حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

'استدعاء حالة ماضوية'

نوستالجيا رومانسية وثرثرة جنسية سينمائية

القاهرة - بقلم محمود عبد الرحيم

ثلاثة أفلام تسجيلية مصرية تجمع بين الرؤية العميقة والتجربة الهزيلة على مستوى البناء الفني والفكري.

ثلاثة أفلام تسجيلية مصرية شاركت في المهرجان القومي للسينما، تستحق التوقف عندها، كون أحدها يمثل حالة فنية متميزة ذات خصوصية، لمخرج يمتلك أدوات سينمائية ورؤية عميقة، فيما الثاني يمثل النقيض أو بالاحرى تجربة هزيلة على المستوى البناء الفني و الفكري، لا يعدو كونها ثرثرة حوارية، وبينهما تجربة جيدة على المستوى التقني، ومرتبكة بنائيا، حيث تتشعب فيها الخطوط، ويضيع المنظور الاصلي، ويتم الانحراف عن الخط العام الذي تم الانطلاق منه، لصالح توجه ايدلوجي سيطر على صناعه.

اما الفيلم الاول فهو"ايام الراديو" للمخرج سمير عوف الذي يبدو أشبه بإستدعاء حالة ماضوية، على نحو" نوستالجي"، حيث كانت الاذاعة المصرية وبرامجها، خاصة الدرامية الغنائية محرضة على إنطلاق الخيال، وتجوال المخيلة في عوالم شتى بين الريف والحضر، بين جنبات التاريخ وفصول الواقع المعاش.

وقد سعى المخرج لإدخال المشاهد في أجواء عالمه الخاص بحساسية مرهفة ودون ضجيج ، بمعالجة غير تقليدية، غابت عنها المباشرة والروايات، إلى التعبير البصري ذي الدلالة الرمزية سهلة التلقي، وذلك على خلفية من مقاطع من الصور الغنائية، التى كانت تبثها الاذاعة المصرية في الخمسينات.

وواصل المخرج منذ اللحظة الاولي ايجاد معادل بصري لكل صورة غنائية، والانتقال بسلاسة من مسمع صوتي الى اخر، ومن مشهد لمشهد، في تداخل مدهش وتداعي حر للمعاني والمشاعر، ما صنع لوحة بصرية حية وجذابة، ولم يكتف بهذا الشكل التقليدي، إنما عمد الى معالجة مبتكرة تعمق فكرته، التى تنطلق من الإحتفاء بالإذاعة، وتجسيد أثرها على أجيال، قبل ظهور التليفزيون الذي سرق منها الأضواء، بإظهار طفل من وقت لآخر يسرح بخياله أو يتأمل ببراءة، ويقطع عليه، لينتقل الى صندوق خشبي يصدح منه الغناء أو صوت مجسم لشخص يروي قصصا، ثم يقطع مرة أخرى، لينقلنا الى مصر بشوارعها ونيلها وحقولها، واحيائها القديمة والحديثة، ومعابدها ومآذنها، فيما تتواصل في خلفية الكادر الصور الغنائية.

وقد أحسن المخرج في اختيار توقيت جيد للتصوير هو لحظة الفجر، بكل ايحاءاتها، حيث الصمت الذي يحرض على الخيال والتأمل برحابة.

وحرص في معظم الأحيان على أن تكون اللقطات بانورامية، بالترافق مع الرجوع التدريجي"الزووم اوت"، لإظهار أكبر قدر من التفاصيل ومعايشة الحالة والمكان، إلى جانب حرصه أن تكون زاوية الكاميرا كثيرا من أسفل لأعلى، لبيان الثراء الجمالي والشموخ والانطلاق والسمو الروحي، المتوافق مع حالة الحلم والتخيل، خاصة لدى تصوير المآذن والقباب والعمارات والنخيل وأشرعة المراكب النيلية، إلى جانب التداخل بين لقطتي المعبد الفرعوني والمآذن بحي القلعة، وكأنه يقول إن حلقات التاريخ المصري متواصلة فضلا عن تتابع لقطات حي القلعة واحياء وسط البلد الراقية والريف، وكأنه يريد ان يقول إن الإذاعة كان لها نفس التأثير على الجميع اغنياء وفقراء.

وبين القطع المتوازي بين الراديو والطفل ومصر بكل تفاصيل شخصيتها، تتعمق الفكرة أكثر فأكثر، وتأخذ بعدا دراميا متصاعدا، يوصلها الى الذروة، ولحظة التنوير، بظهور مخرج العمل ذاته فوق ذات سطح البيت القديم بحي القلعة بالقاهرة في العام 2000 ، في نفس موقع الطفل قبل 50 عاما، وكأنه يريد أن يقول إن ما تم سرده على مدى نصف ساعة هو فصل من فصول سيرتي الذاتية، وأن الطفل الحالم الذي رأيتموه هو أنا، الذي لولا الاذاعة ما صار لديه هذا الخيال، وروح الابداع، وما تحول لصانع افلام، غير أنه لم يتوقف عند هذا الحد، وانما توقف بكاميرته عند اطباق الاستقبال الفضائي، وعاد مرة أخرى إلى جهاز الراديو العتيق ليقول إن هذه التكنولوجيا، ربما تكون سرقت مكانة الراديو، الا أن الحنين له مازال موجودا، وثمة من يقدره ويحتفي به، وهي العبارة التى ظهرت مكتوبة على الشاشة في نهاية الفيلم، من شكر وتقدير للاذاعة المصرية، ولروادها الاوائل من المخرجين.

إنه فيلم يستحق الاحتفاء به، وبمخرجه، الذي يتمتع بنضج فكري وفني، أوصل المشاهد الى حالة من متعة المشاهدة، التى تغيب عن كثير من الافلام التسجيلية، التى يصنعها مصريون، ومنهم عمرو بيومي مخرج فيلم"كلام في الجنس"، الذي يبدو من الصعب تصنيف عمله كفيلم، ونسبته إلى قالب السينما التسجيلية، فهو ليس سوى ثرثرة حوارية تغيب عنها الرؤية البصرية، ما يقربه الى قالب "الريبورتاج" التليفزيوني السئ أيضا، وليس الجيد، لغياب رؤية فكرية كذلك، إذ لم يحدد المخرج وجهته منذ البداية، وترك الأمر على ما يبدو لقانون الصدفة ،فلم يتمكن من تحديد ماذا يريد ان يقدم للمشاهد، وما هو المنظور الخاص به، ومعالجته لقضية عامة، ومتشعبة كالجنس، هل يريد ان يختبر وقع كلمة جنس على المارة في الشارع، أم يستضيف شابين وشابة للحديث عن تجاربهم الجنسية، والضغط الاجتماعي المحاصر لهم، أم يستمع لشهادات رجال ونساء متزوجين، يروون الفارق بين لذة المعاشرة مع الزوج، و مع العشيق، وحالة الملل الزواجي ، أم أنه يريد أن يسمعنا آراء خبراء في علم النفس والاجتماع والذكورة والسكسولوجي ، أو يستعرض رؤي فنانيين تشكيليين وأدباء في قضية الجنس، وعلاقتها بالابداع.. أم يريد كل هذا، وزيادة، كالحديث عن العادة السرية والختان و التعرض للمواد الاباحية وغيرهم.

ما أوجد في النهاية مزيج غير متجانس اشبه ب"سمك لبن تمر هندي"، ما أربك المشاهد، وأضاع وقته عبثا، ولم يضف له أي جديد، سواء على مستوى المعلومات المكررة ،أو المتحدثين المستهلكين، أو الرسالة المفقودة، أو حتى المتعة البصرية الغائبة، لإنتقالاته المباشرة من ضيف لضيف، والتحدث في وضع ثابت، مايزيد عن دقيقتين، فيما الصورة عنده وظيفتها ثانوية، وأشبه بالفواصل، وليس معادلا بصريا أو معمقا للمعنى ، فضلا عن غياب جرأة التناول بإختيار متحدثين يحكون في الظلام، ما يجعل هذا الفيلم الذي يفتقر لمقومات العمل السينمائي، أقل حتى من مستوى البرامج التليفزيونية، التى عالجت هذه القضية.

ونصل إلى الفيلم الثالث الذي يبدو أفضل من "كلام في الجنس" على المستوى التقني، ألا وهو فيلم"جيران" للمخرجة تهاني راشد، إذ كانت الرؤية البصرية جيدة، بل أنها لم تكتف بلقطات مصورة ذات دلالة قوية فحسب، وأنما راحت تستعين بلقطات من أفلام قديمة تعمق بها فكرتها، وتسعيد لحظات ماضوية لإبعاد وظيفية، وسط تقطيع جيد، وجمل قصيرة، ما صنع إيقاعا سريعا، وسط تنوع المتحدثين وأماكن التصوير، ما بين الداخلي والخارجي واللقطات المقربة والبعيدة التى تستخدمها في مكانها الصحيح، لتقول معاني محددة، ما أضفى حيوية على العمل الطويل جدا،تكشف عن قدرات فنية للمخرجة، غير أن الإشكالية في الجانب الآخر من العمل ، أقصد بناءه الفكري، ورسالته الموجهة.

فالمنطلق الأساسي أو الخط العام للفيلم هو التعاطي مع الوضعية التى أفرزتها حرب العراق في مصر، من إجراءات أمنية مشددة حول السفارات المتزعمة للعدوان على العراق كالولايات المتحدة وبريطانيا، وصلت إلى حد إغلاق المنطقة بمتاريس وحواجز، وجعلها أقرب إلى ثكنة عسكرية، يصعب الدخول إليها، وهو ما كان له إنعاكساته الاقتصادية والنفسية بشكل خاص، على ساكني هذا الحي وأصحاب المحال، الذي تعطلت مصالحهم، وكسدت تجارتهم، وتعرضوا للاستدانة، التى قضت على البعض، ممن ماتوا قهرا وكمدا، إلى جانب الخديعة التى تعرضوا لها على يد السفير الامريكي السابق، الذي كان يجيد العلاقات العامة، ويميل للإختلاط مع الجماهير، حيث دعاهم لحفل استقبال ظنوا أنه لبحث أزمة عسكرة المنطقة، وتبشريهم بالعودة إلى الحالة السابقة، غير أنه فاجأهم بالحديث عن تجميل المنطقة حول الحواجز.

غير أن المخرجة أنحرفت هذا الخط الرئيس، الذي يعبر عن هم إجتماعي متعدد الأبعاد، و منطق هيمنة القوة داخليا وخارجيا، ولو على حساب المعاناة الانسانية للمواطنين المسالمين، وأهملته رغم أنه يستحق إلقاء الضوء، وتناوله بعمق وتركيز، وحولته من المتن إلى الهامش، بالدخول الى منطقة أخرى أستهوتها أثناء العمل وجمع الشهادات، ومثلت لها هاجسا لم تستطع الافلات منه، ألا وهو تكريس إدانة ثورة يوليو، وتحميلها المسئولية عن تدهور الوضع المعماري والجمالي للحي الارستقراطي، بالسماح لأبناء الشعب أن يقتحموا "جنة الطبقة الراقية"، ويغزوها، بقيم العشوائية والضجيج والزحام والتديين الواسع للمجتمع التى غيرت معالم الحي، للدرجة التى دفعت بكثيرين إلى هجره، أو البقاء اضطراريا.

ويبدو أن المخرجة تعمدت تصدير هذه المغالطات التى تتنافي مع الوقائع التاريخية في جانب منها، إذ أن عملية الهدم والبناء للقصور والفيلات ومناخ العشوائيات، والإفقار والمد الاصولي بكل تداعياتهم، نتاج مرحلة الإنفتاح الساداتي، وشهدت ذروتها في عهد مبارك، وليس عبد الناصر، وثورته التى جرى الانقلاب عليها بوفاته.

وبدت المخرجة غير موضوعية في تناولها للخط المنحرف للفيلم الذي يركز على التحول الديمغرافي للحي، وحولت عملها الى خطاب طبقي تمييزي فج، يتباكي على العصر الملكي وحقبة الاحتلال البريطاني، وإعتبارهما العصر الذهبي لمصر، والنظر إلى قضية العدالة الاجتماعية، والقضاء على الاقطاع، وسيطرة رأس المال على الحكم، وإتاحة الفرصة أمام جموع الشعب لينال حقوقه، من صحة وتعليم ووضع اجتماعي أفضل، على أنه خطأ تاريخي وكارثة أرتكبها "ضابط ديكتاتور" هو عبد الناصر.

وتبدو القصدية، والانحيازات الطبقية واضحة بفجاجة من أول جملة في الفيلم، إلى أخر جملة، بحشد كل المعادين للثورة ممن تضررت مصالحهم، من أبناء الباشوات السابقين كحفيد فؤاد سراج الدين الذي أتت به المخرجة ليقول إن ناصر سجن جده لأنه رفض القبول بتأميم الأراضي دون تعويضات، أو أبن أحد كبار الرأسماليين اليهود بمصر سليم صيدناوي الذي يشتكي من مصادرة ممتلكاته، أو أبنة طبيب الملك فاروق التى تروى واقعة اقتحام ضابط قصرهم، وتهكم أمها منه، لأنه لا يعرف الإمساك بمسدسه، أو مرسي سعد الدين مترجم الرئيس السادات الذي يحكي عن إنغلاق مصر في عهد الثورة، مقارنة بالأربعينيات، وحتى من أتت بهم، ليمثلوا وجهة النظر الأخرى كان صوتهم خافتا، ولهم تحفظات على الثورة، كالأديب علاء الاسواني الذي ركزت المخرجة على إدانته للثورة، ولعبد الناصر "الديكتاتور العادل" أو "صانع ميكنة الاستبداد"، حسب وصفه، وهي تقريبا نفس جملة المفكر محمود أمين العالم الذي أختتم الفيلم به، وهو يحكي عن إعتقال نظام ناصر له، ولمثقفي اليسار وتعذيبهم، رغم أنه كان يحب هذا الرجل، ويؤيد التوجه الاجتماعي للثورة، وربما الصوت الوحيد الذي كان واضحا في الدفاع عن الثورة، التى انحازت لجموع الشعب، وأتاحت لهم فرص العمل والكرامة، أتي من شخص فقير يعيش على السطوح، إذا ما وضعنا رأيه في سياق الإدانة المتواصلة لنظام عبد الناصر، فسيكون خافتا, ومفتقدا للمصداقية، لأنه يعبر عن مصالح الفئة العشوائية، التى أساءت للحي، حسب منظور المخرجة.

إلى جانب، أن ثمة لقطات دالة ينبغي التوقف عندها، تؤكد المنطلقات الطبقية لصانعة هذا العمل، وأجندتها، مثل لقطة المصلين بالشارع، والذي تقطع عليهم، لتنتقل إلى طفل صغير يرتدي الزي العسكري، في ربط ذي مغزي تسعى من خلاله إلى الربط بين الأصولية والعسكرة للمجتمع الذي يتواصل منذ الطفولة، ولقطة الأولاد الذي يلعبون الكرة في الشارع، والذي تقطع عليهم، لتركز على كلب وقطة يطلان من شباك إحدى الفلل، وكأنها تريد أن تقول إن هذه الحيوانات أكثر رقيا من أولاد الشعب البائس العشوائيين، إذ صارت منعمة في البيوت، بينما الأولاد، مثل الحيوانات اللقيطة يتجولون في الشوارع ويأخذون مكانها.

وكأن الفقراء مسئولون عن فقرهم، وأننا بدلا من أن ندعو لمحاربة الفقر، يجب أن نحارب الفقراء، إن لم نقتلهم.

إنه فيلم الرسائل الطبقية الشريرة، ووثيقة إدانة ساذجة لثورة العدالة الاجتماعية، دون منطق سليم أو نقد موضوعي، وأنما تصفية حسابات، وخدمة لمصالح العائدين من الماضي الذي قضت عليهم الثورة، وورثتهم، الذين تتعالى أصواتهم بقيم التمييز والإستعلاء اللاأخلاقية، والتلاقي بين قوى الإستغلال الداخلي والخارجي، بعد أن وجدوا فرصة مواتية في تزاوج رأس المال والسلطة في مصر، وتصفية مكتسبات ثورة يوليو، والرغبة في الإجهاز على مورثها الفكري وتشويه صورتها كذلك، الأمر الذي يجعل هذا الفيلم يستحق الادانة، ولمن يروج لهذه الدعاوى الممجوجة المعادية للشعب وثورته الوطنية، وإن قدمها في قالب فني جذاب.

محمود عبد الرحيم - كاتب وناقد مصري

ميدل إيست أنلاين في

28/04/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)