حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«الهروب من الغرب» بعد «الهروب من الشرق»

دراما غير كافية لاستنهاض الكراهية

باريس ـ مها حسن

لا يمكن لمن يعيش في الغرب ويشاهد المسلسل المصري «الهروب من الغرب»، الذي تعرضه حاليا إحدى القنوات الفضائية، إلا أن يشعر بالغضب من تشويه صورة ذلك العالم، الذي ينفرد المسلسل بتقديمها بصورة غير أخلاقية، تدغدغ عواطف فئة كبيرة من المجتمع الذي لم تتح له زيارة هذا العالم، والعيش فيه وفهمه عن قرب، لإلصاق التهم الجاهزة به، والتي تؤدي في مجملها إلى شحن المواطن العربي، الجالس أمام التلفزيون، بلا حول ولا قوة، بكمية كبيرة من الكراهية لهذا الغرب.

نحن نرى دموع الأب كمال، المسكين، المضطهد، الذي يضطهده الفرنسيون، ونرى ابنته الذكية اللامعة، المتفوقة على كل أترابها في العمل، وهي تتألم وتتمزق، لاضطرارها لنزع الحجاب، لأن الغرب يحرمها من جميع حقوقها، بسبب هذا الحجاب... صور ساذجة وابتذال عاطفي الغرض منه كسب الشارع الذي أقل ما يقال فيه، إنه يجمعه طبل وتفرقه عصا.

إحدى شخصيات العمل، أهدت المسلسل إلى روح مروة الشربيني، لمزيد من كسب التأييد الشعبي، الذي لا ينظر هؤلاء الفنانون فيه إلى أهمية دورهم الثقافي والإنساني والأخلاقي، بل إلى كسب الشارع، من أجل رفع الإيرادات.

فـ«لوتس» هذه، لا تتردد عن تشجيع أختها، لاحتواء صديقها اليهودي، لحين الإدلاء بشهادته لصالح والدهما المعتقل بتهمة الإرهاب، وليذهب بعدها إلى الجحيم ، بل لا تتردد في نصحها بأن تكسب به ثوابا، وتدخله في الإسلام، بسذاجة ويقينية تمنح الشخصية المسلمة التقليدية والمنعزلة عما يجري حولها، حق تقرير الصواب والخطأ للآخرين، لأنها أفضل وأرقى وأصوب من الجميع. وهي ذاتها التي تهجم على أختها الصغيرة وتصفها بـ الفاجرة، تماما كما يحدث في المجتمعات العربية التقليدية، وكأنها لم تعش يوما في فرنسا، ولا تدرك بأن الثقافة الفرنسية، والعرف والقانون، لا يمنح الأخ الأكبر، أو الأخت الكبرى، أي سلطة على الأصغر منه. لوتس هذه لو عاشت في بلاد أبيها لعرفت معنى الاضطهاد، لخبرت معاملة الشرق لها كامرأة. ولو أنها خيرت بين حياة الغرب، حيث تشتم هذا الغرب من عقر داره كما يقال، وبين الشرق الذي يجبرها على الخضوع، لعرفت طعم الحرية التي تحياها من دون أن تقدرها، شاتمة الغرب، وكل ما هو غير عربي وغير مسلم، على تمييزه العنصري بين مواطنيه كما تدعي.

كمال، الذي يدق أبواب الستين، الممثل توفيق عبد الحميد، العاجز عن نطق كلمة « بونجور» بفرنسية سليمة، وهو الذي يحيا في فرنسا، حسب الدور، منذ أكثر من ثلاثين سنة، تتهافت عليه النساء، لأنه الوسيم والبطل الأخلاقي، النزيه ...

الأمثلة كثيرة، على تأليه الشخصية العربية المسلمة، وتقزيم الغرب ... علما أن هذا «الكمال»، فر من جريمة ثأر في بلاده، واحتضنه الغرب طيلة تلك السنوات، ولكن لا المسلسل ولا الشخصيات تعترف للغرب بهذا الفضل، فضل احتضانهم في حالات لجوئهم وخوفهم على حياتهم وأفكارهم، بل تعتبر تلك الاستحقاقات حقوقا مكتسبة، تمنحها القوانين الفرنسية.

هذه الازدواجية المشوهة في التعامل مع الغرب، استغلال حرية الفكر والاعتقاد للحصول على المكاسب، ثم رمي الغرب « بالجزمة» هو لب الشخصية الانتهازية، التي يدافع عنها المسلسل ويغذيها ويبررها.

فالشاب المغربي القادم من بلاد لا يكفيه راتبه فيها، إن حصل على عمل، على شراء السجائر، يبرر، وبإحساس الضحية المظلومة، أنه سيضطر أن يتنازل ليتزوج من فرنسية عجوز تمنحه الإقامة، وكذلك الصبية الحاصلة على شهادة عالية، والهاربة من اضطهاد المجتمع لها، لزواج أبويها المختلفين دينيا، أيضا، تبرر انتهازيتها، ولكن بانكسار على أنها هي الضحية، بزواجها من عجوز فرنسي يمنحها الإقامة ... كل تلك الأحداث تجري في تغييب كامل لوعي المشاهد وعدم احترام أخلاقيته وأحكامه، لنزع الموضوعية عنه، وتبرير أي كسب من الغرب.

معظم هؤلاء الناس، يصطفون في بلادهم أمام السفارات، ويحلمون ليل نهار بالغرب. وهنا، في فرنسا مثلا، حيث أحداث المسلسل، يقضون الليل أمام أبواب مكاتب البوليس حتى يحصلون على موعد لبطاقة الإقامة، يبوسون الأيادي، ويشتمون بلادهم، والاضطهاد الذي يعيشونه فيها، اضطهاد ديني وسياسي وثقافي... وبعد أن يحصلوا على الإقامة، يشتمون الغرب... ويطلبون الخروج منه، بل الهرب منه حسب اسم المسلسل.

المسلسل يبرر بطريقة رجعية، قروسطية، تجاوزتها الثقافة الفرنسية منذ سنوات، حيث المساواة بين المرأة والرجل، يبرر ضرب المرأة، وتعنيفها، مستخدما عبارات تهين الفرنسيين، قائلا لهم، على لسان البطل : أنتم لا تفهموني، لأنكم لا تعرفون معنى العِرض؟؟؟؟ وكذلك يقول حين يقدم محاميه وثائق تثبت جنون موكله ليمنع عنه المحاكمة، يقول كمال هذا « أنا مجنون بس مش خِسع»، وخسع هذه تماثل الديوس أو قليل الشرف...

يعرف المقيمون في الغرب أننا نخضع لما يمكن تسميته بالتدريبات المدنية، ونوقع عقدا مشتركا مع الحكومة، باحترام مفاهيم المدنية، ومن ضمنها المساواة، احترام الآخرين، ومكانة المرأة. فمن المفترض إذن أن هذا المواطن قد وقع عقدا وفهم وخضع لدورات شرحت له موقف فرنسا من المرأة، كيف يأتي بعد سنوات ويطالب بحقه في تأديب ابنته، في فرنسا؟ ليذهب بها إلى قريته ويذبحها هناك، حيث ستغرد له النساء ويطلق له الرجال النار فخرا به، أما في فرنسا، فهذه العقلية، التي يدافع عنها الممثل، بعبارات مؤلمة، تمزق قلب المواطن العربي الحيادي الجالس في بلاده بعيدا عن الصورة الفعلية للغرب، سيتعاطف مع البطل الرجل، ويشتم أوروبا من دون شك، في فرنسا. لن يجد هذا الرجل مصفقين له على ضرب ابنته، بسبب «الشرف». الذي لا يزال الشرق يحصره بجسد المرأة، بينما يعفي جسد الرجل من البرهنة عليه، عبر جسده هو، لأن الشرف لايزال محصورا في جسد المرأة، وهما، شرف المرأة وجسدها، ملك للرجل.

يدافع المسلسل عن العنف ضد المرأة، في بلاد ترفع كل يوم مزيدا من صرخات حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، في بلاد استقبلتهم إيمانا لها بحقوق الإنسان.

لن أثير مسائل طائفية ولا أحقاد دينية، حيث لا الدين ولا الطوائف مسؤولة عن العنف الحاصل في المنطقة العربية، إنما هو الجهل والتخلف الفكري وغياب الوعي بالآخر، و ما حصل في نجع حمادي في مصر، الناشئ عن تخلف ثقافي تحياه المنطقة، يتحمل مسؤوليتها المثقفون والإعلاميون، حيث يتجسد دورهم في إضاءة الظلمة الثقافية، لا تأكيدها. وإذا كان للفن دور أخلاقي وإنساني وتنويري في خلق جسور التواصل بين الشعوب والحضارات، فإن هذا المسلسل يلعب دورا تخريبيا لتلك الجسور، ويؤجج كراهية الغرب، غير المبررة، إلا بقواميس عاطفية، « تقاليدية» من التقاليد، متخلفة. ويستتر وراء الدين الذي لا علاقة له بكل هذه الإيديولوجيات الموظفة لكسب الشارع الأعمى، وابتزازه عاطفيا وماليا.

ثمة فجوة كبيرة بين العالمين الغربي والشرقي، يسميها البعض صدام الحضارات، ويدعوها غيرهم حوار الحضارات، الثقافات... وكل هذه الصدامات أو الثقافات، قائمة على نقطة رئيسية هي الجهل بالآخر. والجهل من دون شك موجود لدى جميع الأطراف المتصادمة أو المتثاقفة، ولكني أعتقد أن جهود الغرب لمعرفة الشرق، هي أكثر من جهودنا لمعرفة الأخر، ولمعرفة أنفسنا، من أجل الانفتاح على أنفسنا، وعلى هذا الآخر.

هذا المسلسل لا يصب أبدا في معرفة الآخر، بل في تشويهه واحتقاره، لتبرير المزيد من عنفنا، عنف كل منا، نحو كل ما هو مختلف عنا.

المستقبل اللبنانية في

31/01/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)