حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

نجاحات

فلسفة الدراما في سينما نجيب محفوظ: المرأة ملاك الرحمة وشيطان الرغبة

كمال القاضي/ القاهرة ـ 'القدس العربي'

 

كنا قد تناولنا في السابق خصائص سينما أدب نجيب محفوظ واشرنا الى التنويعات التي قدمها المخرجون في إطار توظيف الأفكار والقضايا وما حفلت به الرواية المحفوظية من أجواء شعبية وإنسانية، حيث استفادت السينما أيما استفادة من الرصد الواقعي للحارة المصرية عبر عصور مختلفة واغتنمت الفرصة لكي تنهل من المادة الروائية الخصبة فجعلت من كل عنوان روائي فيلما ضمنت خلاله الحواديت والشخصيات والدلالات والصور الرمزية فسيرة الفتوات في رواية 'الحرافيش' وحدها نسج منها ما يقرب من خمسة أفلام كان أهمها 'التوت والنبوت' و'الحرافيش' وكلها منحت فرص البطولة للعديد من الممثلين وخلقت تنافسا حقيقيا بين كتاب السيناريو والمخرجين، اذ اجتهد كل كاتب ومخرج في تقديم الفتوة من وجهة نظره مع مراعاة الحفاظ على السياق الدرامي المستخلص أساسا من رؤية نجيب محفوظ الإبداعية، ولم تكن 'الحرافيش' هي الرواية الوحيدة التي احتلت الصدارة في السينما، وانما حظيت روايات أخرى بنفس المكانة ليس بفعل جائزة نوبل وتأثيرها العالمي فحسب ولكن لأهميتها الأدبية في المقام الأول، فهناك مثلا رواية 'القاهرة 30' و'الكرنك' و'اللص والكلاب' والثلاثية (بين القصرين، وقصر الشوق والسكرية) وتلك هي الأكثر ذيوعا وشهرة من بين ما قدمته السينما لأديب نوبل سنعود للحديث عنها لاحقا، غير ان هناك رواية 'قلب الليل' و'السراب' و'الشحاذ' و'ميرامار' و'ثرثرة فوق النيل' و'المرايا' فكلها نماذج شكلت ثراء ضخما في رصيد الأفلام المصرية.

فإذا كانت الروايات المذكورة قد تم تحويلها سينمائيا بالكامل فإن رواية 'المرايا' وحدها اقتبس منها أساطين السيناريو لفيلمين مهمين هما 'خلي بالك من زوزو' و'أميرة حبي انا' للمخرج الكبير حسن الإمام الذي صاغ الثلاثية صياغة فنية بديعة برغم ما أخذ على الأفلام الثلاثة من الانحياز الى البعد التجاري على حساب المضمون.

فالمرأة بصفة خاصــة كانت هي مصدر هذا الإتهام لكونها كانت الأكثر تحرراً وإباحية والعلامة الدالة على ازدواجية البطل السيد أحمد عبد الجواد (سي السيد) فهذا الرجل الجبروت ليس به من نقاط الضعف الا ولعه بالمرأة وبالتحديد ما يختلف من النساء عن زوجته أمينة، السيدة المطيعة الساذجة التي يفرض عليها سياجاً محكماً من الخوف والرهبة ويحبسها داخل قمقم واسع يطلق عليه بيت العائلة تمارس فيه كل أشكال الضبط والربط، بينما يسعى الرجل بين مناكبها باحثا عن الملذات والشهوات بين أحضان الراقصات والعوالم، فالمرأة كما قدمها الأديب الكبير ليس نموذجا واحدا مفطورا على الفضيلة والطاعة كأمينة أو مجبولا على الانحراف والانحلال كفتيات الليل، زنوبة وزبيدة العالمة، وهي ذاتها الإزدواجية التي اراد محفوظ التأكيد على وجودها داخل الطرفين، الرجل والمرأة فهو لا يستثني أحداً من العيوب ولا ينحاز لطرف دون الآخر، ذلك ان كل إنسان قابل لأن يمسه شيطان الرغبة فيتحول ليصبح كائنا ملغزا ظاهره عكس باطنه وهي الحكمة من المجون الدلالي الذي تاجرت به السينما في شباك التذاكر لتخفف من جدية الأدب وجفافه فيستساغ كسلعة فنية لها من شروط التجارة ما للسلع الأخرى، وأتصور ان هذه الثنائية في المقارنة بين أمينة وزبيدة على سبيل المثال كانت بمثابة تلخيص لطبيعة المرأة التي تتأرجح بين معنيين وكيانين متناقضين، ملاك الرحمة وشيطان الرغبة، والتي يحتمل وجود ثالث بينهما تمثله شخصيات ثانوية معتدلة هي في الغالب غير مؤثرة في الأحداث الدرامية او الواقعية، لذا لم يتم التركيز عليها ولكنها خلقت لكي تدعم الشخصيات الرئيسية، وتلك هي الفكرة الكلية التي ربما تكون قد وردت عرضا في رواية 'الشحاذ'، حيث البطل عمر الحمزاوي يظل طوال الأحداث باحثا عن إجابة لسؤال واحد ينطوي على الجدوى الحقيقية من وجود الإنسان على وجه الأرض وأهمية دوره كمخلوق ضعيف لا يمتلك من أمره شيئا يتحدد مصيره وفق معطيات كونية أكبر من ان يبدي رأيا فيها، وكذلك في فيلم 'ثرثرة فوق النيل 'المأخوذ عن الرواية نفسها يعمل نجيب محفوظ إسقاطاته على هزيمة 67 منطلقا من نفس الأزمة الكلية، فالهزيمة ليست في الإخفاق العسكري أمام العدو وإنما في العجز عن فهم القضايا الكبرى التي تؤدي الى مثل هذه الانتكاسات على أصعدة مختلفة ويتكرر نفس السؤال الحائر في رواية 'قلب الليل' التي أخرجها للسينما الراحل عاطف الطيب اذ نلحظ معاناة بطل الفيلم نور الشريف الممزق بين أحلامه ورغباته وبين الموروث الديني الذي تربى عليه في بيت الجد الأكبر فريد شوقي ونراه ينزع الى الحرية ويهفو الى الخروج من سجن التقاليد فهو المعذب بهوايته وحبه للغناء والطرب، بيد ان الحصار المفروض عليه لا يسمح له بمخالطة أهل 'المغنى'، فالاقتراب من هذا العالم هو رجس من عمل الشيطان، مما يضطره الى الهروب الى رحابة الكون الفسيح ليكون بصحبة صديقه شكرون 'محمود الجندي' وهناك يجد ضالته ولكنه أبدا لم يحقق مبتغاه فالموهبة لا تسعفه ليكون واحدا من نجوم الغناء اللامعين فدوره لا يزيد على كونه نفرا من الكورال يردد وراء المطرب الرئيسي وهو المتمرد الطامح في مكانة أعلى و في دور أكثر أهمية .. وهكذا يواجه جعفر الراوي مصيرا مؤلما وتفضي به الأسئلة الى الجنون لأن أحدا لا يملك الإجابة ولا يقوى على تحدي القدر . محنة الأشواق والأشواك في أدب محفوظ نقلتها السينما الى وعي الجمهور فتشكلت ذهنية البحث الدائم عن المتميز، وهي السنة الحسنة لسينما الأدباء التي احتل نجيب محفوظ صدارتها وتربع على قمتها فبات رمزا لجيل كامل من الروائيين والسينمائيين على حد سواء فمثلما امتلك الرجل ناصية الأدب الروائي، امتلكت السينما ،كفن إبداعي مواز ،امتياز التعبير الضوئي بالصورة فجعلت الرواية الأدبية في متناول الجميع ومحت الأمية الثقافية أو كادت تمحوها.

القس العربي في

07/01/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)