تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

'حين ميسرة':

المكان يفرض قانونه صورة المدينة العربية محاطة بالعشوائيات

محمد بنعزيز

المكان هو البطل الحقيقي لفيلم خالد يوسف 'حين ميسرة'، مكان عدواني يفرض قانونه، قانونا قاسيا، معوجا ومائلا أيضا، لذا فإن الذين يعيشون فيه لا يتوقفون عن التدحرج، يعيشون يوما بيوم، يحلمون بصعود السلم ولو درجة واحدة، لكنهم يتدحرجون، فيتنازلون عن حلم الصعود، ويقاتلون بأيديهم وأسنانهم، للتشبث بأماكنهم على الأقل، إنهم يواجهون محنة توفير مستلزمات بدائية للاستمرار أحياء في انتظار لحظة ميسرة أو عودة مهاجر 'شايل ومحمل'.

هذا الانتظار هو الذي يشحذ الأمل في الغد، هو الذي يبرر تجنب الانتحار في مدن مقابر وفوضى وخراب وقذارة وعنف... هنا تبدأ العلاقات بين الشخصيات بالصدفة، وتنتهي عند أول عقبة، لأن المكان المائل لا يسهّل الاستقرار، لذا فإن نضال الناس فردي للتشبث بشيء ما لكي لا يستمروا في التدحرج.

تم بناء الشخصيات على مستوى المظهر والمزاج (Portrait et caract're ) بوضوح تضيؤه التفاصيل والحبكات الصغيرة. بالنسبة للبطلين، ناهد (سمية خشاب) وحشيشة (عمرو سعد)، يتعرف عليها وتحبل ويرفض الاعتراف بابنه إلى حين ميسرة، لأنه منشغل بتثبيت نفسه على الحافة، فكيف يضيف حملا على عاتقه يجره إلى أسفل؟ إنه شاب عاطل شهم مؤدب يتحول وحشا، يقيد أمه ليقتلع الأساور من يدها... هو ليس شريرا لكنه وقع في نفق طويل لا مخرج له، نفق دائري.

ناهد شابة غريرة، تفكر كفلاحة تريد الزواج والاستقرار، تجرفها المدينة المائلة وتتساءل لم يطمعون في جسمها، ترد عليها إحداهن 'هو انت حيلتك حاجة ثانية ينطمع فيها؟'، ومع الوقت اكتشفت ناهد أن المحيط القاسي يخلق أظافر لمن لا أظافر له، صارت هي تتاجر في جسمها بدل أن ترغم على تقديمه لمغتصبيها. من هذه الزاوية فإن مشهد الاغتصاب في 'حين ميسرة' لم يكن وظيفيا تماما.

أولا لأن العنف يجب أن نحس به أكثر مما نراه.

ثانيا، مشهد اغتصاب الشرطي لحبيبة القاضي المستقل في فيلم 'هي فوضى؟' يخدم فكرة صراع القضاء وقانون الطوارئ.

ثالثا، جعل انتشار الدعارة الهوس الجنسي المحرك للاغتصاب بلا معنى، لماذا سيدفع شخص سنوات من عمره في السجن إن كان بإمكانه دفع خمس جنيهات للحصول على جسد امرأة كما حصل في مشهد آخر من الفيلم؟

على أي حال، هذه شخصيات سبق للسينما المصرية أن استهلكتها.

بالنسبة للشخصيات الثانوية، هناك عمق وثراء أكبر، هالة فاخر أتقنت دور الأم المقهورة، والتي لا تتخلى عن الأمل في أن ينصلح حال أبنائها وفي أن ابنها المهاجر سيرجع يوما 'شايل ومحمل'. فتحي (عمرو عبد الجليل) الذي جعله عنف الدولة أملس مطيعا، ينصح الضابط بمتابعة ضربه لأنه بقي في المكان المتعفن، وهو يفاجأ حين يسأل عن القاعدة 'تنظيم القاعدة إزاي يا باشا؟'، والطريف أنه ما أن يوبخه احد حتى يلتفت لزوجتيه يوبخهما... زوج أم ناهد الذي يتدخل في عراكات زوجته (سوسن بدر) ليستفيد بتقبيل ودعك ابنتها. الأسرة التي لم تنجب تتبنى طفلا، وحين ميسرة تحبل الزوجة، فتتخلص الأسرة بسفالة من الطفل المتبنى ليجد نفسه مع عشرات الأطفال المشردين في شوارع المدينة يعيشون في قانون الغاب.

رغم قلة حضورها في الفيلم على مستوى الزمن، فإن الشخصيات الثانوية أكثر عمقا وإمتاعا بفضل حبكات صغرى عرضية يتم حلها لتنوير المشاهد، منها تبرير فتحي لعقمه: لا داعي لينجب أطفالا لن يتركوا أثرا في العالم كأنهم لم يمروا به.

وقد ساعدت هذه الومضات الدلالية المتفرج على إعادة تقويم مواهب أولئك الممثلين، وأعتقد أن المخرجين الآخرين سيأخذون ما شاهدوه بعين الاعتبار حين إعداد 'كاستينغ' أفلامهم القادمة. وأنا صراحة أذهلني عمرو عبد الجليل... وهذه ميزة لخالد يوسف، وقد كانت ليوسف شاهين أيضا، إنه لا يقوم بالكاستينغ بناء على لائحة نجوم الصف الأول، بل بناء على فهمه لشخصيات فيلمه وعلى مواهب كل ممثل على حدة، حتى لو لم يكن نجما، والمخرج قادر على أن يستخرج منه الطاقة الكامنة فيه ويجعله نجما.

يعرض الفيلم نساء بلا رجال، رجال ينقصهم شيء، إما لأنهم فقراء أو لأن نصفهم السفلي عاطل، بينما لا 'يتعدل' نصفهم العلوي إلا بالحشيش، لأنهم حين ينتبهون ويسترجعون وعيهم يكتشفون قساوة الواقع المذلة. رجال ونساء يتعرضون لعنف كاسح، عنف اقتصادي بسبب ضيق سبل الرزق يدفع الشخصيات إلى بحث مضن عن الاستقرار المادي، أما الاستقرار النفسي فلا أمل فيه، لأن تحقيقه مكلف في ظل عنف المكان، مكان وسخ.

بالإضافة إلى العنف الاقتصادي، هناك عنف الدولة التي لا تعرف ما تفعل بالأحياء العشوائية، لا تستطيع اقتلاعها ولا تستطيع اقتحامها، لذا تستنجد بالفتوات لتسيطر بواسطتهم على العشوائيات، لكن الضابط الشاب، المتعجرف والطموح حتى الانتهازية، لا يعرف كيف يدير هذه الخلطة المعقدة، لا يعرف كيف يتعامل مع الفتوة ويحارب الجريمة ويطبق القانون ليترقي، وحين يغضب لأن الفتوة لم يطعه، يعاقبه لأن كرامته مست، يشرح له الضابط الخبير 'الحكومة ليس لها كرامة'.

علاقة الضابط بالدولة عابرة، هي تستخدمه ليمارس العنف حفاظا على الوضع القائم، وهو يستخدم موقعه لتحقيق مصالحه الشخصية، وعندما تتعارض مصلحته مع مصلحة الدولة ينتصر لمصلحته وينتقم من الفتوة الذي يسهل للدولة السيطرة على الحي واختراقه، مما يمكن الإرهابيين من نصب كمين للشرطة وتعريضهم لمجزرة، ليتطلب الأمر قرارا سياسيا يقضي بتدخل الجيش.

هذا عنف منفلت، رهيب ومذل، عنف دولة تتلخص في شرطي ومسدس، يمارسه ضباط يحققون بعنف مصدره الحقد لا التفاني في خدمة الدولة، يحققون عبر تعرية النساء لإجبار الرجال من اقاربهن على الاعتراف بانتمائهم لقاعدة لم يسمعوا بها قط، مع ذلك تُكهرب أجسامهم لترتعد، وقد تم قطع مشاهد التعذيب بجسم ناهد البض وهو يرتعد رقصا، في مونتاج ممتاز ينقل المُشاهد بين عالمين. عالم السهر وجحيم محاربة الإرهاب الذي تزايد مع احتلال العراق وتشتت المهاجرين... وهكذا يظهر أن عدوانية المكان الخرب لا تقتصر على العشوائيات فقط، بل تشمل المنطقة كلها، حيث تتدحرج الأحداث لتنفجر في الحي، لينزل الناس إلى جحيم لا يعرفون قراره... ليزداد عنف المكان وقساوته، مكان نابذ.

ذكر غاستون باشلار في تحليله لجماليات المكان أن الناس في المقاهي يفضلون الجلوس وظهورهم للجدران وحتى الزوايا، ليشعروا بالحماية، وفسر باشلار تفضيل الزوايا بحنين الإنسان لأمان ودفء الرحم، وهذه خصائص تفتقدها العشوائيات، التي لا توفر لا مساكن مشرفة ولا سكينة لأهلها، لذا فهم يتقلقلون باستمرار... ويساعد القطع السريع والصادم، زائد التدحرج الشديد للاحداث، في ترسيخ عدم الأمان لدى المشاهد، الذي يعيش أجواء الفيلم... غير أن هذا يرغم المشاهد على أن يلهث خلف الأحداث السريعة، وهكذا ينفلت منه عمق الصور التي تندلق عليه، فلا ترسخ المشاهد في ذاكرته لتشتغل في وجدانه، إلا إن كانت لهذا المشاهد عين ثالثة، تسترجع درجة البشاعة التي تجري أمامه، فتزرع في قلبه الخوف على أم الدنيا.

هذه مصر حسني مبارك في العشرين سنة الأخيرة، هي فوضى، خليط من اللبرالية والفساد واقتصاد الريع والإرهاب والعنف البوليسي المنفلت والبؤس، من حسن الحظ أن الفوضى الموجودة في الواقع لم تنتقل إلى الفيلم. فيلم يقدم فرجة سينمائية، عبر حكاية متسلسلة لشخصيات مُعْسرة تتدحرج مع الأحداث، دون وقت ميت ولا لحظات خواء بين الصورة والحوار، مشاهد طلقة متسلسلة دون انكسار، في واقعية جريئة، تمنح نفسا جديدا للسينما المصرية التي استهلكتها النمطية التجارية التي تقدم كوميديا فجة، تسخر من الصعيدي وكأنه مواطن درجة ثالثة، واقعية على حد السكين، جارحة ومهينة، لذا لم تحن الميسرة، بل استمرت المعسرة، وقد نقّط المخرج حصيلة المرحلة في المنطقة بذكاء:

رجع المهاجر بعد 15 عاما، لا شايل ولا محمل، لقد رجع بغنيمة فريدة، 'قرد في قفص'، للإشارة سبق لزعيم عربي همام أن وصف آخر بالقرد في قمة عربية منقولة على الهواء مباشرة.

وربطا لهذه الحصيلة بعمقها الشعبي، يقول المثل المغربي عمن عاد خائبا 'رجع بقردة مشمرة'، أي أن القردة هي المشمرة عن ساعديها. وقد شرح لي المثل اللقطة الساخرة في الفيلم، يقول المخرج أندريه تاركوفسكي عن دور السينما 'يرتاد الفرد السينما ليرى تجربة حية، ذلك لأن السينما بخلاف أي فن آخر، توسع وتعزز وتكثف تجربة الفرد... لا تعززها فحسب، بل تمددها أيضا'.

سابقا اشتكى الروائيون العرب عن ترييف المدن، الآن جاءت مرحلة تزبيلها من المزابل، من هنا ففيلم حين ميسرة يقدم صورة آنية وممددة عن مستقبل المدن الرديئة، مدن أشبه بغابة لا ترحم، مدن تحتضن فوارق طبقية ومكانية هائلة بين شعب الفول المدمس وشعب الويسكي المثلج.

bnzz@hotmail.com

القدس العربي في

07/08/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)