حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الغموض الشعري في السينما

عدنان مدانات

في الفن حالات لا يفهمها المتلقي، لكنه يؤخذ بها، يطرب المرء لأغنية دون أن يصغي لكلماتها، ولهذا يظل سر تأثير الفن في الإنسان حقلا لدراسات واجتهادات متنوعة تستنجد بفروع العلوم الإنسانية، مع ذلك يظل السر سرا عصيا على الكشف.

لهذا، على سبيل المثال، يقال عند العجز عن تفسير غموض بعض الشعر، إن المعنى في بطن الشاعر ، وهذا أمر يمكن فهمه بسبب من طبيعة الشعر واعتماده على الصور المجازية التي قد يتشكل بعضها في لاوعي الشاعر أو نتيجة مشاعر غامضة تتجسد في لحظة إلهام بواسطة كلمات هي في الأصل ذات طبيعة تجريدية، فتصبح تلك الصور المجازية عصية على التحليل والتفسير، مع أنها رغم ذلك قد تفعل فعلها الممتع والمؤثر في نفس القارئ المتلقي.

كما في الشعر، هناك في السينما أفلام فيها غموض في المعاني، لكن السينما تختلف عن الشعر، فالصورة السينمائية ليست تجريدية، بل هي صورة ذات مرجعية واقعية، وهي صورة مطابقة لأصلها الواقعي توصف بأنها صورة أيقونية ، ولهذا السبب تتسم الأفلام عموما بالوضوح، خصوصا أن كتابة النص الأدبي ومن ثم تصوير السيناريو، وبعد ذلك تركيب المشاهد في داخل الفيلم بواسطة المونتاج، عمليات لا تعتمد على لحظة إلهام، بل على جهد واع، والوضوح الذي يؤدي إلى الفهم لا الغموض، هو ما يطلبه المتفرجون من الفيلم، وهو شرط من شروط المتعة أو اكتمال المتعة.

مع ذلك، يحدث أن تتضمن الأفلام لقطات أو مشاهد تتسم بالغموض، فلا يفهمها المتفرج المتلقي، في حين أن الفيلم بمجمله سهل الاستيعاب والمتابعة. ليس المقصود بالغموض هنا بنية القصة وطريقة سرد أحداثها، فهذا النوع من الغموض يحدث في غالبية الأحيان نتيجة ضعف في الكتابة. المقصود هو لقطات أو مشاهد يستخدمها المخرج كلازمة أو كفواصل، فلا يدرك المتفرجون سبب وجودها.

هذه المشاهد أو اللقطات الغامضة، في حالة الفيلم الذي لا يتحلى مخرجه بالموهبة الكافية، قد تربك المتفرجين بدلا من أن تؤثر فيهم أو توقظ عواطفهم، لأنها تعصى على التحليل والتفسير. بالمقابل تشتمل أفلام يحققها مخرجون موهوبون وتتضمن قدرا كبيرا من جمال الشكل وعمق المضمون، على نماذج من هذا النوع من المشاهد العصية على التحليل، لكنها رغم ذلك قد تبهر المتفرجين وتستفز طاقاتهم التحليلية والتخيلية، فينطبق عليها ما ينطبق على الشعر الذي لا يقلل ما قد يكون فيه من غموض من قيمة ما فيه من روعة، كما ينطبق على اللوحة التشكيلية التجريدية التي يحار المتفرج في تفسير مضمونها، لكنه يستسلم لجمال ألوانها.

يسحر الفيلم الكوري الربيع، الصيف، الخريف، الشتاء، ثم الربيع مشاهديه بجمال الطبيعة في المكان الذي اختاره مسرحا لأحداث فيلمه، وهو بحيرة وسط مرتفعات جبلية معزولة عن العالم، وفيها يطفو منزل بسيط يقطنه ناسك يتعلم على يديه طفل صغير.

في هذا الفيلم، تنهض بوابة خشبية، بوابة لا جدران تسندها أو تبرر وجودها، لكنها موجودة وسط الماء قرب الشاطئ، فيمر عبرها الناسك بقاربه، ويظل سبب وجودها غامضا، لكن ما يثير الخيال والأسئلة بشكل خاص في الفيلم لقطات تتكرر لأفعى تزحف داخل المنزل بهدوء دون أن تمس أحدا من ساكنيه ثم تنسحب بالهدوء نفسه، وهي لقطات تحس بتأثيرها، لكن لا يستطيع للمرء تفسيرها، ولن يجد لها مرجعية في التراث الكوري إن حاول البحث عن دلالاتها.

ثمة تفسيرات كثيرة محتملة لوجود مشاهد غامضة الدلالة في أفلام واضحة الحكاية والمضمون ومبهرة فنيا. منها ما يتعلق بسوء تقدير من المخرج، إذ يستخدم رموزا يظن أنها ستكون واضحة المعنى للآخرين، فقط لأنها واضحة في ذهنه؛ ومنها أيضا استخدام المخرج صورا ذات مرجعية تتعلق بثقافة وطنية ما، لكنها غير معروفة في ثقافات أخرى. أما التفسير الذي يعنينا هنا فهو الحالة التي يستخدم فيها المخرج مشاهد ولقطات تكونت صورها في ذهنه بفعل وحي خفي ولم يستطع منها فكاكا، وفي مثل هذه الحالة لا يعصى التفسير على المتفرج المتلقي وحده، ولا على الناقد المتخصص حتى، بل كذلك على مخرج الفيلم نفسه.

يحكي المخرج الإسباني السوريالي لويس بونويل في مذكراته عن مشهد من هذا النوع في فيلمه حسناء النهار : من بين جميع الأسئلة عديمة الأهمية التي توجه لي حول أفلامي، هناك سؤال يتردد بكثير من الإلحاح، يتعلق بعلبة صغيرة يحملها معه زبون آسيوي في أحد المواخير، يفتحها، يري الفتيات ما تحويه (و لا نراه نحن)، فتتراجع الفتيات، وهن يصرخن برعب. لا أدري كم من المرات سئلت، وخصوصا من النساء: ماذا يوجد في هذه العلبة؟، وبما أنني لا أعرف، فإن الجواب الوحيد الممكن هو: ما تريدينه .

ويتضمن الفيلم الأخير لبونويل المعنون هذا الغرض الغامض للرغبة ، وهو الفيلم شديد الوضوح، مشهدا غامضا هو الأخير في الفيلم، نرى فيه امرأة ترفو تمزقا في قطعة دانتيلا، وهو مشهد ليس من سياق الفيلم، كثيرا ما سأله النقاد عن دلالته، وكان بونويل يعجز عن الإجابة. يروي بونويل حكاية هذا المشهد في مذكراته: في المشهد الأخير، حيث كانت يد امرأة ترفو بعناية تمزقا في دانتيلا ملطخة بالدم، وهي آخر لقطة صورتها في حياتي، كنت منفعلا بشكل لم أستطع أن أفهمه، وهو ما سيبقى غامضا إلى الأبد.

في هذا النوع من الأفلام، التي يتصرف المخرج في بعض تفاصيلها بعفوية الشاعر، يصبح مبررا تحوير القول الشائع المعنى في بطن الشاعر ، لتحل كلمة المخرج محل كلمة الشاعر ، فتصبح العبارة: المعنى في بطن المخرج ، أو بتعبير أدق وأكثر صحة: المعنى في بطن المخرج الشاعر .

الرأي الأردنية في

01/01/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)