حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

ثقافات / سينما

حبٌّ أو مضاجعة في الظهيرة؟

(حول فيلم إريك رومير)

عبد الله كرمون من باريس

يمكن اعتبار فيلم "حب ما بعد الظهيرة" من ضمن العينات الدالة على خصوصية سينما إريك رومير. إذ إن عنوانه جد موحٍ - خاصة وأن الترجمة الإنكليزية أطلقت على الفيلم نفسه عنوان: "كلووّي في الظهيرة" - على اعتبار أن الأمر كشف عن امتداد استبطان حب تلته مجامعة مجهَضة، ويتعلق فيه الشأن بفأل حسن أفضى يوما إلى ممارسة الجنس في الظهيرة. ذلك أن مفردة الحب لا يمكن أن يكون لها حقا معنى في هذا السياق، متى لم يستبعد استعمالها التهكمي المبيت. أو في إطار آخر من التجاوز. خاصة وأن هناك، في نظري، مستويين لتأويل الفيلم وإعطاء المفردة معنى الحب في العلاقة المتبادلة بين فريديريك وصاحبته كلووي، أو معنى الجنس، وذلك في نهاية الفيلم، في علاقة فريديريك بزوجته هيلين. إذ يرتبط الأمران في الفيلم بزمن الظهيرة. قد يبدو هذا التقسيم التأويلي مقلوبا، غير أننا سوف نفهم فيما سيأتي إلى أي حد يعتبر الأمر السمة الغالبة على الفيلم أو بالأحرى التجسيد الجلي للتشتت الذي اعترى روح فريديريك منذ تعرفنا إليه في البدء زوجا لهيلين. على كل حال فسواء تعلق الأمر بالحب أو بالجنس فإن الذي زعزع فيه سمو الحب هو إردافه بمفعول فيه، إذ لا تستوي الإحالة الزمنية المحددة والمحدودة متى ارتبطت بقيمة مطلقة لا تحد أساسا. الحب ما بعد الزوال هو حب أعرج ناقص، لأن الحب، إن وُجد، يستوجب ديمومة لانهائية. أما الجنس فهو مفتوح على كل الأزمنة وعلى كل الأمكنة، ولا يشكو في هذه الأحوال كلها من وقت ولا من ركن معينين. غير أن ذلك هو بالعكس حالا الحب والجنس في الفيلم. وكأن حظرا قد مسهما أو أصيبا بوقف التنفيذ. ندرك على كل حال بأن المضاجعة السافرة لا تحدث أبدا في سينما إريك رومير، لأنه يكتفي على الدوام بإيروسية لطيفة ترتكز على الإيماءة وإظهار الجسد الأنثوي العاري؛ لكن في أكثر وضعياته براءة، وأقلها كشفا، مثلما نجد في لوحات ما قبل كوربييه. كما لا نشهد الموت في الأفلام التي يكتبها أبدا. ولا أتحدث عن التاريخية منها. وكأنه يأنف بذلك من صدم المشاهد، فينزه نفسه عن سرقة لذة الفرح المبهم منه.

  لا أخفي أن بعض أفلام رومير لا تشدنا إليها إلا قليلا، وأكاد أقول إنه لم يوفق في صناعتها كما يلزم وفق وصفته التي لا يفارقها. غير أن الفيلم الذي نحن بصدده يستحق كل المتابعة والتأمل اللازمين. أود أن أشير إلى أنه يمكن حصر موضوعاته المركزية في الحب، الجنس والظهيرة. وما دامت هذه القضايا ليست من طينة متجانسة، ولا تكاد تربط بينها سوى خيوط واهية، فعلي أن أحيل بأن الشاب الوسيم فريديريك، وهو بطل الفيلم، هو الذي يشكل اللولب الذي تدور حوله هذه المعطيات؛ بل هو الذي يدور حولها. ثم أنه هو من جعلها إشكاليات بعدما أَشْكَلَتْ عليه. فإذا كان الإبهام هو قدرَيْ الحب والجنس منذ الأزل، فمن العبث جعل زمن الظهيرة إشكاليا أو زمنا مطابقا للقلق. يفشي فريديريك أنه لا يحب الظهيرات. فهو لا يدرك تماما لماذا، ولكنها تشكل بالنسبة إليه نوعا من الرهاب الفظيع. فيضيق بها ذرعا، حتى تحولت في عينيه إلى وحش مفترس، لا يألو جهدا كي يفر منها، ويشغل نفسه خلالها وإن لم يكن لديه من عمل يشده، كي يفوّت عليها فرصة افتراسه. هل الحب إذن أو الجنس في الظهيرة هو نوع من استدراج لحب الظهيرة أو سبيل إلى ذلك؟

نعد من بين متع فريديريك القراءة أيضا. فهو يحب أن يقرأ في المترو مثلا، ويرى في ذلك نوعا من السفر إلى البعيد، إذ يغطس تماما في عالم قراءته محلقا في أكوان مفارقة. ربما لا تكتمل متعته مع الكتاب إلا في حضور شخص أو أشخاص آخرين، يحرسونه في أنس مضاعف، إذا عددنا القراءة أنسا أولا. يقرأ في البيت بحضور امرأته هيلين، التي تقرأ هي أيضا في ركن وتعد الدروس، بحكم اشتغالها أستاذة للغة الإنكليزية. يحس بالأمن إذن ويستسلم في حضورها للقراءة كلية. لكنه لا يكاد يقرأ قليلا حتى يرفع عينيه محملقا في هيلين، متفحصا جسدها، كي يفكر فجأة، بل يتساءل متوثبا في طفرات ذهنية. فيتيقن بأنه يحبها، ويرى جسدها أجمل وأفضل، ثم يلوي عنقَه سؤالٌ من قبيل كيف يحصل بالفعل ذلك؟ يستأنف ويفكر بأن ذلك آت من كونها تختصر في ذاتها كل النساء. لكنه يحدق في فتيات أخريات في المترو، فتستبد به فجأة رغبة في حبهن، ويوغل في افتراضات من قبيل: لو لم أتزوج، لقمت وبحت لتلك البنت بمشاعر خاصة، ولأعربت لها عن إعجابي بجمالها. ولكنه متزوج الآن. غير أن الزواج ليس عائقا يمنعه. ووقف في قرارة نفسه على أمر غريب هو أنه بعدما تزوج صار يحب كل النساء، أو صار، في أقصى تقدير، قادرا على حبهن جميعا. إذ يتأملهن كلهن، وما إن تعنّ له واحدة منهن، إلا وتسارع مخيلته إلى ضخ فوران غير اعتيادي في كيانه بكامله. الأمر ليس عاديا، وهو لم يرد ذلك ولم يسع إليه بمحض إرادته، تلك هي الحقيقة التي فُرضت عليه فرضا. حاول فك تلك المعضلة عبر منولوج طويل، غير أن وضعه لم يزدد إلا استفحالا.

هكذا كان يحيا أيامه الباريسية غاديا ورائحا، ما بين البيت والمكتب، مرورا بالمقهى، إذ تزداد هواجسه ضراوة، متى اتخذ له مكانا في واجهة يبصر من زاويتها حركة الناس المتماوجة، وهو يحتسي بيرة باردة والزمن ربيع. فكر مليا أنه لا يطيق الأرياف، حيث السكون المطبق وخلو الحواري غالبا من نأمة روح حية. لذلك فهو يعشق باريس وكثرة البشر فيها وتواجدهم الغفير بها في كل أناء الليل والنهار. ثم ينفّس على روحه التي يطيب لها كثيرا أن تنصهر في زحمة العالمين. ويحيط بحيوات غضة بضة، تُبصَر مرة واحدة في العمر ثم تغيب نهائيا. أجمل ما يروق له أنه لا يقف أبدا على شيخوخة، هرم، تفسخ وتشوه تلك الوجنات المتوردة المنفجرة بملء النضارة أبدا.

كذلك هم أبطال أفلام إريك رومير، يتخذ لهم باريس مقرا ومستقرا يبلون فيه بلاءً وبِلى. يصف فيها الفرح والترح الطارئين، بها، تباعا على النفس الإنسانية، التي لا تعرف لها، في واقع الأمر، مستقرا. بل غليانا لا يهدأ ولا يهنأ، وذلكم هو حال فريديرك بطلنا.

تطفح جعته قدامه في المقهى بالحباب، وتزبد خلايا رأسه بالرغاب. يسرح النظر إلى الشارع فلا يبصر حقا ما يراه رؤيا مهموسة في مهجته بكامل التلاوين، صوتا، صورة وحياة. يحلم لو يسيطر برهة بإمرته على الناس، ويكون الآمر والناهي، وتسنح له أخيرا فرصة معاشرة تلك الفتيات اللواتي يقفزن في أنهر الضوء، ويَثِبن بكامل فتوتهن وحسنهن وثبة عليا ويمضين إلى الأبد.

تحسس جوهرة معدنية علقها على سلسلة عنقه. فكر لو يكون باستطاعته أن يتحكم في الفتيات بمجرد تحريكها. حلم القبعة السحرية القديم/الحديث للإنسان. ثم يغطس دون سابق إنذار في تهويماته، فيرى نفسه ينهض ويتوجه إلى الفتيات مباشرة، ويفاتحهن، كل واحدة برغبة معينة، فيقول لواحدة، آخذا بيدها، تعالي نتنزه سويا، أرى أنك غير مشغولة بشيء. ويستأذن أخرى لو تسمح له أن يقبلها. ويسبي أخرى من بين ذراعي عاشقها. لم يعارضنه كلهن بتاتا، بل انصعن له طواعية، إلا تلك التي أكدت له أنها في طريقها إلى لقاء حبيبها وأنه لا حَظَّ له معها، إذ أكدت له أنها تحب فارسها، وأنها لن ترضخ له مهما اقتضى الحال. تركها تمضي وليس دون أن يثير ذلك في نفسه شيئا له علاقة به كزوج عاشق تعنيه كثيرا فضيلة الوفاء.

حدث ذات يوم، وبعد الزوال تحديدا، أن وجد فتاة تنتظره في مكتبه. وعلى الرغم من أنها كانت خطيبة أعز أصدقائه أيام زمان، فإنه لم يعد يتذكرها، ولم يعد يعرف اسمها. لقد ولج عالم الأعمال والمشاريع وظلت هي طريحة أرصفة البوهيمية. فرقت بينهما المشاوير وشتان بين عالميهما. لم يستقبلها كما ينبغي، لكنها عادت وعاودت المجيء. وأكدت له يوما أنه شخص لطيف ولا يصلح للعب دور رجل شرير.

توثقت بينهما العرى وظلا يلتقيان خاصة في وقت الظهيرة. من هنا أتى شق من شقي عنوان الفيلم، وسوف تتراءى رويدا ملامح الشق الثاني منه. تشابكت الأمور والأحاسيس في نفس فريديريك، ولم يعد يستطع التمييز بينها. هل تزعجه كلووي فعلا أم هل ظل يستمتع بإطلالاتها المنعشة في زحمة سويعات عمله الثقيلة على نفسٍ تتطلع إلى تملي مشهد الحياة الصاخب، بل تسعى إلى المساهمة فيه بما أوتي المرء من فرح وأهازيج؟ ظلت الأسئلة تحبو في قلبه بالموازاة مع حفيف عذب لم يتبين معالمه بعد.

على كل، يبدو أن ما يصله بهيلين هو مجرد ملء خانة الزوج، إذ لم نتبين عبر الفيلم، الذي يختصر كل حياتهما الزوجية في أعيننا، إلا بعض سويعات نادرة، يقضيها في البيت، خاصة بعد مجيء وليد ثان من صلبه. يضحكه بأن يخبئ رأسه داخل ثوبه.

اعترفتْ له كلووي يوما بحبها له. اتفقا على أن يلتقيا. اقترحت عليه أن يجيء إلى غرفتها في الطابق السادس، أي في ما يسمى في باريس بغرفة الخادمات. عندما وصل فريديريك كانت هي تستحم. طلبت منه أن يمد إليها المنشفة ففعل. وطلعت بعد ذلك مبتلة من الحمام طالبة منه أن ينشفها، تعثرت حركاته في البداية ثم واصل في جرأة. تعانقا، تلامسا، تبادلا القبلات، قالت له بأن بدلته خشنة، أزالها، ثم انطلقت كلووي إلى سريرها عارية تنتظر عاشقها الكبير، غير أنه عندما كان يزيل عنه قميصه الداخلي انعكست صورته في المرآة وانكفأ على نفسه، ذكرته الصورة بابنه وزوجته وباقتراب اختراقه لمنطقة الوفاء في إتجاه دياميس الخيانة. حمل بسرعة بدلته واتجه فارا نحو الباب، ثم انزلق في سلالم العمارة كي يصل إلى البيت انزلاقا.

كان وصوله مبكرا، أي في الظهيرة، مفاجئا لزوجته إذ لم يصل فيه من قبل أبدا في ذلك الوقت. لكنه أسر لها أنه عاد من أجلها، ليس لسبب محدد، ليحدثها في أمر مهم مثلا، ولكنه سرعان ما انسابت الكلمات من فيه انسيابا، واعترف لها أنهما لم يشتركا الحوار والبوح قط. كان يتلافى الحديث معها لأنها أستاذة ملمة بلغات لا يتقنها، وأنه يجد نفسه جد ضئيل إزاءها. لذلك كان كل ما يأتيه في حضورها هو بعض الحركات البهلوانية، ثم كل ما من شأنه أن يفضي إلى إضحاكها. بكت، تأثرا معا، تعانقا، ثم حملها بين ذراعيه إلى غرفتهما، وانتهى الفيلم. من هنا ركزتُ على كون الفيلم يؤكد أيضا على هذا الحدث الأحادي الفريد ويمنحه عنوانه. وتكون كلمة l’amour الفرنسية بمرونتها تعني الحب والجنس على التناوب حسب المعنى الذي نريد منها. والذي دفعني لأن أفكر في الأمر بهذا الشكل هو أن فريديريك لم يمارس الجنس مع هيلين في وقت الظهيرة بتاتا. كما أن علاقته بكلووي يمكن أن تستحوذ، هي الأخرى، على أحقيتها بالعنوان، ويكون حبهما حبا محدودا في الزمن ومرتبطا فقط بالظهيرة لأن إكراهات الحياة الزوجية والمهنية من جهة، وإكراهات عملها جعلت من حبهما الذي تنامى بين الطرفين؛ حثيثا مع الزمن، لا يتخذ له صورة لقاء محبين سوى في تلك الفسحة الزمنية وحدها. وقد لا يكمن الجمال كله إلا في تلك الهنيهات المسترقة. يبدو أن "الحب في الظهيرة" قد يمكن أن يصير حبا للظهيرة بالنسبة لفريديريك، إذا ما حاولنا فك معادلة الحدثين المتتاليين في نهاية الفيلم، فراره مفزوعا من لحظة متشظية يتظافر فيها الأمران، اللذان يمكن القول عنهما إن أحلاهما مر: فرصته لأن يزكي جسديا حبه لكلووي، ثم رهبته الكبرى في خيانة هيلين. وكأن فريديريك قد تصالح بشكل ملتبس مع الظهيرة، إذ عانق هيلين، واختارها في الأخير، ملتجئا إلى حضنها.

يقينا، سوف يظل فريديريك، يحيا، مثله مثل غيره من الناس حياة مزدوجة، وسوف يشرئب على الدوام إلى فتيات أخريات، وسوف تدور تهويمات متصادمة في ذهنه. لن يشفى من ذلك نهائيا، وربما سيدوم انزعاجه من وقت الظهيرة مباشرة بعدما يستيقظ من الليلة الموالية لآخر "حب/جنس" في عز الظهيرة.

kermounfr@yahoo.fr

إيلاف في

29/01/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)