تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

بابل.. مجزرة الصدف المدبرة

ممدوح رزق

ما هي العلاقة المحتملة التي يمكن أن تربط بين القصص الآتية :

أحد الرعاة بالمغرب يشتري بندقية من راع آخر مسن ويعطيها لولديه كي يقتلا بها الثعالب التي تهدد أغنامهم .. سائحة أمريكية تصاب بطلقة أثناء مرور الحافلة التي تستقلها برفقة زوجها وسياح آخرين.. فتاة يابانية صماء تعذبها بلادة الآخرين وتجاهلهم لمشاعرها الأمر الذي يدفعها لتسول الحب .. مربية مكسيكية ترعى طفلين أمريكيين تضطرها الظروف لاصطحابهما معها إلى المكسيك لحضور زفاف ابنها لكنها تتعرض لصدام مع حرس الحدود الأمريكيين عند عودتها ؟

هل يمكن حقا أن تكون العلاقة هي أن الذي أهدى البندقية للراعي المسن هو والد الفتاة اليابانية بعد أن عمل كمرافق له في رحلة صيد وأن الطفلين اللذين كانت المربية المكسيكية ترعاهما هما طفلا السائحين الأمريكيين اللذين كانا يستقلان الحافلة أثناء رحلتهما داخل المغرب وأن الطلقة التي أصابت الزوجة أطلقها أحد ولدي الراعي المغربي حينما قررا اختبار المدى الذي يمكن أن تصل إليه طلقات البندقية ؟

من الممكن أن تكون هذه هي العلاقة بالفعل باعتبار أنه يمكننا تحديد الأسباب المنطقية التي تربط بين الأحداث ورصد المبررات الكامنة في كل قصة التي تسمح لقصة أخرى أن تخلق على أساسها .. لكنني أتصور أننا نحتاج للاكتفاء بالعلاقة السببية المباشرة حينما نكون إزاء مجموعة من الشخصيات والأحداث التي تتفاعل لإنتاج قصة .. ماذا لو كان هذا التفاعل يتم بين قصص ؟ .. قصص تنتج قدرا أو مصيرا مشتركا ؟ .. هنا الأسباب المنطقية لا تعد أسبابً في حد ذاتها بقدر ما هي حيل سحرية غامضة ومرعبة بمنتهى الإحكام للدرجة التي ترسخ للعجز الإنساني عن إدراك أي نجاح في فهمها .. الأسباب هنا تواطوء خارق من المهارات الإعجازية للغيب .. بشكل أدق للحكمة المجهولة المختبئة في هذا الغيب كي تراقب وتتحكم في الزمن والبشر وتنفذ مشروعها الملغز بكفاءة كاملة وبحصانة لا تخدش ضد أي استيعاب لحقيقة قدراتها ومقاصدها .. الأسباب المنطقية التي تربط بين القصص ليست أسبابً بقدر ما هي مفاجآت سيئة للإمعان في تعذيب ضعفك الشخصي المدعوم بفشلك التام في الإمساك بأي معرفة أو يقين ثابت داخل فوضى العالم المحسوبة والمنظمة بقوانين ومعادلات خفية .

لكل قصة في فيلم ( بابل ) استقلاليتها وحبكتها الدرامية الخاصة وأيضا النهاية التي تفصلها عن النهايات الأخرى : الشرطة المغربية التي تعاملت مع حادث إطلاق النار باعتباره عملا إرهابيا تطارد الراعي وابنيه وتقتل الولد الأكبر .. السائحة الأمريكية ( كيت بلانشيه ) تعالج في قرية غاية في البوءس والفقر على يد طبيب بيطري قام بخياطة جرحها دون مخدر حتى نجح زوجها ( براد بيت ) في الحصول على مساعدة السفارة الأمريكية لنقلها إلى المستشفى .. الفتاة اليابانية الصماء يمنحها للحظات ضابط ياباني شاب التعاطف والاحتواء أثناء عمله المكلف به للتوصل إلى علاقة والدها بالبندقية التي استخدمت في الحادث .. المربية المكسيكية تجبرها السلطات على الرحيل من الولايات المتحدة الأمريكية بعد اكتشاف اقامتها غير الشرعية لسنوات طويلة .

مخرج الفيلم ( إليخاندرو غونزاليس ) يخبرك إذن أنه مهما كانت قصتك مستقلة وتمتلك حبكتها الدرامية الخاصة ولها نهايتها المنفصلة عن النهايات الأخرى فهي تظل دائما مأساة تنتمي إلى نفس القدر وتصل إلى نفس المصير .. أنت في جميع الأحوال غريب عن المكان وعن البشر وعن نفسك .. أنت دائما مرفوض على مستوى اللغة والثقافة والوعي بالعالم .. عاجز عن التواصل ويساء فهمك مثلما تسيء فهم الآخرين .. لا يوجد أحد ولا يوجد شيء يضمن لك المساعدة أوالحماية من الأحكام القدرية المخبوءة التي اتخذت ضدك .. أنت أحد المحاصرين داخل أسطورة ( بابل ) الكونية التي تعيش حية في روحك .. أسطورة العهد القديم التي تحكي عن الرب الذي بلبل ألسنة البشر حينما كانوا شعبا واحدا يتكلم بلسان واحد وقرروا تشييد برج يصل بهم إلى السماء فأصبحوا غير قادرين بعد هذه البلبلة على فهم بعضهم البعض ومن ثم فقدوا القدرة على إكمال البرج .. إذن الجميع ليسوا إلا غرباء .. الغربة هي القوة الغليظة الخانقة والعنيفة التي تحرك حياتك في مسارات الوجود المعقدة دون أن تترك أي فرصة للهرب لأن القرار ببساطة ليس في يدك .. ليست الغربة فحسب .. أيضا العبث المراوغ المبرمج بخبث على الأذى والذي يتحكم بوعي وحشي غير مدرك في الدنيا ويجعل أي فعل في أي مكان من أي أحد مهما كان عاديا وعابرا وضئيلا للغاية يحدد ويقرر الحياة والموت لبشر آخرين في مكان آخر بعيد جدا .. في ( بابل ) لا توجد أسباب ونتائج في حضورها التقليدي المباشر .. هنا أي سبب يصلح لأي نتيجة بل وفي حقيقة الأمر فإن كافة الأسباب هي نتائج بالأساس وكذلك النتائج هي أسباب لنتائج أخرى وجميعها تعيش حالة أزلية من الصراع والتصادم الأشبه بالفوران الذي لا يهدأ لكونه يبدو مكلفا بمهمة ما .

بالطبع يمكن تناول الفيلم من أكثر من منظور وأكثر من رؤية : هاجس ما يسمى بالإرهاب في صورته الدعائية والهزلية المروّجة بغرض تثبيته ككابوس يحمي مصالح الغرب فيما بعد 11 سبتمبر ويحق له بتبرير من أخلاقيات مخادعة عن حق العيش في أمان والدفاع عن النفس أن يجبر أي كائن على الخضوع لسلطته ولشهوته الدموية .. العولمة كهوية ملتبسة ومشوهة تريد فرض هيمنتها على مختلف شعوب الأرض وتهميش أي قناعة أو انحياز إنساني مغاير ومحو أي ثقافة مضادة أو منجز حضاري بديل لصالح مشروع استعماري مؤسس على ثورات تكنولوجية لا يمكن التنبؤ بالحد الذي يمكن أن يصل إليه تطورها المتواصل والمحموم والذي جعل من ( الاتصال ) إلها يعيد خلق العالم بمعجزات تقرب بين البشر ليس من أجل ( التواصل ) وإنما لإشعال حروب معرفية متصاعدة الشراسة .. عدم التحيز الذي أراه واضحا لدى مخرج الفيلم والذي نجح في رأيي في خلق إيقاع متزن تنسجم فيه المشاهد التالية مع بعضها : الوجوه البائسة لنساء القرية المغربية الفقيرة والتي بدت بيوتها كمدافن متناهية الضيق أو كسجون بدائية موحشة وخانقة بالتخلف والقذارة تدفعك لأن تتساءل : كيف يمكن لكائن حي أن يتحمل العيش فيها ؟ .. التعذيب والقتل الذي تمارسه الشرطة المغربية ضد النساء والأطفال والشيوخ كأنه مجرد روتين ممل .. الوحشية العنصرية لحرس الحدود والسلطات الأمريكية في التعامل مع المربية المكسيكية .. طرد طبيب الأسنان للفتاة اليابانية الصماء بقسوة من عيادته بعد أن حاولت أن تحصل منه على أي عاطفة حسية .. شقيق المربية المكسيكية وهو يقتلع رأس الدجاجة بيده .. دلالة هذا الإيقاع اللامتحيز تسعى لهدم التفرقة التقليدية بين الشرق والغرب .. ما يحدث في المغرب هو مايحدث في اليابان هو ما يحدث في المكسيك هو ما يحدث في أمريكا .. الفيلم إذن يحرّض على اكتشاف تنويعات مختلفة على فكرة واحدة وهي القهر .. القهر كطبيعة وجود يتحقق الكون من خلال أشكالها وطرقها المتعددة ذات الختام الذي لا يتغير .

مع كل هذه الرؤى المختلفة السابقة أتصور أن فيلم ( بابل ) يستحق أن يتم تناوله بمنظور يتجاوز الإرهاب والعولمة والتحيز أو اللاتحيز عند مقاربة الشرق والغرب في سياق واحد .. الفيلم يستحق تناوله بوعي يربطه كقيمة إنسانية بما وراء الثنائيات المتضادة المعتادة : الحياة والموت .. الخير والشر .. الجمال والقبح ... إلخ .. يستحق أن يتم التفكير فيه كجدل لا يعترف بالإجابات القريبة السهلة التي لا تفسر شيئا ولا بالحلول الجاهزة الفاشلة التي لا تنقذ أحدا .. فيلم ( بابل ) أقرب لحزمة تساؤلات مشحونة بطاقات متجددة تريد أن تصل لأبعد مدى ممكن داخل العتمة الأزلية المحكمة السابحة وراء كل الإجابات والحلول والتي أراد مخرج الفيلم تحويلها لحقل تجريبي كي يختبرها من خلال أرقه الخاص : الولد ( يوسف ) الذي أصابت رصاصته الطائشة السائحة الأمريكية يمارس العادة السرية وهو الذي تعوّد على مشاهدة أخته ( زهرة ) تتعرى من أجله .. الفتاة اليابانية الصماء تخبر الضابط الشاب أن أمها انتحرت بالقفز من النافذة ثم يعرف من والدها أن الأم لم تنتحر بهذه الطريقة وإنما أطلقت النار على رأسها وحينما يصعد الأب إلى البيت يجد ابنته تقف عارية في الشرفة فتبكي في حضنه بعد أن بدا وكأنها كانت تفكر في إلقاء نفسها .. المربية المكسيكية تقابل في حفل زفاف ابنها حبيبها القديم بعد وفاة زوجته وتعيش معه لحظات حميمية مختلسة .. حسنا .. لماذا لا يطلق الولد المغربي رصاصة إذن ؟ .. لماذا لا تفكر الفتاة اليابانية الصماء في الانتحار ؟ .. لماذا لا تتحسر المربية المكسيكية على زمن لن يرجع للوراء ثانية لتحصل على ما لم تستطع تحقيقه وقد أصبحت عجوزا الآن ؟ .. كان يجب أن يحدث كل هذا لأننا جميعا عالقون ببراعة في شبكة عنكبوتية من الكبت والحرمان تربط بين آلامنا كلها وبالتالي فإن مخرج الفيلم يضع إشكالية ( المسؤلية ) في نطاق التشريح والمحاكمة بناء على وقوعنا في هذه الشبكة ؛ فما معنى المسؤلية الفردية طالما أن ( الفردية ) هنا يشكلها ويحددها ويتحكم في قدرها ومصيرها ( أفراد ) آخرين وأحداث أخرى وأزمنة أخرى لا تخص من يخضع لها وتؤثر في وجوده كليا .

في أحد مشاهد الفيلم كانت الفتاة اليابانية الصماء ترقص بفرح في صالة ديسكو بصحبة صديقاتها حتى شاهدت الشاب الذي كانت تتمنى لو أحبها يرقص ويقبّل فتاة أخرى وهنا كتم مخرج الفيلم جميع الأصوات : الإيقاعات الصاخبة وصياح الراقصين وضحكاتهم العالية .. تحوّل الفيلم في تلك اللحظات إلى مشاهد صامتة متوالية لوجه الفتاة اليابانية الصماء وهي تتأمل بمرارة ويأس الشاب والفتاة مع ومضات خاطفة لأضواء الصالة الأشبه بصفعات برق قوية وعنيفة انتهت بخروج الفتاة اليابانية من المكان .. كتم الصوت في هذه اللحظات يهدف بالأساس لتحويلك من مجرد متفرج يشاهد تعاسة هذه الفتاة إلى أن تكون أنت الفتاة نفسها .. أن تصبح أنت نفسك أصما ومجروحا فجأة .. أن تكون الدنيا ساكتة من حولك كقبر بارد بينما تكون مجبرا على أن تظل عيناك مفتوحتان كي تتطلع إلى أشياء العالم وهي تتراقص وتومض كأشباح براقة سعيدة ومحتفلة بهزيمتك وأنت لا تستطيع أن تتكلم أوتقول أي شيء .. هذه الطريقة التي تم تنفيذها بمهارة والتي لا أصادفها كثيرا في معظم الأفلام السينمائية أتذكر أن المخرج البلجيكي ( جاكو فان دورميل ) استخدمها بنفس الجمال في فيلمه الساحر ( اليوم الثامن ) حينما جعل ( جورج ) صديقه ( هاري ) يستلقي بجواره على العشب ويغمض عينيه مثله لمدة دقيقة واحدة من الصمت ويخبره أنه حين يتخيل نفسه يحتضن شجرة سيصبح شجرة وحين يفكر في نحلة سيصبح نحلة وحين يفكر في أحبابه حتى الموتى منهم سيجدهم جالسين معه ويطبطبون عليه .. كانت دقيقة الصمت كاملة فعلا من زمن الفيلم ومن زمن المشاهد الذي أصبح هكذا هو الثالث الذي يشاركهما الاستلقاء على العشب وإغماض العينين والتخيل .

شخصيا يصيبني دائما شعور بالحسرة الممزوجة بالغضب حين أشاهد لأول مرة فيلما رائعا أكتشف مرور فترة طويلة على انتاجه خاصة حينما تكون روعته لدرجة الإذهال كـ ( بابل ) .. لكن فيلم ( بابل ) نفسه هو الذي منحني الحماية للمرة الأولى من هذا الشعور .. جعلني أعرف أن حدثا ما لا أعرفه وقع في مكان مجهول من العالم وفي زمن غامض تسبب بقصد في أن تمر هذه السنوات دون أن أشاهد (بابل).

أدب وفن في

21/08/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)