حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

رؤية خاصة..

العلبة

رفيق الصبان

يبدو أن عادة سرقة الأفكار من أصحابها الأصليين ونسبتها إلي أشخاص آخرين ليست طريقة مصرية فقط.. وإنما امتدت أيضاً إلي هوليوود نفسها.. حيث يقوم بعض الكتّاب باقتباس أفكار غيرهم ثم يدعون بكل جرأة أنها من بنات أفكارهم.. دون أية إشارة إلي الأصل حتي لو كان هذا الأصل.. أصلاً أدبياً معروفاً ومشهوراً.. طاف بأركان الدنيا الأربعة.

هذا ما حدث مثلاً في فيلم »اللعبة« الأمريكي الذي أخرجه ريتشارد كيلي عن قصة وسيناريو لـ»م. ماتيسون« الذي وضع اسمه بالبنط العريض، وعلي لوحة لوحده في مقدمة الفيلم.

ومن يتابع الأحداث سيكتشف بسهولة أن الفكرة الرئيسية التي يقوم عليها الفيلم هي فكرة قدمها الكاتب الاسباني الكبير »كاسونا« في مسرحية أطلق عليها اسم »مركب بلا صياد«.. قدمها مسرحنا المصري علي خشبته، كما قدمها المخرج عادل الأعصر بفيلم مثله حسين فهمي ورغدة.. والفكرة جميلة ومبتكرة تقوم علي مبدأ الإحساس بالمسئولية عن أي عمل تقوم به أو أي فكرة تمر بذهننا.. من خلال رجل هو الشيطان مجسداً يأتي لزيارة أسرة فقيرة، وطلب من ربها أن يوافق علي قتل شخص لا يعرفه بمجرد التفكير وقبول فكرة القتل.. مقابل مبلغ كبير من المال، ويضطر الرجل المسكين إلي قبول هذا العرض الذي سيدمر حياته كلها.

بالطبع هناك الكثير من الميتافيزيقيا في المعالجة والأسلوب، وهذا ما حافظ عليه الفيلم الأمريكي بقوة، وإن كان قد تصرف بالأحداث وفق منطق آخر.. أقرب إلي الأسلوب الأمريكي منه إلي الأسلوب الأوروبي، وهذا ما لا يمكن الاعتراض عليه.. فاقتباس الفكرة وتطويرها ثم وضعها في ثوب آخر مختلف أمر مشروع بالفن، والفن السينمائي علي وجه الخصوص.. أما فكرة السرقة وإهمال ذكر اسم المؤلف الأصلي فهو الأمر المستهجن والذي لا يصح قبوله أبداً.. والذي كان محور تذمرنا الدائم عندما نواجهه بكثير من الأفلام المصرية التي تقتبس وتعد عن قصص وأفلام أجنبيه ثم تهمل تماماً ذكر أصحابها الأصليين وتنسب نفسها لأشخاص آخرين.

»العلبة« إذن هي الهدية الدموية التي يقدمها رجل غامض يلعب دوره بإتقان كبير »فرانك لانجيلا« إلي أسرة سعيدة.. مكونة من أستاذة مدرسة معاقة في قدمها وتحتاج إلي مبلغ كبير لإجراء عملية تعيد ساقيها إلي حالتها الطبيعية.. وزوج يعمل في مختبر للأعمال الفلكية التي تحاول إجراء تجارب تربط بين الأرض وكوكب المريخ، ويفاجأ الزوج بأن المختبر قد قرر الاستغناء عن خدماته.. أي أن الأسرة فقدت موردها الأصلي.. حين جاء هذا الرجل القريب ليعرض عرضاً أشد غرابة علي الزوجة.. إنه يقدم لها علبة لها زر.. إذا وافقت علي كبسه فإن إنساناً مجهولاً سيموت.. وفي مقابل ذلك ستحصل علي مليون دولار عداً ونقداً.

ومن شروط هذا العرض ألا تخبر أحداً به إلا زوجها، وأن يتم ذلك في مهلة (٤٢) ساعة فقط، وبعد تردد وعدم تصديق من الزوج.. توافق »نورما« وهو اسم الزوجة.. علي ضغط الزر، وفي نفس الوقت تقتل زوجة علي يد زوجها بالرصاص.. وتنجو الابنة الصغيرة التي كانت مختفية في الحمّام.

وتبدأ المشاكل الغريبة تحيط بالزوجين.. أحداث غير متوقعة..إشارات غامضة يقوم بها أشخاص مجهولين حيناً.. معروفين أحياناً أخري.. ويحاول الزوج الاستعانة بوالد زوجته نورما لتقصي حقائق هذا الرجل المجهول.. مما يزيد الأمر تعقيداً.. وكل ذلك يرتبط بقوي خفية لأمريكية تتحكم في مصائر البشر.. وبالطبع هناك إشارة واضحة إلي مسرحية جان بول سارتر »الجلسة السرية« التي تطرح قضية ما بعد الموت.. ومسئولية الإنسان المطلقة تجاه كل ما يفعله أو يفكر فيه.

وتسير الأمور وفق خط بوليسي مشوق.. إلي أن تنقلب مرة واحدة إلي أجواء ميتافيزيقية ومكتبات طويلة مليئة بالكتب.. ممرات ذات غرف مزدوجة.. وجوع غريبة تراقب.. صالات لا نهاية لها.. مراقبة مستمرة مما يشعرنا بأننا أمام عالم آخر غير عالمنا.. وأن من يتحكم في أقدارنا يملك سلطة استثنائية تسمح له بتوجيه مصيرنا.. تساعده علي ذلك مجموعة كبيرة من المعاونين اندسوا في ثنايا حياتنا اليومية.

ولاشك أن المخرج ريتشارد كيلي قد وفق تماماً في رسم هذه الأجواء الغرائبية، وتساعده علي ذلك ديكورات شديدة الاتقان.. وشديدة الإيحاء وموسيقي مدهشة عرفت كيف ترسم جواً متوتراً مليئاً بالقلق.. وحتي هذه الشخصيات الثانوية التي نراها.. تظهر وتختفي قد استطاع المخرج اختيارها بعناية وتركيز مما أعطت ثقلاً درامياً علي الأحداث.. وجذبت انتباه المتفرج وجعلته يلتصق بمقعده.. تاركاً نفسه تسبح في هذا العالم الغريب الذي يرسمه الفيلم، والذي عرف كيف يمزج بينه وبين العالم الواقعي ببراعة وذكاء تستحقان الإعجاب.

ومن فخ إلي فخ.. يجد الزوجان نفسيهما مقودان إلي قدر غريب مجهول.. قد رسم لهما بدقة ولا يستطيعان الابتعاد عنه، وعندما تتأزم الأمور يتم خطف ابنهما الوحيد.. ولا يكون أمام الزوج كي ينقذ ابنه إلا حل واحد.. هو قتل الزوجة (هكذا شاءت القوي العليا التي تنظم الأمر) تماماً كما رأينا في بداية الفيلم.. وهذا ما يحدث فعلاً ويقتل الزوج العاشق زوجته بناء علي طلبها لكي يتم إنقاذ الابن المقيد في الحمّام.. وينتقل فيها الحدث إلي زوجين آخرين، وزوجة أخري وافقت علي أن تضغط علي الزر.. وأن تقتل إنسانة لا تعرفها مقابل مليون دولار ستأخذها عداً ونقداً إلا أن الرواية ستتكرر إلي ما لا نهاية.

من الواضح تماماً أن المؤلف الأمريكي.. استبدل القوي السماوية.. والقدرة الشيطانية التي لجأ إليها الكاتب الاسباني.. بقوة ثانية جاءت من كوكب المريخ.. لكي لا يدخل في متاهات دينية ليس بمقدوره مواجهتها.. ولكن يبقي الأداء والإخراج.. هما المسيطران تماماً علي الفيلم.

»كاميرون دياز« التي بدت أكبر سناً وأكثر نضجاً تلعب دوراً إنسانياً معقداً يثبت كفاءتها أمام نجم شاب صاعد هو »جريمس مرسون« الذي أتوقع له مستقبلاً زاهراً في السينما الأمريكية، فهو يملك الوسامة والحضور والقدرة علي الإقناع في دور يحتاج حقاً إلي مرونة وتغيير خاصة ريتشارد كيلي الذي لا أذكر أني رأيت له سابقاً فيلماً بهذه الأهمية.. يغامر مغامرة كبري في تقديم فيلم له إطار ميتافيزيقي واضح.. وله خلفية فلسفية روحية شديدة العمق.

واستطاع بمهارة أن يخلق هذا الجو الغريب.. المختلف تماماً عن الأجواء المعتادة التي نراها في أفلام الخيال العلمي.. واستطاع أن يضيف للديكورات والإضاءة لمسة شعرية واضحة.. وغلف ذلك كله بإطار ثقافي يدفعك إلي استخدام عقلك إلي جانب استخدام حواسك/

بالطبع لا يمكننا بأي حال من الأحوال رغم غرابة الموضوع وطرافته وبُعده عن الواقعية أن نعتبر »العلبة« فيلم فانتازيا أو تنويعة أخري من تنويعات الخيال العلمي لأن المتمعن فيه سيري أنه أكثر من ذلك بكثير.. إنه يطرح موضوع المسئولية بصورة واضحة، تماماً كالنص الاسباني الأصلي، وهذا ما عبر عنه فوق السماء عندما قال لنورما المسكينة »كان بإمكانك أن تتجنبي كل هذه الكوارث.. لو رفضت عرضي.. ولم تقوم بالضغط علي زر العلبة«.

ورغم أن الفيلم قد ركز علي الظروف الاستثنائية والإنسانية التي دفعت نورما المسكينة إلي الضغط علي زر العلبة.. فإن ذلك لم يحمها من العقاب »السماوي« الذي وقع عليها، وعلي يد زوجها الذي يحبها.

هناك موقف شديد الجمال والإيحاء.. تضمنه هذا السيناريو الغريب عندما يسأل مبعوث السماء أو الشيطان.. الزوجة الضحية.. لماذا وثقت به وسمعت كلامه.. فترد عليه لأني أحسست بعذابك فأنت محروق الوجه معاق.. وأنا معاقة مثلك.. أحسست بالكثير من التعاطف معك.. وأحببتك.

موقف شديد الإنسانية سيدفع بهذا الرجل الذي يفترض أن لا قلب له علي إعطاء الزوجين فرصة أخيرة رغم ثقته بأن القدر المرسوم عليهما لا يمكن تجاوزه مهما كانت الوسيلة.

فيلم أمريكي يستخدم التقنيات الأمريكية المبهرة ليصور عالم ما بعد الموت.. وسكانه دون أن يبتعد عن الخط الفكري الأوروبي الذي اقتبس منه موضوعه، وهو بذلك يقدم تنويعة جديدة لهذا النوع من الأفلام ترضي العين والعقل معاً.

ولكن يبقي السؤال الملح بعد الخروج من هذا الفيلم الذي يستحق المشاهدة حقاً.. ما كان يضر السيد »ماتيسون« مؤلف القصة أن يشير إلي الأصل الاسباني الذي اقتبس منه فكرته الأصلية.. فيحقق بذلك التواصل الثقافي المتكامل الذي نسعي كلنا إليه.

أخبار النجوم المصرية في

28/01/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)