حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

أبطاله يقاومون العنف الإسرائيلي بالإصرار على الحياة

الفيلم الفلسطيني «المر والرمان».. يواجه تحديات السوق في عرضه الأول بالقاهرة

طارق الشناوي

تجربة هامة جدا، بل استثنائية، بدأت فقط قبل يومين في القاهرة، وهي عرض الفيلم الفلسطيني «المر والرمان» في مصر.. نادرا ما تُعرض أفلام عربية - غير مصرية - عروضا تجارية بالقاهرة، وفي الحالات القليلة التي وجدت هذه الأشرطة مكانا لها داخل السوق المصرية التقليدية كان مصيرها الفشل التجاري.. عرض قبل عامين مثلا الفيلم السعودي «كيف الحال»، وأيضا اللبناني «بوسطة»، ثم تبعه الفيلم اللبناني «سكر بنات» - كراميل - الذي سبق له أن عرض في قسم «أسبوع المخرجين» بمهرجان «كان» في الدورة قبل الأخيرة، وكانت النتيجة أن الفيلم الحاصل على عشرات من الجوائز داخل وخارج الوطن العربي، والحاصل أيضا لبطلته ومخرجته نادين لبكي على جوائز التمثيل والإخراج، لا يستطيع الصمود سوى أسبوعين فقط في دور العرض بالقاهرة، بينما تأتي إيرادات باريس التي تواكب نفس توقيت عرض الفيلم هناك لتؤكد أن الجمهور الفرنسي أكثر إقبالا على الفيلم. وبالمناسبة، لم تكن الأغلبية من أصحاب الأصول العربية هم رواد الفيلم.

هذه المرة نحن مع الفيلم الفلسطيني «المر والرمان»، وهي المرة الأولى التي تفتح أبواب دار عرض مصرية لفيلم فلسطيني عرضا جماهيريا. حصل الفيلم قبل أيام قليلة على جائزة أفضل ممثلة، ياسمين المصري، وأفضل تصوير، فانتينا كانيليا، من مهرجان مسقط السينمائي الدولي. الفيلم هو التجربة الروائية الأولى لنجوى النجار، التي شاركت أيضا في كتابته. تجري أحداث الفيلم الرئيسية داخل رام الله، وتمزج الأحداث بين مشاعر الحب والتوق إلى الحرية الشخصية المنصهرة بحرية الوطن. الجدران والقيود والقضبان التي تفرضها القوات الإسرائيلية على الإنسان الفلسطيني نراها أيضا وقد مورست بقسوة وضراوة أشد على بطلة الفيلم، ياسمين المصري، اجتماعيا ونفسيا بالأقوال أو بالنظرات. تبدأ الأحداث بحفل عرس ورقص يشارك فيه الجميع، وتنتهي أيضا برقصة تقدمها البطلة على خشبة المسرح، وبين البداية والنهاية نرى الحكاية التي تذوب فيها حدود الوطن بمشاعر البشر. من خلال مشهد زواج شابين متحابين في الكنيسة تحرص المخرجة نجوى على أن تقدم لنا كل الطقوس الفولكلورية الفلسطينية المرتبطة بيوم العرس، سواء أكانت دينية أو شعبية. نعيش لحظات الفرح التي تعبر عنها المخرجة بقدر كبير من الإمتاع البصري. الزوج الفلسطيني، أدى دوره أشرف فرج، لديه أرضه في رام الله التي يعيش على ما تطرحه من زيتون، ولكن إسرائيل كعادتها لا ترضى سوى بالاغتصاب لكل ما هو ليس من حقها، ولهذا تطمع في انتزاع جزء من الأرض. يشتبك بطل الفيلم مع القوات الإسرائيلية في أثناء دفاعه عن أرضه، ويزج به إلى المعتقل بعد أن أشبعوه ضربا وركلا وكأنهم يقدمون رسالة إلى الجميع بأن أي اقتراب من الجندي الإسرائيلي سوف يواجه بكل هذا العنف. الزوجة التي لا تزال تعيش بمشاعرها مع زوجها هي أيضا تمارس الرقص الاستعراضي من خلال فرقة تقاوم الاحتلال بالحياة والحرص عليها. وهكذا تجد المخرجة حالة من التوازي الدرامي بين تدريبات الرقص للبطلة وبين زوجها داخل قضبان الزنزانة الإسرائيلية.. إن الاحتلال فرض على الجميع أن يتواصلوا.

أرادت والدة البطل أن تضمن الحرية لابنها، وهكذا تطلب من محامية إسرائيلية الدفاع عن ابنها. ويحرص السيناريو على أن يقدم المحامية الإسرائيلية متعاطفة مع القضية وأصحابها، لكنها تعلم أيضا أن القوانين صارمة جدا وأن الثغرة الوحيدة الممكنة لإخراجه من السجن هي أن يبيع أرضه للسلطات الإسرائيلية، ولكن والدة البطل ترفض وتبحث عن حل آخر، والبطل يتحمل أيضا العذاب في السجن والبعد القسري عن زوجته في شهر العسل من أجل أن لا يوقع على بيع الأرض. الرؤية الدرامية والسينمائية تقدم تفاصيل تبدو صغيرة لكنها تعبر عن إرادة شعب حاول ولا يزال يقاوم الإغراءات.. ما الذي تريده إسرائيل؟ ليس فقط الاستحواذ على الأرض، إن هدفها الأساسي هو أن تقتل الحياة. ولكننا مع أسرة تعيش على بيع الزيتون الذي تنبته الأرض، ليس فقط كمشروع اقتصادي، ولكن الأرض تصبح هوية لكل فلسطيني، ولهذا تصر إسرائيل على خطفها وانتزاعها من أيدي أصحابها الأصليين. لا نجد الكثير من الدماء والعنف وضربات الرصاص، بل إننا في إحدى ليالي القصف الإسرائيلي نجد أن المخرجة تكتفي بأن نتابع الأبطال في المقهى الذي تديره هيام عباس، ونستمع إلى أصوات زخات الطلقات خارج المقهى، لكننا لا نرى إلى أين تتجه، ورغم ذلك نرصد بالتأكيد المعاناة التي تؤدي إلى أن ينام الأبطال: مدرب فرقة الرقص الذي أدى دوره علي سلمان، وصاحبة المقهى التي أدت دورها هيام عباس، وابنها، وياسمين النجار، على فراش واحد على الأرض وليس لديهم وسيلة أخرى.. ثم تخرج صاحبة المقهى في الصباح وهي تقول للعسكري الإسرائيلي إنها لا تخشى «البارودة» - المقصود بها البندقية - التي يحملها ويصوبها ناحيتها، ليصل المعنى الأعمق، وهو أن الإنسان الفلسطيني لا ينكسر.

الضغوط الاجتماعية هي المحور الذي تناقشه نجوى النجار، كيف للمرأة أن تخرج وتمارس حياتها وزوجها في المعتقل؟ وتأتي الإجابة لأن إسرائيل تريد أن تغتال الحياة بكل أطيافها، إذا كان الزواج تم رغم الاحتلال والقيود التي تضعها إسرائيل في الانتقال من مكان إلى آخر، فإن الحياة تفرض على كل فلسطيني النضال من أجل أن يستمر البقاء على الأرض. إنها الوسيلة الوحيدة الممكنة لكي نواجه المحتل الإسرائيلي بقوة التمسك بالحياة.

تقدم المخرجة هذا التوازي بين مشاهد الزوج في المعتقل وفرقة الرقص التي تشارك فيها الزوجة لتقفز في مقدمة الرؤية والكادر. تلك الحالة السينمائية والفكرية التي تجمع بين الوطن ومشاعر الإنسان. أحاسيس المرأة المكبوتة والمعلنة، هذا هو ما تقدمه نجوى النجار في الفيلم، وهكذا مثلا نرى أن مدرب الفرقة يشعر بميل عاطفي ناحية ياسمين المصري، وهي لديها مشاعر كبت جنسي، وأيضا يحركها عشقها للرقص لكنها لم تحب هذا الرجل مطلقا. هو أيضا مقيد بأفكار أنها المرأة المحرومة التي سوف تستسلم بمجرد أن يرمي لها الخيط، ولكنها في أكثر من مشهد تتأكد أن حبها الحقيقي لزوجها في المعتقل.

ويخرج من السجن إفراجا مؤقتا، لا يهم كيف حصل على الإفراج، ولكنه يعود وتستمر الحياة، وتقدم استعراضا عنوانه «المر والرمان» على مسرح مدينة ملاهٍ استطاع مدرب الفرقة الحصول عليه. إنها رقصة فولكلورية تقول بصوت عالٍ إن إسرائيل تريد أن تطمس الروح لكن الإنسان الفلسطيني لن يستسلم، لن يفرط في أرضه ولا ثقافته ولا حضارته ولا فولكلوره وغنائه وموسيقاه.

لمحات خاصة وتفاصيل غنية بالإحساس عبرت عنها نجوى النجار، مثل زيارة البطلة للسجن، وكيف أنها تتوق إليه كما يتوق هو إليها خلف الأسلاك.. أيضا الخيط الرفيع الذي يربطها بمدرب الفرقة، والذي نراه غير مدرك للحدود.. ولهذا عندما يطردها من سيارته الخاصة احتجاجا على رفضها أن تكمل العلاقة، أو ما تصور أنه علاقة، إلا أنها تأتي يوم العرض لتصعد إلى خشبة المسرح، فهذه هي العلاقة الحقيقة التي تربطها مع مدرب الرقص. وفي مشهد آخر نرى زوجها وهو يضمد جراح قدميها بعد أن دميت في تدريب قاسٍ، فهو لا يزال متعاطفا معها مدركا معاناتها الشخصية والنفسية. أداء جيد للبطلة ياسمين المصري، وأيضا هيام عباس في مشاهدها القليلة، وأشرف فرج الذي أدى دور الزوج، ولكن علي سليمان الذي أدى دور مدرب الرقص كان يحتاج إلى مرحلة تدريب أكبر قبل الوقوف أمام الكاميرا.

الفيلم يعنيه بالدرجة الأولى الإنسان الفلسطيني في معاناته مع الحياة والآخرين، بل وتمزقه النفسي الداخلي. لم ننسَ ولن تنسَ المخرجة إدانة العنف الإسرائيلي، لكنها قالت كل ذلك برقة وشاعرية وعذوبة.

وتبقى التجربة السينمائية التي ننتظرها وإلى أي مدى تنجح جماهيريا. أشك بالطبع في النجاح التجاري بالقاهرة، ولكنها في كل الأحوال تظل بمثابة محاولة لكسر الحصار المفروض على السينما العربية في مصر.

t.elshinnawi@asharqalawsat.com

الشرق الأوسط في

26/03/2010

 

في الذكرى الثالثة والثلاثين لوفاته

عبد الحليم حافظ.. الدرس الذي لم يتعلمه أحد من مطربي هذا الجيل

طارق الشناوي  

كانت لديه القدرة على الإبداع ورفض القديم من الفن بإبداع فن عصري، وليس بالأحاديث الصحافية.. امتلك بوصلة للاتجاه إلى الأصدق والأجمل والأكثر عصرية ونجومية بالثقافة والوعي.

لا يعيش الفنان بمعزل عن الحياة ولا عن البشر، فهو بقدر ما يأخذ منهم يمنحهم، كما كان يقول أحمد شوقي إنه يمتص رحيق الزهور ليعطي عسلا شهيا!! والزهور في حياة الفنان أصدقاؤه المقربون الذين يتحولون إلى أشرعة يطل من خلالها الفنان على الدنيا.. كان الشيخ الملحن «أبو العلا محمد» ثم الشاعر «أحمد رامي» هما شباك الثقافة الذي أطلت منه أم كلثوم على كل ثقافات الدنيا، وكان أحمد شوقي هو دليل عبد الوهاب في بداياته مع مطلع العشرينات من القرن الماضي في التذوق الفني، وفي تذوق الحياة، ومن الواضح أن عبد الحليم حافظ قد استفاد من تجربتي أم كلثوم وعبد الوهاب، ولهذا اتسعت دائرته في الثقافة لتشمل العمالقة كامل الشناوي ومصطفى أمين وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي..

هذه الكوكبة من المفكرين لم يسع إليها عبد الحليم، لأنه يريد أن يجمل صورته أمام المجتمع، ولكن من خلالهم أدرك عبد الحليم أن عليه تذوق الكلمات والألحان، وأيضا الأقوال.

هناك دائما بين الفنان وجمهوره جسر، وهو وسيلة الإعلام التي تقدم عنه صورة ذهنية، حتى إن أغلب المطربين لكي يضمنوا تعاطف الجمهور كانوا يقدمون في أفلامهم قصة كفاح لمطرب يبدأ من السفح حتى يصل إلى القمة، ويضحي ولا يتنازل.. كل ذلك حتى يتم تثبيت هذه الصورة - ليس فقط من خلال أحاديثهم ولكن عبر الأفلام - من أجل أن يحدث توحد في العادة بين الفنان والواقع في تلك الصورة التي قدمت في العمل الفني، وإذا كان الزمن قد منح الجمهور قدرة على أن لا يترك نفسه نهبا للصورة الدرامية التي تقدمها الأفلام، فإنه على الجانب الآخر ترك المجال لكي نرصد الفنانين من خلال إبداعهم، وأيضا طريقة تسويقهم لهذا الإبداع والإعلان عنه، والأسلوب والتوقيت، وبعد تعدد الفضائيات صار الناس يتعرفون على الفنان من خلال اللقاءات التلفزيونية، وكثيرا ما يسيء مطربو هذا الجيل استخدام هذه المفردات!! من البديهي، على سبيل المثال، أن يأتي الفنان لكي يقدم رؤية مغايرة لما سبق، ولا توجد قدسية لأي عمل فني ولا لفنان، هناك فقط حق احترام التجربة السابقة.. أنا لا أوافق على أن نظل في حالة تقديس لكل ما هو ماض.. إنه ماض نحترمه نعم، لكننا أبدا لا نقدسه.. الاحترام يتيح لنا إمكانية الاختلاف، لكن القدسية لا تعرف إلا الخضوع والإذعان!! عبد الحليم حافظ لم يرفض فقط القديم، لكنه سخر منه، رفض عبد الحليم في البداية أن يغني أغنيات عبد الوهاب القديمة، وأصر على أن يردد أغنياته هو مثل «صافيني مرة» و«يا تبر سايل بين شطين يا حلو يا سمر» تلحين الموجي وتأليف سمير محبوب، وعندما قدم فيلمه «أيام وليالي» غنى «يا سيدي أمرك أمرك يا سيدي» التي كتبها فتحي قورة ولحنها محمود الشريف، وهي أقرب إلى روح المونولوج، تسخر من عدد كبير من الأغنيات والقصائد والأدوار القديمة لأم كلثوم والشيخ أبو العلا محمد ومحمد عثمان وعبده الحامولي وسيد درويش وصالح عبد الحي!! لأنه في البداية يقول: «وحقك أنت المنى والطلب والله يجازي اللي كان السبب» وهي قصيدة شهيرة لأم كلثوم وتلحين أبو العلا محمد لا تزال الإذاعة المصرية تحتفظ بتسجيل لها تقدمه بين الحين والآخر.

وموشح «بالذي أسكر من عرف اللمى» وبالمناسبة فإن «عرف اللمى» هو الريح الذي يأتي من شفة المرأة التي تميل للاحمرار، الموشح تلحين محمد عثمان وغناه الحامولي.. ويضيف فتحي قورة بأسلوب ساخر على نفس الوزن والقافية في الأغنية نفسها «كان في حالة جاتله داهية من السما» ولهذا فإن عبد الحليم يقول: «خايف أقول على قد الشوق لتطلع روحي» يقصد بالطبع أغنية «على قد الشوق» تلحين «كمال الطويل» وتأليف «محمد علي أحمد» التي رددها عبد الحليم حافظ، وكانت تمثل في ذلك الحين نقلة موسيقية حققت لعبد الحليم شهرة عريضة، واتهم بعدها أنه يقدم أغنية غربية.. لم يكتف «عبد الحليم» بأن يقول في حديث صحافي إنه يرفض الإذعان المطلق للقديم، ولكنه امتلك القدرة على أن يعلن ذلك في أغنية شهيرة عام 1955.

تقبل الناس هذه الأغنية، لأن عبد الحليم استند موسيقيا على اتجاه مغاير، فهو لم يقل مثل المطرب القديم «صالح عبد الحي» «أنا قلبي عليك عليك قلبي» وهو ما يعرف بـ«الهنك» حيث يستمر المطرب والكورس في تبادل تقديم الجملة نفسها، ولكنه اعتبر ذلك مادة ثرية للسخرية الغنائية، لأن لديه مشروعا فنيا مغايرا.

كان عبد الحليم حافظ شديد الاعتناء بالكلمات واختيارها، حتى لو اختلفنا مع عدد من أغنياته، إلا أنه على سبيل المثال يقول بكلمات مرسي جميل عزيز في أغنية «في يوم في شهر في سنة» «وعمر جرحي أنا أطول من الأيام».. أو هو يقدم تلك الصورة الشاعرية الرائعة لحسين السيد.. «كان فيه زمان قلبين الحب تالتهم».. أو مع مأمون الشناوي وهو يقول في أغنية «في يوم من الأيام» «أنا كل طريق لعيوني علمته بذكرى معاك»!! وأتذكر لمحمد حمزة في أغنية «سواح» تعبير «الليل يقرب والنهار رواح» ومع الأبنودي في «أحضان الحبايب» «رميت نفسك في حضن سقاك الحضن حزن»!! الكلمة عند عبد الحليم كانت تشكل بالنسبة له رهانا على الأجود، والدليل أن الأغنيات الأولى لعبد الحليم كتبها سمير محبوب، وبعد ذلك اكتشف أن لدى مأمون الشناوي ومرسي جميل عزيز وحسين السيد وصلاح جاهين شاعرية أكبر فاتجه إليهم.. ولهذا لم يكمل المشوار مع «سمير محبوب» الذي عاش بعد عبد الحليم حافظ خمسة عشر عاما وهو يتساءل: لماذا لم يكمل معي عبد الحليم حافظ الرحلة التي بدأها في أغنيات «صافيني مرة» و«تبر سايل» و«ظالم وكمان رايح تشتكي».. وبعدها أخذ «محبوب» يشكو لطوب الأرض من ظلم عبد الحليم وتنكره لرفيق المشوار، ولكن عبد الحليم ضحى بالصداقة من أجل الإبداع الأصدق والأجمل والأكثر عصرية، سواء أكانت كلمة أو لحنا، وكانت لدى عبد الحليم بوصلة قادرة على أن تلتقط الجديد ويجمل به حديقته الغنائية، ولهذا بعد الموجي والطويل ومنير مراد ينضم إليهم بليغ حمدي، ولو امتد العمر بعبد الحليم حافظ فلا شك أنه كان سوف يتعاون مع عمر خيرت وصلاح الشرنوبي والراحل رياض الهمشري ومحمد ضياء الدين، وصولا إلى وليد سعد.. ومع الشعراء من أمثال بهاء الدين محمد وفاطمة جعفر وعماد حسن وبهاء جاهين وجمال بخيت وأحمد بخيت ونادر عبد الله وكوثر مصطفى والمبدع الذي رحل مبكرا عصام عبد الله، وأيضا أيمن بهجت قمر صاحب المفردات الشاعرية والعصرية المشاغبة!! كان عبد الحليم لديه قدرة على أن يشعر بالكلمة واللحن الأكثر عصرية وصدقا. لكني أرى الآن أن أغلب ما يغنى مرتبط بقاموس انتهت فترة صلاحيته، ولم يستطع أن يتجاوز مفردات ليس فقط أغنيات عبد الحليم ولكن مفردات أغنيات صالح عبد الحي، وبعض ما نستمع إليه يخاصم ليس فقط الإبداع والإحساس ولكن المنطق، ويقدمون مجرد كلمات خالية من إحساس ومعاني الكلمات!! لم ينجح مشروع الرحبانية وفيروز فقط بالجملة الموسيقية، ولكن بالكلمة التي تقتحم مجالات أخرى وسماوات لم يصل إليها من قبل من سبقهم من الشعراء مثل أغنية «أنا وشادي» أو «ضي القناديل» التي كتبها ووزعها الأخوان رحباني لعبد الحليم، ووضع اللحن محمد عبد الوهاب، وعلى الرغم من ذلك فإن ما قدمه عبد الحليم حتى على مستوى الكلمة لا ينبغي أن نعتبره في كل أغانيه هو الأفضل دائما.. أنا لا أتفق مع حلمي بكر، على سبيل المثال، الذي يرى أنه إذا انتقد أحد عبد الحليم فسوف ترتد إليه الانتقادات من عشاق عبد الحليم.. المشكلة ليست في أن ننتقد عبد الحليم، ولكن في أن نعرف كيف ننتقده وتوقيت هذا الانتقاد، فأنا مثلا لا أستحسن أغنية «قوللي حاجة أي حاجة» رغم أنها من كلمات شاعر كبير هو حسين السيد وتلحين الموسيقار أستاذ الأجيال محمد عبد الوهاب، إلا أنني أعلم أنها أغنية موقف في فيلم «الخطايا» عندما حاول عبد الحليم أن يصالح نادية لطفي فقال لها «قوللي حاجة أي حاجة».. ولهذا لا أنتقد الأغنية بمعزل عن خطها الدرامي، ولكني فقط لا أعتبرها من أغنيات عبد الحليم المفضلة.. مثلما تغني شادية أغنية تقول كلماتها «عجباني واحشته واحشته عجباني» الأغنية كتبها مصطفى عبد الرحمن ولحنها كمال الطويل، وكانت شادية تتغزل في إسماعيل يس في أحد الأفلام التي جمعتهما معا.. فكان يجب أن تقول له «عاجباني واحشته» وهي تتأمل ملامحه وشلاضيمه!! الفنان هو ابن شرعي لكل ما هو معاصر على مستوى الآلة وليس فقط المشاعر، ولهذا يلتصق أكثر مطربي هذا الجيل بأغنيات الفيديو كليب، تشعر وكأنها تحولت إلى موضة صنعت من أجلهم، الفيديو كليب في عمقه هو الإبهار الذي يعتمد على اللقطة السريعة والوهج الذي يبرق ثم ينطفئ، لكنه لا يمكث طويلا في الوجدان، ولهذا لا يتوقف مصنع إنتاج الفيديو كليب، ولا عيب في تلك الوسيلة سريعة الانتشار، ولكن الأهم هو كيف نوظفها لصالح العمل الفني!! دائما ما تخلق الآلة نجومها، ولهذا فإنه لولا السينما ما كان من الممكن أن يصبح لدينا مطربة مثل «ليلى مراد»، ولولا الميكروفون الحساس ما كان من الممكن أن ينجح عبد الحليم ونجاة، ولولا الفيديو كليب ما أصبح لدينا عمرو دياب، عاصي الحلاني، راغب علامة، مصطفى قمر، هشام عباس، تامر حسني، نانسي عجرم، إليسا، هيفاء، لكن هاني شاكر وعلي الحجار أو الحلو وصابر الرباعي وكاظم الساهر وحتى ما جاء بعدهم مثل مدحت صالح وإيمان البحر درويش وخالد عجاج وجودهم تجاوز الفيديو كليب، وبقاؤهم أبقى الكثير من تلك المعادلة التي فرضتها أغنيات الفيديو كليب، ولكن يبقى شيء مهم خارج عن إرادة الجميع وهو النجومية التي تولد مع الفنان أو الكاتب، وهي كاريزما خاصة لا تخضع لأي مقياس علمي.. النجومية تجدها في كل المجالات وليس فقط الفن والأدب.. مثلا الشيخ عبد الباسط عبد الصمد كان نجما بين قراء القرآن، بينما الشيخ محمود خليل الحصري شيخ المقرئين في العالم أجمع كان شيخا كبيرا وجليلا، لكنه ليس نجما!! على الرغم من ذلك فإن النجومية يجب أن يحافظ عليها الفنان بالقراءة والاطلاع على الثقافة العامة وعلى الحياة.. ومن خلال متابعتي للأحاديث القليلة التي تحتفظ بها الإذاعة والتلفزيون لعبد الحليم وتبثها في ذكراه أشعر أن عبد الحليم كان أكثر ثقافة ووعيا وإدراكا حتى ولو كانت ثقافته مجرد ثقافة سمعية، وهو ما يطلقون عليه حرامي ثقافة، أي أنه لا يقرأ كثيرا لكنه يستطيع أن يجمع كثيرا من خلال اقترابه من العمالقة كامل الشناوي ومصطفى أمين وإحسان عبد القدوس، ولكن عبد الحليم كان يمتلك موهبة الكلام حتى ولو كان كما وصفه كامل الشناوي يصدق إذا غنى ويكذب إذا تكلم، فهو قادر على الإقناع وعلى توجيه النقد بخفة ظل ودهاء.. مثلا عندما عاتبه فريد الأطرش لأنه قال عنه إنه في عمر أبيه قال له ضاحكا «ما تزعلش انت زي جدي..» وعندما أراد أن يقول رأيا سلبيا في هاني شاكر اكتفى بقوله: «ليس لديه طموح».

على الجانب الآخر عندما تقرأ أحاديث لعدد من مطربي هذا الجيل لا تتجاوز مفرداتهم كلمات «علي الحرام وعلي النعمة ورحمة أبويا وما تخليناش نقل أدبنا» هذه هي المفردات التي يستخدمونها في أحاديثهم، وذلك لأننا بصدد فنانين غالبا معزولين عن شبابيك الثقافة الحقيقية لا تجده في دائرة كبار الكتاب والمفكرين، ولا تشعر أنه قرأ حتى ديوان شعر لنزار قباني أو السياب أو أدونيس أو فاروق جويدة أو قرأ رواية لنجيب محفوظ أو يوسف إدريس أو حنا مينا!! كان عبد الحليم حافظ قادرا على تسويق فنه، بينما لا يترك الآخرون فرصة إلا ويعملون على - تسويء - أنفسهم!!

الشرق الأوسط في

26/03/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)