حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«مهرجان تطوان الدولي السادس عشر لسينما بلدان البحر الأبيض المتوسّط»

أين تبدأ السينما وأين تنتهي الجغرافيا!؟

نديم جرجورة/ تطوان

لم يعد الاحتفال بالسينما المتوسطية واضحاً. التسميات فضفاضة. الهوية والتوجّه غامضان. الرغبة في تفعيل الحضور السينمائي في مدينة متوسطية صادقٌ، لكن الاختيارات مسيئة، أحياناً، إليها. القراءة النقدية الأولى لـ»مهرجان تطوان الدولي السادس عشر لسينما بلدان البحر الأبيض المتوسّط»، المنتهية مدّته مساء بعد غد السبت، تعيد طرح سؤال أساسي: أين تبدأ السينما، وأين ينتهي دور الجغرافيا؟ يُطرح السؤال بطريقة مختلفة: هل الاختيار مبني على ما يجمع أفلام الدول المحيطة بالبحر الأبيض المتوسّط بعضها بالبعض الآخر، شكلاً أو أسلوباً أو توجّها أو قضايا متفرّقة؛ أم إن الجغرافيا ركيزة جوهرية لا تكترث لأي شيء آخر؟

في إحدى الأمسيات المنعقدة خارج العروض، شكّل السؤالان هاجساً لدى البعض القليل من الزملاء المعنيين بالهمّ السينمائي. أميل إلى القول إن الجغرافيا، هنا، قاعدة وحيدة. لعلّ الأمر عادي. المهرجان مندفع إلى منح أهل المدينة والضيوف المدعوين فرصة الاطّلاع على ما يصنعه مخرجون منتمون إلى تلك الدول، أو إلى أفلام منجزة بفضل مؤسّسات إنتاجية تابعة لهذه الدول. لعلّ الأمر بسيطٌ. المهرجان متواضع في طرحه الثقافي والجمالي. إدارته ساعية إلى إيجاد حيّز جغرافي وفضاء ثقافي خاصّين بسينما متوسطية. المسألة شبيهة بمهرجان الفيلم المتوسطي القصير في المدينة المغربية طنجة، القريبة من تطوان. حوض المتوسّط مفتوح على ثقافات وأساليب متناقضة ومتكاملة في آن واحد. تأثيرات متبادلة عبر التاريخ. حروب واستعمار وإرساليات ونزاعات. حركات مقاومة وتحرّر. الوجود الاستعماري الأوروبي حاضرٌ في مناح متنوّعة في الحياة اليومية للمستَعمَر السابق. الصراع قائم. الهجرة أيضاً. الشغف بالهرب إلى بلدان استعمارية كبيرٌ. السينما متابِعَة دقيقة لتفاصيل العيش داخل جدران الألم، وفي أعماق الحيّز المزنَّر بالأسلاك الشائكة للقهر والقلق.

سؤال المتوسّط

لا شكّ في أن الفيلم الوثائقي «الطريق الخطأ» (الترجمة العربية للعنوان الإنكليزي الموضوع من قِبَل المخرج أيضاً، هي: «خارج السياق») للإيطالي سالفو كوتشيا منتم إلى هذا الهمّ. عالمه الداخلي مرتكز على الحيّز الجغرافي للمتوسط. فضاؤه الإنساني مفتوح على أسئلة الهوية والصورة الفوتوغرافية والعلاقات. المصوّر أنطوان جياكاموني محور الحكاية. علاقته بالصورة فنية ليست مهنية فقط. تجواله بين المشاهير أتاح له فرصة الاطّلاع والمعرفة. فَقَد بصره. وعندما استعاده، قام برحلة متوسطية طارحاً أسئلته الخاصّة بالهوية والتمايز والتواصل الثقافي والحضاري بين شعوب تلك المنطقة. التقى فنانين ومثقفين ومفكرين منتمين إلى تلك الدول وثقافاتها ومناهجها الفكرية والحضارية (من بينهم الشاعر العربي أدونيس). الفيلم منقسم إلى مناخات وأساليب عدّة. لكن طرحه الثقافي والفكري محتاج إلى مشاهدة ثانية. المتوسّط منطقة خطرة ومثيرة للتساؤلات. التداخل بين الشعوب والثقافات يُفضي، أحياناً، إلى نزاعات. هناك مزيج بين التجريب البصري البحت والنمط الوثائقي العادي.

تحت عنوان «أسطورة المتوسط»، تساءلت إدارة تحرير «يومية المهرجان» في عددها الصادر يوم الأحد الفائت (28 آذار الفائت) عما إذا كان للمتوسط ملامح، أو طبع خاص؛ وعما إذا كان «لكائنات المتوسط احتياجات ونزوعات لا تشبه نزوعات واحتياجات الآخرين؟»؛ وعن كيفية التعبير عن ذلك «عبر الإبداعات الفنية عموماً، والإبداعات السينمائية تحديداً؟». أضافت المقدمة هذه أن الإجابة قد تكون صعبة، لأن حوض المتوسط «فضاء مفارقات، وفضاء البحث عن التفرّد، وعما هو نادر. هو حوض يستضيف ديانات وثقافات وحضارات شتّى. بهذا المعنى، بقدر ما هو مجال اللقاء والانصهار، هو أيضاً فضاء الصراعات الدموية والصدامات التي لا تتوقف إلاّ لتتواصل». وذكرت المقدمة أن حوض المتوسط مجال تقاسم خبرات، والمشاركة بها وتبادلها: «غير أن مجتمعاته لا تجد أي صعوبة في العثور على ذرائع للتطاحن والتدمير». النصّ مستمرّ في التوغّل الأدبي داخل جذور المسألة، إذ رأى أن المتوسط «بحر المغامرة والتوق إلى الغموض والجديد، والسعي إلى الغنى المادي والرمزي». لهذا، تُصبح الهجرة «من أهم المواضيع التي تناولتها الأفلام المتوسطية، بالإضافة إلى تقديسها الأسرة، وابتهاجها بالجمال الأنثوي، وبحثها عن الدفء (...)». في هذه الأفلام المختارة للدورة السادسة عشرة، هناك «رصدٌ للاختلال الحاصل بين مجتمعات متجاورة تربط بينها أواصر تاريخية ووجدانية».

لا أعرف إلى أي مدى يجيب النصّ المذكور أعلاه عن السؤالين المطروحين سابقاً. التشابه في المواضيع دعوة إلى اختيار الأفلام. لكن الأهمّ، خارج الإطار الجغرافي البحت، يُفترض به أن يكمن في الأسلوب القادر على منح الأفلام صفة «متوسطية»؛ أو لتكن الجغرافيا سبباً وحيداً للاختيار.

ارتباكات

تساؤلات كهذه أثارتها الدورة السادسة عشرة، التي افتُتحت مساء السابع والعشرين من آذار الفائت، بعرض الفيلم المغربي الجديد «أولاد البلاد» لمحمد إسماعيل. لكن المناخ العام مائلٌ إلى مشاهدة أفلام، وإلى الإسراف بتلك السهرات الجميلة بين أصدقاء ومعارف وزملاء مهنة. بدا الافتتاح متعِباً. الكلمات التي لا تنتهي. التقديم باللغتين العربية والفرنسية. التكريمان الخاصان بالإيطالية كلوديا كاردينالي والمغربي محمد بسطاوي عاديان. الممثلة مستمرة في إثارة الانفعال إزاء ذاكرة ولحظة آنية. الممثل حاضر في المشهد المغربي. اللحظات بطيئة. لكن الطامة الكبرى متمثّلة بالفيلم المذكور. قليلون هم الذين شاهدوه إثر انتهاء الجلسة الخطابية. الآخرون منسحبون إلى حفلة تكريم الضيوف. الفيلم ثقيل على المتلقّي. ركاكته لا توصف. ارتباكه التقني والفني لا مثيل له. مادته الدرامية مهمّة: مصير جيل شبابي مُصاب بلعنة التقوقع والعزلة داخل بلده. لكن المعالجة ركيكة. التمثيل أيضاً. أدوات التعبير البصري بدائية. السياق الدرامي مفكّك. هناك سذاجة بصرية في طرح المسائل ومعاينة تداعياتها في الذات البشرية والروح الإنسانية. التهميش والرفض اللذان تعرّض لهما شباب مغاربة لا يختلفان عمّا تعانيه الغالبية الساحقة من الشبان العرب، في مرحلة التبدّلات الحاصلة في المستويات كلّها. غير أن خصوصية شباب المغرب ومسارات عيشهم وسلوكهم لم تظهر في المشهد الفيلمي هذا. أصدقاء ثلاثة منفصلون عن بعضهم البعض، وهائمون في متاهة الحياة اليومية. قتل وتجارة لا يُتقن البعض مفرداتها وعالمها الخفي (المخدرات). انصراف إلى الدين قبل السقوط في الأصولية والإرهاب. مسالك عيش وفوضى مجتمع، إلى جانب نضالات طالبية وشبابية مصطدمة بلا مبالاة قيادات ومسؤولين. هذا كلّه منصبٌ في قالب سينمائي مفكّك، وغائص في تسطيح فني ودرامي.

خلل الدراما والصورة

بعض هذه المشاكل الفنية والدرامية والجمالية موجودٌ، أيضاً، في الفيلم الأخير للمخرج المصري أسامة فوزي «بالألوان الطبيعية». السينمائي الشاب الذي قدّم «عفاريت الإسفلت» و»جنّة الشياطين» و»بحب السيما» مُصاب بالفراغ الإبداعي. جرأته في تفكيك شيء من السلوك المسيحي المتزمّت في «بحب السيما»، ظلّت حاضرة في «بالألوان الطبيعية» داخل إطار عائلة وبيئة مسلمتين، لكن من دون نكهة إبداعية. النزول إلى قاع المجتمع والعيش في وحوله انعتاقاً من قسوة البورجوازية وفراغها الروحي في «جنّة الشياطين»، لم يعثر على امتداد ثقافي وتطوّر جمالي في الفيلم الأخير هذا. غير أن تبريراً واحداً يُمكن الاستناد إليه: الفانتازيا مدخلٌ إلى السخرية المطلقة من وقائع العيش، حالياً، في قاهرة المعزّ. لكن، للفانتازيا مفرداتها وتقنياتها وجمالياتها. وللسخرية أيضاً. الجمع بين الازدراء والتعبير عن الألم جرّاء الانهيار الحاصل، فاشلٌ. اختار فوزي عالم الجامعة للإطلالة على بيئة معقّدة ومنهارة. طلبة قسم الفنون موزّعون على حالات مختلفة ومتناقضة. المتدينون والأصوليون في مكان واحد والمتحرّرون والضائعون. شباب منسحق أمام الممنوعات. الالتزام الديني متحوّل إلى عقاب أرضي. العلاقة بالله مرتبكة. يريد البعض حرية. آخرون ملتزمون منهجاً قمعياً في العيش. الصدام قاس. لكن المعالجة البصرية أقسى، لأنها منساقة إلى تفكّك خطر على مستوى البناء الدرامي والطرح الثقافي والاشتغال السينمائي.

الحياة المجتمعية المفكّكة، والعيش في المناخ الناتج من تداعيات حروب وحشية، ركيزتا «أوري»، الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج الإسباني ميغيل آنخيل كولمينار. اختار المخرج الشاب (مواليد مدريد، 1979) الحرب السابقة بين جورجيا وروسيا، مادة درامية لفيلمه ذي الإنتاج الجيورجي الإسباني المشترك. لكن الحرب واقعة في الخلفية. تأثيرها واضحٌ في العمارة والبيئة والنفس البشرية. شخصيات محطّمة وهائمة وسط الانهيارات والفراغ وقسوة الطبيعة الجميلة في تبيليسي. المادة مهمّة. الحروب وتأثيراتها متشابهة في أمكنة متفرّقة في العالم. للخصوصيات مفرداتها النابعة من تاريخ وثقافة وانتماءات دينية وفكرية وحضارية. في هذه البقعة الجغرافية الملتهبة بسطوة التاريخ وعنف الجغرافيا، التقط كولمينار تفاصيل العيش اليومي على حافة الموت، أو في قلب الخراب. العلاقات مسحوقة. الحبّ مندثر. الوحدة قاتلة. الذكريات أيضاً. الغناء وحده لا يُشفي. ظلّ الموت طاغ. هذا كلّه جميل. لكن المعالجة متأخّرة في مواكبة التفاصيل الإنسانية. بل فاشلة. لقطات سينمائية عدّة عكست براعة إخراجية وتصويرية. حركة الكاميرا هادئة. مع أنها تنقّب عن مكامن الغضب والغليان الصامتين، أو المبطّنين في القاع السحيق للحكاية. الصبية كئيبة. العجوز متعب. المرأة منعزلة. الشاب تائه. صُور بديعة وإن كانت معروفة في السينما. لكن المعالجة الدرامية لم تبلغ مرتبة الإبهار والجمال والإثارة.

هل هي صدفة، أم إن المسألة متعلّقة بمزاج نقدي؟ المزاج النقدي محرّض على المعاينة والقراءة. الصدفة لعبت دوراً واحداً، ربما: المسابقة الرسمية الخاصّة بالأفلام الروائية الطويلة متضمنّة عدداً من الأفلام التي لا تمتلك شرطها الإبداعي. «الليل الطويل» للسوري حاتم علي و»المرأة التي لا تملك بيانو» للإسباني خافيير ريبولّو. إنهما متشابهان في إشارتهما إلى القمع. الأول سياسي. الثاني نفسي/ اجتماعي. في الأول، سجناء سياسيون يُطلق سراحهم. في الثاني، امرأة متزوّجة تهيم في الليل بحثاً عن اختبار حياتي مختلف، أو عن مغامرة تعيد نبض الحياة إلى شرايين روحها والقلب. السجناء خرجوا إلى خرابهم. إطلاق سراحهم مزّق أقنعة عائلية واجتماعية. المرأة ذهبت إلى بؤسها. تسلّلها من المنزل الزوجي أفضى إلى ارتماء في مزيد من الشقاء. ليس الموضوع وحده جامعاً الفيلمين بعضهما إلى بعض. الركاكة في المعالجة أيضاً. الخلل في سرد الحكاية وتفاصيلها. فراغ الإبداع في التمثيل واستخدام الموسيقى والمعالجة الفنية والتقنية.

كلاكيت

إخفاق

نديم جرجورة

إنها صدفة. لم أتعمّد كتابة نقدية سلبية. لكن أفلاماً عدّة، اختيرت للمسابقة الرسمية الخاصّة بـ «مهرجان تطوان الدولي السادس عشر لسينما بلدان البحر الأبيض المتوسّط»، التقت عند الركاكة والتفكّك والادّعاء. لعل الأيام الأخرى تقدّم البديع. أو بعضه، على الأقلّ. لم أشاهد الأفلام المختارة كلّها. الروائي الطويل مُصاب بلعنة الافتقار إلى الإبداع والجميل والمؤثر. الوثائقي منشغل بهموم جمّة، لكن بعض المعالجة لا يليق بالعمق الإنساني للمواضيع. أو للشخصيات والحالات المختارة، ومصائرها المصطدمة بالألم والقهر والتشرّد والموت والإخفاق.

لا يُمكن حسم المسألة، بالقول إن المهرجان فشل في اختيار الأفلام الروائية الطويلة الخاصّة بالمسابقة الرسمية. أيام عدّة مقبلة. أفلام أخرى لم تُعرض بعد. غير أن مُشاهدة بعض الأعمال أفضت إلى تشاؤم في الكتابة. إلى الاستعانة بالمفردات السلبية في التحليل والقراءة. هذه كارثة. الكثرة لا تولّد إبداعاً. هذا أمر مسلَّم به. لكنه يدعو إلى التساؤل عن سبب الإخفاق في إنجاز سينمائي جدّي، قادر على الجمع بين ثنائية الشكل والمضمون. مثلٌ أول: الفيلمان المصريان «بالألوان الطبيعية» لأسامة فوزي (داخل المسابقة) و»كلّمني شكراً» لخالد يوسف (خارج المسابقة) انعكاسٌ لحالة مزرية بلغتها السينما المصرية منذ أعوام عدّة. الصدمة كامنة في أن النتاج البصري لفوزي أكّد تراجعاً إضافياً في مساره المهني. في حين أن التراجع الدائم سمة أفلام يوسف منذ وقت بعيد. مثلٌ ثان: سوريا والمغرب. سينما الدولة الأولى متأرجحة بين إبداع قليل وانهيار كثير. سينما الدولة الثانية متأرجحة في المأزق نفسه. لكنها أقدر على تقديم الإبداع. اختباراتها أعمق. تطوّراتها أجمل. سينمائيوها مستمرّون في مقارعة المصائب والتحديات، بحثاً عن لغة سينمائية أهمّ. في سوريا أيضاً. مثلٌ ثالث: لم يعد الغرب مرجعية مطلقة. أفلام أوروبية عدّة خاضعة لمنطق السوق، بالمعنى الساذج للتعبير. بل خاضعة للهوس الأحمق بالصورة، من دون القدرة على جعل النصّ السينمائي متتاليات مرتكزة على الصوَر، لا على الثرثرة الكلامية والبصرية. ليس الغرب كلّه طبعاً. ليست الأفلام الغربية كلّها أيضاً. التعليق مرتبط بالمهرجان المتوسطي في تطوان. وبالنوع الروائي الطويل فقط. هناك أفلام قصيرة مهمّة جداً. هناك أفلام وثائقية مثيرة للنقاش.

تتحمّل إدارة المهرجان المتوسطي مسؤولية أساسية في اختياراتها. أم ان الاختيار مرتبط، فقط، بالموجود؟ مسؤولية المخرجين والمنتجين أكبر وأخطر: الإبداع حكرٌ على المخرج. المهرجان مسؤول عن ترويج السيئ. لكن السيئ وليد عقل متخلّف، وموهبة معدومة، وحِرَفية غائبة. الأخطر كامنٌ في الجهة الجنوبية للمتوسّط، سواء تمثّل الخطر بالأفلام العربية المشاركة، أم بالنتاج العربي العام. تعاني صناعة الصورة السينمائية العربية خللاً فظيعاً. لكن الخلل لا يحجب أعمالاً رائعة وإنجازات باهرة، وإن كانت قليلة. في تطوان، قليلة هي الأفلام العربية المهمّة. أبرزها: «الزمن الباقي» لإيليا سليمان (عروض خاصة).

المتوسّط؟ البحر غدّار. كذلك مدّعو الإبداع.

السفير اللبنانية في

01/04/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)