حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"وحشة الغبار" محاضرة محمد سويد ضمن "أشغال داخلية 5"

الصورة في وصفها نافذة على التحوّلات

ريما المسمار

لا يحتاج محمد سويد فعلياً الى اختراع رواية من خياله، أو الأخذ من أخرى واقعية، ليثبّت تلك الصلة الوثيقة والخاصة بينه وبين أفلامه وكتاباته. ولكنه غالباً يفعل ذلك، ربما من باب اللهو أو بهدف قول أشياء أبعد عن صلته بالأحداث وصلة الأخيرة بالصورة، متّخذاً لنفسه مكاناً، وسط الأحداث التي يرويها، متخيّلاً وهشاً، كما لو أنه بطل سينمائي من طينة "اللابطل" المهزوم. وتلك مكانة تشي بمكانة السينما في حياته، وتحوّلها في مرحلة ما حياة بديلة، لا سيما في سنوات المراهقة وربما في فترة الحرب الأهلية. السينما بقدرتها السحرية سوّغت له انتحال شخصية مقاتل ميليشيوي في روايته "كباريه سعاد"، وحملته على كتابة رسالة غرام الى سعاد حسني ودفعته بلا هوادة الى رسم سيرة ذاتية مغايرة في فيلمه "ما هتفت لغيرها"، في وصفه "حسن حاتم" ابن "حاتم حاتم" المناضل الثوري في ستينات وسبعينات القرن الماضي. في كل ذلك، كان سويد يشتغل، أسلوبياً وموضوعياً، على عناوين الحرب والذاكرة والحنين وغيرها مما هو على صلة بماضيه وحاضره، ليخرج دائماً بشهادة عن الزمان والمكان، حميمة وذاتية بقدر ما هي عميقة وصادقة. في المحاضرة التي ألقاها قبل يومين في منتدى "أشغال داخلية 5" (نظمته جمعية "أشكال ألوان" في بيروت بين 21 نيسان و1 أيار)، سلك سويد مساراً مماثلاً، متخذاً من تفصيل صغير متخيل، محرّكاً للعودة الى زمن ولّى، مفلفشاً في أوراق وصور وذكريات أكلتها "وحشة الغبار"، بحسب ما يقترح عنوان المحاضرة. أراد المخرج والناقد لموضوعه قالباً "متقشفاً"، كما قال في مطلع العرض، مكتفياً بالصور والتعليق الشفوي عليها. وموضوعه يدور باختصار حول الأفلام الأجنبية التي صورت في لبنان أو جاءت على ذكره. هكذا ينطلق من صورة للممثلة الألمانية هانا تشيغولا التي كانت، بحسب روايته، السبب في تركه الجامعة وتخصص الكيمياء. لحق بها بعد مشاهدته فيلم راينر فيرنر فاسبيندر "زواج ماريا براون". وحين علم بوصولها الى لبنان مطلع السبعينات لتصوير فيلم "المزوَر" مع المخرج الألماني فولكر شلوندورف، سارع الى المطار ممنيَاً النفس بلقائها وإجراء مقابلة معها. لا يغيب عن ذهن أحد بالطبع أن خيال سويد هنا ليس أكثر من حجة للحديث عن مرحلة سياسية واجتماعية بالصورة والتعليق. في الصور، نقع على مشهد لمطار بيروت القديم وعلى أماكن أخرى اندثرت معالمها اليوم. بينما يبين التعليق أهمية الفيلم الذي أسَس لنموذج فيلمي، اقتداه كثيرون في ما بعد في تناولهم حروب المنطقة سينمائياً (حكاية الصحافي الأجنبي الشاهد على الأحداث والتحولات)، واشتغل فيه معظم السينمائيين الذين انطلقوا لاحقاً الى تأسيس ما يُسمى بجيل سينمائيي الحرب. على هذا المنوال، يمضي سويد بتعداد أفلام أخرى، بسلاسة وخفّة لا تتعارضان مع الجهد البحثي العميق الذي تستند المحاضرة إليه. ولكن غاية العمل تتجاوز الأرشفة والتوثيق الى قراءة المرحلة سياسياً واجتماعياً. بأسلوب يمزج بين السخرية والحنين، يشرع سويد الصور على الأسئلة والتعليقات "الخبيثة". هكذا يتحول فيلم "دلتا فورس" لميناحيم غولان (المبني على حادثة اختطاف طائرة TWA عام 1985) مناسبة للحديث عن خطف الطائرات، وبطله تشاك نوريس مقدمة الى أفلام فؤاد شرف الدين نظراً الى الشبه الذي يلمسه سويد بينهما ويثبته بالصورة. اما حقيقة وجود ديميس روسوس بين مختطفي طائرة الـTWA فكان أن حفّز سويد الذي كان صحافياً وقتذاك للبحث في سيرة المغني المشهور ليكتشف أنه تربى في ملجأ للأيتام في بيروت كان مقره في مبنى اللعازارية. التفصيل يقود بدوره الى عشق سويد لهذا المبنى الذي يكتنز معنى "الداخل" في تعريف المحاضر. وإذا كانت الأفلام الأجنبية التي صورت في لبنان خلال الحرب تقوم على متلازمات متكررة (المطار، الصحافي الأجنبي، المقاتلين)، فإن الأفلام التي صورت قبل العام 1975 لا تخلو من البراءة بحسب تعبير سويد حيث لم يكن لبنان سوى محطة تنتهي الحكايات فيها في بعلبك أو جبيل أو غيرها من معالم السياحة. ولكن ذلك لا يلزمه البراءة في استعادته المرحلة، مشدداً، بسخرية، على ضرورة التعمق في دراسة العام 1955 الذي شهد حدثين: مرور مارلون براندو لليلة واحدة في بيروت في طريقه الى إيران ووصول موسى الصدر من إيران الى بيروت. بالعودة الى هانا تشيغولا في صورة من فيلم حديث ("حافة الجنة" لفاتح أكين)، أراد سويد أن يختم بفكرة التحول التي تصيب البشر كما الأمكنة. ومثلما لم يعد يحتمل هيئة تشيغولا المسنة، هكذا أيضاً ما عاد لمبنى اللعازارية نفس المكانة عنده بعد أن أصبح عنواناً على خريطة، بما هو تصور للمكان يغفل خصوصيته.

في مطلع محاضرته، أشار محمد سويد الى أن صديقة له حركت بحثه هذا حين قالت له ما معناه إن أجمل العلاقات هي تلك التي انتهت لأنها تشير الى إنجاز كامل. ولكن محاضرة سويد تقترح أن طي صفحة الماضي ليس بهذا اليسر وأن العلاقة بالمكان لا يمكنها أن تقيم في الماضي.

المستقبل اللبنانية في

04/05/2010

 

خرائط الذاكرة

نديم جرجورة  

انتهت، مساء أمس الأول السبت، الدورة الخامسة لـ«أشغال داخلية»، التي نظّمتها «الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية، أشكال ألوان». اليوم الأخير حافلٌ بنشاطات متفرّقة، هنا وهناك. أرجاء المدينة اتّسعت لهذا المنتدى الخاصّ بالممارسات الثقافية. الأفلام السينمائية والفيديوية حاضرةٌ. آخرها العمل الوثائقي/ الروائي الممتاز «الجيش الأحمر الموحّد» للياباني كوجي واكاماتسو (الخامسة بعد ظهر السبت). محمد سويد، في لقائه جمهوراً كادت قاعة «مسرح مونو» تضيق به (السادسة مساء الجمعة)، جمع السينما بالتاريخ والذاكرة والراهن، في محاضرة معتمدة، أساساً، على صُوَر فوتوغرافية لأحداث سياسية وثقافية وسينمائية، مرتبطة كلّها ببيروت. حمل اللقاء عنواناً لافتاً للانتباه: «وحشة الغبار». العودة إلى الماضي اللبناني العربي في بيروت، بهدف استشراف ملامح الآنيّ والمقبل من الأيام، سمة المحاضرة التي ألقاها الزميل عباس بيضون (السابعة مساء السبت) في «مسرح بابل»، بعنوان «الستينيات العربية: خواطر لبقية القرن» (استبدل بيضون تعبير «خيارات» في العنوان الأصلي للمحاضرة بـ«خواطر»). الماضي أيضاً. فيه بذور الحاضر. أو ما هو قريبٌ منها. أو ما يُشبه هذه البذور. الماضي أساس المعرفة الخاصّة بصورة الآنيّ. أو ربما محاولة للقول إن ما حصل، سلباً أو إيجاباً، أفضل من المعيش، أو أخطر. الماضي عنوان عام للفيلم الياباني أيضاً. إنه استعادة لحقبة مضطربة في التاريخ الياباني الحديث، عندما تحرّك الطلاّب الجامعيون من أجل حقوق سياسية وفكرية واجتماعية. من أجل نضال إيديولوجي دفاعاً عن «البروليتاريا» في العالم، ومقارعة حادّة للرأسمالية المتوحشّة في الغرب.

خفايا الماضي

يومان مفعمان بأفكار وحالات. سويد عاشقٌ معروفٌ للعبة الانسلال إلى خفايا الماضي، بحثاً فيه عمّا أفضى إلى هذا السقوط المدوّي في لجّة الخراب. أو إلى أرشفته، بصرياً وكتابياً. أو إلى تأكيد مكانته البارزة والمهمّة في الوجدان والعقل معاً. كتاباته السابقة دليلٌ على انحيازه إلى تلك اللعبة الجميلة. أفلامه الوثائقية أيضاً. الماضي أداة حيّة لتبيان حدّة الألم الساكن في الراهن. «وحشة الغبار» استمرارٌ لمشروع ثقافي خاصّ به. أراده محاولة بصرية ونصّية لفهم مسار بلد ومجتمع وناس. اختار الصورة تعبيراً عن الفيلم. والفيلم تعبيراً عن واقع اجتماعي مفتوح على التناقضات كلّها. روى تخلّيه عن الجامعة من أجل هانا شيغولا، عند مشاهدته إياها للمرّة الأولى في فيلم «ماريا براون» لفاسبندر. لاحقها، متابعاً اشتغال سينمائيين أجانب في بيروت أيام الحرب الأهلية. توقّف عند محطّات: «المزوّر» لشلوندورف، «دلتا فورس» لمناحيم غولان، وغيرهما من الأفلام التي رافقت محطّات العنف البيروتي، وأسقطت عليها لباساً سينمائياً متنوّع الأشكال والمضامين. الخطف. الحرب. لاحظ سويد أن المطار والطيران سمة بارزة في تلك الأفلام. قال إن مناخ سذاجة وبراءة ساد بيروت قبل اندلاع الحرب، انتهى في العام 1975: «بعد الطائف، انبنى كل شيء على الخرائط». يعني أن هناك لحظة جديدة اختصرت المناطق بالخرائط. الماضي يطلّ. لكن الحاضر مختلف. والأهمّ كامنٌ في تشديده على أن العلاقة بالصورة هنا مختلفة عنها في الخارج.

يستحيل اختصار نصّ محاضرة، جمعت الصورة الفوتوغرافية بالتاريخ السينمائي وبالتحوّل الدموي العنيف لمسار المجتمع اللبناني وأحوال ناسه. ما فعله سويد محتاج إلى متابعة حسّية. إلى مُشاهدة، لفهم تداعيات الذاتيّ وانفعاله إزاء الجماعي. هذا ينسحب أيضاً على فيلم «الجيش الأحمر الموحّد». الوثائقي، هنا، مستعادٌ بما يتلاءم والجانب الروائي/ المتخيّل. هذا الأخير صُنع انطلاقاً من مسعى بصري إلى إعادة رسم ملامح حقبة، بدءاً من الداخل الياباني. الغليان، في ستينيات القرن المنصرم، أفضى إلى تحرّك طالبي ميداني. إنشاء تنظيمات عسكرية اتّخذت، سريعاً، منحى راديكالياً في التعبير عن موقف أو عاطفة. اخترق كوجي واكاماتسو العالم الخفي. أعاد بناء المشهد، وفقاً لمجريات الأحداث. الفيلم محتاجٌ إلى انتباه تام، لكثرة الأسماء والأحداث. لأهمية الوقائع. للتواصل الحاصل بين الحركة الطالبية اليابانية والحركات الطالبية الأوروبية والأميركية. لأفعال الحركة الطالبية اليابانية هذه داخل اليابان. الستينيات مرحلة خصبة بالتحوّلات. لم تكن صدفة، أن تلتقي محاضرتي سويد وبيضون بفيلم واكاماتسو. هناك، في تلك المرحلة، نشأ عالمٌ متكامل من الأفكار والأحلام. خيضت معارك. بيضون تحدّث عن أمور شتّى رافقت تلك المرحلة اللبنانية، من الأزياء والأغنيات والسياسة والأفكار. الاستعانة بالتجربة الفردية لسويد، التي جعلها ركيزة نصّ عكس وقائع خاصّة بالجماعة، لا تختلف كثيراً عن الاستعانة بالتجربة الفردية لبيضون. وإن اختلف المضمون المتعلّق بكل واحدة منهما.

السفير اللبنانية في

03/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)