حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

عن التاريخ المسرع للدراما السورية

راسم المدهون

لم تحقق تجربة أدبية أو فنية سورية نجاحا لافتا كذلك الذي حققته ولا تزال الدراما التلفزيونية، وبالذات منذ عقد ونصف تقريبا، سواء من خلال الانتشار الكثيف عبر القنوات الفضائية العربية الكثيرة، أو السوريّة الفنيّة، التي تجعلنا نشير إلى أن بعض أعمالها تقف اليوم في مقدمة أفضل الأعمال الدرامية التي قدمتها الشاشة العربية الصغيرة طوال تاريخها.

إنطلق البث التلفزيوني في سوريا في ذات الوقت الذي انطلق فيه من العاصمة المصرية، وبالتحديد ليلة الثالث والعشرين من تموز / يوليو عام 1961 يوم كانت سوريا جزءاً من «الجمهورية العربية المتحدة». غير أن الإنتاج الدرامي إحتاج الإنتظار سنوات عديدة أخرى، بسبب شحّ الخبرات الفنية في هذا اللّون الجديد، والذي انطلق بعد ذلك على أيدي عدد من المخرجين الذين جاءوا إليه من فنون أخرى في مقدمها المسرح، ولم ينالوا تعليما أكاديميا سوى تلك الدورات السريعة التي لم يتعدّ أطولها الشهور الستة.

من عايشوا تلك البدايات يذكرون الصعوبات التي واجهت روّاد الدراما، ومنها بالذات عدم وجود مونتاج، والافتقار للأستديوهات المجهزة، وكلُها صعوبات جعلت من العملية الإنتاجية بالغة التعقيد، ونادرة الإنتاج. مع ذلك، وإضافة إليه كان بث «التلفزيون العربي السوري» في سنواته الأولى لا يتجاوز الساعات القليلة، ناهيك عن أنه لم يكن يغطي كامل الأراضي السورية.

في الحديث عن الدراما السورية لا بد من وقفة عند تجربة الفنانين دريد لحام ونهاد قلعي، والتي أنتجت بعضا من أهم أعمال البدايات. فتلك المسلسلات التي حققت نجاحات جماهيرية لافتة تمكنت في الوقت ذاته من تحقيق الانتشار عربيا، وكسر حاجز اللهجة التي كانت لعقود طويلة وقفا على اللهجة المصرية صاحبة التاريخ العريق سينمائيا وإذاعيا، خصوصا وأن مسلسلات دريد ونهاد عرضت في معظم البلدان العربية، وتكرّر عرضها لسنوات عديدة، ما مهّد الطريق للقادمين بعدها كي يحققوا انتشار أعمالهم بصعوبات أقل إن لم نقل بيسر أكبر.

وفي تاريخ التجربة يمكن لنا الحديث عن ثلاث مراحل، الأولى تلك التي قادها مخرجو البدايات الأولى ومنهم علاء الدين كوكش، رياض ديار بكرلي، غسان جبري، وغيرهم، وهي مرحلة أعطت بعضا من الأعمال التي جذبت اهتمام المشاهدين بمضامينها وسردياتها القويّة، وإن تميّزت بفنيّاتها المتواضعة والبسيطة.

أما في المرحلة الثانية فقد وقع تطوّر بالغ الأهمية كان عنوانه الأبرز تطوّر الوسائل والأساليب التقنية، وأيضا دخول المخرج هيثم حقي ساحة العمل في الإخراج التلفزيوني، وهو الذي درس السينما في معهد موسكو دراسة أكاديمية، وحقق فيليمين سينمائيين. هنا بالذات نتذكّر عمله الدرامي الأول «الوسيط»، الذي كتبه لؤي عيادة وتناول مشاكل الفلاحين مع الوسيط بينهم وبين الأسواق، وقد كان آخر ما حققه التلفزيون العربي السوري من مسلسلات باللّونين الأبيض والأسود، قبل أن ينتقل كلّيا لإنتاج الأعمال الملوّنة.

تجربة هيثم حقي الطويلة والغنية أعطت الدراما السورية أهم عناوينها التي شكّلت بعد ذلك محطات نجاحها الأهم، والتي صارت «سقفا» فنيّا يصعب الهبوط عنه، كما في «القسام»، «صور عائلية»، «حرب السنوات الأربع»، «هجرة القلوب إلى القلوب»، «خان الحرير»، «الثريا»، «ذكريات الزمن القادم» وغيرها من الأعمال التي حققت نجاحات كبرى، وحظيت بمشاهدات غير مسبوقة، خصوصا وأنها امتلكت جماليات إخراجية عالية على صعيد الصورة، والخروج بالدراما من أسر الحكايات المصوّرة. فعل حقي ذلك بعينه السينمائية، وأيضا بانطلاقه للتصوير من مواقع حقيقية خارج الأستديوهات المغلقة، وبالكاميرا المحولة، وهو ما أصبح تقليدا فنيا سوريا عاما، ما لبثت أن أخذته الدراما المصرية بعد ذلك أيضا.

هنا بالذات لا بد من الإشارة إلى أن أهم ما في تجربة حقي بعد أعماله المرموقة تلك هو إفساحه المجال لعدد من مساعديه الموهوبين لتحقيق أعمالهم الإخراجية الأولى، والتي انطلقوا من خلالها ليصبحوا من أهم الأسماء في ساحة الدراما السورية اليوم، ومنهم المخرج وصاحب التجارب الهامة حاتم علي ومعه اللّيث حجو، المثنى صبح، وأيضا سيف الدين السبيعي.

هؤلاء حققوا للدراما السورية بعضا من أجمل أعمالها الواقعية، وذات الفنيات المتقدمة وبالغة التميّز، والذين واكبتهم مجموعة أخرى من المخرجين الموهوبين، ومنهم هشام شربتجي وإبنته رشا، خصوصا وقد تميزوا جميعا بالتجريب، والمغامرة بتقديم أعمال تتناول قضايا فكرية وسياسية واجتماعية شائكة تتنكب عنها عادة الأعمال الدرامية.

الانتشار الكثيف للدراما السورية عربيا كان يعني أيضا تعدُد جهات الإنتاج التي اقتصرت في البداية على التلفزيون الرّسمي، كما صار يعني لاحقا دخول جهات عربية أخرى على الخط، وهي مسألة تشاركت مع البث الفضائي في خلق حالة جديدة من سماتها البارزة المواجهة مع رقابات عربية متعدّدة وليس مع الرّقابة المحليّة كما كان الحال قبل ذلك، بل وأيضا المواجهة مع ذائقات واهتمامات عربية متعدّدة بتعدُد البلدان والقنوات الفضائية العربية، والتي بات شهر رمضان من كلّ سنة مساحة بثّها الأهم، ناهيك عن دخول الإنتاج الدرامي السوري مرحلة الإنتاج الغزير بكل احتمالاتها، وبما يترافق معها بالضرورة من مشكلات لعلّ أبرزها وأهمّها ندرة النصوص الناجحة، والقادرة على أن تكون أرضية أعمال ناجحة تجذب المشاهدة الجماهيرية. ذلك أيضا أدخل لساحة الإنتاج ما بات يعرف بـ«المنتج المنفذ»، أي الذي يلعب دور «المقاول من الباطن» لمصلحة جهة إنتاجية خارجية، مع ما يحمله دور الوسيط من حرص على الرّبح الذي يكون بالضرورة على حساب الكلفة الإنتاجية وأجور الممثلين والفنيين، ناهيك عن تأثيراته على الخيارات الفكرية والفنية.

تميّزت التجربة الدرامية السورية منذ بداياتها الأولى بالجدّية، وبالحرص على الجمع بين القضايا الاجتماعية وبين الأشكال الفنيّة المتقدمة، وقد ساعدها في ذلك غياب صناعة سينمائية عريقة وكثيفة الإنتاج، ما يعني عمليا غياب الأستديوهات، أي ما فرض الخروج للمواقع الطبيعية، ثم غياب النجوم بالمعنى المعروف في السينما المصرية، ما جعل أجور المثلين أدنى كثيرا، خصوصا في العقد الأول من سنوات الفورة الإنتاجية، وكلُها عوامل إيجابية أثرت العملية الإنتاجية، ودفعتها خطوات كبرى للأمام، خصوصا مع إقبال القطاع الخاص على الإنتاج عبر شركات عديدة بسبب من الطلب الكثيف على الدراما السورية في الفضائيات العربية، وأيضا بسبب من دورة رأس المال السريعة للإنتاج التلفزيوني.

أسئلة كثيرة تدور اليوم في الأوساط الثقافية والفنية السورية حول مستقبل الدراما السورية وتطورها، في ظلّ عوامل سلبية متعدّدة باتت تتربّص بها، ومنها موجة دبلجة الأعمال الدرامية التركية، التي انتشرت بغزارة، والتي تلاقي مشاهدات جماهيرية كثيفة دفعت كثيرين لوصفها تهكما بأنها «عودة للعصر العثماني»، إضافة إلى الجدالات الواسعة التي باتت تطالب بتحويل الصناعة الدرامية السورية إلى صناعة أكثر صلابة، وتمتلك عوامل حماية أكبر يتفاءل صنّاع الدراما في وجود بدايات مشجعة لها في انطلاق «قناة دراما» السورية، ووجود قنوات فضائية جديدة إلى جانب القناة الفضائية السورية الحكومية، وكلُها عوامل إيجابية يمكن أن تحفظ للدراما السورية استقلالية أكبر في السنوات القادمة.

الدراما التلفزيونية السورية عاشت خلال مسيرة انطلاقتها الكبرى في العقد الأخير ظواهر وموجات عديدة، تمثّلت في دراما مرحلة الصراع مع العثمانيين مرة، وفي موجة «الفانتازيا التاريخية» التي لمعت بسرعة وانطفأت بسرعة أكبر، ثم موجة «دراما البيئة»، والتي لا تزال متواصلة وإن تكن قد فقدت بريقها وجاذبيتها. مع تلك الموجات كلّها ظلت دراما القضايا المعاصرة بأساليبها الفنيّة الواقعية هي الأبرز، والأكثر متابعة من المشاهدين، ومعها الأعمال التاريخية ذات السويّة الفنية العالية، والتكاليف الإنتاجية الكبيرة.

الدراما السورية هي أيضا دراما المغامرات الخطرة واقتحام الممنوعات والمجهول، حين يتعلّق الأمر بأعمال تتناول القضية الأبرز قضية فلسطين، ولعلّنا نتذكر في هذا السياق الصعوبات البالغة التي واجهتها في البداية «شركة سورية الدولية» لتسويق عملها الكبير والهام «التغريبة الفلسطينية»، وكيف تحوّلت تلك الصعوبات إلى نجاح كاسح وغير مسبوق بعد أن بثته قناة إم.بي.سي، فالتحقت بها قنوات فضائية عربية لا تحصى.

اليوم يمكن للناقد والمتابع للدراما السورية أن يتحدث عن صناعة لها أسسها وشركاتها ووسطها الفني الغني وكثيف المشاركين، والذي يأتي أساسا من خريجي «المعهد العالي للفنون المسرحية»، ولها أيضا جمهورها الكبير خارج سورية، أي في البلدان العربية الأخرى والمهجر، وهي مسألة تضع هذه الدراما في دائرة تنافس مع الدرامات العربية الأخرى في مراكز إنتاجها في مصر والخليج والأردن، وهو ما نراه إيجابيا ويحفّز على تصويب الأخطاء، والارتقاء بالأعمال فكريا وفنيا إلى مستويات أعلى، تحفظ لهذه الدراما المتقدمة قدرتها على السير بنجاح متصاعد ومواكبة الفن والحياة معا.

المستقبل اللبنانية في

21/03/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)