.

هي (بأداء جيد) لا تعرف إلا اللغة الكردية، تنطق بها، فيما حفيدها يعرف اللغتين العربية والكردية، فيتحول هو إلى أداة تواصلها الوحيدة مع الآخر/ العربي، الذي ستصادفه في ثنايا رحلتها الطويلة، التي انخرطت بها، لا تلوي على شيء، سوى حلمها (قل وهمها)، بالعثور على ابنها المفقود، منذ نيف وعشر سنوات، جرى فيها الكثير.

شخصيتان كرديتان، هما اللتان تنهضان بالفيلم أساساً. هما تعبران الأمكنة العراقية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، من كردستان العراق إلى بغداد فالناصرية، والبصرة، عودة إلى بابل.. تمسحان بجولتهما العراق من أقصاه إلى أقصاه.. تلتقيان بالعديد والمتنوع من الشخصيات التي تعبرانها. تنثران المزيد من الحكايات، والمفارقات، والمصادفات. ولن تتوانى الجدة العجوز عن استعادة أشياء من ذاكرتها، الخاصة والعامة.. محاولة تلقين حفيدها سمة التسامح، في زمن اللعنات والانتقام!.. التسامح حتى مع ذاك الجندي الذي كان ذات وقت ضمن من اقترفوا الجرائم ضدهم، في حلبجة، مثلاً، وعلى الأقل!

الشخصية الكردية، كما يقدمها فيلم «ابن بابل«، تتحول إلى ضوء كاشف يسلط الضوء على ما جرى للعراق، طيلة عقود مؤلمة مضت، فانتهت إلى كارثة، ليس أقلها «ضياع البلد«، و«المقابر الجماعية«!.. كما تتحول إلى مسبار يغوص في عمق الحال العراقية الراهنة، وأسئلتها المستقبلية، فتلوب بالإجابة، ولا تجد حلاً سوى بموت الجدة «الكردية«، هناك عند أبواب حدائق بابل المعلقة.. هكذا، كأنما الشاهد على الحاضر المرير، يموت، بكل عجزه وحيرته وقلة حيلته، أمام الشاهد الأبدي على الماضي العريق، والحاضر المؤسي.. ولا يبق ثمة من أمل، إلا عبر هذا الفتى «الكردي«، ونايه الحزين، الذي يثير الشجن، في واحد من أجمل مشاهد الفيلم، وهو ينوس لائباً متفجعاً، بين النداء رجاء جدته ألا تموت، والنظر إلى بوابة حدائق بابل، التي طالما منّى نفسه برؤيتها.

خاتمة أولى

صحيح أن المقارنة بين الفيلمين، إن صحّت من حيث المبدأ، ستكون لصالح فيلم «ضربة البداية«، إذ أن فيلم «ابن بابل« اتسم بالتعجل حيناً، والذهاب إلى المباشرة السياسية، وتصفية الحساب مع صدام حسين، في أحيان أخرى، وشاغلته استطرادات لم تفد الفيلم في شيء، بل أشبعته ببكائيات.. فيما بدا فيلم «ضربة البداية«، أكثر إحكاماً، وتماسكاً، وأكثر أصالة في التعامل مع موضوعه، ومهارة في إدارة شخصياته، المثيرة للإعجاب..

ولكن الصحيح، أيضاً، وأولاً، أن سينما عراقية، تستطيع تقديم مثل هذين الفيلمين، كل من زاويته، وبظروف إنتاجه الخاصة، في عام واحد، بتنوعها وتعددها وغناها، المعبرة عن تنوع وتعدد وغنى الوطن العراقي.. وبناء على شخصيات كردية، تحديداً، يمكن لها أن تشير إلى سؤال حضور «الموضوع الكردي« في «السينما العراقية الجديد».

المستقبل اللبنانية في

09/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)