حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

دراما مرئية ..

بحلم يادنيا بجد

بقلم : د. حسن عطية

من الطبيعي أن يحلم الشباب، فالواقع الذي يعيشه أقل ممايطلبه، والمستقبل أمامه ممتد لتحقيق مايتمناه، ولكل جيل أحلامه التي يأمل في تحقيقها، والتي تتراوح بين الحلم العام والحلم الخاص، وفقا لطبيعة الحياة وحجم المتغيرات فيها وعلاقة الفرد بمجتمعه، فقد حلمت أجيال أوائل القرن الماضي بالتحرر من المحتل الأجنبي ليمتلك الوطن حريته وقراره، وحلمت أجيال منتصفه بوحدة الاشقاء كي يتماسك الوطن الاكبر ويحافظ علي حريته وتقوي عزيمته، وحلمت أجيال نهاياته بالاستقرار الأسري وتأمين مستقبل الأولاد، وراح جيل الحاضر يحلم بمسكن يأويه بعيدا عن شبح الضرائب العقارية، وعمل يبعده عن ملل المقهي، ودخل يعينه علي مواجهة حصار الغلاء الفظيع، وحب يحتضن به الكون دون مصادرة.

أحلام صغيرة وفردية، لكنها مشروعة وحقيقية، ومع ذلك  لم تكن الفتاة الجميلة »فاتن« ابنة منطقة (أرض اللواء) الشعبية بالجيزة تحلم بشيء مغاير لما تعيشه،رغم الحياة الصعبة التي أجبرتها ظروفها الاجتماعية أن تعيشها، وارتضتها مرغمة في الفيلم الروائي القصير (٠٣ق)، الذي كتبه الناقد والسيناريست »ماهر زهدي« بعنوان (بحلم يادنيا بجد)، في ثالث لقاء سينمائي له، في مجال الأفلام الروائية القصيرة، مع رفيق دربه المخرج »سامح الشوادي«، والذي ينطلق فيه بفتاته »فاتن« وهي حبيسة شقة أسرتها المتواضعة، تجهز الطعام لأفرادها كثيري العدد، كعادة أسر الشرائح الصغري في الطبقة المتوسطة.. تلميذ صغير وفيتات ثلاث يبدو أنهن جميعا مازلن بمرحلة الدراسة، وشقيق رابع أنهي دراسته ويعيش دون عمل، وأب متمارض حتي يهرب من تحمل عبء أسرة هوصانع كيانها الضخم، وأم مريضة لايهتم أحدا بطعامها ودوائها غير الابنة »فاتن«، فقد ألقي عليها الجميع مسئولية الأنفاق عليهم، والسهر علي راحتهم، فصارت نموذج حالة لمجتمع فقد القدرة علي أن يدير واقعه بصورة جماعية.

الانفلات
 
في هذا الجو المغلق الخانق، تشاهد »فاتن« ذات يوم علي شاشة التليفزيون فيلم ( أحلي الأوقات)، وحديث فتياته عن رحلة الي الاسكندرية لا تستغرق غير ست ساعات، تلتقي خلالها واحدة منهن بأبيها الذي تبحث عنه، فيفجر بأعماق »فاتن« رغبة دفينة في الانعتاق من عالمها هذا لعالم منفتح علي مياه متدفقة، فتجد نفسها ذات صباح، خارجة من بيتها متأخرة، رحلت عربة عملها قبل مجيئها، تاركة إياها ضائعة في زحام القاهرة، غير قادرة علي العودة لبيتها الخانق، فتقفز من أْعماقها فكرة السفر إلي الاسكندرية لزمن لا يتعدي الساعات الست، وهونفس زمن ذهابها وإيابها من عملها في السادس من أكتوبر، فتركب سيارة أجرة عامة، تصل بها لشواطيء المتوسط لتهلو علي رماله وتلعب بمياهه، حتي تدفعها أمطار نوة (المكنسة) إلي  كافيتريا صغيرة، تلتقي داخلها بأميرها المرجو »كمال«، والذي يأخذها في عربته الفارهة لجولة في الثغر الباسم، ولمطعم تأكل فيه البحريات التي تسمع عنها.

 تلهو الفتاة فرحة بلحظاتها السعيدة، ويتأخر بها الوقت لما يقرب من منتصف الليل، وتتذكر أن أمها لا يعتني  أحدا بها غيرها، لذا فلابد وأن تكون الآن تعاني من الجوع والحاجة للدواء حتي الموت، فتستيقظ من نومها صارخة »ماما«، لتكتشف أن ماعاشته لم يكن أكثر من حلم، وأن الوقاع يوقظها علي حقيقة حياتها اليومية الرتيبة، فتقوم لتمارس في آلية ما اعتادت أن تقوم به كل صباح، حتي تهبط دون طعام لتلحق بسيارة عملها، التي تهم بالرحيل، تاركة إياها في موقف مشابه لما رأته في الحلم، غير أن الأمر يختلف، فالعقل في الحلم قادر علي التمرد، والجسد في الحلم يمتلك حرية الطيران للشواطئ الفرحة، أما الواقع فهويشل العقل ويجبر الجسد علي التحرك نحو سيارة العمل اليومية، فالحصول علي لقمة العيش أمر قاس ولا تملك غير تحقيقه.

ازدواجية الحلم

ينتهي الفيلم المصاغ كتابة ببساطة وقدرة علي ترتيب المواقف بصورة تجعل الحلم حدثا فارقا وسط الواقع القاس، والذي نجح مخرجه في التنقل بكاميرته وبنفس البساطة بين الداخل المغلق والخارج المنفتح، والراصد لحركة بطلته المتنقلة بين أشقاء أنانيين وأب ظالم وأم عاجزة، وهو مايلون الحلم بألوان خيالية تجعل الشاطيء سهل المنال، وتخلق البطل كريم الاخلاق، مجرد رجل أعمال صغير يمد يد العون لفتاة عابرة دون مقابل، وتنهي هذا الحلم بخبر موت الام، في مشهد يشير لمعنيين يبدوان متناقضين، وأن تكاملا في النظرة الإنسانية للابنة، يرتبط المعني الأول فيهما بما هو أخلاقي في الحياة، حيث تشعر الابنة أن مسئوليتها الاخلاقية تجاه أمها مسئولية ضخمة لايجب التفريط فيها، فهي التي تقوم بإطعامها وإعطائها الدواء والسهر علي صحتها، والهرب يوما لشاطيء الحياة بالإسكندرية يؤدي الي منع الطعام والدواء عنها، لاعتياد كل أفراد الاسرة علي التهرب من هذه المهمة الشاقة، مما يؤدي الي موتها، فتنفجر الابنة مستيقظة من حلمها البسيط متألمة لها وباحثة عن وجودها الحي.

بينما يرتبط المعني الثاني بسيكولوجية الابنة وأمانيها البسيطة في أن تتخلص من العبء الذي يربطها بالأم، ويعيق حلمها في الحياة زواجا وانطلاقا، مما يولد داخلها رغبة في الخلاص من الام بموتها، وهي رغبة مناقضة لحبها الجارف والمعلن لها، فتعمل علي كبتها بأعماقها، حتي تتسلل ذات يوم عبر الحلم متجسدة أمام أعينها، فترتعب بشدة مما خرج من الأعماق بهذه الصورة القاسية.

طلاقة وتميز

إستطاع المخرج »سامح الشوادي« أن يدير حركة ممثليه في هذا الحيز المناسب لموضوع الفيلم البسيط في مادته، العميق في فكرته، والذي يقترب من عوالم القصة القصيرة وموسيقي الحجرة ولوحات البورتريه، والمتعمدة علي اللقطة السريعة، والموقف المحدد، واللمحة المعمقة، والحوار الذكي بين مجموعة معينة من النغمات، تبرز وسطها الفتاة »فاتن« التي  جسدتها الاردنية »ميس حمدان« بطلاقة وتميز وقدرة علي استخراج ما في أعماق الفتاة المصرية البسيطة من ألم وحزن ورغبة في الانعتاق، بوجه معبر، وعيون مليئة بالدمع المغلف لحدة العين، والحركة غير المتكلفة وسط شقة، يتحول مدخلها لحجرة طعام ومكان للدراسة وأريكة ينام عليها الاب  »علي حسنين« طوال اليوم وصالون يشاهدون فيه جميعا التليفزيون، وتتفرع من هذا المدخل حجرات الام »عواطف حلمي« والبنات والأولاد، والتي تظل »فاتن« تدور فيما بينها دون كلل، حتي يحملها حلمها لتلتقي بأميرها »كمال«، والذي يجسده دون افتعال »خالد محمود«، فيساعدها بماله علي تناول ما لاتقدر علي شرائه من طعام فاخر، ويطوف بها في عربته الحديثة أجواء الاسكندرية الرائعة، وتشدو »ميس حمدان« بصوتها أيضا وبكلمات
»سعد القليعي« بأغنية تعشق الحياة،
وتتمني للحلم أن يكون حقيقة.

أنه فيلم جميل، أنتجته شبكة تليفزيون النيل كما تقول تتراته، والتي لم تشر لاي من إداراته الداخلية أوقنواته المختلفة، غير أن المنتج في حد ذاته له أهميته  الكبري، التي تخرج الفيلم الروائي القصير من ساحة التسويق التجاري للفيلم الروائي الطويل، وتبعد السينما عن مفهوم السلعة، وتؤكد علي حاجة المشاهد  لقنوات التليفزيون المصرية إلي أفلام قصيرة، بسيطة الصياغة، عميقة الدلالة، رفيعة المستوي، تخاطب وجدانه، وتحاور عقله، وترتقي بذوقه، وتنمي وعيه بمجتمعه والحياة معا.

أخبار النجوم المصرية في

18/02/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)