حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الفيلم الفائز في دبي: "زنديق" لميشيل خليفي

المأزق الوجودي للبطل الفلسطيني المهزوم

أمير العمري

حصل فيلم "زنديق" للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي (الذاكرة الخصبة، عرس الجليل، نشيد الحجر، حكاية الجواهر الثلاث) على جائزة المهر العربي لأحسن فيلم في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بمهرجان دبي السينمائي السادس.

هناك بعض التفاصيل الدقيقة في فيلم "زنديق" تذكرنا، على نحو ما، بفيلم "نظرة عوليس" (1995) للمخرج اليوناني الشهير ثيو أنجلوبولوس منها أن بطل الفيلم عند أنجلوبولوس مخرج سينمائي يحمل اسم "ألف"، وهو الحرف الأول من الأبجدية ويرمز إلى أنجلوبولوس نفسه. هذا البطل يعود إلى بلدته بعد غياب أكثر من 20 سنة، للبحث عن فيلم قديم صوره الأخوان ماناكيس، هو أول فيلم صور في منطقة البلقان، وذلك رغبة منه في العثور على جذوره الثقافية من خلال رحلة "أوديسية" تمتليء بالرموز والإشارات.

أما بطل فيلم "زنديق" فهو يحمل اسم "ميم"، أي الحرف الأول من اسم ميشيل خليفي نفسه، وهو مثل بطل أنجلوبولوس، مخرج سينمائي يعود إلى بلده بعد سنوات طويلة قضاها في المهجر الأوروبي، (من دولة تتحدث الفرنسية لابد أن تكون بلجيكا التي يقيم فيها خليفي) إلى رام الله في فلسطين. ولكن ليس للبحث عن فيلم قديم يقتفي فيه آثار تاريخ بلاده، بل لكي يفتش، باستخدام كاميرا الفيديو الرقمية الصغيرة، في الذاكرة الفلسطينية التي ترتبط بجيل النكبة، جيل 1948، بحثا في تاريخ تلك الكارثة التي ألقت ولاتزال تلقي، بظلالها القاسية على الواقع الفلسطيني بأسره، في محاولة للفهم: لماذا حدث ما حدث، وكيف كان ذلك ممكنا، ومن المسؤول، وما الطريق إلى الخلاص.. وهل هناك خلاص أصلا!

غير أن التشابه الكائن بين "نظرة عوليس" و"زنديق"، ينتهي مع دخول بطلنا "ميم" (يقوم بالدور الممثل الكبير محمد بكري) إلى دائرة "وجودية" شبه مغلقة. صحيح أنه يرغب في المعرفة، معرفة ما كان وكيف أصبح هو على ما أصبح عليه، لكن هناك أيضا نفسا "وجوديا" يشيع في هذا الفيلم، يجسد من خلاله خليفي، مأزق العائد بعد غياب، الباحث عن حقائق ربما ظل الجميع يتجنبون الخوض فيها من قبل، دون أن يكون هو استثناء.

يدور الفيلم كله في ليلة واحدة، يبحث خلالها البطل عن مأوى.. أولا في كنف منزل أسرته، لكنه يتلقى خبرا مفاده أن ابن شقيقه قتل رجلا، ويتعين عليه بالتالي، أن يهرب لكي لا يصبح هدفا للثأر من جانب أسرة القتيل، وهو ما يحدث بالفعل، فسرعان ما تحضر مجموعة من المسلحين يحاصرون منزل الأسرة بينما يتمكن "ميم" من الفرار بسيارته، ويظل يبحث بعد ذلك، عن مكان يأويه، في فندق من فنادق المدينة، ولكن كل جهوده ومحاولاته تبوء بالفشل، فهم يتشككون فيه، كونه الغريب القادم من الخارج، الذي لا يعرفون ماذا يحمل معه من مشاكل لمدينة تعيش في حالة رعب من داخلها ومن خارجها، من واقع تنتشر فيه عمليات العنف والجريمة والثأر، واحتلال يخيم على أطرافها، ويتحكم في طرقها، وأمان غائب، ووسائل اساسية للحياة جفت أو أصحبت شبه منعدمة (انقطاع الماء تماما).

وعندما يحاول بطلنا العودة إلى منزل أسرته، يجد نفسه مطاردا مرة أخرى، من قبل الأشقياء الذين يحاولون النيل من حياته، فينتهي إلى داخل سيارته، لكنه لا يصبح حتى بمامن هنا، فسرعان ما يجد نفسه محل شك من جانب عصابات تحتجز أطفالا قدموا من غزة تحت وطاة الظروف الحياتية الشاقة، بحثا عن أي عمل، فيقعون فريسة لتلك العصابات التي تستولي على اعضائهم الداخلية بعد إجراء عمليات جراحية لانتزاع تلك الأعضاء والمتاجرة بها.

هذا الواقع الخانق الذي تبدو كل أبوابه أمام البطل- اللابطل، أو النموذج السينمائي الجديد للفلسطيني التائه، الباحث عن انتماء في واقع جديد- قديم، بعد اغتراب طويل في الخارج، يتعمق الإحساس بالاختناق فيه عندما يصبح البطل المهزوم، أو النقيض، أو اللابطل أو anti-hero فريسة لذكرياته الشخصية، تحاصره وتضيق عليه: قصة حبه الذي لم يكتمل مع فتاته الجميلة التي يعكس وجهها البراءة الإنسانية (نراها دائما في لقطات ناصعة الإضاءة، كما لو كانت قادمة من عالم الأحلام).. وهي تلعب هنا دور الضمير المعذب للبطل.

وينبع هذا العذاب النفسي من كون هذا البطل المغترب حتى داخل وطنه، تقلب في علاقاته العاطفية والجسدية مع نساء، منهن بطلات لأفلامه التي لا نعرف عنها شيئا، وبينهن حتى فتاة إسرائيلية، ينغمس معها في مغامرة جسدية، ونراه يقبلها قبلة طويلة تقول له بعدها: إنها تلك المرة الأولى التي تقبل فيها فلسطينيا!

خياناته المتعددة لحبيبته، تدفعها تارة إلى صفعه أمام امرأة أخرى داخل مطعم، ثم تهجره كما نرى في المشهد الافتتاحي من الفيلم بينما هو يطاردها ويتعقبها بسيارته.

البناء في الفيلم مركب، يقوم على التداعيات الحرة، والانتقال بين الماضي والحاضر، وبين طبقات مختلفة، فهو ينتقل من الواقع الذي يبدو أقرب إلى عالم الاحلام بل والكوابيس أيضا، إلى استدعاء الذاكرة والتفتيش في داخلها، إلى محاولة العثور على حقيقة ما وقع في الماضي، في فلسطين، من خلال كاميرا الفيديو التي تساهم أيضا، على نحو ما، في تكثيف إحساسنا باغتراب البطل عن واقعه: فالكاميرا تعزله تماما عن المحيط، ويصبح بحثه عن "الحقيقة" مرتبطا بإطار صغير هو إطار الصورة كما يراها من منظور الكاميرا الصغير.

وهو يسعى إلى دفع أقاربه: والدته وعمه وجيرانه، إلى الحديث عن الماضي، عما كان، وعما إذا كانوا مسؤولين، على نحو ما، عما حل من كارثة بالبلاد، أو عن تلك النظرة الأخرى، من الخارج، التي تحاسب أولئك الذين بقوا في الداخل الفلسطيني، بعد أن أصبح الوجود الإسرائيلي حقيقة خانقة، تساهم في زيادة "التغريب" و"الاغتراب".

ولا نعرف متى تمت هذه المقابلات: هل تمت في الزمن المضارع أم في الماضي، أم أنها تداعيات في ذهن البطل، وليس من المهم أن يتضح الزمن، فالفيلم اساسا، يقوم على التلاعب بالزمن، وبالحدث، بحيث يستدرج المتفرج للولوج إلى "متاهة" لا تنتهي، فلقاءات البطل مع أمه تتداعى في مشاهد من نوع "الفلاش باك"، ويطرح "ميم" الكثير من التساؤلات التي لا يحصل أبدا على إجابات لها: لماذا لم تقولوا لنا ماذا حدث؟ أين الخطأ فيما مررتم به في حياتكم؟ لماذا لم يطردوكم؟ لماذا بقيتم ولم تنزحوا مع النازحين؟ هل هناك عيب فيما حدث، أي في بقائكم؟

هذه التساؤلات المعذبة التي يطرحها البطل على أمه، تعكس العذاب الخاص الذي يشعر به جيل ما بعد النكبة إزاء وضعه ووضع أسرته في الداخل، خلف ما يسمى بالخط الأخضر.

هذه اللحظات التي تعكس نوعا من "التيه" والاغتراب، وتكثف تمزق الشخصية الرئيسية وحيرتها وشعورها الثقيل بالذنب حينا، وبالرغبة في العثور على وضوح في الرؤية حينا آخر، خاصة وأن هذه الشخصية هي المعادل السينمائي لمؤلف الفيلم ومخرجه، هي التي تجعل هذا الفيلم أحد أشجع الأفلام التي صنعها سينمائي فلسطيني تعبيرا عن فكرة نقد الذات، دون أن تغفل أبدا، عن التعرض للاحتلال ولو بطريقة غير مباشرة، تبتعد عن القوالب النمطية المعتادة: إنه فيلم حداثي من الطراز الأول يعتمد على الوجود المباشر للمؤلف- المخرج، وعلى الذاكرة، ووحدة الأسلوب، والتساؤلات الذهنية. إنه فيلم الحساب الشخصي، والتعبير عن فوضى الضمير الذاتي: فوضى العلاقات المبعثرة، والانتماء الذي من الصحيح أنه لم ينقطع ابدا، إلا أنه يدفع صاحبه اليوم، بعد كل تلك الغربة في الخارج، إلى تلك الرغبة التي تبدو مستحيلة، في اختصار عشرات السنين من الذاكرة، في لحظة يقوم بتسجيلها بكاميرا تبدو كما لو كانت لعبة يلهو بها، وهو ما يكثف أكثر فأكثر، اغترابه وعبثية محاولته!

إن نسيج هذا الفيلم يقع في المساحة الرمادية بين العقل والعاطفة، وبين الذاتي والموضوعي، وبين الواقعي والخيالي: الخيالي المستمد من الواقعي، والذاكرة التي لا تريد أن تعود، والإلحاح في البحث عن مكان للاحتماء في واقع غريب رغم أنه قريب.

إن محاولات البطل- المهزوم باستمرار، العثور على مكان يأويه في مدينة لم تعد ترغب في التعرف عليه، ربما عقابا له على فراره منها، وفوزه بالعيش في مجتمع آخر منبت الصلة بما يحدث في فلسطين، وما يتعرض له سكانها طوال عقود، ربما يختصر لنا تلك الحالة "الذهنية" الخاصة- العامة، التي يشعر بها مثقف فلسطيني، تعذبه الاسئلة، ويعذبه أيضا، الشعور بالذنب.

هناك مطاردات تدور في الشوارع الضيقة بالمدينة، التي تبدو كما لو كانت نوعا من "المتاهة" ببلاط أرضياتها، وارصفتها الملتوية، ومنحنياتها الصاعدة والهابطة والتي لا تؤدي إلى شيء والتي تضيق خناقها على البطل، وتدفعه للعودة مجددا إلى منزل أسرته الذي لا يتمكن أبدا من البقاء فيه كما لو كان قد حكم عليه، شأنه شأن البطل الإغريقي الحائر سيزيف، بأن يظل يقطع طريقا لا يؤدي أبدا إلى الراحة في نهايته. لقد اصبح هناك واقع جديد: عدد من المجندات الإسرائيليات يقمن باحتلال فندق من فنادق المدينة مع أصدقائهن الضباط، يوصدن بابه ويتحصن خلفه، بينما هو لا يتمكن من العثور على مكان له، وعندما يتساءل حول معنى "الاحتلال" في العبرية تقول له الفتاة الإسرائيلية التي اقام معها علاقة عابرة، ربما اثناء تصوير أحد افلامه، إن كلمة احتلال- وياللمفارقة- غير موجودة في اللغة العبرية بل هناك الكلمة اللاتينية الأصل colonialism. يدعوه صوت والدته.. صوت الانتماء الاسري، إلى الالتفات لنفسه والابتعاد عن تلك العلاقات المحرمة مع بطلات أفلامه، أي العودة إلى الفضيلة بعد أن انحرف إلى طريق الإغواء بالمعنى الديني المباشر.

ولعل هذا "العذاب" الأرضي الذي يبدو وكأنه قد حل بالشخصية، والذي يشيع في الفيلم طولا وعرضا، هذا العالم المسدود دائما، يدفع البطل إلى مزيد من التمرد والرفض لقيم مستقرة. وأحيانا مقدسة وعندما يهرب إلى خيالاته الخاصة، يقوم بحرق الصليب ضمن أشياء أخرى تنتمي إلى الماضي، ربما إلى طفولته: لقد أصبح "زنديقا" بمعنى الكلمة!

لكنه لايزال يحاول أن يكون فاعلا في محيطه: فهو يقوم بانقاذ فتى فلسطيني من عصابة بيع الأعضاء، وتهريبه قبل أن ينتزعونه منه انتزاعا، في حين أنه عاجز عن إنقاذ نفسه من المأزق الذي يجد نفسه فيه: مازق العجز عن الانتماء للواقع الذي أصبح غريبا عليه واغترب هو عنه طويلا.

في المشهد الأخير من الفيلم، تتبدى له فتاته الحلوة ذات الوجه الصبوح، تمشي في ثياب العرس، علىسطح مياه البحيرة، تشير له بيدها أن يقترب، أن يلحق بها. يتجه هو صوب البحيرة، وفي اللقطة الأخيرة، نرى جسدا يغرق في الماء: هل هي الفتاة تعود إلى أعماق البحيرة من حيث أتت، أم أنه جسد صاحبنا الذي يفضل في النهاية الغرق في الخيال للابتعاد عن الواقع، كما لو كان يبحث عن التواؤم مع الصدق والبراءة، يتطهر بالماء، ويحقق خلاصه بالغرق مع الصورة الجميلة للبراءة!

إن ميشيل خليفي في "زنديق"، لولا بعض الاستطرادات الزائدة، تمكن من صنع عمل سينمائي كبير كان يمكن ان يصبح تحفة حقيقية، وعملا من أعمال الفن الرفيع، غير ان المشكلة الأساسية هنا تتمثل في عدم ملائمة الممثل محمد بكري للشخصية الرئيسية، رغم كل ما بذله من جهد كبير في الأداء.

الجزيرة الوثائقية في

23/12/2009

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)