حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

فيلم آفي مغربي Z32 في إطار منتدى "أشغال داخلية 5"

أدوات المخرج المعهودة تنقلب عليه

ريما المسمار

في إطار فعاليات منتدى "أشغال داخلية" الخامس الذي انطلق في الحادي والعشرين من نيسان/أبريل الفائت ويُختتم غداً، عُرض فيلم Z32 أحدث أفلام المخرج آفي مغربي، أحد أكثر المخرجين الاسرائيليين إثارة للجدل ونقداً للممارسات الاسرائيلية العسكرية تجاه المجتمعين الاسرائيلي والفلسطيني. على الرغم من ان المخرج يعيد توظيف معظم أدواته في هذا الشريط، بل ويرتقي ببعضها الى مستويات أعمق، إلا أن هناك ما يجعل من تجربته هذه المرة عمارة فضفاضة قياساً على الموضوع والحالة التي يتناولها، بما يهدد في كثير من الأحيان بإخفاء ما يمعن في فضحه.

يطرح آفي مغربي في أفلامه أسئلة حول المجتمع والسياسة الاسرائيليين، ويجعل من وسيطه، الفيلم الوثائقي، مادة مفتوحة على النقاش. في أفلامه، يتداخل السياق الوثائقي بترنيمة من المشاهد الممسرحة التي يسعى من خلالها الى القاء الضوء على طبيعة "الواقع" الذي يصوره الفيلم الوثائقي وكيفية توريط هذا الواقع لعملية إنجاز الفيلم وللمخرج نفسه. العنف سؤال محوري في أفلام مغربي، مقترحاً ان العنف الذي يحرك الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ليس منفصلاً عن العنف الذي يحدد المجتمع الاسرائيلي والحياة العامة برمتها. وهو يذهب أبعد من ذلك باقتراحه ان هذا العنف هو جوهر المسعى الصهيوني في فلسطين. فيلمه "انتقم لعين واحدة" Avenge but One of My Two Eyes (2005) هو أكثر أفلامه تفعيلاً لذلك النقاش من خلال اضاءته على ميثولوجيات تشكل الحجر الأساس للمعتقدات الاسرائيلية وتتشابه الى حد بعيد مع منطق التضحية بالنفس في سبيل الحرية والوطن الذي هو ايضاً منطق الاستشهاديين. ويتضمن الفيلم مواجهات بينه وبين الجيش الاسرائيلي الذي تمعن كاميراه في ملاحقتهم من دون سؤال أحياناً فقط لاظهار ارتباكهم وخواء منطقهم العدائي للفلسطينيين. على صعيد آخر، يخوض المخرج في نقاش طويل عبر الهاتف مع شاب فلسطيني حول واقع الصراع اليوم.

كل هذه العناوين تجد طريقها الى Z32: مساءلة العنف، التشكيك بأدواته، المسرحة، المكاشفة وغيرها. عنوان الفيلم، الغريب بعض الشيء، منسوب الى الرمز الأرشيفي الذي تمنحه منظمة "كسر الصمت" (منظمة اسرائيلية غير حكومية تسعى الى جمع شهادات جنود اسرائيليين سابقين خلال الحرب في محاولة للتحقيق في تورطهم بجرائم حرب) لجندي اسرائيلي سابق، يروي تجربته خلال الانتفاضة الثانية. أراد مغربي أفلمة هذه الشهادة التي تُدرج عادة تحت اسم مجهول. يصرّ الجندي الشاب في الفيلم على عدم ابراز هويته خوفاً من أن يتحول هدفاً لانتقام الفلسطينيين، لاسيما أهالي من قام بقتلهم. المادة ملائمة جداً لأسلوب المخرج. فها هنا تناقض بين مبدأ الفيلم الوثائقي الساعي الى الإجهار بـ"الحقيقة" من جهة وبين شرط الشخصية الاساسية في ان تظل مموّهة على الشاشة من جهة ثانية. بخبثه المعهود، يحوّل مغربي هذا التفصيل الشائع في التلفزيون وبعض الافلام الوثائقية الى مادة للنقاش. يبدأ بمشهد للجندي الاسرائيلي وصديقته أمام الكاميرا مستخدماً أسلوب تمويه ملامح وجهيهما خلال المونتاج. بعدها يعمد الى اظهار بعض تفاصيل الوجه وإخفاء الاخرى. ويستقر أخيراً على قناع ثلاثي الابعاد، يخفي ملامحهما الحقيقية طوال الفيلم. النتيجة مربكة لأن ما نراه على الشاشة، بخلاف التقنيات الأخرى مثل تعتيم الوجه او تغطيته او الاستعاضة عن الشخص بظله، هو نصف انسان، نصف صنم. ولكنه في الواقع اقرب الى انسان آخر له ملامحه الخاصة بما يعرّض الشهادة برمتها للتشكيك. لاحقاً، يجلس مغربي في منزله، في مشهد بات موتيفاً متكرراً في أفلامه حيث يقدم مشهداً تمثيلياً اما في صالون منزله واما في مكتبه. بما يشبه المقدمة في التراجيديا الإغريقية، يعرض مغربي أمام الكاميرا موضوع فيلمه. يأخذ دور الشخصية محاولاً قراءة الشهادة بينما وجهه مغطى بجوارب تشبه تلك التي يزج فيها المجرمون والسارقون رؤوسهم خلال تنفيذ احدى عملياتهم. ولكنه كلما حاول قراءة مقطع، يجد نفسه غير قادر على التنفس فيعمد الى قص فتحة في الجورب. هكذا، يشق فتحتين للعينين وبعدها للانف ومن ثم للفم قبل ان ينزع القناع نهائياً بما ينطوي عليه ذلك من فكرة استعداده لمكاشفة كاملة امام الكاميرا، بخلاف بطله المختبىء خلف اقنعته. بهذا المعنى، يقدم المخرج نفسه الشخصية المحورية التي يطغى حضورها على حضور الشخصية الاخرى للجندي الاسرائيلي. يعزز هذا الشعور اعتماد المخرج منحىً راديكالياً آخر، يتمثل بالبوح بمأزقه في هذا الفيلم من خلال كلمات مغناة. بين المنحى التوثيقي لحكاية الجندي والمشاهد التمثيلية والكورال الغنائي، يكتسب الفيلم وصف "تراجيديا موسيقية وثائقية" الذي أطلقه مغربي على عمله. في تلك الأغنية التي ينشدها في صالون منزله بمرافقة مجموعة من العازفين، يروي مخاوفه وهواجسه. تلعب الاغنية الموزعة في عدة مقاطع على طول الفيلم دور التعليق على الأحداث، دافعة بها الى الامام حيناً او كاشفة عن دواخل المخرج حيناً آخر. فهو يبدأها بمقطع حول محاولته تقديم هذا الجندي في صورة انسانية، تبرز انفعالاته. ومن ثم يطرح تساؤلات المحيطين به عن جدوى هذا الفيلم لاسيما زوجته "تامي" التي تلعب في أفلامه الاخرى دور الضمير المسائل دوماً. فهي تدينه باستقبال "مجرم" في صالون بيتها ومقابلته بدلاً من تسليمه الى العدالة.

على مستوى آخر، يسجل الفيلم شهادة الجندي من زاويتين: زاوية المخرج والكاميرا وزاوية صديقة الجندي التي تخوض معه أمام الكاميرا محادثات لا تنتهي حول تورطه في عملية انتقام خلال الانتفاضة الثانية وحول طبيعة فعلته تلك وتأثيرها على علاقتهما. في محاورته الجندي، لا يسأل المخرج كثيراً بل يدع للشاب ان يروي الحادثة ويأخذه الى المكان الذي وقعت فيه ليعيد تمثيلها اذا جاز التعبير. ولكنها محاوراته مع صديقته هي التي تتيح للأسئلة ان تجد طريقها. بهذا، يجنب مغربي فيلمه ان يتحول محاكمة للجندي ولكنه لا يستطيع انقاذ الفيلم من ان يصبح محاكمة له، اي للمخرج. فكل تلك الأوبرالية التي يبث من خلالها افكاره حول الفيلم وموقعه من الشخصية ومن الموضوع تطغى على كل ما عداها. وهي بشكلها الفني المختلف والنافر تعجز عن الذوبان في نسيج الفيلم الذي يستحيل سلسلة من الاعتذارات والتبريرات عن انجاز الفيلم. ولكن ليس هذا فقط ما يجعل من Z32 عملاً يقوم على المبالغة وربما التضليل. بل هي حكاية الجندي نفسه وموقفه.

فالحكاية التي يتمهل الفيلم في الكشف عن تفاصيلها جرت خلال الانتفاضة الثانية، عندما أُمرت الوحدة (النخبوية كما يسميها الجندي) التي ينتمي اليها الجندي القيام بعملية ثأر رداً على قتل ستة جنود اسرائيليين. تتوجه الوحدة الى بلدة ما وتنصب كميناً لرجال شرطة فلسطينيين وتقتل اثنين منهم أحدهما غير مسلّح. كذلك تقوم وحدات أخرى بعمليات انتقام عشوائية مشابهة من دون ان يخوض الفيلم او الجندي في تفاصيلها. هذه العملية التي لا تشكل نقطة في بحر العنف الاسرائيلي هي البازل التي يعمل الفيلم على تركيبها طوال أكثر من ساعة. وهي "الجريمة" التي يرفعها المخرج الى مصاف سلوك كأنما غير عادي، يستدرج صنع فيلم عنه ويورط المخرج في دوامة من الاسئلة والافكار. وهي العملية التي تجفّل صديقة الجندي وتجعلها تنفر منه. حسن، ولكن ماذا تتوقع من جندي متطوع في وحدة عسكرية للنخبة؟ يجري هنا توظيف تفصيل صغير لتبرير النقاش برمته هو فكرة "الانتقام" في مقابل "الدفاع عن النفس". المشكلة اذاً ان العملية كانت انتقاماً وان الجندي لم يسائل مسؤوليه حول "أخلاقية" هذه المهمة. ولكن ماذا عن قول الجندي في مقابلة سابقة مع المخرج ان اي ذكر فوق الخمس سنوات هو تهديد له بحسب ما تدرب وتعلم؟ وانه ووحدته كانوا متعطشين لتطبيق ما تعلموه في تدريباتهم القاسية؟ هل فعل الانتقام هذا الذي يركز الفيلم عليه هو وحده الذي يتسبب بقتل ابرياء؟

الواقع ان التصادم بين الجندي وصديقته قائم على فكرة أعم لا يتطرق الفيلم اليها وهو اختلاف موقعيهما: هي مدنية وهو عسكري. على صعيد آخر، لا يذكر الجندي مباشرة انه نادم على ما فعل. يقول بوضوح ان وجوه الذين قتلهم لا تسكن مخيلته. صديقته هي من يدفعه الى الاحساس بالذنب وهذا ايضاً ما لا يتوقف الفيلم عنده بوضوح. انه يطلب منها هي ان تسامحه والا تعتبره مجرماً. وهذه مواجهة مثيرة للاهتمام لو ان المخرج عالجها في إطارها ولكنه وسع المفهوم ليشمل فكرة الندم عموماً وطلب الصفح. في واحد من حواراتهما، تقول له ان قبوله المشاركة في الفيلم تدلل على رغبته في الاعتراف بالذنب ولكنه في الواقع يذهب الى الفيلم بسببها هي، لارضائها هي. هذا تحديداً ما يجعل السياق العام للفيلم مبالغاً به لا بل تعتيمي لا يعبر عن واقع حقيقي. بمعنى آخر، عندما يختار المخرج ان يسقط هواجسه وأفكاره حول جرائم الحرب والعنف على حكاية ضحلة من هذا النوع لا تقارن بما ترتكبه اسرائيل من فظاعات، فإنه بمعنى ما يعتَم على ذلك الجانب الاعنف والاكثر دموية وعنفاً لأداء الجيش الاسرائيلي على ارض الواقع. ثمة مقاطع حوارية بارزة في الفيلم بين العشيقين وبين الجندي والكاميرا ولكنها تتشتت تحت ضغط السياق العام للفيلم وتتحول احياناً الى عبثية. فحين تسأله صديقته: كيف استطعت ان تفعل ذلك؟ (اي ان تقتل شرطيين لا ذنب لهما بمقتل الجنود الاسرائيليين) او تقول له مستغربة: ألم تناقش و تسأل معنى ما تفعله؟ فإن اسئلتها تبدو منزوعة من السياق الواقعي الذي تخطى هذه الاسئلة منذ زمن بعيد. انها اسئلة مشروعة بالطبع ولكنها تتجاوز قتل شرطيين الى المجازر التي لا تحصى والظلم الذي لا حدود له.

في Z32، انقلب بعض ادوات آفي مغربي عليه. حضوره الطاغي المعهود في أفلامه بدا ضد الفيلم هنا. وهواجسه الكبرى التي يبثها بشكل مباشر لا تتلاءم مع حكاية الجندي الصغيرة قياساً على فظائع أخرى. في حين ان دينامية العلاقة بين الجندي وصديقته وتأثرها بماضيه كانت النقطة الاقوى في الفيلم التي لم تستثمر بشكل كافٍ.

المستقبل اللبنانية في

30/04/2010

 

"أرواح باردة" فيلم أول مميز لصوفي بارتيس

الانفصال عن الروح أشد إيلاماً من آلامها

ريما المسمار  

يندرج "أرواح باردة" Cold Souls في قائمة الأفلام القليلة التي تصل الى الصالات المحلية من دون أن نعرف بها مسبقاً، او على الأقل، بمخرجيها وبممثليها. فالسوق السينمائية المحلية، كما هو معروف، حكر في الغالب على الانتاجات الهوليوودية- وليس الأميركية- التي تنال نصيبها من التغطية الاعلامية والدعاية والترويج قبل ان تخرج في صالاتنا. وهي بهذا المعنى، تفتقر الى عنصري المفاجأة والإكتشاف، بالنسبة الى المشاهد، الا قياساً على التوقعات المسبقة. أما "أرواح باردة" فقد حطَ الأسبوع الفائت في متروبوليس أمبير- صوفيل من دون سابق إنذار، حاملاً توقيع مخرجة مجهولة (صوفي بارتيس) وبطولة مطلقة لممثل خارج عن السائد (بول جياماتي). وأقل ما يمكن قوله في هذه الباكورة السينمائية انها لمّاحة وعميقة وساخرة، تتناول فكرة سريالية بجدية، تتيح للفرضية المبتكرة زمناً واقعياً.

الجرأة والشغف عنوان لهذا العمل منذ لحظة تشكله الأولى. كيف لا ومنطلقه حلم، راود المخرجة قبل خمسة أعوام، فسارعت الى تدوينه في مفكرتها جرياً على عادتها، ومن ثم وجدت فيه بذرة لعملها الروائي الأول. رأت بارتيس في ذلك الحلم نفسها جالسة في عيادة طبية ذات مناخ مستقبلي، وسط مجموعة تعرفت فيها على وودي آلن (!)، يحمل كل فرد فيها إناءً يحتوي على... روحه. ينتظر كل "مريض" دوره ليقوم الطبيب بتحليل شخصيته استناداً الى ما يراه في روحه. وحين جاء دور وودي آلن، اكتشف ان روحه ليست سوى حبة حمص، فانتابته نوبة عصبية، تذكّر بالسلوك الذي ينسبه الى شخصيته السينمائية. ولكن بارتيس استفاقت من الحلم قبل ان تتمكن من إلقاء نظرة على روحها. هكذا شرعت المخرجة التي كانت قد أنجزت فيلمين قصيرين من قبل الى كتابة السيناريو بمساندة شريكها في الحياة مدير التصوير الأوكراني الأصل ـ اندريه بارِخ (Andrij Parekh) وحيث ان فكرة إقناع وودي آلن بالتمثيل في مشروعها بدت لها مستحيلة، كتبت الدور وفي مخيلتها بول جياماتي. والحق ان خيارها ذاك، وإن كان مدفوعاً بعدم امتلاكها الخيار فعلاً، صبّ في مصلحة الفيلم تماماً. ذلك ان جياماتي الذي برز خلال السنوات الخمس الأخيرة في أدوار أولى في أفلام أميركية مستقلة (Sideways وAmerican Splendor أبرزها)، يختزل شخصية الانسان المهزوم بشكل ما، وإنما الساخر ايضاً والمتواضع. والأهم من ذلك ان أداءه لهذه الشخصيات لا يخفي في طياته وعياً بشخصانيته كما هي الحال مع وودي آلن. وإمعاناً في تعزيز الأسئلة والغموض، أطلقت بارتيس على الشخصية الاساسية في فيلمها اسم "بول جياماتي" وجعلته ايضاً ممثلاً. وهو طرح يذهب بفكرة "الشهرة" و"الشخصية العامة" خطوة أبعد من خلال تلاعبه بالكليشيه السائد. كثيرون يعتقدون أن آلن يلعب في افلامه شخصيته الحقيقية وهو اعتقاد يقوم على ادعاء بمعرفة حقيقة هذه الشخصية. والادعاء قائم بدوره على فكرة "العمومية" التي يتعاطى الجمهور من خلالها مع المشاهير بالتواطؤ معهم في معظم الأحيان. فالقول ان الفنان ملك لجمهوره، لاسيما في السينما لكونها اكثر الفنون شعبية، قول ينطوي على ذينك الاعتقاد والادعاء. هكذا يقود فيلم "أرواح باردة" المشاهد الى الإعتقاد بأن بول جياماتي انما يجسد نفسه على الشاشة. ولكن تلك فرضية سرعان ما تتناقض مع الاطار العام للعمل من حيث ان الممثل مدرك حقيقة انه يمثل في قصة متخيلة وكذلك المشاهد. لا بارتيس ولا جياماتي يعلّقان على هذا التفصيل او يوضحانه في الفيلم ولكنه كافٍ لتحريك المشاهد وحمله على طرح أسئلة حول ماهية الممثل والتمثيل ومعنى الشهرة. تحمل المخرجة هذه الفكرة الى مستوى آخر لا يخلو من الطرافة. فحين تصر ممثلة روسية شابة على زرع روح ممثل اميركي في جسدها لتحسّن من أدائها، تطلب روح آل باتشينو. وحين تذهب الموظفة الروسية "نينا" العاملة في مجال تهريب "الارواح" الى محل لبيع الافلام في روسيا وتسأل عن افلام لبول جياماتي، يسألها البائع: "من؟" وحين تعثر على فيلم له، يتضح للمشاهد انه فيلم زائف، صور المشهد المعروض منه خصيصاً للفيلم. باختصار، هناك تمويه لشخصية الممثل الحقيقية في محاولة لقول ان أحداً لا يستطيع ان يدعي تلك المعرفة.

بالعودة الى الحكاية، "بول" ممثل يحضّر لعمل مسرحي مقتبس عن مسرحية أنطون تشيخوف "العم فانيا". المونولوغ المأخوذ من المسرحية الذي يفتتح الفيلم يقدم شخصية يائسة من الحياة، غير قادرة على الاستمتاع بها او على تغييرها. إنه "فانيا" المسكون بوطأة الاحساس بأن حياته ذهبت سدى. لوهلة، قد نظن ان هذا المونولوغ ليس سوى كلمات "بول"، يعبّر بها عن نفسه امام المخرج الذي يطلب منه أخذ استراحة. خلال الاستراحة، يسأله المخرج عما يعانيه، فيجيبه "بول" ان روحه باتت حملاً يثقل كاهله. هل هي أزمة إلهام يواجهها كلما أقدم على تقديم عمل جديد؟ ام انه تأثير "فانيا" الذي يدفعه الى إعادة التفكير في ما مضى من حياته؟ ام هي الحياة برمتها التي أوصلته الى تلك الحالة؟ لا نعرف تماماً مصدر ذلك الأرق والضغط اللذين يعتريانه ولكنهما من القوة بحيث انه مستعد للقيام بأي شيء في سبيل التخلص منهما. تطالعه في مجلة "ذا نيويوركر" مقالة لطبيب يتحدث عن آخر اكتشافات الطب النفسي: استخراج الروح من الجسد وحفظها في مكان بارد للتخفيف من عبئها على الإنسان. بعد رد فعل أول ساخر، يحدد "بول" موعداً ويذهب لمقابلة الطبيب "فيلينستين" (دايفيد ستراتهايرن). في العيادة المصممة لتشبه ديكور افلام الخيال العلمي، يطلع الطبيب "بول" على الخيارات المطروحة أمامه. فهو يمكنه ان يستخرج روحه ويحفظها في العيادة عنده او ان يشحنها الى نيوجيرسي حيث المخزن ويوفر عليه بذلك مال التأمين. كما يمكنه ان يلقي نظرة الى الداخل، الى روحه، بواسطة نظارات خاصة، ويستطيع استرجاع روحه متى يشاء او استئجار روح أخرى لأحد الواهبين المجهولين. ولدى سؤاله عما يتغير بعد استخراج الروح، يقول الطبيب ان كل شيء يصبح عملياً وسهلاً من دون مخاوف ولا ضغوطات.

على الرغم من شكوكه واسئلته الكثيرة، يوافق "بول" على اجراء العملية التي تُجرى في آلة تشبه الى حد كبير آلات التصوير بواسطة الرنين المغناطيسي. بعدها، يخرج بملامح شبه خاوية ليكتشف ان روحه المخزنة في اناء زجاجي ليست سوى حبة حمص! ولكن الطبيب يطمئنه الى ان الشكل لا يعني شيئاً. من هناك تتابع الاحداث في استكشاف بول لحالته "اللاروحية" الجديدة التي يدرك معها انه اصبح ممثلاً فاشلاً ورجلاً يفتقر الى الحساسية وزوجاً لا يرغب في ممارسة الجنس مع زوجته. لذلك يقرر استعادة روحه ولكنه يكتشف ان هناك من سرقها وهرَبها الى روسيا حيث اصبحت في جسد ممثلة مسلسلات تلفزيونية، فيقرر السفر الى هناك لاستعادتها.

اللافت في فيلم بارتيس ليس الفكرة وانما كيفية تناولها وليس الاستنتاج وانما الرحلة اليه. وهذا تحديداً ما يميز "أرواح باردة" بالمضمون عن ثلاثة أفلام- كتبها تشارلي كوفمن- تستدعيها مشاهدة الفيلم مباشرة: "أن تكون جون مالكوفيتش" Being John Malkovich و"اقتباس" Adaptation لسبايك جونز و"الاشراقة الأبدية للذهن الساطع"The Eternal Sunshine of the Spotless Mind لميشال غوندري. فالمخرجة تتعاطى مع موضوعها بجدية بالغة وكذلك شخصيات الفيلم. تحوّله من فكرة سريالية غرائبية الى تفصيل يومي، تبني حوله الاحداث والشخصيات. تدفعنا الى تصديق هذه البدعة او على الاقل التسليم بها والذهاب بعيداً في تصور تبعاتها. يتضح، بمنطق الفيلم، ان استخراج الروح تجارة رابحة ورائجة في عمليات التهريب بين أميركا وروسيا. اما لماذا اختارت روسيا كمسرح آخر للأحداث فمسألة خاضعة لاكثر من تفسير. قد تكون مسرحية تشيخوف هي التي قادتها الى استكمال الخط السردي في روسيا وسمحت لتلك النكتة المرحة حول زرع روح شاعر روسي في جسد "بول" ملائمة للشخصية. وقد تكون رواية نيكولاي غوغول "ارواح ميتة" التي اشارت المخرجة الى تأثيرها عليها هي السبب. والمعروف ان موضوعها يتناول امتلاك اصحاب الاراضي لأرواح الفلاحين الذين كانوا شبه عبيد زمن صدور الرواية في العام 1842. ولا نغفل ان ذلك الخيار السردي اتاح للمخرجة ملامسة تعبير شائع في الادب الروسي هو "الروح الروسية" انما بأسلوب ملموس. فالروح الروسية التي تحدث عنها نابوكوف وغوغول وتولستوي في وصفها المفتاح الى هوية الانسان وسلوكه، هي نفسها الروح التي يجري في الفيلم الاتجار بها وشراؤها وبيعها في السوق السوداء. وهي التي تؤدي بالشاعرة الشابة الى الانتحار حين تعجز عن استرداد روحها.

بعيداً من الدلالات السياسية والاجتماعية، اضاف الجزء المصور في روسيا مناخاً سينمائياً قاتماً على الفيلم، يوازي ذلك الساخر في الجزء المصور في أميركا. وهو مناخ اشتغل عليه مدير التصوير سينمائياً لمنح الفيلم صورة متفرّدة نادراً ما نقع عليها في الافلام الاولى لمخرجيها.

لا تحتاج فكرة الفيلم الى تشديد لان الرسالة واضحة. عذابات الروح جزء لا يتجزأ من ماهية الانسان وخصوصيته. ومن اللافت ان المخرجة لا تحاول تمرير هذا الخطاب ولكنها تستكشف تأثيرها، حيناً بسخرية وحيناً آخر بجدية، في مواقع عدة في الفيلم. أداء جياماتي التمثيلي يختلف بحسب حالته الروحية. فيقدم ثلاثة تصورات لشخصية "فانيا": الاول قبل استخراج روحه والثاني في حالته اللاروحية والثالث من خلال روح الشاعرة الروسية. كذلك يتخذ بعض الحوارات العادي بعداً آخر بسبب الموضوع. فحين يتغير "بول" بسبب ما يمر به وتسأله زوجته ان كانت في حياته امرأة أخرى، فإن الاجابة الحقيقية هي نعم لأنه مسكون بروح الشاعرة الروسية. بهذا النوع من الدعابة المبطنة والسخرية تطعم المخرجة حوارات ومشاهد فيلمها. وتطرح مسألة العلاقة بين الجسد والروح، متسائلة بمواربة عمن يشكل عبئاً على الآخر: هل هو الجسد؟ ام الروح؟ وعلى الرغم من سرياليته، لا يفقد الفيلم تماسه مع الواقع. فهذا الاجراء الذي يتصوره العمل من استخراج الروح وتخفف الانسان منها ليس سوى تصوراً مجرداً لأدوية العلاج النفسي المتطورة التي تسعى الى تسكين كل ما هو صاخب في داخل الانسان. كما انه، اي استخراج الروح، غير بعيد من تقنيات الـ"لوبوتومي" التي كانت سائدة في بدايات القرن الماضي بحجة ترويض المرضى النفسيين الذين يشكلون خطراً على انفسهم والآخرين. لا شيء من هذه المباشرة في شريط "ارواح باردة". وهذه إحدى مميزاته اي قدرته على التعاطي مع فكرة فلسفية من دون تسطيحها ومن دون الوقوع في فخ التنظير والحلول.

[ "ارواح باردة" يعرض في سينما متروبوليس أمبير ـ صوفيل

المستقبل اللبنانية في

30/04/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)