حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«خزانة الآلام».. يدافع عن الجندي الأميركي ويهين المقاومة العراقية!!

فيلم الأوسكار يواجه عبثية الموت بالسخرية والمزيد من القتل

طارق الشناوي

عربة تتحرك بالريموت كنترول.. نداء يطلب من الجميع إخلاء المنطقة يترافق مع تلك الرؤية المتوترة، عربة مدرعة تتحرك في عمق الكادر.. نساء يلهثن هلعا بينما المخرجة كاترين بيغلو تتابع كل ذلك بالكاميرا المحمولة التي تتيح لها أن تنتقل لأعلى، فنرى أسطح المنازل المتهدمة وبعض العيون تتلصص لتتابع ما يجري، أو تتحرك زاوية الكاميرا المحمولة للأسفل قليلا لكي نرى محلات الجزارة والبقالة وأصحابها يحاولون البقاء من أجل استمرار الحياة لكنهم يجبرون على الرحيل.. الكل في حالة رعب حتى الحيوانات تشارك البشر في الهلع.. الهدف الذي يترقبه الجنود الأميركيون هو بناية سوف تنتقل من خلالها متفجرات.. في هذه اللحظة نستمع إلى صوت أذان ينطلق من الجامع.. العربة الآلية «الروبوت» تعثر على شيء ما يؤكد وجود متفجرات.. أغنام تظهر في الطريق حتى تزداد مساحة الترقب.. العربة تتوقف.. قائد الألغام يضع على جسده تلك البذلة الثقيلة التي توفر له حماية من المتفجرات ويستخدمها عادة رجال نزع الألغام بينما الكاميرا تتحرك هذه المرة من خلال نظرة أحد القناصة.. نرى المواطنين أعلى السطح من خلال عدسة هذا القناص وفي البنايات المجاورة. يلتقي عسكري نزع الألغام مع شاب عراقي يريد أن يجري حوارا لكنه يبتعد عنه.. يموت البطل بعد دقائق قليلة من الفيلم الذي أدى دوره غاي بيرس بعد أن اغتالته يد المقاومة العراقية، لكننا كمشاهدين نفقد التعاطف مع المقاومة، لأن المخرجة تحرص على أن يظل المتفرج مأخوذا بهذا البطل الشجاع الذي يواجه الألغام، أما رجال المقاومة العراقية فإنهم مجرد واضعي ألغام.. داخل نعش الجندي الأميركي لا يبقى أي شيء من بطل الفيلم سوى خوذة وبعض بقايا شعر الرأس. كانت هذه هي المشاهد الأولى لفيلم «خزانة الآلام».. وتستمر الحياة، ينضم إليهم مقاتل جديد في هذه اللحظة، نرى قطا يعرج وكأن الصورة تنقل لنا أيضا آلام الحيوانات ومصيرهم المرتقب، جندي نزع الألغام الجديد لا يعنيه الموت ولا ينتظر منهم حتى حمايته ولهذا يفجر قنابل دخان لتحول دون متابعته. من أبدع اللقطات تلك التي نرى فيها سيارة عراقي وجهه مصوب إليه المسدس لا تسمح لنا المخرجة بالتعرف على هؤلاء العرب.. دائما المخرجة كاترين بيغلو لا تنسى أن الكاميرا المحمولة تمزج بين جنود نزع الألغام والأرض والحيوانات التي تمشي عليها ثم البشر في المنازل بقدر كبير من التسجيلية التي لا تخون الموقف الدرامي لكنها تدعمه بحرفية عالية.

اللقطة التي قدمت لنا هذا المواطن العراقي لا تتركه بل تتابعه في لقطات مختلسة أخرى.. أيام المهمة تتناقص يوميا، إنها عام كامل تظهر على الشاشة مكتوب ما تبقى من أيام الحرب والجحيم لأن كل لحظة تحمل الموت. الفيلم يقدم تحدي الموت ثم التعايش معه.. اختيار الكاميرا المحمولة والتخلي في لحظات كثيرة عن وضوح الرؤية يمنح الإحساس الدائم بتلك المسحة التسجيلية ويلون الفيلم أيضا بمذاق إبداعي واحد. الجندي الأميركي إنسان أولا هذا هو أول الأهداف التي حرصت عليها المخرجة، فهو يحاول إنقاذ رجل عراقي شارف على الموت في إحدى الهجمات! تقدم لحظات التشويق لمحات تثير المتفرج، وذلك عندما نرى علاقة بين ضابط نزع الألغام وبائع الأشرطة C.D طفل لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره ويجيد كلمات قليلة بالإنجليزية تتيح له التواصل. هذه اللقطات تضيف للفيلم دفئا لأن السيناريو سوف يحرص دائما على تأكيد كل تلك الومضات الإنسانية التي تتناثر بين جنباته.

كل شيء ينتهي بعدما نسخر من الموت، تتغلب على الموت بالسخرية منه فضابط نزع الألغام يذهب في رحلة عبثية من أجل أن يعيد قفازه الذي نسيه ليعرضه في هذه اللحظة إلى الموت المؤكد لكنه ينجو ويصبح الحديث عن جدوى ما يفعلونه مع زملائه. ما الذي يتبقى خوذة أو نصف خوذة وبقايا شعر هذا كل ما يتم الحفاظ عليه للإنسان.. وهنا تبرز روح الفيلم معلنة عن نفسها إنها رفض كل هذا العبث الذي يتدثر باسم الحرب. لا يتوقف الفيلم عن تقديم الجانب الإنساني للجندي الأميركي وهو يحقق مع بعض العراقيين المشتبه فيهم ولا تملك سوى أن تشعر بالتقدير لهذا الجندي!! الانفجارات صوتها دائما يسيطر على الحدث وتبادل إطلاق النيران مع رجال المقاومة العراقية مستمر. كل ذلك يمنح الفيلم على مستوى كتابة السيناريو قدرا لا ينكر من التشويق لكننا أبدا لا نعرف شيئا عن هؤلاء الذين يدافعون عن أراضيهم ضد المغتصب. ما هي «خزانة الآلام» Hurt Locker إنها خزانة الذخيرة التي بحث عنها ولم يجدها إلا مع زميله المقتول. كانت الدماء قد غمرتها تماما. فلم يجد من وسيلة لاستخدامها سوى أن يبصق على دماء رفيق الكفاح ويمسحها كررها أكثر من مرة ليؤكد مدى رخص الإنسان. ثم وضع الذخيرة في المدفع لينشر هو الآلام. هذا التعبير «خزانة الآلام» كان أول استخدام أميركي له أثناء حرب «فيتنام» التي شكلت نقطة فارقة جدا في تاريخ العسكرية الأميركية وكان درسا قاسيا لا يزالون يذكرونه حتى الآن ومن الممكن أن تراها أيضا في ملابس رجل نزع الألغام التي تجعله أشبه بالإنسان الفضائي. نتابع أحداث الفيلم لقطة مكبرة لرجال المقاومة العراقيين نرى نصف وجه الرجل الذي يدافع عن أرضه ثم التفجير النهائي. حرصت المخرجة على أن نرى بعد ذلك الجنود الأميركيين وهم يبحثون عن مثلجات.. مهمة يقتل فيها بشر وتنتهي باحتساء عصير فواكه.. لكن المهمة لا تتوقف عند ذلك الحد شاهدنا رجلا عراقيا لا يزال يقاوم ويقتل.. ملامح الجنود الأميركيين في لقطة أخرى نهاية لهذا المشهد الدموي يبدو عليها الندم وهكذا المخرجة دائما حريصة على ألا يفقد المتفرج تعاطفه مع الجنود الأميركيين حتى وهم يقتلون رجال المقاومة العراقية!! الاحتفال بعد ذلك بالانتصار مع الجنود ليلا في معسكرهم وهنا يبدأ الثلاثة أبطال كل منهم يروي حكايته الشخصية، تفاصيل دقيقة تقدمها المخرجة ونكتشف بعد ذلك مصير الطفل ابن الاثنتي عشرة سنة، نراه جثة حيث يتحول جسده إلى خزانة لوضع الألغام لتنفجر في وجه الجنود الأميركيين. كالعادة الجندي الأميركي ينزع اللغم من جسد الطفل ويحمله في لقطة إبداعية لا تنسى وتنتهي ببكاء الجنود الأميركيين على فقد زميل لهم حيث تنفجر في جسده إحدى القنابل البدائية وعندما يأتي للبطل الأميركي طفل آخر يحاول أن يبيع له D.V.D يرفض وكأنه يخشى عليه من الموت!! رجل الألغام يتصل بأسرته في أميركا يستمع إلى صوت زوجته وطفله الرضيع ولا يرد.. لقطة وحيدة نرى فيها الجو الأسري الأميركي بعيدا عن الألغام وأصوات الانفجارات والدماء والقتل الذي يتربص بهم.. نشعر بأنفاس الجنود وغبار الصحراء وترقب الإنسان العراقي لما يجري به وما يجري حوله.. كيف تقاوم الأسرة العراقية.. مشهد مهم.. يقتحم ضابط المخابرات منزلا بحثا عن السر وراء قتل الطفل العراقي، تطرده المرأة العراقية ولا يرد عدوانها.. مشهد آخر للدلالة على إنسانية الغزاة. ثم مشهد لجندي أميركي مصاب ثم الرجل الذي يستعد لتنفيذ عملية انتحارية هو يحرص على حياته.. ألغام على جسده يريد التخلص منها. إنسان كان يريد أن يقتلهم وهم يريدون له الحياة.. نعم الملمح الإنساني هو المسيطر على هذا المشهد لصالح الجنود الأميركيين كالعادة. رجل نزع المتفجرات يذهب رغم المخاطر لإنقاذ العراقي من الموت والعراقي يردد: «أنا صاحب عائلة لا أريد أن أموت بهذه الطريقة»، ويواصل: «عندي أربعة أطفال». رجل نزع الألغام يصر حتى اللحظة الأخيرة على أن يساعده يكتشف أنهم قد قيدوه حتى لا يستطيع التراجع في أي لحظة ولهذا يقول له آسف لا أستطيع، ونشعر بتعاطف مع الجندي الأميركي الذي يصاب وهو يحاول إنقاذه.. بينما تحلق طائرة ورقية في السماء لا تعبأ بما حدث على الأرض!! عبثية الموت، شظية قد تقتل في أي لحظة.. تبدو الحياة وكأننا نرمي الزهر إما حياة أو موت.. إنها لعبة يمارسونها وكالعادة تؤكد على إنسانية الجنود الأميركيين والأطفال يرشقون العربة المصفحة بالحجارة وهم لا يردون حتى العدوان.. يعود بطل الفيلم للوطن في لقطة داخل السوبر ماركت ثم في المنزل يبحث عن أعشاب خضراء ليواجه بها الصحراء سوف يصطحبها معه عندما يعود للعراق.. مرة أخرى يعود إلى العراق، نرى رجل الألغام مع جنود آخرين يرتدون الخوذة وتتعمد الكاميرا أن تنقل لنا قدميه وهو يتحرك بثبات على الأرض وكانت إحدى قدميه معرضة للبتر ثم صوت موسيقى تصويرية تملأ مشاعرنا شجنا ليصبح إحساسنا «خزانة الآلام». الفيلم يستحق الأوسكار على مستوى حرفية الإبداع لمخرجته كاترين بيغلو التي قدمت رؤية إبداعية بإحساس يقطر صدقا رغم أنها على المستوى الفكري لم يكن يعنيها سوى الجندي الأميركي، أما البطل العراقي الذي يدافع عن أرضه فليذهب هو وآلامه إلى الجحيم!!

t.elshinnawi@asharqalawsat.com

الشرق الأوسط في

19/03/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)