حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

رؤية خاصة..

رأيت الشمس

رفيق الصبان

واحدة من أكبر الهفوات التي ارتكبتها لجنة تحكيم الأفلام الروائية الطويلة في مهرجان القاهرة السينمائي الأخير.. هو تجاهل الفيلم التركي البديع (رأيت الشمس) الذي يعالج مشكلة من أهم المشاكل الاجتماعية التي تتعرض لها الدولة التركية خلال السنوات الأخيرة.. وأعني المشكلة الكردية وتوابعها وآثارها النفسية والأخلاقية والاجتماعية علي المجتمع التركي بأسره.

في هذه المرحلة الذهبية التي تمر بها السينما التركية اليوم.. والأمجاد السينمائية التي تحققها في جميع المحافل والمهرجانات الدولية.. من خلال مجموعة من المخرجين الشبان قرروا ان يرفعوا راية حرية التعبير وان يتجاوزوا جميع الخطوط الحمراء القاسية التي كانت تفرضها الرقابة التركية خلال الحقبة الماضية كلها.

فيلم واحد.. قديم الي حد ما وقدم هذا الموضوع بأسلوب شعري أخاذ.. كان فيلم الطريق (يول) الذي اخرجه الشاعر والمخرج التركي العظيم بلمزجونيه وهو يقضي فترة سجنه الطويل في أحد معتقلات اسطمبول.. واستطاع ان يعطي مساعده آنذاك جميع التعليمات لاخراج هذا الفيلم كما كان يحلم ويتمني.. وهكذا خرج علينا الفيلم.. واستطاع عشاق ومحبو فن (جونيه) ان يهربوا النسخة الأصلية منه الي أوروبا. حيث لحق في آخر لحظة فعاليات مهرجان كان السينمائي.. واستطاع ان يفوز بجائزة السعفة الذهبية الكبري.

حدث فريد من نوعه.. لا أظنه قابل لان يتكرر بعد ذلك مع أي مخرج وفي أي بلد آخر ولكن هاهو المخرج الشاب محسن كوفيركول يظهر ليستفيد من مناخ الحرية السائد والمسيطر علي السينما التركية هذه الأيام.. ويستغل هذا المناخ لتقديم رائعته السينمائية التي اضاءت في مهرجان القاهرة.. ورشحته لتكون واحدا من الأفلام الأجنبية الستة المختارة لمسابقة اوسكار أحسن فيلم أجنبي لعام ٩٠٠٢.

لا أدري حقا.. كيف فاتت كل هذه الأمور علي أعضاء لجنة تحكيم مهرجاننا السينمائي.. بالاضافة الي تجاهلهم التام للمميزات الكثيرة التي صاحبت هذا الفيلم.. فالموسيقي المدهشة والتوليفة (المونتاج) الذكي والاداء العبقري لمجموعة الأطفال.. خصوصا الطفلة المعاقة اتي اقنعت الجميع بانها معاقة حقا وليست طفلة صغيرة تؤدي هذا الدور الصعب والمعقد والطافح بالانسانية والشجن.

عن ماذا يتحدث اذن. هذا الفيلم البديع؟؟

الأحداث تبدأ في قرية كردية في جنوب الأناضول.. قرية صغيرة تحيا فيها عدة اسر متجاورة منها أسرة رجل انجب أربع بنات وزوجته حامل.. يطلب من ربه بدعاء مستغيث ان يمنحه الولد الذكر الذي يحلم به والذي سيحمل عنه عبء العائلة الصغيرة وهناك أخيه أيضا الذي انجب ولدا ذكرا.. رقيق الحاشية.. ناعم المظهر.. يحب دائما تقليد الممثلات بعفوية وخفة دم جعلته محبوبا من القرية كلها.. وأخ ثالث يحلم منذ زمن بالسفر بعيدا عن بلدته المليئة بالمشاكل والتي لاتفتأ الدولة تعاقبها وتلاحقها من دون سبب.. سوي كونها قرية كردية ناشزة انه يحلم بالسفر ليعثر علي الأمان.. وليستطيع مساعدة ابنه الذي فقد ساقه.. ويعيش علي ساق واحدة عله يجد في هذه البلاد الغريبة من يشفيه أو يجد له علاجا.

وتبدأ الأزمة عندما تكتشف السلطات.. ان عددا من شباب القرية.. ينتمون الي جماعة ارهابية مناضلة.. فيأتي الأمر من اسطمبول.. بازالة القرية من الوجود.. وترحيل سكانها الي العاصمة.

ومن هذه اللحظة.. تبدأ مأساة الرحيل.. ومواجهة سكان هذه القرية الآمنة الصغيرة بكل وحشية وقسوة ولا انسانية المدن الكبري.

أحد الأشقاء الثلاثة ينجح في السفر إلي النرويج مع ابنه المريض واسرته.. بينما يبقي الأخوان في المدينة التي يسمم دخانها الأسود حياتهم كلها.

الفتي الناعم الرقيق.. يكتشف ميوله الجنسية الخفية.. وينظر بدهشة الي هؤلاء (الرجال) الذين حولتهم رغباتهم الخفية الي نساء.. ويندفع دون وعي الي مصاحبة (احدهم) الذي يقنعه بهجر العائلة.. وارتداء ثياب السيدات.. انتهاء بممارسة الدعارة الذكورية في الشوارع وفي الحمامات المخصصة لهذا الغرض.. والتي انتشرت بكثرة في أحياء اسطمبول الجديدة.

بينما يتسبب جهل البنات الصغيرات.. وعدم معرفتهن (بالمزايا الحضارية) التي توفرها المدينة كالغسالات الاوتوماتيكية.. والبتاجازات الحديثة والتليفزيونات الملونة.. يتسبب ذلك في (قتل) أخيهن الصغير.. بوضعه في الغسالة الاوتوماتيكية لكي يغتسل.. مع انعدام رقابة الأم المريضة في المستشفي ووجود الأب في عمله.

وتؤدي هذه الكارثة.. الي تدخل الدولة.. وحرمان الأسرة من بناتها لعدم قدرتها علي تربيتهن بكفاءة.. وايداعهن مصحة للايتام.. بما في ذلك الطفلة المعاقة.

وفي مشهد لاينسي.. تأخذ أجهزة الشرطة البنات الأربع.. تاركة الأم في صراخها والأب في حرمانه.

ويكتشف الأعمام.. انحراف ابنهم اللطيف.. ودخوله دائرة الدعارة الذكورية.. فيقررون البحث عنه وقتله.. وفي جولة طويلة في الحمامات المشبوهة، يتعذر عليهم العثور عليه بين آلاف الشباب الذين يلعبون دور النساء. ولكن الفتي يقرر تسليم نفسه لأقربائه وليقتل عند الجسر الكبير الشهير الذي يفصل به تركيا الشرق وتركيا الغرب.. يقتل وهو ينظر باسما الي الشمس التي تغيب.

واذا كان الفيلم يقدم نفحة أمل عندما يعود الشقيق الثالث من النرويج حاملا معه أبنه الشاب الذي حصل علي ساق اصطناعية. فان احداث الفيلم كلها تغرق في شجن نبيل حزين.. وآهة محروقة صادرة من أعماق القلب.

لقد تسللت المدينة الملوثة.. الي النفس البريئة.. فسمحتها وانقذتها نضارتها الأولية.. وجعلنا من سكانها سوقا مشوهة.. تنعي ماضي افلت منها.. ومستقبل لا قدرة لها علي اللحاق به.

لا اريد أن أفصل واذكر المشاهد الرائعة التي تكتم الأنفاس والتي امتلأ بها الفيلم.. ولا الموسيقي المعبرة أو التصوير المثقف. ولكني اقف مذهولا امام جرأة السيناريو في اقتحام جميع الخطوط الحمراء التي اعتادت الرقابة التركية ان تضعها امام ابداع ابنائها السينمائيين.

تهجير الاكراد المتعسف.. الحرية الجنسية المكشوفة في بلد ديني متزمت قسوة قلوب الحكام تجاه مواطنين ابرياء.. لا ذنب لهم في التشريد الذي يتعرضون له.. الا هذه المعاملة اللاانسانية التي يواجهونها.. حتي لو كانت المعاملة في مصحة الايتام رقيقة ومهذبة ولكنها لاتمنع.. انها حرمت الأسرة من بناتها دون وجه حق.

ونبقي أمام الأداء أخيرا.. والذي وصل الي مرحلة كبيرة من الجودة والاقناع.

الفتي الناعم.. (الذي رشح في المسابقات التركية المحلية لجائزة أحسن ممثل) ومصيره القاتم المأساوي.. وابتسامته الأخيرة.. المليئة بالشجن والألم.. تجاه الشمس التي تشرق..

أو اداء البنات الأربع خصوصا الأبنة المعاقة.. أو نظرات الأم الملتاعة بعد موت ابنها الوحيد.. (وتلعب الدور واحدة من اقدر الممثلات التركيات وأكثرهن شهرة).

كل شيء في هذا الفيلم يستدعي الاعجاب.. جرأته البالغة.. تكنيكه الفني.. اداء ممثليه.. نجاح مخرجه في خلق الأجواء الملائمة.. سواء الريفية أو اجواء اسطمبول المختلفة و قدرة هذا المخرج علي العزف علي اوتار القلب البشري ببراعة واتقان تثيران الدهشة والأعجاب.

فيلم يجمع كل ما احببناه ونحبه في سينما شابة تبحث عن طريقها وعن أسلوب لها.. وعن كان مميز علي خارطة السينما المعاصرة.

ومع ذلك.. تغمض لجنة التحكيم عينها عنه.. وتبحث في اجواء اخري.. وفي أفلام اخري.. عما يناسبها لتمنحه جوائزها.

هل هو اهمال.. ام تعسف.. ام اختلاف في وجهات النظر..؟

 لا أحد حقا يعرف أي رياح خفية حركت سفينة التحكيم في آخر مهرجان سينمائي كبير شهدته القاهرة هذا العام.

أخبار النجوم المصرية في

03/12/2009

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)