حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«سمعان بالضيعة» .. فيلم لبناني ترك الصورة تتكلم

احمد طمليه

أن تشاهد فيلما لمخرج مبدع فهذا يعني أن تشاطر المخرج شيئا من الإبداع ، بحيث لا تقتصر مشاهدتك على حدود ما تنطق به الصورة ، بل أن تتخيل ما وراء ذلك ، وان تستنطق الفيلم بالتالي ، على النحو الذي ترتئيه ، وان كان هذا "النحو" الذي تراءى لك يقتصر عليك ، أي لا يشاركك به أحد ، فهنا تكمن لذة المتابعة ، وجمالية التفرد بالرؤية التي ما تلبث أن تضفي على الفيلم أبعادا وقيما جديدة.

والفيلم اللبناني "سمعان بالضيعة" للمخرج سيمون الهبر الذي عرضته لجنة السينما في مؤسسة عبدالحميد شومان ، مؤخرا ، يكشف عن طاقات إبداعية خاصة لمخرجه ، ذلك انه يفسح المجال للمشاهد أن يتفرد بالصورة التي تتراءى له أثناء المشاهدة ، والخروج بالتالي بانطباعات ليس بالضرورة أن تكون متطابقة مع انطباعات الآخرين.

يتحدث الفيلم عن قرية لبنانية مدمرة ومهجورة تدعى "عين الحلزون" هجرها سكانها جراء الحرب ولم يبق بها إلا سمعان. والفيلم كما اعتبره المخرج من الأفلام "الوثائقية الإبداعية" ، أي انه ليس بالفيلم الوثائقي البحت ، وليس أيضا بالفيلم الروائي البحت ، بل انه مزيج من هذا وذاك. وبحسب رأي المخرج فإن هذه الصيغة هي الأفضل بالنسبة إليه كي يعبر عن أفكاره ويترجم موضوعـه. ويـرى "أن الناس قادرون على التمثل بالشخص الحقيقي الذي يمارس حياته أمامنا ويظهر على الشاشة على طبيعته اكثر من الممثل". وحول الرؤيا التي التمسها المخرج في فيلمه يقول: "ما أقدمه ليس ريبورتاجا تلفزيونيا كي اقدم الرأي والرأي الآخر ، لكنني أصور وجهة نظر شخصية. وعلى صعيد أوسع ، أصور المجتمع اللبناني. هو مجتمع ممنوع عليه أن يتكلم عن الحرب ، هدمت ضيعنا وجعلتنا نعيش فيها بمحاذاة بعض وليس مع بعض ، كي لا نهدد السلم الأهلي ، ثم أقنعونا بأن ننسى من دون أن تطمس آثار الحرب الجسدية أو النفسية ، والأهم ، من دون أن يكون هناك خطة اجتماعية لمعالجة تبعاتها وعودة هؤلاء المهجرين".

ّْْاشجار تبكي

يستعرض الفيلم حياة سمعان الذي ترك المدينة (بيروت) بعد أن ضاق ذرعاً بصخب المدينة وزيفها ، وعاد إلى الضيعة المهجورة ، ليعيش مع أبقاره وحصانه وحيواناته الأليفة ومنها يقتات ، وقد نشأت بينه وبين محيطه علاقات حميمة ، إذ نراه في المشهد الأول يتحدث إلى قطته ، ثم يطلق أسماء على أبقاره ، ويدعو الحصان في إحدى الأماسي لان يدخن سيجارة ويشرب فنجان قهوة ، ولا ينسى أن يتغنى بصوت العصفور ، وفي النتيجة تشعر أن البطولة جماعية تشارك فيها الأشجار والأرض والمطر والحيوانات ، إضافة إلى سمعان. بل أن سمعان يأخذ دورا ثانويا إذا ما قورن بالدور الذي تأخذه الأبقار ، حيوانات صامتة تنعم علينا بخيراتها دون كلل أو ملل ، وتطمح للطمأنينة بعيدا عن الرصاص الطائش في سماء الضيعة الهادئة. وسمعان يأخذ دورا هامشيا إذا ما قورن بأغصان الأشجار المبللة بحبات المطر ، وكيف تتساقط قطرات المطر عن أغصان الشجر قطرة.. قطرة ، أو بالأحرى دمعة.. دمعة ، لقد بدت الأشجار وكأنها تبكي ، تبكي الحرب التي هجّرت السكان وتركتها وحيدة: هل تبكي الأشجار فعلا؟ في هذا الفيلم تبكي الأشجار بالفعل، وقد يصبح سمعان بلا دور في مشهد الحصان وهو يركض جامحا صوب البيت.. بيته. وحتما يُلغى دور سمعان في المشهد الأخير الذي بدت فيه الأرض وكأنها ترقص على أنغام الأغنية التي اختتم بها الفيلم ويقول مطلعها "حسدونا العالم حسدونا على ضيعتنا حسدونا".

الحرب هجّرت السكان ، والحق ، كما شهد اكثر من شاهد على اليهود ، غير أن الحروب الأهلية أفرزت سمومها ، وظـل السؤال مكبوتا في الصدر: من دمر الضيعة؟ إنها الحرب. كانت شهورا صعبة على السكان قبل أن يختاروا الرحيل أو الهروب إلى المدينة ، تاركين الأرض لرب العباد ، ولا يعود إليها إلا من عشق رائحة ترابها ، فيعود ، فقط جيل الثمانينات الذي شهد الحرب ، يعود متوكأ على جراحه في محاولة ترميم ما تبقى له من حلم. وهو يعرف أن علاقته بالا رض وبالضيعة بقيت مقرونة به وبمن تبقى من أبناء جيله ، أما الأجيال التالية فإن "الضيعة" ليست واردة في قاموسها.

هذا ما يقوله أحدهم: عندما يموت جيلنا ينتهي كل شيء وتقلب الصفحة ، ويقول: كنا زمان نأكل من صحن واحد ، كان ثمة حب ، أما اليوم فلا أحد يأكل مع أحد ، لا يوجد حب. لا يوجد ممالحة.. ويضحك عندما ينطق بكلمته الأخيرة "ممالحة" متمتما بكلمات: بعد قليل لن يفهم أحد معنى لهذه الكلمة".

ظظظتجليات المكان...ظظظ

فيلم "سمعان بالضيعة" هو فيلم مكان ، وليس فيلم أشخاص ، فيلم يمجد من بقي صامدا في مكانه ولم يتزحزح ، وهي الأرض التي بقيت شامخة في مكانها بكل زهو حضورها ، أما البقية فهم عابرون ، وقع خطوات على إسفلت الشارع ، ففي نظرة الشاب العسكري الذي وقف لبرهة في الخندق الذي تمترس فيه ردحا من الزمن يقارع الأعداء ، أسى وحسرة ، بل فيها هزيمة: ما كان يجب أن يغادر خندقه ، هذا ربما ما قصد أن يقوله وكاميرا المخرج مسلطة عليه تسأله عن ذكرياته في هذا المكان ، فاكفتى بتلك النظرة ، وربما كان ثمة شهقة في الصدر ، وغصة في الحلق لم يعلن عنها ولكن عين الكاميرا كشفتها.

يبقى أن فيلم "سمعان بالضيعة" من اكثر الأفلام العربية التسجيلية الطويلة نجاحا منذ سنوات طويلة سواء من حيث ردود فعل المشاهدين الإيجابية عليه ، أو من حيث حصده للجوائز الرئيسة في معظم المهرجانات العربية والعالمية التي شارك في مسابقاتها.

تكمن أهمية الفيلم في قدرة المخرج على ترك الصورة تتكلم ، فلا حبكة بالمعنى الفعلي ، ولا فكرة مرصودة للفيلم مع سبق الإصرار والترصد ، بل ثمة صورة ، وعلى المشاهد أن يتخيل. والصورة واقعية ، وتبدو احيانا عادية ، ولكن ثمة ما تنذر به ، أو تبشر به ، فثمة مشاهد نتابع فيها "سمعان" وهو يعد قهوته ، ويشربها مع سيجارة ، أو سمعان وهو يحلق ذقنه ، أو يقود سيارته ، أو حين يستضيف أقاربه من المدينة ويعدون جميعاً وجبة غداء يتقدمها "الفتوش".

الصور عادية ، وثمة إمعان في تبسيطها ، ورغم ذلك ثمة ما تنطق به ، لعلها تقول أن الحياة جميلة ببساطتها ، وأن على هذه الأرض من يريد أن يعيش ، لو تنزاح الضغائن وتطمئن النفوس ، كي يتاح للعصافير أن تغرد ، وللأشجار أن تحلق ، وللأرض أن ترقص ، ولسمعان أن يقتات من عرق جبينه ، وان يحقق أحلامه الصغيرة ، وأن ينام ليله الطويل.

الدستور الأردنية في

08/01/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)