حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

نقد

"جزيرة مغلقة" لمارتن سكورسيزي يذهب بهيتشكوك الى معسكرات التعذيب

أن نــحــيـــا كــوحــــــوش أم أن نــمــــــــوت كـــرجـــــــــال؟

هوفيك حبشيان

كل شيء يبدأ على متن سفينة. بطلنا المضاد اسمه تيدي. انه ضعيف الوجه، أصفر اللون، ويبدو لاهثاً غير مستعد لأن يكون جزءاً من الفيلم الذي نحن في صدد الدخول فيه. الصورة الأولى له هي نظرته الزرقاء المعكوسة في مرآة وهو يتقيأ. شيء ما في نظرة ليو دي كابريو المرتعبة يذكّرنا بالطيار المهووس بالنظافة الذي جسّده في ادارة المعلّم. كأن سكورسيزي يقفز هنا من شخصية الى أخرى من دون اختزال، او لنقل يتابع حوادث "الطيار" من حيث انتهى. هذا البطل الذي يتبدى جلياً ان لا شي فيه على ما يرام، يرافقه بطل آخر اسمه تشاك (مارك روفالو). هذان الشرطيان ذاهبان الى الجزيرة المغلقة. قبل أن تطأ أقدامهما الأرض الملعونة، نتعرف اليهما تعارفاً خاطفاً. يملك سكورسيزي ما يحتاجه من وقت لكي يزودنا معطيات قليلة تصلنا عبر أطراف حديث يتبادله الاثنان فيما الضباب يلف رأسيهما. لكن حذار: الثقة بالكلام يجب أن تكون معدومة! منذ اللقطة الاولى يحدد سكورسيزي النبرة التي ستكون للفيلم. كل شيء يوحي بأننا أمام خلاّق يعرف ماذا يريد. ثلاث نوتات موسيقية مرعبة ثم نصير في فيلمه الجديد حيث متاهات هيتشكوكية لا خروج منها في القريب العاجل. الكاميرا المثبتة على مقدمة السفينة تتيح لنا عبر حركة أمامية الاستمتاع بمشهد عريض لجزيرة يأتيها اثنان لا نعرف من أين حقاً (نقطة مهمة في الفيلم تتوضح في الفصل الأخير)، لكن على الأقل نعرف ما المهمة الموكولة اليهما. في الواقع لقد استدعيا الى هذه الجزيرة حيث أكبر مصح للأمراض العقلية لأن أحدى المريضات لاذت منه بالفرار.

ما إن نصبح على البرّ حتى تعكّر الاشارات المبعوثة الجوّ أكثر فأكثر. يشتغل سكورسيزي (مستنداً الى أصل أدبي لدنيس ليهان يحمل العنوان نفسه)، على العناصر الطبيعية (رعد وبرق وعواصف واعصار) التي ستكون طوال الدقائق الـ137 المقبلة السند الرئيسي للمخرج كي يستمد منها مناخ الفيلم التشكيلي (تصوير بديع لروبرت ريتشاردسون، وابتعاد عن مصوّره المعروف ميشاييل بالهوز) ويلقي عليها أفكاره الإخراجية العظمى. الديكور العام للجزيرة ليس أفضل حالاً: اسلاك شائكة ومبانٍ قرميدية اللون وحضور أمني طاغ. هذا كله لا يوحي بالثقة. لكن تيدي وزميله اللذين يتعاونان للمرة الاولى، يشقّان طريقهما وسط هذا الجوّ المضغوط، بغية استقصاء معلومات مرتبطة باختفاء رايتشل سولاندو. هناك شخصان سيضعان العصي في الدواليب، هما البروفسوران المسؤولان عن المرضى (بن كينغسلي وماكس فون سيدو). على تيدي أن يواجه ايضاً أحلامه المعذبة وهواجسه الخاصة جداً والمتكررة، التي ستوصله الى حافة الانهيار. لذا، شيئاً فشيئاً نغوص في ماضيه غير المطمئن حيث تتعايش أفظع الذكريات وأكثرها ايلاماً؛ من وفاة زوجته نتيجة نشوب حريق افتعله أحد الذين يأمل تيدي أن يجده في هذا المصح، وصولاً الى التروما التي لا تزال تلاحقه من زمن ذهب فيه "جي أي" الى المعسكرات النازية بغية قتل جنود الفوهرر. على رغم هذه المحن والعذابات كلها، ينبغي لتيدي أن يعثر على سولاندو، التي يقال لنا في مجريات الحدث إنها قتلت أطفالها الثلاثة وهي الجريمة التي جاءت بها الى هنا، في جزيرة مغلقة لا أحد يمدّ له فيها يد العون، وحيث القطب المخفية المناقضة للتحقيق تخرج الى العلن واحدة تلوى اخرى. آه، لقد نسينا أيضاً أن الجزيرة مغلقة، واي هروب منها يحتاج الى موافقة السلطات المعنية. انطلاقاً من الشكوك التي تراوده (تيدي مشكّك في طباعه، تماماً كما كانت الحال مع هاورد هيوز "الطيار")، يعتبر الشرطي المعذب أن الجزيرة هي مركز لمؤامرة فحواها اجراء تجارب علمية غير اخلاقية على المرضى بمعاونة مجرمي حرب نازيين اخترقوا صفوف المخابرات الأميركية.

لا شكّ ان نصّ ليهان هو الأكثر تطرفاً وسوداوية، نقله سكورسيزي الى السينما حتى الآن. لكن المعلم يضع فيه هواجسه كاملة، عاقداً زواج متعة نموذجياً بين الواجب الفني الذي لا يزيح عنه سنتيمتراً واحداً وابجديات السينما الحديثة. كل التيمات الموجودة في الرواية يأخذها الأستاذ الكبير ويحلّق بها عالياً، كأنما القصة هي التي ذهبت لملاقاته وليس العكس. كل كلمة، كل حركة، تشق طريقها في السيرورة الفيلمية، تجد معاني لها لاحقاً في الخاتمة الصادمة وغير المتوقعة، ولو ان التلميحات تزداد انطلاقاً من منتصف الفيلم. يبدأ سكورسيزي بفيلم بوليسي ثم يذهب الى فيلم آخر، قد يكون نقيضه، متخلياً عن ذلك الذي كان بدأه. من الواضح انه أخذ بنصيحة "معلم التشويق" ألفرد هيتشكوك الذي كرر أكثر من مرة: "يُستحسن البدء من الكليشيه على الانتهاء به". هذه ليست الالتفاتة الهيتشكوكية الوحيدة في الفيلم: نحن أمام شريط باروكي (كل مَشاهد الفلاش باك مثلاً) مزدحم بالإستنادات اللماحة والأثر الزائف (Fausse piste)، ونستطيع القول عمداً وليس مصادفة. الدوش يذكّرنا بـ"بسايكو". ربطة العنق تعيد الى ذاكرتنا "فرينزي". الموسيقى حيناً تميل الى برنار هرمان المفضل لدى هيتش، وحيناً آخر يعرج على "العيون المغلقة باتساع" لستانلي كوبريك، المخرج الذي يُستعاد له أيضاً "شاينينغ" من خلال مشهد وصول تيدي بالسيارة الى المصح، المصوّر من الجوّ، حيث يفضي انغلاقه في وحدة مكانية الى الجنون. أيضاً: أي سينيفيلي لن يخطر على باله مشهد المنارة في نهاية "فرتيغو" وهو يشاهد تسلق تيدي الى اعلى البرج حيث البروفسور. أما أكثر المتعصبين لمعلم التشويق فسيجدون في رايتشل سولاندو الـ"ماك غوفين" (عنصر محرك يُستخدم كحجة لبلورة السيناريو) الذي كان يتحدث عنه هيتشكوك. هذه التأثيرات كلها يمسكها سكورسيزي ويضعها في تصرف الشكل الذي يجده ملائماً، وهو شكل مستقى من أفلام الرعب التي كانت رائجة في أربعينات القرن الماضي، أي في الفترة التي تدور فيها حوادث الفيلم.   

هل هذا كله يجعل من سكورسيزي مخرجاً أقل أهمية؟ على العكس من ذلك. هذا كله يعطي الفيلم ثراء درامياً وشكلانياً ويبث روحاً جديدة في سينما مخرج "الثور الهائج". هو ايضاً مناسبة للعودة الى أصل الهواجس السكورسيزية والتنظير في مسألة الشرّ. لكن هذه المرة لا يعثر على هذا الشر في أزقة نيويورك بل في معسكرات التعذيب النازية في احدى مقاطعات ميونيخ. لا شيء في عمل سكورسيزي هجائياً أو تحريضياً فارغاً. يضعنا الرجل أمام أشباحنا التي تطارد كل من شاهد اثماً ولم يحرك ساكناً. في خطابه السينمائي الصرف، لا يوفر أحداً، من رأس الهرم الأميركي نزولاً الى القاع. يرينا كذلك ازدواجية خطيرة من خلال تيدي في أكثر فيلم له فاقداً للأمل. بالنسبة الى "شاعر" نشأ كاثوليكياً وجرّب البوذية، هناك سؤال أخلاقي غير محسوم بعد، وهو يرد على لسان تيدي في السقطة النهائية للفيلم: "أيهما أفضل، أن نحيا كوحوش أم أن نموت كرجال؟".

(•) Shutter Island - يُعرض في سلسلة صالات "غراند أ ب ث، كونكود، لاس ساليناس".

 

تنويه:

كان من الممكن الكتابة عن "جزيرة مغلقة" أكثر من هذا بكثير. لماذا امتنعنا اذاً؟ هل لأنه غير جدير بالكلام ام لأنه لا يسلّم نفسه للنقد؟ السبب الحقيقي انه لا يمكن التحدث عن هذا الشريط من دون افساد المفاجأة التي تعتبر ذروة الفيلم، لذا نفضل أن نعيد تناوله في مناسبة اخرى بعد أن يكون عدد كبير من المتفرجين المحتملين عاينوه عن كثب

(hauvick.habechian@annahar.com.lb)

 

نقد

كوجي واكاماتسو من البورنو الى الهجاء السياسي

الــعــنـــف اخـــتــــــراع آدمــــي

النهار" - برلين:

ماذا يعني أن نحارب؟ ماذا يعني ان نحمل البندقية دفاعاً عن بلد ننتمي اليه؟ أين توجد في التاريخ حرب عادلة لقضية عادلة؟ هذه هي بعض الأسئلة يطرحها المخرج الياباني كوجي واكاماتسو في فيلمه الصادم "كاتربيلار" الذي عُرض في مسابقة الدورة الأخيرة من مهرجان برلين السينمائي. بداية، يحق لنا ربما أن نقول، ولو لمرة، إن متابعة هذا الفيلم تجربة مضنية ومتلفة للأعصاب، وخصوصاً لذوي المشاعر الرقيقة، نظراً الى الترجمة البصرية الفضائحية لموضوع سقيم يتناوله واكاماتسو من دون لف ودوران. هذه المباشرة تأتيه لا شك من اشتغاله لسنوات على أفلام بورنوغرافية يابانية حيث الأشياء لا تحتاج الى مقدمات. من البورنو الى الهجاء السياسي، لا يحتاج واكاماتسو الى أكثر من خطوة صغيرة.

اذا لم يكن الفيلم وجد مكاناً في قلوب اعضاء لجنة التحكيم ورئيسها فيرنير هيرتزوغ، فالأسباب مرتبطة بكون هذا العمل قد يبدو مفتعلاً في بعض جوانبه. فضلاً عن أن فاتورته البصرية مثقلة، والصورة مشغولة بشيء من الكيتش الذي كان خاصية شاشات التلفزيون في مرحلة زمنية سابقة. أما السبب الآخر والأهم فمرتبط بكون واكاماتسو "مخرجاً مزعجاً ومنفّراً" لا يضع يده في كفّ من مخمل أثناء ملامسته الجرح، بل يحركه بالخنجر ويستفز المشاعر، وهذه تقنية قد تبدو اليوم، في زمن كيارستمي وكوريسماكي وماكوين، في عداد التقنيات الرخيصة والسوقية.

لنا رأي مختلف في "كاتربيلار". لكن قبل النظر في ذلك، لنشاهد ما يتكلم عنه الفيلم. في البدء يجتاحنا فيض من الصور الخارجة من حروب الانسان المدمرة. تدريجياً نعرف اين نحن: الحرب الثانية بين الصين واليابان التي حصلت فصولها الدموية عام 1940. خراب هائل. نيران مشتعلة في كل مكان. بيوت مدمرة. جثث متفحمة. هذا لا يمنع ملازماً يابانياً من اغتصاب فتاة. تنتهي الحرب. يعود الملازم الى المنزل مبتور الساقين والذراعين. يضعنا واكاماتسو أمام مشهد مروع لأنسان ذليل فقد كرامته. لكن ما يشعره المشاهد لا يشكل شيئاً، مقارنةً بالمعاناة التي سيعيشها في مواجهة الحياة اليومية، في غياب كلي لكل قدرة وطاقة. هكذا يعاقب واكاماتسو بطله: بالكثير من السادية وبجعله حيواناً يمشي زحفاً "على الأربع".

للجندي زوجة رقيقة اسمها شيغيكو (الممثلة المبدعة شينوبو تيراجيما، التي نالت جائزة أفضل تمثيل في برلين) لا تتحمل أن تراه ذليلاً محطماً وقد تحوّل قطعة لحم لا أكثر. من جانب، عليها أن تخدم "الجندي البطل" العائد الى دياره وذلك تمجيداً للأمبراطور، ومن جانب آخر لديها معه حسابات خاصة تجد في عجزه التوقيت المناسب لتصفيتها. طبعاً، لا احد يشك في أن هذه العقلية الانتقامية ستنم عنها مجموعة مشاهد سادية تسحق القلب، وتزداد ساديتها تصاعدياً، و لاسيما عندما تُلتقط مشاهد الجنس بنفس امتلاكي ليس بعيداً عما اشتهر به المايسترو الياباني ناغيسا أوشيما. لشيغيكو طريقتان في التعامل مع "بطولة زوجها"، فهي تتظاهر أمام الآخرين بأنها وفية له وتعامله باحترام، لكن عندما تقفل النوافذ والأبواب، تصب عليه غضبها الناتج من كونها سئمت هذه الكوميديا الاجتماعية التي تعيشها ليلاً ونهاراً. في رأيها السديد، أيّ بطل هذا الذي تحوّل قطعة لحم؟ ومَن يأبه للشهادة التي استبدل جسده من أجلها وهي لا تفيد الا لتزيين الحائط؟ وما هذه القضية العظيمة التي اطاحت العلاقة الجنسية السوية بين زوجين؟ أمام هذه الحالة المأسوية لا يبقى للزوجة غير الصبر في حين أن كل ما يملكه الزوج لإثبات الوجود هو الطعام والجنس. في لحظة جنون سينمائي، يقدم واكاماتسو، البالغ اليوم 74 عاماً، على نسف كل شيء: العلاقة الزوجية، الوطنية البلهاء، العسكر، وكل القيم البالية والمجرمة التي قامت عليها حروب الأمبراطورية اليابانية وكل الحروب.

فكرة انجاز فيلم كهذا، طرقت بال واكاماتسو عندما كان يصور ملحمته السابقة، "الجيش الأحمر المتحد" (190 د.)، والغاية من التطرق الى موضوع سبق أن كان مادة لعديد من الأفلام، يشرحها المخرج في الآتي: "لكي تفهم أجيال الستينات والسبعينات، عليك أولاً أن تفهم الحقبة التي عاشها أهاليهم".

ثمة اصل ادبي استند اليه واكاماتسو، رواية اسمها "كاتربيلار" لايدوغاوا رامبو، لكنه نقلها بتصرف، مطلقاً العنان لمخيلته بغية كتابة تفاصيل السيناريو. أما التركيز على المحاور الثلاثة التي يشيد عليها عمله (الطعام والجنس والعنف) فموجودة في الرواية. بحسب واكاماتسو، التقاتل صنيعة الطبيعة البشرية. العنف اختراع آدمي اذاً؟ "تشارلي شابلن علمنا شيئاً مهماً وهو انه اذا قتلت ثلاثة فسيكون مصيرك الشنق أما اذا قضيت على عشرة الآف شخص، فستصبح بطلاً. هذه هي الحرب!".

يقول واكاماتسو إن المجتمع الياباني ذكوري الى أبعد حدّ، والرجل يمارس دائماً العنف على المرأة معتبراً اياها غرضاً لنزواته ومجرد آلة لانجاب الأطفال. أما التمزق والعذاب النفسي اللذان يتجسدان في الفيلم فناتجان من الغضب الذي يشعر به واكاماتسو حيال أسئلة الوجود الكبرى. هذا الغضب هو الذي يقوده اليوم نحو الابداع. للمناسبة، يعمل هذا المخرج وفق نظام يطلق عليه اسم "طريقة واكاماتسو"، اي اللجوء المحتم الى موازنة ضئيلة. لنأخذ "كاتربيلار": فهو صوّره في 12 يوماً، ومنتجه في 13 ساعة.

 

خارج الكادر

جاك هانتر والطماطم المعفنة!

لديّ فكرة لا يمكن أن تخطئ لإنقاذ "جاك هانتر وكنز أوغاريت الضائع" من صيد محتمل لـ"أوباش" النقد في العالمين الغربي والشرقي. انها فكرة قد تبدو هزلية لكن هدفها وضع استراتيجيا دفاعية بات كل سينيفيلي في حاجة اليها في هذا الزمن العصيب. صدِّقوني، هي فكرة على شكل بضع نصائح أخوية لا تريد لهذا الفيلم ولمن يقف خلفه من عباقرة الا الخير، ولا تريد النيل من أحد، على رغم أن أعداء السينما كثر في العالمين الغربي والشرقي.

أولاً، ينبغي استبدال السيناريو (أساس كل عمل، الا اذا كان المرء غودار) بآخر. ثم، على الممثلين جميعهم (أكرر كلمة جميعهم ولن أساوم) أن يُطردوا خارج هذا الجسد الغريب المسمى فيلماً، وأن يحتجزوا في أقامة جبرية على جزيرة. ثالثاً، على المنتج جورج شامية (وهو أيضاً كاتب هذه المهزلة) أن يستغني عن المخرج تيري كانينغام في أول فرصة يتاح له فعل ذلك. رابعاً، على شامية أن يجد بديلاً منه ويبحث عن عمل آخر أسرع ما يمكن. رابعاً وخامساً وسادساً، على باقي القائمين بالمشروع أن يجدوا أماكن أخرى للتصوير وقصة أخرى وأفكاراً أخرى وعنواناً آخر.

أخيراً: على كل من شارك في هذه الشرشحة السينمائية أن يتعهد عدم محاولة التورط في أي محاولة جديدة لصنع فيلم. يعني، على مدير التصوير الا يلمس كاميرا مجدداً. وعلى كاتب السيناريو أن يسجن نفسه في حجرة طولها متران وعرضها متر ليشاهد مرة تلو أخرى، حدّ الملل والشعور بالغثيان وأوجاع البطن والرأس، سلسلة "انديانا جونز" التي سرق منها "فكرته"، والشخصية العتيدة التي ابتكرها جورج لوكاس. هكذا، يجب على كل من شارك وساهم، من قريب أو بعيد، مضطراً أو مختاراً، سواء من أجل محبة الربّ أو حباً بالشيطان، في هذه الشناعة السينمائية، أن يكون مصيره العيش على جزيرة، لم يخترع فيها الأخوان لوميير السينما بعد. وتعميماً للفائدة، يجب رفع الحصانة عن الغباء السينمائي، ولا يكفي ترداد المقولة الفرنسية "لحسن الحظ ان المسخرة لا تقتل". بلى، المسخرة تقتل! وتقتل جيداً. هذه هي الطريقة الوحيدة التي على القائمين أن يمشوا فيها لإنقاذ ما تبقّى لهم من ماء الوجه!  

قد يعتقد بعضهم أنني أمزح، لكني لم أكن يوماً على هذا القدر من الجدية. راديكالي في موقفي؟ نعم. وما المشكلة في أن يبني السينيفيلي حصناً منيعاً أمام هذا النوع من الغزو المشبوه؟ تصوّروا أن تكونوا أمام برنامج مثل "بيني هيل شو" حُذفت منه الفكاهة، مصحوباً ببعض الزومات الهاربة من مسلسل مصري، ومشبعاً باستلهامات من أسوأ ما صنعه روس ماير، وتصوّروا أن تتقبلوا تسلل هذه الصور الى شبكة عيونكم التي لا تقدر بثمن! هذه هي المازوشية في عينها. كنا نعتقد ان ثمة حدودا للاستغباء. ولكن، ليس مع هذا الفيلم الذي يدور على الشخصية الكاريكاتورية لجاك هانتر، صياد الكنوز في بلدان نامية.

أما ما يفترض انه قصة، فيمكن اختصاره على النحو الآتي: بعد مقتل عالِم آثار، ينطلق هانتر في رحلة الى الشام بحثاً عن خريطة وكنز. هناك يقال له انه يجب أن يتعاون مع مندوبة وزارة الآثار السورية ناديا رمضان، والتي لا شيء فيها يدل على انها فعلاً مندوبة هذه الوزارة (انظر الديكولتيه!)، وشخص آخر يدعى طارق ارسل من وزارة السياحة السورية للعمل سائقاً عندهما، ويضطلع بدوره المهرج اللبناني ماريو نعيم باسيل. مخنّث طوعاً، أحمق، وثقيل الظلّ، هذه بعض الخطوط العريضة لطارق الذي يبدو أن اعرق نكتة عنده هي علك اللغة الانكليزية في فمه بأسلوب غرائبي يدعو الى البكاء.

تمضي بنا الحوادث الى مساحات صحراوية، وهنا مفاجأة أخرى: مديح مجاني متكرر للشقيقة: "يا له من بلد عظيم، ويا له من شعب عظيم"، يردد هانتر، علماً انه، في هذه المرحلة من الفيلم، لم يكن رأى من سوريا (الا اذا كان سلوكه يعتمد المفعول الرجعي) سوى بعض ديكورات مهملة تنتظر ان يحتلها فريق عمل لمسلسل تركي مدبلج. هذا المخرج الذي يجب أن يدرَّس في معاهد السينما للفت نظر التلامذة الى الجرائم السينمائية التي لا ينبغي ارتكابها ابداً، يسير في بروباغاندا بليدة لـ"سوريا الأسد"، لكن المشكلة انه ينسى ان يعلّق صوراً للرئيس في أرجاء المدينة.

منذ صعود الجنريك حتى المشهد الأخير، يزدحم الفيلم بأفضح العيوب التقنية. الكادرات الرعناء تتعاقب وتتسارع، والتقطيع يقطع الأجساد والرؤوس اعتباطياً. يبدو ان المخرج توقف عند اسلوب "البصق واللصق". ففي كل مرة أراد فيها أن يكون جدياً طغت الطرافة على المشهد. جوّ من التزييف اللاإرادي يخيم على الفيلم ويحوّل كل شيء فيه مزحة، فلا نصدّق كلمة مما يقال. هانتر يطمح الى امتلاك سحنة، فيها بعض الغضب والهيبة، لمنافسة هاريسون فورد في ذكوريته، لكن المسكين لا يعرف كيف يفعل ذلك، فالمشكلة ان حتى ملابسه تتبرأ منه (نعم ملابسه)، فقبعة البورسالينو التي يضعها على رأسه "تعاكسه" على الدوام. لكن العتب على مصمم الأزياء الذي جعله يخرج الى الفيلم بمظهر كمن يعيش في الثلاثينات، فيما الطفل الرضيع يعرف أن الحوادث تجري في زمننا الحالي. سوء الفهم هذا، بين زمن الزي وزمن الجسد (تفصيل من بين مئات التفاصيل) يطيّر ما تبقّى من الفيلم فينهار رماداً أمام مشاهدين، مأساتهم الوحيدة انهم لا يملكون طماطم معفنة في أيديهم.

هـ. ح

 

لمحة

تيم برتون في بلاد العجائب

المهم بالنسبة الى تيم برتون أن يغوص المرء في مخيلته. "كلٌّ منّا يتمتع بخيال واسع"، مقولة يكررها دائماً، راوياً أن الأطفال ينسابون وراء خيالهم الخصب لنسج أجمل الحكايات. لا يسعنا الا أن نصدّق برتون لأن هذا ما سعى اليه دائماً. مخرج "بيتلجوس" لا يزال مؤمناً على رغم تجاوزه الخمسين بنظرية مفادها ان الجميع قادر على ان يعزّز سلطة خياله بمجرّد ان ينسى القيود ويؤمن بالأحلام.

برتون فنان موهوب منذ الصغر. في صباه حاز منحة "ديزني" للدراسة في معهد كاليفورنيا للفنون. بعد تخرجه، عمل في التحريك في استوديوات العملاق الأميركي. خلال تلك الفترة من حياته، جمع ستين ألف دولار لاخراج فيلم مدته 60 دقيقة، عنوانه "فنسنت"، تكريماً لفنسنت برايس، نجم أفلام الرعب التي كان يحب مشاهدتها طفلاً. عام 1985، صوّر فيلمه الطويل الأول، "مغامرة بي ووي الكبرى"، الذي حقق نجاحاً بارزاً. وقد استعان بمايكل كيتون في فيلمه التالي "بيتلجوس"، ثم في "الرجل الوطواط"، عام 1989، فراح النقاد يغرقونه بالمدائح. برتون، خلف الكاميرا، هو نفسه تقريباً في الحياة. ميال الى الفانتازيا والرومنطيقية الحالمة. وما زواجه من ممثلته هيلينا بونهام كارتر الا تأكيد ان الحدّ الفاصل بين الحياة الحقيقية والحياة السينمائية رفيع جداً.

إضافة إلى شطارة برتون في مجالات عدة، فهو أولاً فنان يتقن الاستماع إلى الممثلين الذين يتعامل واياهم. لعل ذلك سبب وفاء الممثلين له، فنراهم يعاودون التجربة معه بضع مرات، ومن هؤلاء جاك نيكلسون وداني دو فيتو ووينونا رايدر. ومن هؤلاء طبعاً، "أناه الأخرى"، جوني ديب الذي ساهم في اطلاقه. اليوم، يتبادل الرجلان الإعجاب. أصبح ديب مع الوقت بديلاً من برتون في ظهوره على الشاشة. بالنسبة الى ديب، يجمع برتون في شخصه صفة الفنان والعبقري والصديق الوفي، الأمين، الطريف، المجنون، اللامع، الشجاع، والصادق الذي لا ينحاز الى فريق.

شخصياته، اذا نظرنا فيها عن كثب، نجد انها مرغمة على أن تكون شريرة، وهي على كل حال غير قادرة على الهروب من قدرها. فالشرير لدى برتون هو شرير على الرغم منه. ولولا روح الفكاهة التي يتحلى بها المخرج، لكانت أفلامه حزينة ومحبطة. فهو قادر دائماً على قلب المشهد الدراماتيكي مشهداً كوميدياً ظريفاً. دعونا نقول ايضاً أن برتون متمكن جداً من الدعابة السوداء حدّ أن مشهد قطع الرأس يمكن أن يبدو في رعايته مثيرا للقهقهة. طموحه ليس مجرد سرد قصة، بل ابتداع شخصيات قوية تعيش في عالم غريب، وهو عالم يفلت من بين أناملها أحياناً.

قبل اسبوع، حلّ في الصالات المحلية آخر انجازات برتون، "أليس في بلاد العجائب"، وهو أفلمة جديدة لرواية لويس كارول لا تتضمن السوداوية واللؤم اللذين التصقا بأعماله منذ بداية تجربته الابداعية. كل المجالات التي يبرع فيها برتون متصلة بالمناخ المرصود، وهو في هذا الشيء لا يحتاج الى شهادة من أحد. جوني ديب حاضر للمرة السابعة قبالة عدسته، هيلينا بونهام كارتر وداني ألفمان، بدورهما يخدمان العمل على نحو ممتاز، لكن هذا كله لا يمنع من أن يخرج المشاهد من الصالة مع شعور ولو طفيف بعدم الاكتفاء. الأنكى اننا لا نعرف ما الملاحظة الجديرة التي يمكن توجيهها الى برتون. فكل شيء، من الاخراج حتى التوليف، يبدو منقحاً ويرتقي الى مصاف التحفة الأدبية التي وضعها كارول. لكن برتون، من فرط الباروكية في عمله، بات يجد صعوبة في اغناء البصيرة، وهذا محض شعور وليس نقداً تفصيلياً. لم تكن اللعبة التكنولوجية (الفيلم معروض بالأبعاد الثلاثة) في أي عمل سابق لبرتون على هذا القدر من البرودة. في المحصلة، قد يبقى المُشاهد متفرجاً سلبياً في أفضل تقدير ولا مبالياً في الأسوأ.

(•) Alice in Wonderland - يُعرض في "سينماسيتي" و"أمبير - دون، سوديكو (بالبعدين التقليديين)" . 

 

Cut

كتب أحدهم في جريدة زميلة ان "الوان "أڤاتار" ورسومه يمكن أي مراهق ان ينتج اجمل منها على شاشة الكومبيوتر الشخصي" (!).

•  الفيلم الحائز "أوسكار" أفضل فيلم، "خزانة الألم" لكاترين بيغلو، سيتأخر نزوله الى الصالات اللبنانية نحواً من شهر تقريباً.

•  بعد إلغاء برنامج السينما على "أو تي ڤي" و"المؤسسة اللبنانية للارسال"، قررت ادارة "الجديد" وقف برنامج "زووم ان" بحجة انه لا يجذب الدعايات.

لوحظ وجود أخطاء لغوية كثيرة في الترجمة الفرنسية لفيلم "حافة الظلام" لمارتن كامبل المعروض في صالات "غراند سينما".

الاثنين الماضي، كرّمت الجمعية المسيحية للشابات - مركز مساندة المرأة - المخرجة اللبنانية ليلى عساف ("الشيخة") في اطار احتفال صغير.

لا شيء يوازي متعة مشاهدة "محيطات"، آخر أعمال المخرج والممثل الفرنسي جاك بيران الذي بات متخصصاً في نمط سينمائي يعيد الاعتبار الى الطبيعة وضرورة حمايتها من التلوث البيئي.

النهار اللبنانية في

11/03/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)