تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

5 دقائق معذورة في فيلم سيمون الهبر

حين تتكلم الرقابة بالنيابة عن كل الطوائف

نديم جرجوره

على الرغم من القرار الصادر عن جهاز الرقابة على المصنّفات الفنية، التابع لـ «المديرية العامة للأمن العام»، القاضي باقتطاع خمس دقائق من الفيلم الوثائقي «سمعان بالضيعة» للمخرج اللبناني سيمون الهبر (بدأت عروضه التجارية في صالة سينما «متروبوليس/ أمبير صوفيل» في الأشرفية، أمس الأول الخميس)، فإن اثنين وخمسين مُشاهداً جاؤوا الصالة المذكورة في اليوم الأول فقط، رغبةً منهم في مُشاهدة صنيع سينمائي جمع البراعة الفنية والإبداعية إلى نصّ درامي استعاد أحد الفصول الدموية العنيفة في الذاكرة اللبنانية، في قالب سينمائي جميل؛ أو بسبب حشرية ما في التعرّف على عمل أقدمت الرقابة اللبنانية على تشويه جزء أساسي منه، لأن اقتــطاع دقيــقة واحدة من نتاج فني أو نصّ ثقـافي، يتمــتّعان بلغة إبداعية سليمة، لا يختلف إطلاقاً عن اقتطاع ملايين الدقائق، بهدف إخضاع المُشاهد السينمائي ومُتابع شؤون الثقافة السجالية والإبداع الفني للتقوقع في عزلات قاتلة.

هناك اثنان وخمسون مُشَاهداً توافدوا إلى الصالة في اليوم الأول. لن أُسقط على أي واحد منهم تفسيرات وتنظيرات قد تكون خاصّة بي، لأنهم جاؤوا الصالة لأسباب متعلّقة بهم. لكن الصورة الظاهرة على الأقلّ عكست أمراً آخر، أفاد أنهم، بمشاهدتهم الفيلم في اليوم الأول، أحدثوا اختراقاً مهمّاً لقرار ظلاميّ، لأن اقتطاع مشاهد مرفوضٌ كلّياً. فهم، باختيارهم مشاهدة فيــلم وثائقي يُعرض في صالة تجارية، أرادوا المشاركة في تفعيل هذه الظاهــرة المهمّة التي أحدثتها إدارة «متروبوليـس» في خطّتها المتعلّقة بالبرمجة السينمائية القاضية بعرض أفلام سينمائية جدّية، أياً كان نوعها أو شكلها السينمائي. وهم، بمجيئهم إلى الصالة نفسـها غداة صدور قرار الرقابة هذا، بدوا كأنهم يتحدّون سياسة المنع والقمع المعتمدة لدى السلطة إزاء مواضيع متعلّقة بالتنقــيب الفردي والذاتي في الذاكرة وآلامها، وفي الوجع وتداعياته، وفي البؤس الناتج من حقبة المرارات القذرة إلى حالة الاسترخاء البشع إزاء كل شيء، من بين أمور مهمّة وجدّية أخرى. والحجّة التي استعان قرار الرقابة بها، لاقتطاع خمس دقائق من فيلم يبحث في الذاكرة الفردية المنفتحة على الجماعة، باطلة، لأنها لا تستند إلى منطق أو قاعدة قانونية أو نصّ قضائي أو أخلاقي أو اجتماعي، باستثناء «المنطق الطوائفي» المتفق عليه من قبل الأطــراف المتناحرة في ما بينها.

لكن، إذا ارتكز المراقب اللبناني على سند قانوني أو قضائي ما (مع أن سنداً كهذا غير موجود في نصوص قضائية واضحة وصريحة)، فإن المنطق الأخلاقي والاجتماعي يُفترض به أن يُحرّض الجميع على ولوج هذه «المحرّمات»، للبحث عنها وتفكيكها وإعادة صوغها بما يتلاءم والرغبة الحقيقية في الاغتسال من عار الماضي، مهما كان عار الماضي أليماً وبشعاً؛ ومهما كان الاغتسال قاسياً وجارحاً، فهو لن يبلغ قسوة الجريمة المرتكبة بحقّ اللبنانيين جميعهم في تلك الحقبات السوداء الفائتة، وهي قسوة أفضت إلى جرح لن يندمل إذا لم تُطرح الأسئلة كلّها المتعلّقة بهذا الماضي الأليم، والسعي إلى الإجابة عليها؛ وإذا استمرّ منطق الرقابة قائماً.

النعرات

أما الحجّة الباطلة، فمثيرة للضحك والسخرية، لأنها قالت إن مضمون المشاهد المقتطعة في الدقائق الخمس تلك «تثير النعرات الطائفية والدينية» (ألمحت إحدى شخصيات الفيلم إلى أن الحزب التقدّمي الاشتراكي هجّر المسيحيين أثناء حرب الجبل، بإشارتها إلى أن انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجبل في النصف الأول من الثمانينيات المنــصرمة «أعطى الضوء الأخضر للاشتراكيين للهـجوم علينا»، أي على المسيحيين). كأن ما جرى منذ اغتيال رفيق الحريري مثلاً (كي لا أعود إلى الأعوام كلّها التي تلت النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية مطلع التسعينيات المنصرمة) لا يمتّ بأدنى صلة إلى إثارة النعرات الطائفية والدينية، وإلى إشعال «حروب» مذهبية وعائلية وعشائرية ضيّقة. أو كأن الحروب الأهلية الجديدة هذه، المنتقلة بين الأحياء والزواريب اللبنانية المشرّعة على التزامات خارجية معروفة، تدور في كوكب آخر.

لم تكن المرّة الأولى التي تــشهد قراراً رقابياً كهذا. ولعلّها لن تكون المرّة الأخيرة أيضاً. فعشية صدور القرار المتعلّق بـ «سمعان بالضيعة»، منعت الرقابة اللبنانية نفسها عرض فيلمين اثنين للإيطالي باولو بينيفينوتي «بحجّة إساءتهما إلى الكنيسة»، والفيلم الفرنسي «غناء المتزوّجات» لكارن آلبو، لتوغّله في شؤون العلاقات الإنسانية القائمة بين المسلمين واليهود في تونس أثناء الحرب العالمية الثانية، وذلك في إطار الدورة التاسعة لـ «مهرجان بيروت الدولي للسينما»، التي اختُتمت مساء الأربعاء الفائت، بفوز الفيلم الفرنسي هذا بجائزة أفضل فيلم روائي طويل، على الرغم من منع عرضه الجماهيري.

وهذا كلّه يؤدّي إلى المطــالبة بضرورة العمل الجدّي والميداني على وضـع تشريعات قضائية ملزمة، تحرّر الإبداع اللبناني من أي رقابة أمنية أو دينية أو اجتماعية أو ثقافية، وتحميه من أي تسلّط طائفي.

السفير اللبنانية في

17/10/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)