حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

يبعث على الضحك المرير في اشد المواقف ايلاما 'الزمن الباقي':

تحفة فنية مشغولة بتميز

زهرة مرعي/ بيروت

ضحك مر يصدره مشاهد فيلم 'الزمن الباقي' للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان بين مشهد وآخر. مرارة تجتاح دون شك كل متفرج على هذا الشريط الذي يعتصر بين طرفيه مأساة 60 سنة عاشها ولا يزال الشعب الفلسطيني. تصدر الضحكة دونما إستعداد أو دعوة لها للحضور. حتى في أشد المواقف إيلاماً تنبعث الضحكة لا سيما عندما يحضر مسؤول إسرائيلي إلى مدرسة عربية ليمنح جوقتها وساماً على حسن آدائها للنشيد الإسرائيلي، بمن فيهم إيليا سليمان 'الطفل'!

'الزمن الباقي' الذي يمتد لساعة و45 دقيقة شكل الفيلم العربي الوحيد الذي إحتفى به مهرجان السينما الأوروبية القائم حالياً في بيروت وعرض بحضور مخرجه. فيلم لقي ترحيباً وتصفيقاً حاراً من جمهور مختار عبر دعوات خاصة وذلك قبل إطلاقه في الصالات اللبنانية في 17 الجاري. وقبل وصوله إلى بيروت كان 'الزمن المتبقي' قد جال على مهرجانات عالمية عدة منها 'كان،تورنتو، لندن' وكذلك عرض في مهرجان السينما في أبو ظبي، وفي كل تلك الأمكنة كان إعتراف بأنه يشكل منعطفاً حقيقياً في السينما العربية ويؤكد مسيرة مخرجه.

صاحب 'سجل إختفاء' و'يد إلهية' يطل هذه المرة على منتظريه ليؤكد أنه على الدوام يُكسب تجربته السينمائية مزيداً من العمق، وأنه يتقن لعبة تكثيف الزمن وتظهيره بشكل جلي جداً دونما حاجة إلى التأريخ. ستون سنة من عمر النكبة الفلسطينية يجمعها إيليا سليمان بطواعية سينمائية مبهرة في 'الزمن الباقي' عبر جمعه ثلاثة أجيال من عائلته هم على التوالي جدته ووالده وهو. هذه الأجيال الثلاثة التي عاشت في فلسطين كانت على الدوام تناضل لمنع الإندثار الذي تحاول فرضه سلطات الإحتلال على الهوية الفلسطينية.

المسار التهكمي القاتم الذي يعتمده سليمان يبدأ من لحظة إنطلاق الفيلم في مساراته الأولى حيث بدا عائداً في سيارة تاكسي إلى الناصرة عبر مطار تل أبيب. وفي الطريق تهب عاصفة تكون مبعثاً لإستعادة شريط الذكريات التي عاشها في فلسطين أو التي يعرفها منذ النكبة في سنة 1948. يظهر سليمان الجنود الصهاينة وهم يحتلون مدينته الناصرة. ورغم مرارة الموقف فهو يضمنه الكثير من التهكم الأسود. مثلاً عندما يعتمر الصهاينة الكوفيات العربية الحمراء ويعتقدهم السكان من المقاتلين العرب، وتبدأ المرأة بـ'الزغردة 'ورش الأرز يسارع الصهيوني لضربها برصاصة تودي بحياتها. ويليه مشهد ملاحقة الطائرة الصهيونية مراراً وتكراراً لسيارة رئيس البلدية وهو في طريقه لتوقيع وثيقة إستسلام الناصرة. أما المشهد المكرر لمرتين ضمن الفيلم وهو الذي يتلقى فيه إيليا سليمان توبيخاً من الناظر لأنه تجرأ على القول بأن أمريكا إمبريالية داخل الصف والناظر يردد على مسمعه 'هادا حكي ما بينحكاش'. صمت إيليا سليمان الرجل هو نفسه صمت إيليا سليمان الطفل الناقم على عمته المُدرسة أولغا والتي يرمي بالطعام الذي يأتي به من عندها في سلة المهملات لموقف أتخذه منها عندما علّمتهم النشيد الإسرائيلي لينشدوه أمام المسؤول.

في مسار بدايات الفيلم يظهر بعض أهل الناصرة ومنهم فؤاد والد إيليا سليمان يجلسون في ساحة البلدة عندما يمر بهم أحد جنود جيش الإنقاذ وهو على عجلة من أمره، فيسألون عن مقصده. وفي كل مرة يسمي فيها مكاناً ليقصده من أجل الحرب يكون قد سقط. هذا الجندي يظهر بصورة كاريكاتورية لدرجة مضحكة كدلالة على موقف المخرج من هذا الجيش ودوره غير المجدي في فلسطين. ومن ساحة الناصرة كذلك نسمع صبياً يبيع الصحف 'الوطن بشيكل وكل العرب ببلاش'. يطلب فؤاد جريدة الوطن ويأتيه الرد 'بطل في وطن ظل كل العرب'. وهو كذلك مشهد بالصوت والصورة يجسد قتامة الماضي والحاضر الذي لا يزال يحاصر القضية الفلسطينية.

وفي ذروة الأنتفاضة يخرج الشاب ليرمي بكيس النفايات على مرأى ومسمع الميركافا الإسرائيلية، وإذا بمدفعها يلاحقة ذات اليمين وذات اليسار، وعندما يتلقى إتصالاً هاتفياً ويبدأ بالكلام وهو يسير في كافة الإتجاهات، يثابر مدفع الدبابة على نشاطه في رصد الهدف البشري المتحرك.

في زمنه 'الباقي' يقدم لنا إيليا سليمان محيطه وجيرانه وبخاصة 'عوض' الذي دأب على رمي الكاز على نفسه وعلى الكبريتة معاً فيفشل في إشعال ذاته، ويأتي فؤاد مراراً وتكراراً لمسك الكبريت منه وأخذه بيده إلى منزله، وعوض يلعن 'ها الحياة'. وفي أوقات زهوه مع كأس العرق يتمنى عوض لو شرب العرب العرق لكانوا إنتصروا من زمان! وفي مثل تلك المشاهد بدا سليمان مشغول بتفاصيل الحياة فقدمها مكثفة ومعبرة من مشهد عوض إلى مشهد المعلمة التي تقدم لتلامذتها فيلماً أمريكياً، وعندما يقبل الحبيب حبيبته تسارع لتقول:'هادا أخوها يا بنات'. وفي مثل هذا المشهد تجسيد مكثف لكافة الأمور السياسية والأجتماعية والتربوية التي تقدم للمواطن العربي مشوهة وبعيدة عن حقيقتها الساطعة.

يمر إيليا سليمان في شريطه على رحيل عبد الناصر وقدوم السادات، ويصل إلى الإنتفاضة الأولى والثانية. ومن ثم بناء الجدار حيث يكون في زيارة إلى الضفة الغربية ولا يستطيع العودة وإذا به يستعمل العصا الطويل الذي يستعمله الرياضيون ليقفز فوق الجدار. هي لوحة حقيقية صامتة وتعبيرية.

في سيرته الذاتية 'الزمن الباقي' يفقد إيليا سليمان والده ويأتي بمرأة أجنبية لترعى والدته. هذه الممرضة الأجنبية تدخلها بدورها في نسيج دورة سليمان الدموية التي يغلب عليها التوصيف الكاريكاتوري للأشياء.

يظهر إيليا سليمان في سيرته تلك في صمت الجبال تاركاً للنظرات أن تقول ما هو ضروري. هو كذلك ظهر على الصورة نفسها في سجل إختفاء ومن ثم في يد إلهية. يظهر بالغاً وناضجاً ليؤكد على ذكريات ذلك الطفل التي تشبع بمنطق البشر من حوله والذين أصروا على البقاء في أرضهم متمسكين بهويتهم.

سليمان الذي شغل نصه ومشهدياته تماماً كما تُشغل المنمنمات جاء ضجيج الصمت في فيلمه أبلغ من كافة الخطابات التي قيلت بفلسطين ولفلسطين. تلك المنمنمات التي تكون منها فيلم إيليا سليمان هي نسيج الأرواح التي شكلت ذلك الإعتصار الدامي لجموع الناس الذين عايشوا ولا يزالون يعايشون هموم سنوات النكبة الستين.

لقد أتقن إيليا سليمان كافة الوظائف المطلوبة منه كمخرج مسؤول كلياً عن عمله فوصلنا 'الزمن الباقي' تحفة فنية مشغولة بتميز. مخرج لم يترك لناقد عربي أو غربي أن يذكره سوى بالإفتتان لتعبيره البليغ ولعينه التي ترى ما خلف المسافات الزمنية.

القدس العربي في

12/12/2009

 

صورة ميلودرامية في ذكراها الثالثة:

ماجدة الخطيب.. الرحيل بعد 'زيارة' نجيب محفوظ الأخيرة!

كمال القاضي/ القاهرة

كانت تحمل أوجاعها وتتنقل بين بلاتوهات التصوير بخبرة فنانة كبيرة تعرف كيف تخبىء ملامح الهزيمة والمرض وتكسب المرارة طعما مغايرا وترسم صورة لامرأة مختلفة تتصدر المشهد وتستقبل الأضواء بقلب فرح غير ذلك القلب المكلوم بالأحزان المشبع بالألم، هي نفسها ماجدة الخطيب التي تحل ذكراها الثالثة في كانون الاول/ديسمبر الحالي، إبنة الحظ وصاحبة الوجه البشوش والضحكة الصافية. خمسون عاما عاشتها تحت المجهر، تحيطها الكاميرات ويلتف حولها المعجبون وتتنفس هواء الشهرة وتستأنس بالأصدقاء والمحبين، عاشت أيام الانطلاق وخنقتها عتمة السجن ووحدة الزنزانة وصلف السجان.

كانت حياتها خليطا من المونودراما والكوميديا السوداء فهي تدرك حجم موهبتها وتستنكر الظلم الواقع عليها في صمت، فالفنانة المرموقة صارت في نظر البعض آثمة غير مسؤولة فالقتل الخطأ عذر غير مقبول في ثقافة المجتمع الشرقي والفن لا يكفر عن خطايا أصحابه، طاردتها هذه القناعة لسنوات تعاظمت فيها أحاسيس الغبن والنوم والنكران وظلت تقاوم الإنطواء وتفك طوق العزلة وتتحدى اغترابها وهمومها، إلى أن تجاوزت محنتها وخرجت من جديد لتواجه عالمها السحري وتتبوأ مكانتها كنجمة تأبى أن تعيش في الظل وتصر على استئناف نشاطها والعودة الى خشبة المسرح واستديوهات السينما والتليفزيون.

زرفت دموعها الساخنة وهي تصعد سلم مسرح السلام لأول مرة بعد غيابها الطويل، ثم سرعان ما تحولت بوجهها لتلوح للمعجبين الواقفين على رصيف شارع قصر العيني المواجه لبوابة المسرح، وحين اشتعل التصفيق وارتفعت صيحات المحيين رفعت كلتا يديها عاليا وهي تنظر ناحيتهم بإمتنان، حينئذ شعرت ماجدة الخطيب بالصفح فردت التحية بأحسن منها وألقت ببعض الزهور في إنتشاء وثقة، صورة لا تتكرر كثيرا ولكنها تشي بسر دفين يربط بين الفنان وجمهوره يوثق العلاقة التي تنامت على مدى سنوات، ماجدة عطر شيني لا يزال شذاه يملأ الأرجاء وينشر رائحته الذكية كلما أطلت علينا الفنانة عبر الشاشتين الصغيرة والكبيرة فهي إبنة الثورة وربيبة النضال ضد الانفتاح الاقتصادي واتفاقية العار 'كامب ديفيد' وواحدة من الكوادر الاشتراكية في التنظيمات السرية والمعلنة، أحبت الزعيم جمال عبدالناصر ورأته أباً لكل المصريين والعرب وحارساً للبوابة الشرقية، لم تعترف بالسلام الموشى بالدم، المنزوع من سياقه السياسي وظلت على إيمانها بالميثاق ومبدأ ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، هكذا كان الجانب الخفي في حياتها، لم تشأ أن تتاجر به وبقيت في عيون الكثيرين مجرد فنانة تدور بين رحى التألق والإخفاق وترضى بنصيبها من الأدوار حسب توظيفها الدرامي وترتيبها بين النجوم، فتارة تقتنص أدوار البطولة وتارة تقنع بالدور الثاني فلم تنشغل بالمساحات المطولة ولا كتابة إسمها على 'الأفيش'، وإنما اعتنت فقط بمضمون ماتقدمه وثراء الشخصية التي تؤديها، فقد غلب عليها أدوار التنوع والتباين خلال مسيرتها الفنية المديدة وإنتاجها الغزير الذي يقارب من خمسين فيلماً تنوعت بتنوع الكتابة والإخراج والأداء، ففي فيلم 'دلال المصرية' أول بطولة سينمائية لها حصلت على الجائزة الذهبية كأحسن ممثلة عام 96 ثم توالت الجوائز وشهادات التقدير، ربما يأتي أبرزها الجائزة التي حصلت عليها عن دورها في فيلم 'تفاحة' للمخرج رأفت الميهي وجائزة الإبداع الفني عن آخر أعمالها فيلم 'الزيارة' قصة نجيب محفوظ وإخراج عز الدين سعيد، ولهذا الفيلم خصوصية ليس لأنه المحطة الأخيرة في مشوار العمر فحسب، وإنما لكونه عملا فارقا أيضا بالنسبة لها ونبوءة بموتها فقد فرضت الأحداث أن تكون البطلة قعيدة وطريحة الفراش لا تقوى على الحركة وهو تماثل قوي لحالتها الأخيرة واستقراء لواقع مرير واجهته ماجدة الخطيب في الأيام السابقة لرحيلها، والفيلم يطرح رؤية فلسفية لمعنى الحياة ويبلور جانبا رئيسيا في ذات الإنسان الذي يمتلك كل مظاهر الثراء والرفاهية ويفتقر للحنان والمودة ويتم التعامل معه بوصفه عبئا ثقيلا ينتظر إزاحته من الورثة الطامعين المتربصين بعمره إذا ما امتنعت يده عن العطاء وفقد تأثيره وصار جثة هامدة يملؤها الهواء ليس إلا، فيما تتحرك الأحداث من حوله وترتكب الجرائم وتحاك المؤامرات وهو غارق في غيبوبته مسلماً جوارحه للخالق العظيم بعدما كان في زمانه سلطانا يأمر فيطاع، يجثو تحت أقدامه الخدام والمنتفعون وأصحاب المصالح، أجواء كابوسية ينقلها السيناريست مكاوي سعيد عن القصة الحقيقية ويرسمها في مشاهد شديدة البؤس والتأثير ليعبر عنها المخرج عز الدين سعيد المشارك في كتابة السيناريو أيضا بشكل إنساني يتجاوز حدود الألم وينقلنا إلى حيز التأمل فنرى تلك الوحدة الموحشة المفروضة على البطلة وصاحبتها 'إيناس مكي' وكأنها قدر يقرر إرادته للجمع بين الضدين تحت سقف واحد بموجب قانون النفعية وتبادل الاحتياجات والاغراض، فبينما تقوم الشخصية الثانية على خدمة البطلة الكسيحة نلمح نفورا واضحا في ملامح الشخصيتين يزيد عليه التمرد والرغبة العارمة لدى الطرفين في التحرر من سجن الآخر، غير أن الحاجة تجبر كليهما على قبول الوضع الراهن بكل ما يعتريه من أزمات وقيود قد تصل في تأثيرها الضمني الى حد الأسر، ويظل التفاهم متصاعدا حتى نقطة الذروة فتعلن القائمة على خدمة صديقتها أو سيدتها، حيث تتساوى الصفتان في السياق التراجيدي المطروح، تمردها بكل قوة يصاحبها نشيج وعويل من السيدة المريضة ومؤثرات ضوئية وصوتية يعملها المخرج كأدوات للتوظيف تستهدف إشعار المشاهد بفداحة الحالة واستحالة الحياة القسرية بين الضدين، أدت الفنانة الراحلة دورها كما لم تؤد من قبل فقد تلبستها حالة الأعياء وخيم عليها شبح الموت الحقيقي في أكثر من مشهد حتى أنها أعطت إيحاء بالخروج عن النص المكتوب من فرط تقمصها للخشصية وتعايشها الكامل مع الدور، لم يكن ذلك بتأثير الأحداث أو الحالة المونودرامية وإنما جاء بتداعي المخزون المتراكم في ثنايا شعور ماجدة الخطيب وإحساسها الفعلي بدنو الأجل واقتراب الموت منها، لا سيما أنها لم تلبث أن تنتهي من تمثيل الفيلم حتى دخلت دوامة المرض واحتلت مكانها فوق السرير الأبيض بغرفة الإنعاش الى أن أسلمت الروح كإنما لعبت بنفسها 'بروفة' موتها!

ليس غريبا أن ترتبط ماجدة بهاجس العزلة في أكثر من عمل سينمائي وأن تحمل عناوين أفلامها 'حكمت المحكمة أمهات في المنفى معسكر البنات شيء في صدري بيت الطالبات مسافر بلا طريق دورية نص الليل الهروب من الخانكة المرأة والقانون البيت الملعون' شيئا من هذا المعنى فقد عاشت حياتها كلها ترنو الى الحرية وتطمح في تحطيم القيود وعبور الأسوار بعيدا عن اللغط وتفاديا لسوء الحظ.

رحم الله ماجدة الخطيب في ذكراها الثالثة.

القدس العربي في

12/12/2009

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)